يناقش الباحث أسامة حمّاد في الجزء الثاني من دراسته حول زيادنة الجليل مفاعيلَ استحالة عكّا والجليل كياناً سياسيّاً في فلسطين القرن الثامن عشر، راسماً بذلك شبكةً من القوى الفاعلة دوّنت صراعات المصالح فيما بينها فصلاً في كتابة تاريخ فلسطين المعاصر.

[الصورة الرئيسة: سرايا ظاهر العمر الزيداني في الناصرة] 

* لقراءة الجزء الأول، من هنا

(1)
توطئة

“فلمّا أصبحنا في يوم الأربعاء التاسع والأربعين، لعشرين من صفر، سرنا على بركة الله تعالى على الطريق السهل، على ساحل البحر المالح الذي لا يصلح للحلّ ولا للنهل، حتى وصلنا إلى بلدة عكّة، وهي بلدة خرابٍ مندّكّةٌ، قد تهدّمت أسوارها، وانكسر سوارها، وانقلعت عين قلعتها، وخُفيت بدايع صنعتها، ولم يبقَ منها إلا القليل من البيوت، والأخصاص من العيدان التي ليس لها ثبوتٌ، وكان افتتحها سابقًا من يد الفرنج السلطان الملك الظاهر بيبرس وعمّر فيها برجًا عظيمًا لا يوجد له نظيرٌ، وقد اندرس الآن وتنكّر رسمه الشهير، فلمّا وصلنا إليها، وحللنا لديها، نزلنا منها في سرايا شاه وردي، في مكانٍ مستقلٍّ نحن وجماعتنا نعيد ما نجده من السرور ونبدي، وحصل لنا أنواع الصفاء، وكمال المحبة ما بيننا والوفاء، ولكن تلك البلاد وخيمة المطاعم، ردية الهواء خشنة العيش لا يكون فيها النعيم ولا الحال الناعم.” [1] عبد الغني النابلسي، مفتي دمشق (1641 – 1731).

في الاقتباس أعلاه، يصف عبد الغني النابلسي، مفتي دمشق وعالمها الأبرز خلال الربع الأول من القرن الثامن عشر، بلدة عكا الصغيرة والمتهالكة أثناء مروره بها خلال رحلته إلى الحج في العام 1693؛ بلدةٌ تعيش على أنقاض مجدٍ تليدٍ غاب عنها منذ قرونٍ. وعلى الرغم من لغته المحشوّة بالبديع المتكّلف وما تضمّنه الوصف من معلوماتٍ تاريخيّةٍ خاطئةٍ، [2] يقدّم النابلسي أكثر الصور حيويّةً ودقةً ضمن كل معاصريه من واصفي عكا في العقد الأخير من القرن السابع عشر. فهي مجرد بلدةٍ على أقصى طرف الهامش تكالبت عليها ظروف عصرها لتفقدها أيّ أهميةٍ تُذكر على الرغم من وقوعها على أهمّ موقعٍ استراتيجيٍّ على الجزء الجنوبي من الساحل السوري على المتوسط.

سقطت عكا في مجاهل النسيان [3] منذ أن طرُد منها آخر فلول الصليبيين في سورية في 1292، وعمِلَ المماليك على تحطيم القوى الدفاعيّة لمعظم الثغور البحريّة السوريَّة (بما يشمل عكا) كي لا تنفذ منها حملاتٌ صليبيّةٌ جديدةٌ إلى سورية مرّةً أخرى، ولكي يعجز الصليبيون عن الاحتفاظ بها إذا ما استطاعوا استعادتها. [4]
استمرّ حال عكا في التراجع بعد سيطرة المماليك عليها، وهي التي كانت تُعتبر أهمّ حلقة وصلٍ أنشأها الصليبيون للتجارة الدوليّة بين مستوطناتهم في الشام وممالكهم في أوروبا، فكانت مركزاً تجاريّاً نشيطاً يكاد يضاهي القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطيّة في ذلك الوقت. [5] فيما فضَّل المماليك منح اهتمامٍ أكبر لخط النقل التجاري البحري للبضائع من جنوب آسيا عبر البحر الأحمر ومصر المعروف باسم “طريق التوابل”.

تحقّقت فرصةٌ ذهبيّةٌ لعكا كي تستعيد شيئاً من مجدها السابق بعد وقوعها تحت سيطرة فخر الدين المعنِّي الثاني، خاصةً وأنّها كانت أقرب منفذٍ بحريٍّ لإحدى أخصب مناطق سورية الجنوبيّة المتمثّلة في الجليل. غير أنّ الختام التراجيدي لحقبة المعنيين في الجليل قد أثَّر سلباً على عكا مرّةً أخرى، خاصةً وأنّ فخر الدين اضطر في سبيل دفاعه عن إمارته إلى تخريب ميناء عكا بتحطيم الأسوار المحيطة به، وملء الميناء بالردم لمنع البحريّة العثمانيّة من الرسو فيه. [6]

فنار ميناء عكّا

عادت عكا إلى سيرتها القديمة منفذاً بحريّاً مهملًا بعد انهيار المعنيين، خاصةً وأنّ الأعيان المحليين لم يملكوا الفرصة للانخراط في النشاط التجاري الدولي حتى الربع الأخير من القرن السابع عشر، ناهيك عن أنّ النخب العثمانيّة في دمشق ضيَّقت على التجار الأجانب في عكا وصيدا (حتى تأسيس إيالة صيدا رسميّاً في 1660)، وذلك بسبب ارتباط التجّار مسبقاً بفخر الدين المعني الثاني، [7] إضافةً  إلى أنّ الوضع الأمني المزري ساهم بشكلٍ كبيرٍ في انحدار أيّ قيمةٍ اقتصاديّةٍ للمنطقة. وقد اتُخذت صيدا مركزاً  أساسيّاً للتجارة الخارجية بعد تأسيس الإيالة، حيث اتّخذ ولاة الباب العالي البلدةَ مقرّاً لهم، كما تمكّنت الدول الأجنبيّة من إقامة بعثاتٍ دبلوماسيّةٍ فيها بشكلٍ رسميٍّ.

ستتفاعل عكا رفقة برّها الداخلي في الجليل مع الظروف والأحداث الدوليّة والإقليميّة التي أحاطت بهما، وستنشأ داخل هذا النطاق الجغرافي طبقةٌ جديدةٌ من الأعيان المحليين، ستساهم من خلال استغلالها للظروف في إعادة وضع عكا على خريطة مراكز القوى الإقليميّة والتجارة الدوليّة عبر مخططٍ تنمويٍّ شاملٍ سيحسّن الوضع الأمني ويشجّع الهجرة إلى الداخل، وينشّط الزراعة ويطوّر المرافق والبنى التحتيّة، حتى تصبح (عكا والجليل) أقوى مركزٍ محليٍّ في سورية الجنوبيّة، وتتمتّع بأقصى قدرٍ ممكنٍ من الاستقلاليّة والحكم الذاتي. فيما سيجري كلّ ذلك تحت رعاية عشيرة الزيادنة وقائدها الأقوى ظاهر العمر، وخلال فترةٍ زمنيّةٍ لن تتجاوز الخمسة عقود على زيارة عبد الغني النابلسي لعكّا في 1693.

****

توقّف الجزء السابق من هذه الدراسة عند عرض وقائع الصراع بين ظاهر العمر الزيداني ووالي دمشق سليمان باشا العظم، والذي انتهى بوفاة الأخير بشكلٍ مفاجئٍ أثناء حملته الثالثة على الجليل في آب 1743. [8] فيما سيستكمل هذا الجزء العرض والتحليل لتاريخ المقاطعة الزيدانيّة في الجليل من المنظورين السياسي والاقتصادي خلال الفترة الممتدّة منذ بداية إحكام الزيادنة سيطرتَهم على الجليل حتى نهاية خمسينيات القرن الثامن عشر، موضّحاً بشكلٍ خاصٍ العلاقة المعقّدة التي جمعت ظاهر العمر بأحد أهمّ دعائم رفاه مقاطعته الاقتصادّي، والممثّل في شركائه من التجّار الفرنسيين، والآليات التي استطاع من خلالها السيطرة على محاور التجارة وإحكام قبضة جهازه الإداري في عكّا عليها.

كما سيلقي هذا الجزء من الدراسة الضوءَ على تعقيدات العلاقة داخل حدود الأمّة الفرنسية في إيالة صيدا نفسها، وكيف انعكست على علاقة أطرافها بالفرقاء المحليين وتأثيرها على تطوّرات الأوضاع في (عكا والجليل)، فضلاً عن تتبّع حدود تفاعل النخب العثمانيّة في صيدا ودمشق مع هذه التطورات. وتجدر الإشارة إلى أنّ الدراسة تسعى إلى تقديم عرضٍ وافٍ ومكثّفٍ لتاريخ مرحلةٍ مهمةٍ من فلسطين وسورية العثمانية؛ وهي مرحلةٌ كانت لها مساهمتُها المبكّرةُ في تشكيل فلسطين بالصورة التي نعرفها حالياً.

لكن قبل الخوض في جوهر الدراسة، ستتوقّف الدراسة عند الإطار العام الذي حكمَ تفاعل هذه النخب، والمتمثّل فيها والباب العالي على السواء، مع التغيّرات داخل مراكز القوى المحلّية، مضيئةً بذلك على الآليات التي يمكن لهذا الإطار من خلالها تفسير العلاقات المتشابكة بين مختلف مستويات الحكم العثماني داخل السياق السوري الجنوبي خلال القرن الثامن عشر.

(2)
مدخلٌ إلى السياسة الإداريّة العثمانيّة في سورية

“إن وجهَيْ سلطة رجل الأعيان وثيقا الترابط بطبيعة الحال. فلأنّ له منفذاً إلى السلطة يستطيع الفعل كقائدٍ، ولأنّ له قوةً مستقلةً منفصلةً في المجتمع تحتاج السلطة إليه، ويجب عليها أن تعطيه منفذاً. لكن لهذا السبب، يجب أن تكون أنماط عمله، في الظروف الطبيعية، محترزةً، بل ومزدوجةً، وفي لحظات الأزمة قد يكون العمل المباشر ممكناً، بل وقد يكون ضرورياً”. [9] ألبرت حوراني، مؤرخ إنجليزي من أصل لبناني (1915 – 1993).

أحدثت وفاة سليمان باشا العظم تأثيراً فوريّاً على الوضع الميداني في الجليل، حيث انسحبت قوات دمشق وداعموها، وأُنهيت العملية العسكريّة فوراً. فيما انتظر أعيان العاصمة الشاميّة مَن سيصل موكبُه أسوارَ المدينة حاملاً فرمان تكليفه وزارةَ دمشق، وقد وصل بالفعل ابن أخ الوالي الراحل، أسعد باشا العظم في تشرين الأول 1743، وبدا واضحاً  عدمُ حمله أيَّة تعليماتٍ بمتابعة مسعى عمه في الجليل.

انشغلت الإمبراطورية في تلك اللحظة بحشد قواتها على الحدّ العراقي في مواجهة الأفغان الأفشاريين في إيران بقيادة السلطان نادر شاه، [10] ولم يكن لديها وقتٌ أو رغبةٌ لتضييع مجهودها في محاولة تحجيم نفوذ ملتزمٍ محليٍّ سبق وأن فشل أحد أقوى وزرائها في سورية في القضاء عليه ثلاث مراتٍ. كما أنّ الوالي الجديد، والذي اشتُهر بانشغاله بشؤون إيالته الداخليّة، وترْكِ بصمةٍ خاصةٍ به على عمران عاصمتها، لم ينوِ من الأصل محاربة ملتزمٍ عُرف بحرصه على أداء ما يستحقّ عليه من مال الميري في موعده منذ سنواتٍ طويلةٍ.

أثبت الجليل أنّه ميدانٌ وعرٌ لم يعد بإمكان وزراء الباب العالي التداخل معه واستخدامه كساحةٍ لاستعراض القوة كما السابق، خاصةً مع ظهور طبقةٍ من الأعيان الجدد استطاعت توحيد الجليل سياسيّاً بنجاحٍ كبيرٍ. غير أنّ الوضع السياسي الجديد لم يكن وحده ما فرض على الباب العالي تحديد آليات تعامله تجاه هذا الكيان الناشئ؛ إذ إنّ سلوك الباب العالي ونخبه في دمشق وصيدا تجاه ظاهر العمر ومقاطعته هو جزءٌ من تقليدٍ إداريٍّ راسخٍ في العقليّة العثمانيّة سبق وأن حدّد تعامل الإمبراطورية تجاه غالبية القوى المحليّة التي ظهرت في الإيالات والأقاليم البعيدة عن المركز العثماني منذ فترةٍ طويلةٍ. [11]

استمرّت الإمبراطورية العثمانيّة على نهج الإمبراطوريات الزراعيّة الآسيويّة المنشأ [12] في اعتماد نظامٍ اقتصاديٍّ خراجيِّ الطابع [13] يعتمد على الأرض مصدراً للنقد، إمّا كوسيلةٍ لاستنبات البضائع أو المواد الأوليّة لصنعها، أو كمجالٍ حيويٍّ لنقلها. لذا، فقد كان التوسّع العسكري وديمومة حركته أساساً في حفظ استقرار الإمبراطوريّة وازدهارها الاقتصادي، إماّ عن طريق ضمّ المزيد من الأرض الصالحة للزراعة، أو عن طريق السيطرة على المجال الحيوي للتجارة الدوليّة وطرق نقلها البريّة والبحريّة. [14] ظلّت المعضلة الماثلة أمام المركز العثماني لقرونٍ متعلّقةً بالطريقة الأمثل لإخضاع ملايين من الرعايا، ينتشرون في مساحاتٍ شاسعةٍ من الأرض امتدّت عبر ثلاث قاراتٍ، لحكمٍ مستقرٍّ وثابتٍ.

ركَّز الجزء الأول من هذه الدراسة على التحول الواسع الذي طرأ على السياسة الإداريّة العثمانية خلال منتصف القرن السادس عشر، والكيفيّة التي ساهم بها استبدال نظام التيمار بنظام الالتزام في تمكين الأعيان المحليين من استخدام مواقعهم الجديدة وارتباطاتهم بالمركز العثماني في تحصيل المزيد من النفوذ والاستقلاليّة والمشاركة بشكلٍ فاعلٍ كممثلين لجيوب ومراكز القوى المحليّة في السياسة العثمانية الداخلية. فيما سيسلّط هذا المحور الضوء، بصورةٍ أوسع، على طبيعة العلاقة الشائكة التي ربطت الباب العالي بالنخب المحليّة والظروف التي نحتَتْ شكل هذه العلاقة، في ضوء الخصوصيّة التي امتلكها نطاقٌ جغرافيُّ كسورية الجنوبية خلال القرن الثامن عشر.

أصبح واضحاً عند هذه النقطة أنّ الحكم العثماني في الإيالات السورية قد تشكَّل بالعادة من طبقتين أساسيتين؛ الأولى تمثّلت في النخب العثمانيّة المنتدبة في عواصم الإيالات، والأخرى تشكّلت من أعيانٍ ونخبٍ محليين. وفي الوقت الذي مثّلت فيه النخب العثمانيّة مصالح الباب العالي، أو هكذا توجّب عليها أن تفعل، كانت طبقة الأعيان المحليين تضطلع بمهمة التموضع كحلقة الوصل بين المركز ونخبه وبين الأطراف.

وعلى الرغم من أنّ الفتح العثماني لسورية ومصر في 1516 – 1517 تمخّض عن توقّف خط النسل العباسي وانتقال الشرعية الدينيّة التي يضفيها لقب الخلافة على حامله إلى السلطان في إسطنبول، إلا أنّ هذا اللقب لم يملك من الأصل تأثيراً كبيراً على منطقةٍ كسورية الجنوبية، لطالما عبَّر الفاعلون السياسيون فيها عن تضارب مصالحهم عبر اختلافاتهم المذهبيّة والطائفيّة. فيما ظلّ القسم الأكبر من سكانها بعيدين عن تصوّر السلطان كحاكمٍ فعليٍّ. حيث ظل الباب العالي منفصلاً عن الواقع اليومي للرعّية بلا أيّ محاولاتٍ لتطويره أو تحريكه نحو الأفضل إلا بما يخدم في النهاية مصالحه ومصالح شبكة الأفراد والمؤسسات المرتبطة به، وذلك على الرغم من تعبير الباب العالي عن وجودٍ كثيفٍ داخل فضاء سكان الإمبراطورية العام، عبر جبايته المستمرة للضرائب، وتجنيد الأفراد لمصلحة نشاطه العسكري. [15]

وفي ضوء ذلك، توجّب على المركز العثماني إيجاد حلقة وصلٍ تصله بالرعيّة وتسهّل له إحكام السيطرة عليها، مقابل منح النفوذ لهذه الحلقة وإعطائها الحقّ في ممارسة النشاط السياسي، وتوظيفه في ذات الوقت من أجل مراكمة رأس المال بوجهيه المادي والمعنوي (الاجتماعي) كذلك.

ورثت الإمبراطورية العثمانيّة في سورية الجنوبيّة منطقةً تعجّ بالتناقضات الاجتماعيّة والسياسيّة، وانقسمت إلى جيوبٍ صغيرةٍ، مستفيدةً من الطبيعة الطبوغرافيّة للساحل الممتدّ من بيروت إلى غزة وبرّه الداخلي الذي تتخلّله العديد من الجبال. كما استطاعت خلق مراكز سياسّيةٍ ظلّت تنافس مركز الدولة وبعضها البعض على السلطة والنفوذ لقرونٍ طويلةٍ، في عراكٍ ممتدٍّ يمكن تتبّع إرهاصاته إلى الهزيع الأخير من الدولة الأمويّة؛ أي كنتيجةٍ لبداية مرحلةِ تداخُل العمل السياسي في المشرق العربي مع اعتبارات القبيلة والمذهب والطائفة.

لم تكن مهمةً سهلةً على سلطانٍ سنيٍّ أن يستخدم سحر ألقابه فقط من أجل ضبط مجتمعٍ فسيفسائيٍّ تتنوّع عناصره ما بين دروز وموارنة وسنة وشيعة وقيسية ويمانية، إلخ، لكنّه إنْ تمتّع بما يكفي من البراغماتيّة ليستخدم نخب وقيادات قطع الفسيفساء هذه لتنوب عنه في مهمته، فسيصبح إنجازها أكثر سهولةً.

تطبّع الأداء السياسي لبني عثمان بالبراغماتيّة منذ نشأة مقاطعتهم الأولى في غرب الأناضول، وقد نبع القرار بمنح النفوذ للأعيان المحليين في الإيالات التي شكّلوها حديثاً في سورية بعد فتحها، من خيارٍ واعٍ بإبقاء أمور البلاد على حالها وقت خضوعها لسلطة القاهرة المملوكّية، وهو وضعٌ لم يتغيّر كثيراً منذ عهد الدوقيات الصليبيّة والتابعيّات التركمانيّة في سورية على الأقل؛ [16] أي أنّ الأعيان المحليين الذين أقرّهم العثمانيون في مواقعهم امتلكوا قوةً ذاتيةً وحازوا سلطةً يمكن القول إنّها تمأسست على الأرض منذ وقتٍ سابقٍ.

كان ذلك المَدعَى الأساس لبقائهم في أماكنهم ومنحهم منفذاً إلى أروقة الحكم الجديد، كما أنه سيشكّل الاشتراط الأساس لمنح القبول لأيّ قوةٍ جديدةٍ ستظهر على الساحة المحليّة فيما بعد. تفاعل الأعيان المحليون مع مَن عيّنتهم السلطة المركزيّة وزراءَ على دمشق، وحصلوا عبرهم على شرعيتهم السياسيّة، وتركوا لديهم أحياناً مندوبين ينوبون عنهم ويدافعون عن مصالحهم، ويتولون مسؤولية إيصال صوتهم في دواوين الوزراء.

في ذات الوقت، فإنّ إحدى أهمّ مسؤوليات الوزراء العثمانيين في سورية تمثّلت في إبقاء الأعيان المحليين في المناطق البروفنساليّة [17] تحت السيطرة، وذلك عبر موازنةٍ دقيقةٍ لما يُمنح لهم من نفوذٍ، بحيث يكفي لقيامهم برعاية “أرض الباب العالي” وجباية ضرائبها، شريطة ألّا يتراكم هذا النفوذ إلى الحدّ الذي يمنحهم القدرة على تحدي سلطته ومحاولة الاستقلال عنه.

وفي سبيل ذلك، استغلّت النخب العثمانيّة الخصوصيّةَ التي امتلكتها كلّ قوّةٍ من القوى المحليّة، وهي خصوصياتٌ عبّرت عن نفسها، كما سلف ذكره، كتناقضاتٍ قبليّةٍ وطائفيّةٍ. يجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ الطريق الذي سلكه الأعيان المحليون للصعود إلى السلطة أو الحفاظ عليها لم يخلُ من عقباتٍ فرضتها طبيعة التنوّع الاجتماعي في نطاقات نفوذهم ومناطق حكمهم، فاضطروا لعقد تحالفاتٍ اتّسمت بهشاشتها، واضطروا في سبيل إبرامها إلى مراعاة الكثير من التوازنات، وهي مهمةٌ لم يُكتب لها النجاح دوماً.

غالباً ما أنتجَ العجز عن إرضاء جميع الفرقاء حركةً مستمرةً داخل خريطة التحالفات في المناطق البروفنساليّة، [18] وهو ما استغلّته النخب العثمانيّة بأفضل طريقةٍ ممكنةٍ، فألّبت القوى على بعضها البعض، وغذَّت خلافاتهم قدر المستطاع، في استغلالٍ مستمرٍ لسعيهم لتحصيل المزيد من النفوذ، وذلك في مسعىً لحصر أي حراكٍ سياسيٍّ محليٍّ في صورته المبدئية كاقتتالٍ داخليٍّ، بحيث لا يتطوّر أبداً إلى أيِّ تمردٍ ضد المركز مهما كانت صورته.

لم يكن الحفاظ على هذا التوازن الدقيق بالمهمة السهلة؛ إذ فشلت النخب العثمانيّة في مرّاتٍ كثيرةٍ  في إبقاء القوى المحليّة تحت السيطرة، إلا أنّ الأعيان المحليين قد حسبوا خروجهم عن الطاعة بدقةٍ بالغةٍ كذلك، ووضعوا في حسبانهم ردّ الفعل العثماني ومدى قسوته، فلا يصل عصيانهم إلى عتبة استثارة ردّ فعلٍ لا يقدرون على مواجهته. لذا، فإنّ محاولات التمرّد على الباب العالي لم تكن لتنجح في التفلُّت من عواقبها المتوقّعة إلا في ظروفٍ خاصةٍ جداً، وغالبًا ما وصلت إلى مرحلةٍ من الانحدار بعد اكتمال نضجها، وتعرّضت في النهاية للهزيمة والفشل.

كُتبتْ صفحاتٌ كثيرةٌ من تاريخ سورية العثمانيّة بدماء المتمرّدين الذين حاولوا تحريك مياه السياسة المحليّة الراكدة، أو الذين سئموا ببساطةٍ تعرّضَهم المستمر لضغط الجهاز الإداري العثماني ومطالبته الدائمة بتحصيل المزيد من الضرائب. واجهت السلطات العثمانيّة محاولات التمرد بالكثير من الشراسة والعنف، وأحيانًا بشكلٍ غير مباشرٍ؛ إذ لم تضطر كثيراً لاستخدام قواها العسكريّة الرئيسة، في ظلّ تواجد قوىً محليّةٍ مواليةٍ مستعدةٍ لتقديم المعونة العسكريّة، واستغلال تلك اللحظات لتحقيق أهدافها تحت مظلّة الدولة بتحجيم نفوذ منافسيها المتمرّدين.

لم يمضِ وقتٌ كثيرٌ  قبل أن تبدأ الهيكليّة الداخليّة الصارمة للبيت العثماني بالتآكل، مع ازدياد نفوذ أرستقراطيّة “العبيد” [19] داخل الحكومة، والذي انعكس سلباً على معايير اختيار الولاة والوزراء، ما أدى إلى وصول الكثير من الباشوات الضعفاء إلى منصب الوزارة في دمشق؛ وهو الأمر الذي ساعد في تحرير القوى المحليّة، ولو جزئيّاً، من قبضة النخب العثمانيّة، فاكتسبت، بكثيرٍ من الحرص، مزيداً من النفوذ والاستقلاليّة. كما أنّها استطاعت، في أحيانٍ قليلةٍ، النفاذ إلى مستوياتٍ أعمق من الجهاز الحكومي العثماني، غير مكتفيةٍ بما سُمح لها بحيازته من نفوذٍ وتأثيرٍ على ديوان الولاة في دمشق أو صيدا، بل وصلت إلى التأثير على القرارات المركزيّة التي اتخذها السلطان ذاته، مع الاستمرار في التعبير عن المزيد من الاستقلاليّة، وإن كان تعبيراً حذِراً في طبيعته، يحتفظ بحدٍّ أدنى من الخطوط الحمراء ولا يتجاوزها.

كان جزءٌ من النفوذ الذي امتلكته النخب المحليّة، والذي عززّه موقعهم الرسمي وارتباطهم بالحكومة كذلك، يعود إلى قدرتهم على السيطرة على مفاتيح السوق الزراعي. [20] كانت هذه السيطرة بالذات إحدى أهم عوامل تشكل “البروفنس” في سورية الجنوبيّة، ما ساعدهم على مراكمة رأس مالٍ مثَّل عاملاً أساساً في إكساب بعضهم مستوىً أعلى من الاستقلاليّة عن المركز ونخبه، خاصةً عندما بدأت سورية الجنوبيّة بالتحوّل إلى نقطة جذبٍ للتجارة الخارجيّة في القرن الثامن عشر، وأُتيحت لأعيان المنطقة فرصةٌ ذهبيّةٌ للمشاركة في تشكيل شبكاتٍ جديدةٍ للتجارة خارج حدود الفضاء العثماني.

ليس من الصعب استخدام الإطار الموضّح أعلاه لتفسير الحكم الزيداني في الجليل، وتوضيح العلاقة التي ربطته بالدوائر العثمانيّة على اختلاف مستوياتها، والعلاقة التي ربطته كذلك بجيرانه من القوى المحليّة؛ إذ أظهر الزيادنة وعياً مبكّراً بالظروف المحيطة بهم في الجليل. لذا، فإنّ أولى خطواتهم لكسب النفوذ داخل المنطقة تمثّلت بإظهار التناقض ضد الأعيان السابقين في الجليل الأدنى من دروز آل البيتم اليمنيين، وهو تناقضٌ اكتسب بُعداً طائفيّاً وقبليّاً في الوقت ذاته. حيث نجحوا بعد إقصاء الدروز في تولي مكانهم والحصول لأول مرةٍ، بعد ربع قرنٍ على الأقل من تواجدهم في سورية الجنوبيّة، على صلةٍ مباشرةٍ بالإمبراطورية العثمانيّة كملتزمين للضرائب.

وعلى الرغم من ذلك، فإنّ علاقة الزيادنة بالنخب العثمانيّة اتّسمت في طورها المبكّر بالتوتّر، وهو ما تظهره بعض الإشارات في المصادر التاريخيّة التي تتحدث عن حروبٍ متواصلةٍ خاضها الزيادنة ضد ولاة الدولة ومنافسيهم من الأعيان المحليين لتثبيت نفوذهم في الجليل. ويظهر أحد أوجه هذا العداء، حسبما أوردته المصادر التاريخيّة،  في حادثة حصار البعنة في 1721 (التي وردت في الجزء السابق من الدراسة)؛ إذ شارك الزيادنة في صدّ الحصار الذي فرضه وزراء الدولة من آل أبو طوق على البلدة.

تطوّرت، بشكلٍ جليٍّ، علاقة الزيادنة بنخب العثمانيين في صيدا ودمشق على إثر حادث البعنة، فقد فضَّل ظاهر العمر التخلي عن مسار أسلافه في التصدّي المباشر لولاة الإمبراطورية، واختار عوضاً عن ذلك مداهنتهم قدر المستطاع. لذا، جعل إيفاد مال الميري لوالي صيدا في موعده أهمّ أولوياته، وقد حرص على الحصول على إقرارهم ومصادقتهم على جميع خطواته التوسعيّة، بحيث يلتمس منهم الحصول على التزام البلدات التي يسيطر عليها رسميّاً في أسرع وقتٍ ممكنٍ.

تميّز ظاهر العمر، في ذات الوقت، عن غيره من أعيان الجليل وسورية الجنوبيّة بمرونته الفائقة في تحييد منافسيه، إمّا بالاستعداء المباشر أو إرساء علاقات المصاهرة والصداقة، مولياً على الدوام قليلاً من الاهتمام للاعتبارات الطائفيّة والقبليّة، ما أعطى الحكم الزيداني في عهده طابعاً براغماتيّاً يُشبه إلى حدٍّ ما الطابع المُسبغ على الحكم العثماني المركزي، وذلك على العكس من جيرانه في جبل لبنان وجبل عامل على سبيل المثال، والذين أصروا على الاستمرار في ممارسة السياسة انطلاقاً من الاعتبارات الفئويّة. وعلى الرغم من هذا، نجح ظاهر العمر، بعد فترٍة قصيرةٍ من العداء، أن يستميلهم لعقد تحالفاتٍ مهمةٍ حيَّدت خطرهم وأكسبته في ذات الوقت قيمةً عسكريّةً مهمةً.

وبلا أدنى شكٍّ، فإنّ سيطرة ظاهر العمر على مفاتيح السوق الزراعي في مقاطعته حَكَمَتْ جانباً مهماً من العلاقة بينه وبين العثمانيين. كان مسعى ظاهر الأساس في كل خطواته التوسعيّة تقريباً فرضَ مزيدٍ من السيطرة على العجلة الاقتصاديّة في المنطقة. ويمكن الافتراض بأمانٍ أنّ هذا الأمر تحديداً هو ما حرَّك خطوات ولاة الإمبراطورية تجاهه (بدءاً من سليمان باشا العظم، ومروراً بعثمان باشا الكرجي)، وهو ما حرّك، أيضاً، العلاقة بين ظاهر العمر نفسه وجيرانه من مراكز القوى المحليّة الأخرى في سورية الجنوبيّة.

(3)
جليلٌ مزدهرٌ: سنوات النهضة (1735 – 1757)

تُظهر أرشيفات غرفة تجارة مرسيليا ارتفاعاً واضحاً في أرقام الواردات من محاصيل القطن يبدأ بالظهور خلال عشرينيات القرن الثامن عشر؛ أي قبل عقدٍ كاملٍ أو يزيد من توسّع ظاهر العمر الأول في الجليل. [20] وعلى الرغم من التحسّن الواضح الذي طرأ على النشاط الاقتصادي في سورية الجنوبيّة بسبب زيادة استقلاليتها عن المركز العثماني ونخبه في دمشق وصيدا، إلا أن تحدياتٍ أخرى لا زالت حتى تلك اللحظة تقف عائقاً أمام تحرّر اقتصاد الجليل بما يكفي ليكون منطلقاً لعمليةٍ تنمويٍّة أو دافعاً لتحوّلٍ اجتماعيٍّ.

فمن جهةٍ، استمرّت الفوضى داخل الجليل على حالها على الرغم من تناقص عمليات النهب المنظّمة التي كانت تشنّها القبائل البدويّة ضد قرى الفلاحين؛ فعلى الرغم من الإجراءات التي اتّخذها الأعيان المحليون والتجار الأجانب كذلك، ومنها تجنيدُ بعض هذه القبائل لحماية القوافل [21] أو الدفع لها لضمان المرور الآمن عبر مناطق نفوذها، إلا أنّ الهجمات المنظّمة في مواسم الحصاد ظلّت تشكّل تهديداً لسلاسة العمليّة التجاريّة، خاصةً وأنها حدثت في بعض الأحيان بتحريض الأعيان المتنافسين ضد بعضهم البعض.

أرهبتْ هجمات البدو الفلاحين لدرجة خروجهم إلى أراضيهم مسلّحين بالبنادق، كما زرعوا الأرض وحصدوها قبل ميعاد حصادها، وأخفوا المحاصيل والأدوات المخصّصة للزراعة في مخابئ تحت الأرض، خوفاً من سرقتها. تأقلم الفلاحون السوريون الجنوبيون منذ وقتٍ طويلٍ على العيش والزراعة داخل الأراضي الجبليّة الأحصن نسبيّّاً من السهول ضد هجمات البدو؛ إذ كانوا يستخدمون الصخور والحجارة لتحديد المزارع ومنع انزلاقات التربة، [22] فتصبح مناسبةً لزراعة الحبوب أو حتى زراعة أشجار الزيتون والكرمة.

في ذات الوقت، فاقمَ الوضع العام للدولة العثمانيّة أيضاً من سوء الأحوال المعيشيّة. فبالتزامن مع ضعف الحكومة المركزيّة وتفاقم نفوذ “أرستقراطية العبيد” [23] داخل القصر الحاكم، بما يشمل اكتساب أصحاب بعض المناصب داخل القصر الحاكم نفوذاً لدى مركز صناعة القرار بشكلٍ غير معهودٍ من قبل، كالكِزلار آغا والسلحدار آغا [24] على سبيل المثال، بات الحصول على المناصب القياديّة داخل الدولة مرتبطاً بدوائر النفوذ وشبكات العلاقات التي شكّلتها هذه القوى الجديدة. وبدءاً من منتصف القرن السادس عشر على الأقل، بدأت الحكومة المركزيّة تتخلى عن اعتبارات الكفاءة في اختيار الولاة والوزراء، وتعتمد في بعض الأحيان على طائفةٍ من النبلاء المصطنعين الذين تمكّنوا من الحصول على الباشويّة ومناصب الولاية والوزارة بفضل ما قدموه من خدماتٍ ورشاوى لحاشية السلطان والمقرّبين منه.

كاد بعض الولاة أن يستنزفوا معظم ثرواتهم التي أغدقوا بها على بطانة القصر كي يجدوا لأنفسهم أو لأقربائهم شيئاً من الحظوة لدى الباب العالي. أدرك هؤلاء أنّ سياسات التوظيف التي انتهجتها الحكومة، بالإضافة إلى زملائهم من الباشوات الذين سيسلكون المسلك عينه من أجل الحصول على وظائفهم لاحقاً، لن توفّر لهم سوى قليلٍ من الوقت من أجل استغلال مناصبهم الجديدة لاستعادة الأموال التي دُفعت للحصول عليها.

وبناءً عليه، مارسوا ضغطاً مهولاً على جميع العناصر الاقتصاديّة وأيّ نشاطٍّ يُجبى منه أيّ نوعٍ ممكنٍ من الضرائب داخل مناطق حكمهم، وأهمّها الزراعة بالطبع، فتعاملوا بمنتهى الشراسة مع الفلاحين، وأثقلوا عليهم بالضرائب وهاجموا قراهم ونهبوها وقتما عجزوا عن تحصيل الضرائب منها، أو وقتما أبدى الفلاحون أيّ ملمحٍ للتمرّد، ناهيك عن طلبهم الضرائبَ في غير موعدها وتكرار طلبها أكثر من مرةٍ خلال السنة الواحدة. أبقى الوزراءُ والولاةُ الفلاحين والمناطق البروفنسالية تحت حالةٍ من الإنهاك الدائم؛ّ وهو الأمر الذي أعاق بالتبعيّة أيّ عمليّةٍ تنمويّةٍ حقيقيّةٍ داخلها.

في هذا السياق، يمكن أن يُفهم التأثير الذي أحدثته الحركة التوسعيّة التي قام بها الزيادنة قبل وحتى العام  1735 في الجليل؛ إذ أُطلقت يد الزيادنة في الجليل مع تحوّله عمليّاً إلى أرضٍ مفروزة القلم ومقطوعة القدم [25] (إذا ما استثنينا حقيقة استمراره في دفع نصيبٍ من مداخيله كضرائب)، ليباشروا بتحرير اقتصاد الجليل من بقايا ارتباطه المباشر بالبيروقراطيّة الإداريّة العثمانيّة، وأصبح في مقدورهم الاهتمام بالجانب الأمني ودفع مصادر الأضرار المحتملة المهدّدة له خارج حدود مناطق حكمهم التي حددوها في بادئ الأمر تبعاً للنطاق الإداري لإيالة صيدا.

ضَمِن الزيادنة باستيلائهم على الناصرة في 1735 امتدادَ نفوذهم حتى الجزء الشمالي من سهل مرج ابن عامر الواقع أصلاً ضمن نطاق نفوذ مشايخ جبل نابلس. [26] وبعد معركة سهل الروحة [27] في ذات العام التي خاضها الزيادنة ضد النابلسيّة وعرب الصقر، باشر ظاهر العمر ببناء دارٍ للحكومة (سرايا) في الناصرة، وجعلها واحدةً من مقار إقامته، كما بنى عدداً من القلاع في كلٍّ من القيمون، خنفيس، جباتا، المشيرفة، ورشمية على طول حدود إيالة صيدا مع مرج ابن عامر خلال الفترة من 1735 حتى 1748. [28]

بجانب ذلك، سيَّر ظاهر العمر دورياتٍ منتظمةً من مليشيا عائلته، بالإضافة إلى قواته النظامية من المرتزقة المغاربة على طول الحدود وطرق القوافل، ليضمن، بأقصى درجةٍ ممكنةٍ، استتباب الأمن. كما حمَّل مشايخ القرى وملتزميها مسؤولية ردّ المظالم إلى أهلها، وفي حال نُهبت قافلةٌ أو أرضٌ، يُلزم الشيخ أو الملتزم الذي وقع النهب في منطقة حكمه بدفع تعويضٍ للمتضرّر، ويصبح خصيمَ السارق ويتولّى مسؤولية إعادة الحق لنفسه. [29]

طبَّق ظاهر العمر هذا النظام حتى على نفسه، وشمل به المتأخرين عن سداد الديون في التعاملات التجاريّة. انعكست هذه الإجراءات بوضوحٍ على النشاط الاقتصادي في (عكا والجليل)، بخلاف تأثيراتها الاجتماعيّة كذلك. وفي حين لا تتوفّر إحصاءاتٌ دقيقةٌ عن السكان في سناجق الجليل بعد انتهاء القرن السادس عشر، إلا أن بعض المصادر تؤكّد أنّ المناخ العام للجليل خلال الربع الثاني للقرن الثامن عشر أصبح جاذباً للسكان والمهاجرين، وهو ما تؤكّده بالطبع أرقام الواردات الفرنسيّة من مينائي عكا وصيدا خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن نفسه، حيث ازدادت رقعة المساحات المستغلة للزراعة وازدادت كمية المحاصيل المصدّرة.

صادرات الجليل من القطن الخام عبر ميناء عكا خلال الفترة من 1735 – 1759. المصدر: Philipp, p198.

أوردت المصادر أخباراً عديدةً عن تأثير استتباب الأمن على تحوّل الجليل لمنطقةٍ جاذبةٍ للمهاجرين خلال حكم الزيادنة، وكيف أنّ فلّاحي سورية العثمانيّة الذين عانوا من سوء الوضع الاقتصادي أو الأمني اختاروا اللجوء إلى الجليل لعدل حاكمه والأمان الذي وفّره لسكان مقاطعته. شمِل ذلك حتى المؤرخين الذين اتخذوا موقفاً سلبيّاً من ظاهر العمر باعتباره متمرداً وخارجاً عن طوع السلطان. [30]

استغلّ الزيادنة موجة الهجرة هذه للترحيب بمهاجرين من خارج الأقاليم السوريّة. وبجانب القبارصة اليونانيين الذين هربوا إلى عكا من جور والي قبرص العثماني كور باشا، [31] منح ظاهر فرصةً لعدد من الأقليّات الدينية لتُنشئ مجتمعاتٍ آمنةً داخل بلدات الجليل، [32] وذلك على أمل استغلال نفوذها وعلاقاتها مع القوى الإقليميّة والحكومات الأجنبيّة.

دلائل أخرى أظهرت اختلافاً جذريّاً في سياسة ظاهر العمر في التعامل مع السكان والاقتصاد المحلي مقارنةً بالبيروقراطيّة العثمانيّة والقوى المحليّة الأخرى؛ إذ كان اهتمامه بالجانب الأمني جزءاً من سياسةٍ اقتصاديّةٍ اعتمدت منهجاً تنمويّاً طويل الأمد، ارتكز بالأساس على طبقة الفلاحين، وتوفير الجو الملائم لممارسة عملهم بدون أيّ معيقاتٍ أو تأثيراتٍ سلبيّةٍ. فبجانب تشجيع الهجرة، اعتمد ظاهر سياسةً ضريبيّةً مُتساهلةً، ووجّه ملتزميه للتغاضي عن جباية مال الميري من المزارعين العاجزين عن دفعه، إضافةً لإقراضهم المال اللازم لبدء الموسم الجديد وتوفير البذور ومستلزمات الزراعة لهم. [33]

والأهمّ أنّ ظاهر العمر خفَّض نسبة ما يُجبى من الميري في سنوات الوفرة من الربع إلى الخُمس، [34] بل يمكن القول إنّ أحد الأسباب التي دعته لتشكيل فيلقٍ نظاميٍّ دائمٍ كان تحرير الفلاحين من ضغط الاضطرار للاستجابة لدعوات التجنيد وحمل السلاح في أوقات الأزمات، والتي قد تستمرّ حتى حلول موسم الزراعة.

الواردات الفرنسيّة من القطن المغزول عبر مينائي عكا وصيدا خلال الفترة من 1735 – 1759. المصدر: Philipp, p200.

جديرٌ بالذكر أنّ ظاهر العمر لم يُجبر أيّاً من مزارعي مقاطعته على تحديد نوعيّة المحاصيل التي يزرعها. [35] وعلى الرغم من ذلك، زادت معدلات زراعة القطن والحبوب دون غيرها بكثافةٍ استجابةً لمتطّلبات السوق. اعتمد ظاهر العمر على نظام الضمان (التسليف النقديّ المسبق) بكثافةٍ لتسيير تعاملاته الماليّة مع ولاية صيدا، فأقرضه التجار الفرنسيون أموال الالتزام مقابل منحهم الحقَّ في شراء محاصيل الجليل، خاصةً وأنّه فرضَ نفسه على الفرنسيين كتاجرٍ أوحد. إذ طبَّق احتكاراً لتجارة ميناء عكا بمساعدة وإشراف معاونه الأبرز إبراهيم الصباغ، وهو طبيبٌ وتاجرٌ مسيحيٌّ من طائفة الملكيين الكاثوليك، تولّى مسؤولية الإشراف على الجهاز الإداري الزيداني. أدّت هذه الخطوة  إلى تحولٍ جوهريٍّ ومصيريٍّ على صعيد علاقته مع الفرنسيين، خاصةً وأنّه اتخذها بعد استيلائه على بلدة عكّا.

هي معادلةٌ بسيطةٌ كان تطبيقها سبيلَ ظاهر العمر لضمان ازدهارٍ اقتصاديٍّ في الجليل؛ إذ أسّس مبنى مقاطعته على أساسين رئيسين، أولهما  تعزيز الأمن والسلم الأهلي، والآخر تحرير (الناس) من ضغط البيروقراطيّة العثمانيّة، الأمر الذي أدّى بدوره إلى تعزيز وازدهار الاقتصاد في ظلّ تطورٍ اجتماعيٍ اتخذ شكل هجراتٍ موّسعةٍ غيّرت وجه الجليل، ليزداد  عدد قراه وتتحوّل كثيرٌ من بلداته إلى حواضر مدينيّةٍ، ما عزّز شكل الجليل كمنطقةٍ بروفنساليّةٍ، كما عزّز استقلاليّته ككيانٍ سياسيٍّ. جميع ما سبق قاد الزيادنة إلى خطوةٍ حتميةٍ لتتويج مجهودهم التنمويّ الشامل في الجليل، ألا وهي السيطرة على عكا.

(4)
تقاطع محاور الصراع: “عكا ظاهر العمر” في وجه الفرنسيين والعثمانيين

مثّلت سيطرة ظاهر العمر على عكا ضرورةً حتميّةً، فكانت مسألة وقتٍ لا أكثر؛ إذ بدأ يتصرّف في البلدة باعتباره حاكمها الفعلي منذ بداية أربعينيات القرن الثامن عشر، غير عابئٍ بآغا البلدة العثماني، حيث أبرم صفقاته مع الفرنسيين بعيداً عن أعين السلطات، ووطَّد علاقته بنائب القنصل الفرنسي في عكا. تَوضَّحَ الحجم الفعلي لسلطته في البلدة عندما تمكن من اعتقال ابن عمه محمد العلي الزيداني [36] الذي كان يتجوّل في عكا في وضح النهار وسط مرافقيه.

تقدّم ظاهر العمر بعدّة طلباتٍ رسميّةٍ إلى والي صيدا للحصول على التزام البلدة، غير أنّها قُوبلت بالرفض مرةً تلو أخرى. [37] لذا، اضطرّ لانتظار أقرب فرصةٍ سانحةٍ لينفّذ هجومه على البلدة ويحصل على مبتغاه منها،حيث وفَّر له آغا عكا الذريعة المناسبة عندما رسا في ميناء البلدة مركبٌ محّملٌ بالأسلحة، يُعتقد أن الآغا أرسل في طلبها خصيصاً لتقوية مركزه في البلدة في مواجهة سلطة ظاهر العمر المتزايدة فيها.

أرسل ظاهر العمر لآغا البلدة وأهلها رسالةً يأمرهم بمغادرتها، وهو الأمر الذي تمّ بالفعل، ليدخل على إثر ذلك بلدة عكا على رأس ثلاثة آلافٍ من جنوده، في وقتٍ غير محدّدٍ بدقةٍ من العام 1745، وانتظر حتى النصف الثاني من العام التالي ليتمكّن من إقناع والي صيدا والباب العالي بخطوته، ويحصل منهما على التزام البلدة بشكلٍ رسميٍّ. [38]

كفَّ ظاهر العمر يد الباب العالي ونخبته الحاكمة في إيالة صيدا بشكلٍ تامٍ عن مقاطعته بعد استيلائه على عكا، وامتلك السيطرة على العمليّة التجاريّة والاقتصاد المحلي في (عكا والجليل). وغدت عكا والجهاز الإداري الذي أنشأه الزيادنة فيها الصلةَ الوحيدةَ التي امتلكتها الإمبراطورية بهذا الكيان السياسي، لكن الأهمّ من ذلك أنّ عكّا وضعته في موقعٍ امتلك فيه اليد العليا في علاقته مع الفرنسيين في إيالة صيدا.

تمتّع ظاهر العمر بمزايا العلاقة الحسنة التي جمعته مع نائب القنصل الفرنسي في عكا “جوزيف بلانص” خلال مطلع أربعينيات القرن الثامن عشر. دفع “بلانص” مال الميري لصيدا عوضاً عنه، مقابل الحصول على أكبر نصيبٍ من محصول القطن. كما أنّ “بلانص” نجح لأول مرةٍ في إقناع رؤسائه بالدفع لظاهر العمر سلاحاً وذخيرةً لقاء محاصيله عِوضاً عن النقد، [39] على الرغم من أنّ خطوةً كهذه كان من شأنها أن تعرّض جلّ العلاقة الفرنسيّة العثمانيّة للخطر.

على إثر ذلك، استطاع قائد الزيادنة تسليح فيلقٍ نظاميٍّ تجاوز عدد جنوده الثلاثة آلاف مقاتلٍ. كان حتميّاً تطوّرُ العلاقة بين الزيادنة والفرنسيين بسبب مصالحهم المشتركة، إلا أن فصلاً من التوتّر بين الطرفين استمرّ لعدّة سنواتٍ تسبّب في تأخير ذلك، نتجَ بدوره عن نزاعٍ ناعمٍ داخل الأمّة الفرنسيّة في صيدا، ليستمرّ طيلة فترة القرن الثامن عشر تقريباً، تسببّت به المنافسة المباشرة بين التجّار الفرنسيين في كلٍّ من مينائي صيدا وعكا.

أظهر التجار الفرنسيون في صيدا وعكا من الخلاف أكثر مما أظهروه من التجانس الذي يليق بجماعةٍ يُفترض بها تمثيل مصالح دولةٍ واحدةٍ. تجاهلت الأبحاث عن فلسطين القرن الثامن عشر هذا النزاع، حيث لم تتناوله بما يكفي من  الاستفاضة باستثناء دراسةٍ واحدةٍ [40] ركَّزت فحسب على نتائج النزاع السلبيّة على نفوذ الفرنسيين في (عكا والجليل)، والذي أدى إلى نفاذ قوى أجنبيّةٍ منافسةٍ داخل مناطق احتكارهم شرق المتوسط، [41] على الرغم من أنّ نظرةً فاحصةً على التنافسيّة التي حكمتْ العلاقة بين الفرقاء داخل الأمّة الفرنسيّة في إيالة صيدا، يمكن أن تفسّر حيثيات تفاعلهم مع القوى المحليّة في سورية الجنوبيّة والتأثير المتبادل بينهم وبينها، عدا عن أنّها ستساهم في تفسير السياق الذي بُنيت وتطورت من خلاله مكانة الجليل ضمن شبكة التجارة الدوليّة في المشرق إجمالاً.

تظهر أصول هذا النزاع من خلال أرشيف المراسلات القنصليّة الفرنسيّة لأول مرةٍ خلال العام 1691. تكشف هذه المراسلات نقاشاتٍ حادةً حول قيام تاجرٍ من صيدا يُدعى (روكرند Reucrend) بالاستيلاء على محصول صفد من القطن بعد مفاوضةٍ مباشرةٍ مع ملتزمها العثماني أحمد باشا، وهي حادثةٌ ذُكرت في الجزء الأول من هذه الدراسة. لم يلتزم “روكرند” بالنظام الذي شدّدت القنصليّة الفرنسيّة في صيدا على الالتزام به، والقاضي بحظر أيّ تعاملاتٍ للتجار الأجانب خارج الأسواق العموميّة. كما أنه تسبّب برفع سعر قنطار القطن الواحد من 33 إلى 43 ليرةً فرنسيّةً، ليدشِّن سباقاً محموماً بين التجار الفرنسيين على القطن، غذَّى، إلى جانب تزايد الطلب على القطن في فرنسا، الارتفاع الجنوني على الأسعار.

انقسمت صفوف الفرنسيين في إيالة صيدا إلى قسمين حسب أماكن تواجدهم، فكان هناك حزبٌ في عكا رعى مصالحه بتوطيد علاقته المباشرة بالأعيان المحليين، وتبنّي عكّا منفذاً بحريّاً أقرب لفلاحي الجليل وتجّاره. فيما الحزب الآخر في صيدا رعى مصالحه بإشرافٍ من القنصل نفسه، والذي اشتغل بالتجارة شأنه شأن التجّار الذين أشرف عليهم؛ إذ عانى مثلهم من تزايد حدّة احتكار تجار عكا لمحاصيل الجليل. ظلّ الخلاف بين الطرفين يتصاعد حتى وصل الأمر بتجّار عكا في 1697 إلى مطالبة باريس بفصلهم عن صيدا وإعادة هيكلتهم داخل أمّةٍ فرنسيّةٍ مستقلّةٍ، وهو المطلب الذي قُوبل برفضٍ صارمٍ من باريس مع أوامر واضحةٍ بعدم معارضة القنصل الفرنسي. [42]

لم يلبث الفرنسيون كثيراً قبل أن تنعكس خلافاتهم على علاقاتهم بالقوى المحليّة. ففي الوقت الذي اختار فيه تجّار عكا توطيد علاقتهم المباشرة بالأعيان المحليين في الجليل، وجد تجّار صيدا وقنصلهم، خاصةً بعد حادثة “روكرند”، أنفسَهم مضطرين لحصر تعاملاتهم مع المستوى الرسمي في إيالة صيدا.

مثَّل القطن السلعة الأساسيّة للتجارة الفرنسيّة في الجليل، بجانب محاصيل أخرى كالحبوب والحرير وزيت الزيتون وغيرها. وإذ كان الجليل يُنتج أجود أنواع القطن على الإطلاق في الشرق الأدنى في ذلك الوقت، فقد وجد تجار صيدا أنفسهم مضطرين لمحاولة كسر حالةٍ أشبه بالطوق فرضها تجّار عكا بالتعاون مع الأعيان المحليين على قطن الجليل. تظهر إحدى تلك المحاولات، بشكلٍ واضحٍ، من خلال حادثة سجن سعد العمر الزيداني، شقيق ظاهر العمر، في  حزيران 1730 لدى والي صيدا، وهي حادثةٌ ذُكرت كذلك في الجزء السابق من هذه الدراسة،حيث أقرض أحد تجار صيدا سعد العمر مال الميري المستحقّ عليه، والذي بلغ حوالي 22 ألف قرشٍ عثماني ليخرجه من السجن، وذلك مقابل وعدٍ بالحصول على محصول القطن من قرى الطيرة وعبلين وشفا عمرو، وهو الوعد الذي لم ينفّذه سعد بالطبع، نظراً لـ”فساد” محصول القطن في قراه الثلاثة في ذلك الموسم.

أثارت تلك الحادثة مرةً أخرى أقصى درجات التحفظ والاعتراض لدى تجار عكّا. وعلى ما يبدو، فإنّ القنصل دافع باستماتةٍ عن تاجره أمام المسؤولين في باريس لدرجة أنّه اضطرّ في النهاية لإنكار وقوع الحادثة من الأصل. [43] لكنّ الأخبار الواردة عن الحادثة تؤكّد أن التاجر الذي أقرض سعد مستحقات الميري سافر من صيدا إلى طبرية، والتقى بظاهر العمر باعتباره رئيس عشيرة خصيمه، وطالبه بوضوحٍ بالتعويض عن الخسائر التي سببها له أخوه. حاول ظاهر العمر إرضاء التاجر، مُقترِحاً عليه سداد المبلغ كاملاً، بالإضافة إلى فائدةٍ بنسبة 12%، وهو الأمر الذي رفضه التاجر، موجِّهاً تهديده لظاهر العمر بالإيعاز لوالي صيدا بإلقاء القبض عليه شخصيّاً حتى تسليم القطن المطلوب.

توجَّب على التجّار الأجانب في الإمبراطوريّة انتظار قرنٍ كاملٍ على الأقل منذ تاريخ تلك الواقعة كي يتمكنوا من إطلاق هكذا تهديداتٍ رعناء، وهم واثقون من قدرتهم على تنفيذها؛ [44] فما الذي دفع هذا التاجر بالضبط إلى تهديد ظاهر العمر في عمق نطاق نفوذه بهذا الشكل؟ وأيّ علاقةٍ ربطته كتاجرٍ أجنبيٍّ بوالي صيدا في ذلك الوقت؟ بل إنّ حادثة اعتقال سعد العمر تثير تساؤلًا أكثر أهميةً؛ إذ لماذا اعتُقل سعد من الأساس (دون شقيقه) على الرغم من أن اسمه لم يكن مسجلّاً لدى الإمبراطوريّة كأحد ملتزمي الجليل؟

يوفّر انقسام الأمّة الفرنسيّة في إيالة صيدا السياق المطلوب لتفسير جميع هذه التساؤلات، ويمكِّننا في ضوء المعلومات المتوفّرة، على قلّتها، من رسم سيناريو مُحتملٍ للأحداث. حقيقتان لا بدّ من التذكير بهما عند هذه النقطة؛ الأولى هي أنّ أحد الامتيازات التي منحها العثمانيون للتجّار الأجانب تمثَّل في حصر دفع الجمارك والرسوم على البضائع الصادرة أو الواردة من وإلى الموانئ العثمانيّة بمرةٍ واحدةٍ فقط، [45] على أن يكون العائد الجمركي من نصيب الميناء الذي رستْ فيه السفينة لنقل البضائع لأول مرةٍ. والثانية أنّ المصدر الأهمّ للدخل الحكومي في مقاطعات الموانئ، والذي اقتطع الموظفون العثمانيون أجورهم منه، تمثّل في رسوم الجمارك، بجانب الضرائب المفروضة على عمليات البيع داخل الأسواق العموميّة. وبناءً عليه، فإنّ توجيه تجارة الجليل نحو صيدا عوضاً عن عكا، لم يكن غايةً للتجّار والقنصل الفرنسيين في صيدا فحسب، بل كان هدفاً للنخبة العثمانيّة في الإيالة كذلك. [46]

انطلاقاً من هذه الحقائق، لن تكون العلاقة الوثيقة بين الأمّة الفرنسيّة في صيدا والنخبة العثمانيّة في الإيالة أمراً مفاجئاً، ويمكن أن نفسر من خلالها سبب القبض غير القانوني على سعد العمر، خاصةً وأنّ الذي تدخّل لإنقاذه من مشكلته كان تاجراً من صيدا، وسيّتضح الأمر أكثر إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ والي صيدا قبض على سعد خلال شهر حزيران؛ أي خلال بداية الصيف وقبل موعد حصاد القطن بعدّة أسابيع. بالتالي، فإنّ من الآمن الافتراض أنّ سعد قد سدّد بالفعل ما عليه من مال الميري مسبقاً بالتعاون مع تجار عكا الذين “تضمّنوا” محصول القطن في قراه الثلاث منذ وقتٍ باكرٍ من ربيع تلك السنة، وهو ما يضيف علامة استفهامٍ إضافيّةً على سبب اعتقاله الحقيقي.

تُضاف إلى ذلك جملةٌ أخرى من الحقائق؛ أولها أنّ ظاهر العمر كان يسيطر على شفا عمرو التي وُصف قُطنها بأنه الأجود في الجليل كمّاً ونوعاً؛ وثانيها أنّه ادّعى فساد المحصول في قراه الثلاث، على الرغم من أن الفرنسيين نقلوا عبر مينائي عكا وصيدا في تلك السنة ما يقارب 20 ألف قنطاٍر من القطن بنوعيه الخام والمغزول، وهو رقمٌ لا يبتعد كثيراً عن المعدل العام للصادرات خلال السنوات الخمس الأخيرة (24.7 ألف قنطارٍ)، وهو ما قد يكون مؤشّراً على أنّ سعد العمر فضَّل التنصل من التزامه تجاه التاجر الصيدوني لصالح إنفاذ التزامٍ مع تاجرٍ آخر.

وثالثها أنّ تهديد التاجر الصيدوني لظاهر العمر بالملاحقة والحبس لم يؤثّر سلباً على متانة علاقته بتجّار عكا ونائب القنصل الفرنسي فيها، وهو مؤشرٌ على إدراك ظاهر العمر لطبيعةَ العلاقة المتوترة بينهم وبين تجار صيدا، ومؤشرٌ  كذلك على إدراك تجاّر عكا أهميةَ دعم وجود ظاهر العمر حاكماً أوحدَ للجليل كصمام أمانٍ لتجارتهم، طالما ظلّت علاقتهم به خاليةً من التوتر.

ورابعها أنّ الوالي الذي ألقى القبض على سعد العمر كان سليمان باشا العظم الذي حكم صيدا حتى 1733، وانتقل بعدها إلى حكم دمشق خلال فترتين 1734-1738، و1741-1743، وهو عدو الزيادنة اللدود الذي حاربهم في طبرية بإصرارٍ ثلاث مراتٍ خلال ست سنواتٍ. عُرف الوالي أثناء حكمه لدمشق بسعيه الدؤوب لإحكام السيطرة على صيدا والسعي لتنصيب أقاربه على كرسي الولاية فيها. [47]

وآخرها أنّ القنصل الفرنسي في صيدا رفض مساعدة ظاهر العمر الزيداني عندما طلب منه حثّ السفير الفرنسي في إسطنبول على التوسّط لدى الباب العالي لإيقاف هجمات سليمان باشا العظم على طبرّية، وعلّل رفضه بحرصه على مصالح الفرنسيين في صيدا ودمشق، وضرورة الحفاظ على العلاقات مع المستوى الرسمي في الإيالتين لحمايتها. وأظهر القنصل أيضاً القلق من صورة الحكومة الفرنسيّة حيال دعمها لملتزمٍ يتخذ صورة الثائر في إسطنبول، [48] خاصةً وأنّ الأخبار عن تمويل الفرنسيين لظاهر العمر بالسلاح والذخيرة قد بدأت وقتها بالانتشار، ليعكس تصرّف القنصل اهتماماً بإقصاء ظاهر العمر، الذي سيعني استبداله بملتزمين ضعفاء نفاذاً  أسهل لتجّار صيدا إلى الجليل ومحاصيله.

تبعاً للحقائق المذكورة، يمكن الافتراض أنّ التجّار الفرنسيين في صيدا أرسوا علاقةً وطيدةً مع سليمان باشا العظم وقت حكمه للإيالة، ونستطيع من خلالها أيضاً استيضاح مدى تحكّم تضارب المصالح داخل الأمّة الفرنسيّة في إيالة صيدا في صياغة علاقة فرقائها بالقوى المحليّة في الجنوب السوري، على أنّ الظروف التي استجدّت خلال أربعينيات القرن الثامن عشر ستساهم في تغيير الوضع بشكلٍ جذريٍّ.

فبعد انتقال كرسي وزارة دمشق لأسعد باشا العظم، فقدَ الفرنسيون ظهيراً مهماً داخل النخبة العثمانيّة في سورية؛ فعلى النقيض من عمّه، لم يُبدِ أسعد باشا أيّ اهتمامٍ بإيالة صيدا، أو سنجق صفد ومقاطعات الموانئ على الأقل. كما لم يبذل جهداً  لإقناع الباب العالي بضرورة إخضاع النطاق الجغرافي الذي تحكّم به الزيادنة، على الرغم من أنّ الباب العالي منحه ما يكفي من التبريرات لذلك، عن طريق العديد من الرسائل التي حثَّته على تسهيل أمور التجارة للفرنسيين في موانئ إيالة صيدا، لكنّ أسعد باشا فضَّل التريّث وانتظار أوامر صريحةٍ بمهاجمة ظاهر العمر، وإزاء تأخّر صدور مثل هذه الأوامر، أوقن في قرارة نفسه أنّ الباب العالي لم يكن جادّاً في قرار محاربة ظاهر العمر. [49]
في ذات الوقت، لم يملك الفرنسيون الكثير لتقديمه لأسعد باشا، فعلاقات عائلته بالباب العالي في أحسن أحوالها، ولم تملك الدبلوماسيّة الفرنسيّة في إسطنبول ما تضيفه لآل العظم بخصوص ذلك، ناهيك عن أنّ أسعد باشا اكتفى بالشبكة التجاريّة الإقليميّة التي تمركزت دمشق في قلبها كسبيلٍ لمراكمة الثورة، واهتمّ أكثر بالسيطرة على سوق دمشق لتصريف محاصيل القمح التي تنتجها أراضي عائلته في حماة، [50] بالإضافة إلى قضائه معظم سنوات حكمه الاثنتي عشرة منشغلًا بشؤون إيالته الداخليّة، ولذا فيمكن الافتراض أنّ أسعد باشا لم يجد في الفرنسيين شريكاً يقدّم له فائدةً توازي مخاطر الدخول في نزاعٍ عسكريٍّ مباشرٍ مع الزيادنة في الجليل.

كما أنّ ظاهر العمر نفسه، وكما سيتّضح بعد قليلٍ، استطاع توطيد علاقته مع أسعد باشا منذ اللحظة الأولى لتوليه وزارة دمشق، وذلك في سبيل الحصول على دعمه، أو التغاضي عن نشاطه التوسعي المناقض لسلطة الباب العالي في الجليل على الأقل. وعلى الرغم من جهود ظاهر العمر، إلّا أنّ علاقته بدمشق في عهد أسعد باشا تميّزت بالتذبذب، وكان لزاماً عليه الاستمرارُ بتقديم فروض الطاعة والولاء لوزير دمشق كلّ حينٍ وآخر.

(5)
تطوير عكا

خطّط ظاهر العمر للصعود إلى عكا، وهو ماحدث بالفعل في 1745، ليصاحب انتقال السلطة في البلدة تغيّراً عميقاً في طبيعتها وبنيتها، وضَعَها، كما سبق ذكره، في مصاف المدن التجاريّة الكبيرة على الساحل العثماني على المتوسط؛ إذ دمج الزيادنة عكا داخل مشروعهم التنموي، وجعلوا ميناء البلدة أكثر ازدحاماً من أيّ ميناءٍ منافسٍ في المنطقة.

أوضحت الدراسة، لحدّ الآن، الوضع المزري لبلدة عكا خلال بداية القرن الثامن عشر، ولا يمكن إنكار أنّ الوضع داخل البلدة بدأ في التحسّن تدريجيّاً مع زيادة الاعتماد على مرفَئِها لنقل البضائع من الجليل خلال الربع الأول من القرن الثامن عشر، إلا أنّ البلدة وبنيتها التحتيّة، وكعادة أغلب المرافق المرتبطة بالنشاط الاقتصادي في الجليل، شهدتا تحوّلاً جذريّاً بفضل التأثير المباشر للزيادنة.

خريطةٌ لعكا في العام 1820 وتظهر فيها معظم المعالم العمرانيّة التي تركها الزيادنة في المدينة، المصدر: Philipp, p231.

بنى ظاهر العمر “عكّا جديدةً” فوق حطام المدينة الصليبيّة. ارتكزت عمليّة تطوير بنية عكا التحتيّة على تمكينها من أداء المهمتين الأساسيتين اللتين أُنيطتا بها؛ أن تشكل مركزاً اقتصاديّاً، ومصدراً للنفوذ السياسي في سورية الجنوبيّة. وبناءً عليه، قضى العمر ما يقارب سبع سنواتٍ في إعادة تشكيل وجه البلدة وتحويلها إلى مدينةٍ نشطةٍ لا يخلو ميناؤها من المراكب، ولا تخلو خاناتها من البضائع طيلة العام.

افتتح ظاهر العمر مشاريعه التطويريّة ببناء سورٍ ذي خمسة أضلاعٍ غير منتظمةٍ، أحاط بالمدينة من جميع جوانبها برّاً وبحراً على ارتفاعٍ تراوحَ بين عشرة أمتارٍ واثني عشر متراً. كما زوّدها بالعديد من الأبراج المقابلة للبرّ وللبحر، والتي سيزوّدها لاحقًا بالمدافع. وعلى أساسات قلعة المدينة الصليبّية القديمة الملتحمة بالأسوار، بنى سرايا عكّا الجديدة وجعلها قلعةً للمدينة ومقرّاً لإقامته. فيما استخدم أنقاض قلعة الهوسبتاليين جنوب شرق المدينة لبناء البوسطة (وهي مقرٌ إداريٌّ حكوميٌّ). [51]

بالإضافة إلى خان الإفرنج القديم القائم منذ النصف الأول من القرن السابع عشر على الأقل على الحافة الشرقيّة للخليج الواقع جنوب المدينة، بنى العمر أيضاً خاني “الشاه وردي” والشونة على أنقاض خاني البنادقة والبيازنة [52] الصليبيين [53] على الترتيب. فيما أسّس بالقرب من بوابة المدينة الجنوبيّة القريبة من المرفأ سوقاً ضخماً احتوى على مئةٍ وعشر دكاكين على الأقل، وكان يُعرف باسم “سوق ظاهر العمر”، [54] الذي أُعيد بناؤه وتوسعته من قِبل والي عكا سليمان باشا العادل (1805-1819)، وسُمي وقتها بـ”السوق الأبيض”.

خان "الشاه وردي"- 1925.

ربط السوق كلّاً من الخانات الثلاثة ببوابة المدينة، ويقع ضمنه أحدُ مسجدين بُنيا في عهده ويُنسبان إليه، بالإضافة إلى سوقٍ آخر مخصّصٍ للأقمشة والأنسجة المستوردة. كما بنى ثلاث كنائس للطوائف المسيحيّة ومعبداً يهوديّاً، [55] وهو مؤّشرٌ على تزايد أعداد سكان عكّا من الأقليات الملِّيِّة في المدينة، كنتيجٍة للهجرات المستمرة نحوها.
وبغية تحسين وضع محيط المدينة، شجَّع ظاهر العمر سكان مقاطعته على الاستقرار في الأراضي المحيطة بها، وبخاصةٍ تلك المليئة بالمستنقعات التي شكلت مصدراً للأمراض والأبخرة ذات الروائح المزعجة، حيث عرض على كلّ من ينجح في تجفيف مستنقعٍ وزراعته الحقَّ في تملّكه. [56] تبيّن التقديرات بعد أول عقدٍ على سيطرة الزيادنة على المدينة ارتفاعاً مهولاً في عدد السكان؛ إذ وصل إلى حوالي 16 ألف نسمةٍ كانت غالبيتهم المطلقة من المهاجرين، جاءوا من مختلف المناطق من داخل سورية وخارجها. [57]

وضعت عكّا الجديدة علاقة ظاهر العمر مع الفرنسيين عند مستوىً مختلفٍ من الصداميّة. صحيحٌ أنّ البنية التحتيّة المطوّرة للمدينة ساعدت في تحويلها لنقطة جذبٍ للتجارة الخارجيّة، لكنها ساعدت كذلك ظاهر العمر، بمعاونة طبيبه ووزيره إبراهيم الصباغ، على إرساء احتكارٍ لحركة التصدير والاستيراد عبر عكا. حيث منع التجار الأجانب من الاحتكاك بالفلاحين ومشايخ القرى، وإجراء أيّ مفاوضاتٍ لشراء القطن خارج السوق العمومي، وقد وصل به الأمر لحدّ سجن تاجرٍ فرنسيٍّ في سبتمبر 1746 كان ذنبه الوحيد أنه قد شُوهد داخل منزل تاجرٍ محليٍّ، ولم يُطلق سراحه إلا بعد دفع غرامةٍ بلغت قيمتها 1100 قرشٍ عثمانيٍّ. [58]

خان الشونة

كما منع قائد الزيادنة فلاحي الجليل ومشايخهم من توجيه محاصيلهم نحو أي سوقٍ سوى عكا، وقام بنفسه بضمان أغلب محصول القطن وشرائه عبر نظام التسليف المسبق، منصِّباً نفسه تاجرًاً أوحدَ يتعامل معه الفرنسيون والتجّار الأجانب. إذ تحكّم بالأسعار كيفما شاء، وتولّى أمر إيصال القطن للتجّار الأجانب بنفسه، ساعده في ذلك حقيقة امتلاكه مع وزيره إبراهيم الصباغ أكثريّةَ الدكاكين المتوفّرة في أسواق مدن مقاطعته الرئيسيّة. [59]

لم يكتفِ ظاهر العمر باللعب على وتر التناقضات بين التجّار الفرنسيين في عكا ونظرائهم في صيدا، إنّما كانت رغبته جليّةً في علاقةٍ واضحةٍ مع المستوى الرسمي في الإيالة، موضحاً طلبه بدون مواربةٍ؛ إذ أراد أن يرسِّم علاقته بالحكومة الفرنسّية باتفاقٍ رسميٍّ، ويمثّل الجليل لدى الفرنسيين بعيداً عن دوائر الحكومة العثمانيّة، وهو الأمر الذي لم يكن ليتحقّق بسهولة حتى بعد خسارة الفرنسيين لظهيرهم في دمشق سليمان باشا العظم. أوضح ظاهر العمر للفرنسيين في صيدا سياسته في تحقيق مسعاه بدون مواربةٍ: (لا اتفاق، لا قطن)؛ أي أنه عرَّضهم ببساطة لابتزازٍ مباشرٍ.

(6)
“ضابط عكّا وبلاد الجليل” [60]

“الشيخ ظاهر، إنّه لمصدرُ خطرٍ تجاه كلّ من صادفه سوء الحظ بالعيش تحت حكمه.” [61]

نشطت عقب استيلاء ظاهر العمر على عكّا خطوطُ المراسلات الرسميّة بين دبلوماسيي فرنسا في صيدا وباريس وإسطنبول، وتكشف هذه المراسلات الوضع المزري الذي أمست عليه التجارة الفرنسيّة في عكا إثر إستيلاء ظاهر العمر عليها. يرد في رسالةٍ وجهتها الحكومة الفرنسيّة إلى سفيرها في إسطنبول في 30 كانون الثاني 1749 إنذارٌ عاجلٌ بخطورة الوضع في عكا التي كانت تجارتها في تلك اللحظة، حسب وصف الحكومة الفرنسيّة، في طور الضياع، [62] متّهمين ظاهر العمر  ورعيّته بالتحايل والادعاء بفساد المحصول للسنة الرابعة على التوالي، واصفين ظاهر نفسه بالطاغية، ومنوّهين لحقيقة سيطرته على قلعتين عسكريتين في طبرية ودير حنا.

وعلى الرغم من ذلك، أجبر ضغط السوق التّجارَ على الاستمرار في تمويل الحاكم الزيداني بمال الميري مقابل وعودٍ بالوصول إلى القطن، فيما ماطل ظاهر العمر بالسداد، وخفّض كمية الصادر من القطن عبر ميناء صيدا قدر المستطاع، ما أدى إلى رفع الأسعار حتى وصلت إلى مستوياتٍ قياسيّةٍ. إذ إنّها كسرت حاجز مائة ليرةٍ فرنسيّةٍ مقابل قنطار القطن الخام، ومائةٍ وستين ليرةً مقابل القطن المغزول. وعلى الرغم من ابتزاز ظاهر  العمر للفرنسيين من أجل إجبارهم على ترسيم تعاملاتهم بعيداً عن دوائر الحكومة العثمانيّة،إلّا أنّه في الوقت ذاته احتاج إلى النقد بشدةٍ لتمويل مشروع تطوير عكّا نفسها.

من المثير للاستغراب أنّ العلاقات بين ظاهر العمر والفرنسيين في صيدا اتّخذت شكل الخصومة في وقتٍ مبكّرٍ قبل سيطرته على عكا، وذلك بسبب خطأٍ ارتكبه بحقّه القنصل الفرنسي في صيدا ،”دي لان de Lane”، عندما استقبل موظفاً هارباً منه، بعد أن سرق مبلغاً غير محدّدٍ بدقةٍ من النقد.

يُدعى الهارب “يوسف الأرقش”، وقد عمل لدى ظاهر العمر كاتباً ومديراً لشؤونه الماليّة (قبل إبراهيم الصباغ). تُظهر الحادثة استهانةً شديدةً من (دي لان) بظاهر العمر وقوته، وقدرته على التأثير في مسار التجارة الفرنسيّة في سورية الجنوبيّة. ويظهر من اتهاماته للقنصل الفرنسي في رسالةٍ أرسلها لوزير الدولة الفرنسي لشؤون البحريّة (الكونت دي موريبا Comte de Maurepas) في حزيران 1745 أنّ “دي لان” استقبل الأرقش مقابل رشوةٍ دفعها للحصول على حماية الفرنسيين في صيدا، وأنّه عيّنه كاتباً لديه في قنصليّته، وتولّى مسؤولية الدفاع عنه رئيسه السابق. [63]

وبصرف النظر عن هذه الحادثة بالذات، فإنّ تضارب المصالح بين الطرفين حسم حتمية تصاعد التوتّر لاحقاً بينهما، فلم يكن لدى الفرنسيين من سبيلٍ، بعد سيطرة ظاهر العمر على عكا، إلا السعي من أجل تقويض نفوذه في البلدة قدر المستطاع. سعى “دي لان” إلى استغلال المساحة المتاحة له للتحرك ضدّ شيخ الزيادنة، وباشر بدايةً بطلب الدعم من باريس، والتي فضَّلت اتخاذ مسارٍ دبلوماسيٍّ مباشرٍ كعادتها في هذه الحالات، فأوعزت للسفير الفرنسي في إسطنبول بممارسة ضغطه على الباب العالي من أجل التدخّل وإجبار ظاهر العمر على تسهيل عمل الأمّة الفرنسيّة في صيدا.

لم تسفر جهود السفير الفرنسي عن خطواتٍ ملموسةٍ، ولم يكن للباب العالي أيُّ مصلحةٍ في تحريك أيّ مياهٍ راكدةٍ في الجليل، لإدراكه أنّ القوى المحليّة المناصرة له في سورية لم تكن في موقعٍ يسمح لها باستعداء ظاهر العمر، والذي حافظ حتى تلك اللحظة على أداء ما يستحقّ عليه من مال الميري بدون أيّ تأخيرٍ، بل إنّ بعض القوى المحلّية فضَّلت دعمه على غيره، كوالي صيدا على سبيل المثال، [64] والذي مرَّ جزءٌ ضخمٌ من مال الميري المستحقّ على إيالته عبر ظاهر العمر نفسه.

عنى ذلك أنّ أيّ اضطراب يؤثّر سلباً على سلاسة العمليّة الاقتصاديّة في الجليل سيؤثّر سلباً بالتبعّية على قدرة الوالي على أداء مال الميري المستحقّ على صيدا للباب العالي. أرسل السلطان بعض الرسائل لوزيره في دمشق، أسعد باشا العظم، تحثّه على فعل ما يلزم لتسهيل أمور الفرنسيين في الموانئ السورية بدون أيّة أوامر صريحةٍ باستخدام القوة العسكريّة ضد ظاهر العمر.

فضَّل أسعد باشا تجاهل الرسالة وعدم الأخذ بها طالما لم تحتوِ على أوامر صريحةٍ بالتحرّك ضدّ (عكا والجليل). سيتّضح من خلال التحليل التالي أنّ أسعد باشا، وعلى الرغم من حسن علاقته بظاهر العمر، وحرص الأخير على ضمان مصلحته لديه في أكثر من مناسبةٍ، إلا أنه فضَّل استغلال الوضع المتوتّر بين ظاهر العمر والفرنسيين في صيدا من أجل تحقيق مكسبٍ شخصيٍّ، خاصةً وأن سياسة غضّ الطرف التي انتهجها أسعد باشا تجاه الزيادنة قد بدأت تُظهر بعض الانعكاسات السلبيّة على موقع دمشق من التجارة الإقليميّة. وجديرٌ بالذكر أنّ تفاعل أسعد باشا لم يخلُ من حرصه، في ذات الوقت، على النأي بنفسه عن الدخول في مواجهةٍ عسكريّةٍ مع منطقةٍ معقّدةٍ طبوغرافيّاً كالجليل، وقد انعكس موقع أسعد باشا في النزاع بين الطرفين إيجاباً على موقع ظاهر العمر فيه.

ألزم قائد الزيادنة الفرنسيين، في نهاية المطاف، بتوقيع اتفاقٍ للتبادل التجاري معه، وذلك بعد أن استبدلوا قنصلهم “دي لان” في صيدا بآخر يُدعى “دي ڤرايون de Verrayon”، إلا أن رسالةً من ظاهر العمر إلى وزير الدولة الفرنسي لشؤون البحريّة في 1 أيار 1754 تبيّن أنّ الفرنسيين ماطلوا في تنفيذ اتفاقهم معه لمدة عامٍ على الأقل.

كما توضّح، أيضاً، أنّ القنصل “دي لان” خلال السنوات السابقة لم يركن للعجز الدبلوماسي الرسمي، محاولاً مقارعة ظاهر العمر بطريقته الخاصة. ويبدو أنّ “دي لان” حاول الاتصال بالقوى المحليّة الأخرى في سورية الجنوبيّة لإقناعهم بمحاربة ظاهر العمر أو استعدائه على الأقل. وبحسب اتهام ظاهر العمر له، فإنه  لعب دوراً في إحداث وقيعةٍ بين الزيادنة ومتاولة جبل عامل، وهو عداءٌ سيستمر بين الطرفين لسنواتٍ ٍطويلةٍ، بسبب خلافاتٍ حدوديّةٍ على أحقيّة كلٍّ من الطرفين في التزام بعض القرى. تستمر اتهامات ظاهر العمر لـ”دي لان” في رسالته المذكورة أعلاه؛  إذ يقول:

“ولم يزل مضادّنا ومعاندنا في كلّ أمرٍ يغثّني ويغمّني، ونحن لأجل الاحترام الواجب إلى الباب العالي الفرنساوي وإكراماً إلى سعادتكم، احتملتُ جميع ذلك ومضيته بالصبر والاحتمال … فأولًا أرمَى الفتنة ما بيني وبين أحد مشايخ المتاولة [65] الذي كان ما بيننا محبةٌ أكيدةٌ، وثانياً كتب إلى وزير الشام [66] ضدِّي بيترجاه [67]  حتى يعيِّن واحداً من أولادي [68] الذي كان خارجاً عن طاعتي، حتى إنّ الولد المذكور يستمرّ على غروره  ويخرّب نظام البلاد، وهكذا صار. وثالثاً كتب إلى آغا حيفة التي هي من حكمنا أن يمنع تفريغ وسق الأقواف [69] في ذلك الطرف، بل إنّه حالاً يوجّههم إلى صيدا ويفرغوا وسقهم هناك لأجل أن يعدمنا عوايد الكمرك [70] العايد إلينا بأمرها في تفريغ الوسق في أسكلة [71] صور العايد كمركها إلى صيدة.” [72]

إذا سلَّمنا بصحة اتهامات ظاهر العمر لـ”دي لان”،  سيتّضح تضمُّن هذه الرسالة لأول إشارةٍ موثّقةٍ للمنازعة التي نشبت بين ظاهر العمر ومتاولة جبل عامل، وهي منازعةٌ اضطربت المصادر التاريخية في محاولة تحديد موعدها وتسلسل أحداثها، وقد أفاد منها المتاولة الذين سيطروا في ذلك الوقت على مرفأ صور وحركة التجارة عبره.

كما تشير الرسالة، أيضاً، إلى أول محاولةٍ للتمرّد على ظاهر العمر ينفّذها أحد أولاده، وهي المحاولة الفاشلة التي نفّذها بكره عثمان في 1752، على أنّ الأكثر أهميةً في ما تكشفه الرسالة يتمثّل في أمرين: الأول سيطرة ظاهر العمر على ميناء حيفا الواقع تحت سيطرة مشايخ النابلسية رغم وقوعه إداريّاً تحت سيطرة إيالة صيدا، وذلك خلال فترة حكم أسعد باشا العظم لدمشق، وهو ما سيكون له لاحقاً تأثيرٌ كبيرٌ على علاقة ظاهر العمر بكلٍّ من نابلس ودمشق. والثاني نجاح القنصل “دي لان” أخيراً، بحسب ظاهر العمر نفسه، في تحريض أسعد باشا ضد الزيادنة بعد سنواتٍ من غضّه الطرفَ عنهم.

من الجدير بالذكر أن التأثير الذي أحدثه تطوير بنية عكا التحتيّة لم يتوقف على علاقة ظاهر العمر بالفرنسيين فحسب، بل امتدّ ليشمل تغيّراً في طبيعة علاقة عكّا بما يحيط بها من مراكز تجاريّةٍ، وعلى رأسها دمشق. فلم يقتصر النشاط التجاري في عكا على صادرات الجليل لفرنسا فقط، بل كسبت نصيباً هاماً من التجارة الإقليميّة داخل الفضاء العثماني، والمعتمدة بشكلٍ كبيرٍ على النقل البحري بين موانئ الإمبراطورية على المتوسط.

جامع ظاهر العمر في عكّا المسمّى أيضاً بـ"جامع الزيتونة".

ساهم في تعزيز هذه المكانة الجديدة عاملان مهمان؛ الأول اضطراب الأمن وانتشار قطّاع الطرق على الطريق الواصل بين دمشق وصيدا المارّ عبر إقليم البقاع، بالتزامن مع تحسّن الوضع الأمني على الطرق الواصلة بين دمشق والجليل. [73] والثاني يعود إلى العلاقة الحسنة التي حرص ظاهر العمر على إرسائها مع الحكومة المالطيّة، والتي ساهمت في إبعاد خطر القرصنة عن ميناء عكا وأراضي ظاهر العمر؛ إذ وافق المالطيون على إيقاف استهداف عكا مقابل منحهم الأمان داخل المدينة والفرصة لبيع أسلاب قرصنتهم في سوقها. [74]

لم يكن أسعد باشا ليمرّر ارتفاع نصيب عكا من تجارة دمشق الإقليميّة مرور الكرام. حرص ظاهر العمر على تحييد أسعد باشا طيلة سني حكمه لدمشق، كما حرص على عدم فرض صلة القرابة بين سليمان وأسعد على الأخير متابعَة مسعى عمه في الجليل. لذا،  كان ظاهر العمر من أوائل من قدّموا التهنئة لأسعد باشا بمناسبة توليه لمنصبه الجديد، مُرفقاً تهنئته بحمولة قافلةٍ مكوّنةٍ من أربعين جملاً من المواد التموينيّة، أرسلها إلى أسعد باشا شخصيّاً بخلاف ما أرسله لفتحي أفندي دفتردار دمشق مع رجاءٍ خاصٍ باسترضاء الوالي الجديد باسمه. [75]

ورغم أن أسعد باشا اكتسب سمعته كوزيرٍ مسالمٍ “محبٍّ للمال”، إلا أنّه لم يبخل على نفسه في تزجية بعض الوقت في محاربة المتمرّدين غرب دمشق وجنوبها من بدو ودروزٍ ونهب أراضيهم، ناهيك عن المتمرّدين من إنكشارية دمشق اليرلية (المحليّة)، بل إنّه افتتح فترة وزارته بخصومةٍ محمومةٍ ضد منافسه على النفوذ في دمشق فتحي أفندي الدفتردار. [76]

لكنّ أسعد باشا لم يقترب من ظاهر العمر قط، ولم يفكّر في خيار مواجهته عسكريّاً، حتى بعد سيطرة العمر على حيفا. يكشف مؤرخو الزيادنة أنّ ّالعلاقة بين ظاهر العمر وباشا كانت في أحسن أحوالها؛ إذ قدّم العمر لباشا فرض طاعةٍ وولاءٍ عندما قبض على بعض اليرلية اللاجئين من دمشق إلى طبرية وأرسل رؤوسهم إلى إسطنبول، مع الأخذ بالاعتبار أنّ العمر قد قبِل لجوءَهم إلى طبريّة لعدّة سنواتٍ على الأقل قبل مبادرته بإعدامهم.

يدّعي أحد مؤرخّي دمشق المعاصرين لتلك الفترة أنّ أسعد باشا لعب دوراً في الإصلاح بين ظاهر العمر وابنه عثمان بعد ثورته عليه في 1752، وهو ادعاءٌ مشكوكٌ في موثوقيّته، ويسقط أمام اتهام ظاهر الصريح للقنصل “دي لان” الوارد في الرسالة أعلاه. لا يمكن إنكار أنّ تأخّر أسعد باشا في اتخاذ ردّ فعلٍ تجاه ظاهر العمر وتنامي قوته في (عكا والجليل) أثار الارتباك بشأن طبيعة العلاقة التي جمعته بالزيادنة.

وفي ضوء تسلسل الأحداث، يمكن أن نقرأ تأخّر ردّ فعل أسعد باشا حتى انتظاره اللحظة التي بدأت فيها (عكا والجليل) بالتداخل مع مصالح دمشق وشبكتها التجاريّة الإقليميّة، عدا عن حقيقة أنّ ردّ الفعل هذا استحثّه تحريضٌ قام به قنصل فرنسا في صيدا.

لا يمكن أن نهمل، أيضاً، أنّ الحقائق أعلاه تضعنا أمام احتمالين قائمين يمكن أن يفسّرا طبيعة العلاقة التي جمعت ظاهر العمر بأسعد باشا العظم؛ أولهما أنّ باشا أبدى بالفعل جديّةً في محاولة تحجيم نفوذ العمر واستعادة تحالف عمه القديم مع الأمّة الفرنسيّة في إيالة صيدا، وهو ما لم يترجمه لخطواٍت عمليّةٍ فعَّالةٍ، بسبب تخوفه من قوة ظاهر العسكريّة وصعوبة القضاء عليه داخل الجليل. [77]

ثانيهما أنّ تفاعل أسعد باشا العظم أخيراً مع الوضع الداخلي في المقاطعة الزيدانيّة، وذلك بدعم تمرّد عثمان ضد أبيه، وتحريض المتاولة على دعمه واستضافته كذلك، كان في جوهره مجرد استغلالٍ للوضع القائم هدِفَ إمّا إلى ابتزاز الحاكم الزيداني ماديّاً، أو التوصّل إلى اتفاقٍ تجاريٍّ معه. وكلاهما أمران لا يمكن تحديد معالمها بدقةٍ في ضوء المعلومات المتوفّرة، لكن يمكن من خلالهما فقط قراءة الرواية التي تدّعي تدخّل أسعد باشا لإصلاح الخلاف بين العمر وابنه، باعتبارها حدثت بعد إبرام هذا الاتفاق المفترض.

وإذا ما اخترنا تصديق هذا الاحتمال، فذلك يعني أنّ أسعد باشا أبرم اتفاقاً مع ظاهر العمر بالفعل، مُطلقاً على إثره يدَ العمر في الجليل في مواجهة الفرنسيين، وهو ما اضطرَهم في النهاية لتوقيع اتفاقٍ رسميٍّ  مع القائد الزيداني بدون الخوف من تبعات ذلك على علاقتهم مع الباب العالي. كما سيوضّح الاتفاق السبب وراء تغاضي أسعد باشا عن سيطرة ظاهر العمر على ميناء حيفا [78] على الرغم من الضرر الذي أوقعه ذلك على ملتزمي الإمبراطورية في نابلس الذين وقعت حيفا ضمن نطاق نفوذهم.

وفي ضوء التحليل أعلاه، يتّضح أنّ ظاهر العمر ظلّ مستمرّاً،حتى ذلك الوقت، في اتباع سياسة مهادنةٍ قدر المستطاع للنخب العثمانيّة في سورية الجنوبيّة على الرغم  من مواجهاته ضد سليمان باشا العظم. إذ  فضَّل بذل أقصى جهده لتحاشي الدخول في مواجهةٍ عسكريّةٍ ضدها، ما يدلّل على إدراك العمر خطورةَ أيّ ارتباكٍ يؤثّر على سلاسة العمليّة التجاريّة؛ فإدارة مقاطعته كانت تكلّف ثروةً ضخمةً، لم يكن ليحصّلها في حال تعطَّلت مجهودات مزارعيه وتجّاره بسبب حربٍ لا طائل منها. وربما يمثّل التعاون بين العمر وباشا، في حال صحّ الاستنتاج أعلاه، سابقةً في تاريخ علاقة النخب العثمانيّة والأعيان المحليين بالقوى الأجنبيّة في سورية الجنوبيّة.

(7)
على سبيل الخاتمة

عُزل “دي لان” في نهاية المطاف، ونقل الباب العالي أسعد باشا من دمشق إلى حلب بعد أربع سنواتٍ من توقيع ظاهر العمر اتفاقاً مع الفرنسيين، اعترفوا به من خلاله ضابطاً لعكّا وبلاد الجليل وتاجراً أوحدَ يتولّى مسؤوليّة إيصالهم إلى محاصيله. وعلى الرغم من أنّ العلاقة بين العمر والفرنسيين ستظل مشوبةً بالتوتر، خصوصاً مع وصول عثمان باشا الكرجي إلى منصب وزارة دمشق مع بداية ستينيات القرن الثامن عشر، إلا أنّ هذه الجولة من التنافس حُسمت لصالح الزيادنة، واستطاعوا أخيراً رفع يد الفرنسيين عن العملية التجاريّة في مقاطعتهم، وحصر تعاملاتهم معها من خلال عكّا كحلقة وصلٍ. إذ تحوّلت الأخيرة إلى مركزٍ اقتصاديٍّ حيويٍّ ومحوريٍّ بالنسبة للتجارة في سورية عموماً، ما عزّز من مكانة الكيان السياسي المتمثّل في (عكا والجليل) في سورية الجنوبيّة، وتحويله لا إلى قوةٍ اقتصاديّةٍ لا يُستهان بها فحسب، بل إلى مصدرٍ للنفوذ السياسيّ في المنطقة كذلك.

لم تنجرف القوى المحليّة مع تيار الظروف الإقليميّة والدوليّة المحيطة بها، حيث تمكّنت من فرض رؤيتها الخاصة لطبيعة العلاقة التي قد تربطها بأيّ قوىً أجنبيّةٍ، رافضةً بقاءَها طرفاً ساكناً في عمليّة تشكيل هذه العلاقة. لقد أظهر الزيادنة، على وجه الخصوص، مرونةً عاليةً في استغلال الظروف لصالحهم والاستفادة منها لأقصى درجةٍ ممكنةٍ؛ إذ تمكّنوا، ومن خلال عملية مراكمة نفوذٍ بطيئةٍ، لكنّها ناجحةٌ ومثمرةٌ، من فرض أنفسهم كأصحاب اليد العليا في أيّ علاقةٍ تجمعهم بأي طرفٍ خارجيٍّ. وهو ما يستدعي في ضوئه إعادة قراءة تاريخ فلسطين القرن الثامن عشر بمزيدٍ من التدقيق مع إيلاء القوى المحليّة مزيداً من الاهتمام؛ فهي لم تكن أبداً قوىً ساكنةً تحرّكت بعد اختيار أوروبا التداخل معها ووضعها في مجال اهتمام الاقتصادي الدولي، بل استطاعت أن تصوغ من طرفها هذه العلاقةَ حسبما أقرّته مصالحها بالأساس.

ستشهد السنوات اللاحقة مزيداً من التطوّرات، وستنتهي مع بداية ستينيات القرن الثامن عشر فترةُ السلام التي شهدها الجليل بعد وفاة سليمان باشا العظم، لتحلّ عوضاً عنها التوتّراتُ بين ظاهر العمر وجيرانه في دمشق، وجبل عامل، وجبل نابلس ،وجبل لبنان، وتبدأ  بالصعود إلى السطح.

سيبلغ ظاهر العمر مع مطلع سبعينيّات الثامن عشر أوجَ قوته، وستصل مقاطعته إلى أقصى توسّعٍ لها على الإطلاق، تتورّط خلاله في صراعٍ غير مألوفٍ يضعها في تحالفٍ معقّدٍ ذي طبيعةٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ لمواجهة الباب العالي. سرعان ما سينفرط عقد هذا التحالف لتشهد المقاطعة الزيدانيّة آخر حلقةٍ في تاريخها القصير، وتختتمه بانهيارٍ سريعٍ يضعها لقمةً سائغةً لدى العثمانيين، الذين بدورهم سيسلّمون دفّة قيادتها لوالٍ جديدٍ سيستمر في دفع الكيان السياسي في (عكا والجليل) نحو مزيدٍ من الازدهار الاقتصادي حتى نهاية القرن الثامن عشر.

*****

الهوامش

[1] النابلسي، ص98.
[2] على الرغم من إنجازاته الحاسمة في تصفية الوجود الصليبي في سورية، إلا أنّ الظاهر بيبرس لم ينجح في فتح عكا، رغم هجومه الشرس ضدّها في 1263. واضطرّ المماليك للانتظار حتى 1292، حيث فُتحت عكا على يد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، الذي ساهم  بدوره في اتخاذ آخر خطوةٍ لتصفية الوجود الصليبي في سورية بأكملها. للمزيد، راجع: زكار، ص 546، وأيضاً ص 555.
[3]  Philip, p1.
[4] اتّخذ المماليك من تدمير الحصون سياسةً عامةً أُقرت في عهد السلطان الظاهر بيبرس؛ إذ لم يرغب في تشتيت المجهود الحربي المملوكي في سورية على عددٍ كبيرٍ من الثغور البحريّة، وفضّل ترك الحصون الصليبيّة في حالةٍ من الانهيار، كي لا تنجح أيّ حملاتٍ صليبيةٍ جديدةٍ في الاحتفاظ بها حتى لو استطاعت استعادتها، ناهيك عن إدراك المماليك لعلو كعب الصليبيين في ميزان الحرب البحريّة، بسبب امتلاكهم للأساطيل الإيطاليّة التي ستمنحهم التفوّق في أيّ مواجهةٍ على شاطئ البحر. للمزيد، راجع: زكار، ص 547.
[5] راجِع: ابن جبير، ص 276.
[6] رافق، ص 757.
[7] المرجع السابق، ص 816.
[8] صافي، ص95.
[9] حوراني، ص 112.
[10]  Avery, Hambly and Melville (eds.), p297 .
[11] للمزيد عن سياسة الإمبراطوريّة العثمانيّة تجاه الأقاليم ومراكز القوى، انظر: حوراني، ص 105 وما بعدها.
[12] قدَّم المؤرّخ التركي خليل إينالجيك مزيداً من التوضيح عن مفهوم الإمبراطوريات الزراعيّة أو إمبراطوريات المزارعين Peasant Empires في كتابه عن العصر الكلاسيكي للإمبراطورية العثمانية. للمزيد، انظر: Halil Inalçik (1989).
[13] للمزيد عن الاقتصادي الخراجي، انظر: سمير أمين (1988).
[14] بإقرار ذلك، يتّضح فوراً مدى ما حازته طبقة الفلاحين ومهنة الزراعة داخل الإمبراطورية العثمانيّة من أهميةٍ قصوى، باعتبارها البنية الأهم التي ارتكزت عليها الدورة الاقتصاديّة للإمبراطوريّة، لكن لا يزال تاريخ هذه الطبقة من رعايا السلطان الذين بلغ تعدادهم الملايين غامضاً ومغطىً بطبقةٍ كثيفةٍ من التاريخ الرسمي والنخبوي؛ فلم تبدأ الأبحاث المختصّة في استخراجه منها إلا في العقود الأخيرة. للمزيد، انظر: Singer, p2.
[15] يقدّم بشارة دوماني توضيحاً لتصّور الأعيان المحليين لعلاقتهم بالمركز العثماني في السياق السوري الجنوبي. للمزيد، انظر: دوماني، ص28.
[16] للمزيد عن الوضع السياسي لفلسطين وإمارات الساحل السوري خلال الحقبتين الصليبية والمملوكية، راجع: سهيل زكار (1990)، وكمال الصليبي (1992).
[17] راجع الجزء السابق من الدراسة، هامش رقم 13.
[18] حوراني، ص112 .
[19] حوراني، ص111.
[20]  يُمكن إجمال أسباب هذه الزيادة في الشرح الذي قدمته الدراسة في جزئها الأول عن معالم تراخي القبضة العثمانية على إيالات سورية وإرهاصات صعود (عكا والجليل) ككيانٍ سياسيٍّ، والتغلغل الأوروبي/الفرنسي الذي نتج عن ذلك في الاقتصاد السوري الجنوبي. للمزيد، انظر: هنا
[21]  Yazbak [JESHO 56], p716.
[22] رافق، ص811.
[23] أرستقراطية العبيد Slaves’ Aristocracy: مصطلحٌ يُستخدم لوصف طبقةٍ من النبلاء العثمانيين ظهروا كنتيجةٍ لتزايد الاعتماد على ما عُرف في الإمبراطورية باسم عبيد الباب أو (القابي قولو أوجاي Kapıkulu Ocağı)، وهم فرق نخبة الجيش العثماني من مشاة الإنكشارية وفرق الخيّالة، وذلك لسدّ الفراغ في المناصب الإداريّة العليا في الدولة، شاهد: Venice and Ottoman Empire: Crash Course World History #19. وللمزيد عن القابي قولو، انظر: Uyar and Erickson, p17 ff.

[24] الكزلار آغا أو القيزلر أغاسي Kızlar Aĝasi: كلمةٌ تركيّةٌ تعني (آغا الجواري)، ويُسمى أيضاً (آغا دار السعادة)، وهو كبير الآغاوات المسؤولين عن حماية الحرملك، وكان يختاره السلطان غالباً من الخصيان الأفارقة. حاز شاغلو المنصب حظوةً لدى السلطان، وامتلكوا نفوذاً وتأثيراً على السلطانة الأم، متمكّنين في بعض الأحيان من فرض سياساتٍ معارضةٍ للصدر الأعظم وكبار موظفي الدولة. استمالهم بعض النبلاء، نتيجةً لتأثيرهم، بالرشاوى والهدايا لتيسير شؤونهم لدى الباب العالي والحصول على امتيازاتٍ خاصةٍ.
 السلحدار آغا Silahtar Aĝa: كلمةٌ ذات أصلٍ فارسيٍّ تعني (حامل السلاح)، وهي لقبٌ يُطلق على مساعد السلطان الخاص وحارسه الشخصي، وأصبح يرأس لاحقًا فرقةً عسكريةً معروفةً باسم (فيلق الراية الصفراء) كانت مسؤولةً عن مرافقة السلطان في أسفاره. تولّى السلحدار آغا مسؤولية إيصال المراسلات من وإلى الباب العالي، كما كان يرافق السلطان أيضاً في المهرجانات والمناسبات الخاصة.
[25] “مفروزة القلم ومقطوعة القدم”: مصطلحٌ أُطلق على بعض الوحدات الإداريّة العثمانيّة، وتعني أنّها أرضٌ لا تجري فيها عملية التحرير (أي الإحصاء السكاني وحصر الممتلكات)، ولا تدخلها أقدام الموظفين العثمانيين، الإداريون منهم أو العسكريون. للمزيد، راجع: بيات، ص 89.
[26] Yazbak, [Oriente Moderno 93], p541.
تَبِعَ مرج ابن عامر إداريّاً لسنجق اللجون الخاضع لنفوذ المشايخ النابلسيّة، وتسبّب موقعه المتاخم للناصرة التي تقع على بوابته الشرقية في كثيرٍ من الخلافات بين مشايخ البلدة ومشايخ جبل نابلس، حيث منع النابلسية الناصريين من الزراعة في المرج، وألقى مشايخهم القبض على بعض مزارعيهم عدّة مرات. امتلك الفرنسيون نفوذاً عميقاً في الناصرة بمساعدة رجال الدين الكاثوليك المقيمين في البلدة المنضوين تحت جناح الرهبنة الفرنسيسكانية، وقاموا بمعونتهم بإقناع والي صيدا بتعيين بعض التجّار الفرنسيين ملتزمين على الناصرة. ساعد الفرنسيون في دفع الخلاف بين أعيان الناصرة ومشايخ النابلسية إلى القضاء، ونجحوا في استصدار حكمٍ من محكمة جنين الشرعية في 1712 يقضي بتقسيم مرج ابن عامر إداريّاً، بحيث يقع الجزء الشمالي منه تحت سلطة سنجق صفد، وهو قرارٌ لم يُنفّذ عمليّاً على الأرض إلا بسيطرة ظاهر العمر على بلدة الناصرة.
[27] صافي، ص62  وص121.
[28] المرجع السابق، ص263.
[29] المرجع السابق، ص213.
[30] راجع: كرد علي، ج2، ص287 وما بعدها.
[31] صافي، ص207
[32] المرجع السابق، ص204.
[33] المرجع السابق، ص206.
[34] فرض النظام الضريبي العثماني على الفلاحين منح ربع محاصيلهم ضرائبَ للملتزمين في سنوات الوفرة، مقابل الخُمس فقط في السنوات العادية، لكنّ ظاهر العمر ألزم ملتزميه بالاكتفاء بالخُمس فقط في جميع الحالات. للمزيد، انظر: م. الصباغ، ص49.
[35] صافي، ص208.
[36] محمد العلي الزيداني، وهو ابن علي الزيداني عم ظاهر العمر (أو ابن عمه حسب بعض الروايات)، وكان أحد رؤساء عشيرة الزيادنة، وقائداً لفرسانها (تحت إمرة ظاهرنفسه)، وملتزماً على بلدة الدامون في الجليل الأدنى. حرَّض محمد العلي سليمان باشا العظم على ظاهر العمر، ووعده بالمعونة إذا ما قرر حصار طبرية على الرغم من علاقة القرابة والنسب التي تربطه بالعمر، وذلك أملاً في الحصول على مكانه بعد إقصائه عن حكم الجليل. ألقى ظاهر العمر القبض عليه في عكا، ونقله إلى طبرية، حيث حبسه في قلعتها حتى مات. للمزيد، راجع: ع. الصباغ، ص35.
[37]  Philipp, p36.
[38] رافق، ص710؛ Cohen, p130.
[39] صافي، ص157.
[40] Philip, p94 ff.
[41] راجِع الجزء السابق من هذه الدراسة (الفقرة السادسة)، من هنا.
[42] Philipp, p98
[43] Ibid, p100.
[44] للمزيد عن ازدياد تأثير القناصل الأوروبيين على الإيالات العثمانيّة وتعاظم نفوذهم داخلها خلال القرن التاسع عشر، راجع: Mansel (2011).
[45] كان أحد وسائل تضييق الفرنسيين على ظاهر العمر في عكا تحريضهم سرّاً لملتزم حيفا- (التي كانت تتبع لظاهر العمر في مستهل خمسينيات القرن الثامن عشر) -على إعادة توجيه السفن والمراكب التجاريّة التي تقصد مرفأ بلدته إلى مرفأ بلدة صور، وذلك لحرمانه من رسوم الجمارك. راجع: رافق، ص820.
[46] يمكن اعتبار هذه العوامل، أيضاً، سبباً إضافيّاً شجّع ظاهر العمر للسيطرة على ميناء عكا، واهتمامه لاحقاً بالسيطرة على الموانئ السوريّة كوسيلةٍ للسيطرة على حركة التجارة.
[47] نجح بالفعل في تعيين أبناء إخوته إبراهيم وأسعد (على التوالي) ولاةً على صيدا، وكان أسعد من خلفه على دمشق بعد وفاته. راجع: Philipp, p35؛ رافق، ص709.
[48] رافق، ص710. وبصرف النظر عن أنّ فرنسا لم تملك مصالح تجاريةً مباشرةً مع دمشق، إلا أنّ الفرنسيين اعتبروا أنفسهم مسؤولين عن سلامة الجالية الكاثوليكية في دمشق من بطش سليمان باشا في حال تدخّلهم في شؤونه.
[49] رافق، ص711.
[50] السجدي، ص49 وص235 (رقم60).
[51] الهوسبيتاليين، أو فرسان مالطة، أو تنظيم السيادة العسكريّة لمستشفى القديس يوحنا في أورشليم، رودس ومالطا، أخويّةٌ دينيّةٌ عسكريّةٌ تأسّست في القدس كجمعيّةٍ خيريّةٍ لخدمة فقراء المسيحيين عشية الحملة الصليبيّة الأولى، وتحوّلت إلى تنظيمٍ عسكريٍّ قويٍّ امتلك عديداً من القلاع والمواقع العسكريّة الهامة في فلسطين خلال الحقبة الصليبّية، وكان له وجودٌ مهمٌ في مدينة عكا التي كانت تُعدّ أهمّ ثغرٍ بحريٍّ للصليبيين على ساحل المتوسط.
[52] البنادقة: نسبةً إلى البندقية، والبيازنة: نسبةً إلى بيزا. وامتلكت البندقية وبيزا، بالإضافة إلى جنوة، السيطرة على اقتصاد عكا الصليبية.
[53]  Philipp, p172.
[54] صافي، ص211.
[55] المرجع السابق.
[56] المرجع السابق، ص207.
[57] المرجع السابق، ص212؛ Philipp, p173.
[58] Philipp, p102.
[59] أظهر إحصاءٌ عثمانيٌّ أُجري بعد مقتل ظاهر العمر وإبراهيم الصباغ امتلاكَهما حوالي مائةٍ وست دكاكين في أسواق عكا وحيفا وصيدا، وما يزيد عن مائةٍ وخمسين مخزناً وفرناً. للمزيد، انظر: صافي، 218 وص308 (ملحق 8)؛ Cohen, pp 96-97 & p133.
[60] لقبٌ مختصرٌ استخدمه ظاهر العمر في مراسلاته الرسمّية، ويظهر في توقيعه على رسائله الموجّهة إلى الحكومة الفرنسيّة، وقد منحته الحكومة العثمانيّة في العام 1768، بناءً على طلبه، لقباً رسميّاً يوصِّفُه باعتباره “شيخ عكا وأمير الأمراء والحاكم في الناصرة وطبرية وصفد وبلاد الجليل”. راجع: رافق، ص820؛ صافي، ص101
[61] جزءٌ من رسالةٍ لـ”دي لان”، القنصل الفرنسي في صيدا، أرسلها إلى الحكومة الفرنسيّة في باريس في 20 كانون الثاني 1748. للمزيد، انظر: Philipp, p103.
[62]  جزءٌ من رسالةٍ للحكومة الفرنسيّة في باريس أرسلتها إلى السفير الفرنسي في إسطنبول في 30 كانون الثاني 1749. للمزيد، انظر: المرجع السابق.
[63] رافق، ص819.
[64] رافق، ص713.
[65] الشيخ ناصيف النصار من آل الصغيِّر شيخ متاولة جبل عامل، وكان الجبل يقع إلى الشمال من الجليل (جنوب لبنان حالياً) ويفصل بين الجليل ومقاطعة جبل لبنان، ويضمّ بلاد بشارة وأقاليم الشومر والتفاح.
[66] الوزير أسعد باشا العظم والي دمشق
[67] بمعنى يرجوه.
[68] الولد المقصود هو عثمان الظاهر الزيداني، وهو بِكر ظاهر العمر.
[69] حمولة السفن والمراكب التجارية.
[70] عائدات الجمارك.
[71] مرفأ أو ميناء.
[72] جزءٌ من النسخة العربيّة من رسالةٍ لظاهر العمر الزيداني أرسلها للكونت “دي مورييه” (وزير الدولة الفرنسي لشؤون البحرية) بتاريخ 1 أيار 1754. للمزيد، انظر: رافق: ص820
[73] صافي، ص215
[74] المرجع السابق، ص165.
[75] البديري، ص49. وقد انفرد البديري (أو ابن بدير) بذكر هذه الحادثة.
[76] السجدي، ص49. (الدفتردار Defterdar) كلمةٌ تركيّةٌ تعني (حامل الكتب)، وهو موظّفٌ منتدّبٌ من الباب العالي تتلخّص مسؤوليته في متابعة جميع الشؤون الماليّة الخاصة بالإيالات، ويتبع أوامر السلطان مباشرةً، ويملك ضبطيّةً قضائيّةً مستقلّةً عن الوالي.
[77] على الرغم من أنّ دروز جبل لبنان الذين حاربهم أسعد باشا عدّة مراتٍ أقاموا داخل منطقةٍ جبليٍّة، إلا أنّهم على العكس من الزيادنة انتشروا داخلها بشكلٍ غير منتظمٍ. كما أنّ حروبه ضدهم لم تهدف للقضاء عليهم، بل هدفت لنهب أرضهم ومحاصيلهم. لذا، شنّ حملاته ضدّهم خلال موعد الحصاد. أمّا الزيادنة فتركّزت قوتهم داخل عددٍ من القلاع الحصينة، وتطلّب القضاء عليهم تصفية وجودهم داخل هذه القلاع أولاً، وهو الأمر الذي لم يكن أسعد باشا ليتمكّن منه، أو لم يرغب في تضييع مجهوده عليه، خاصةً وأن ذكرى فشل عمه في إنجاز ذلك لا تزال تلوح أمامه. راجع: رافق، ص 711.
[78] بحسب تحليل صافي، فإنّ سيطرة ظاهر العمر على حيفا لم تكن لتتمّ بحسب التسلسل المنطقي للأحداث قبل العام 1752. للمزيد، انظر: صافي، ص70.

****

قائمة المراجع

ابن جبير، محمد بن أحمد؛ رحلة ابن جبير، دار صادر، بدون سنة نشر، بيروت.
أمين، سمير: الأمّة العربية؛ القومية والصراع الطبقي، مكتبة مدبولي، 1988، القاهرة.
البديري الحلاق، أحمد: حوادث دمشق اليومية، تنقيح: محمد سعيد القاسمي، تحقيق: أحمد عزت عبد الكريم، مطبعة لجنة البيان العربي، 1959، دمشق.
بيات، فاضل: الدولة العثمانيّة في المجال العربي؛ دراسةٌ تاريخيّةٌ في الأوضاع الإدارية في ضوء الوثائق والمصادر العثمانية حصراً (مطلع العهد العثماني – أواسط القرن التاسع عشر)، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، بيروت.
حوراني، ألبرت: الإصلاح العثماني وسياسات الأعيان، مجلة الاجتهاد، الأعداد 45 و46، شتاء وربيع 2000، ص105-142، بيروت.
دوماني، بشارة: إعادة اكتشاف فلسطين؛ تاريخ أهالي جبل نابلس (1700-1900)، ترجمة حسني زينة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1995، بيروت.
رافق، عبد الكريم: فلسطين في عهد العثمانيين (1)، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني (الدراسات الخاصة)، مجلد 2، ص695-848، هيئة الموسوعة الفلسطينية، الطبعة الأولى، 1990، بيروت.
زكار، سهيل: فلسطين في عهد المماليك، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني (الدراسات الخاصة)، مجلد 2، ص527-693، هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1990، بيروت.
السجدي، دانة: حلاق دمشق؛ محدثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني (القرن الثامن عشر)، دائرة الثقافة والسياحة-مشروع كلمة، 2018، أبو ظبي.
صافي، خالد: حاكم الجليل في القرن الثامن عشر؛ ظاهر العمر الزيداني (1689-1775)، المركز القومي للدراسات والتوثيق، 2005، غزة.
الصباغ، عبود: الروض الزاهر في تاريخ ظاهر، تحقيق محمد محافظة وعصام هزايمة، دار الكندي للنشر والتوزيع، 1999، عمان.
الصباغ، ميخائيل: تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني؛ حاكم عكا وبلاد صفد، تحقيق قسطنطين الباشا المخلصي، شركة نوابغ الفكر، 2010، القاهرة.
الصليبي، كمال: منطلق تاريخ لبنان (634-1516)، نوفل للنشر، الطبعة الثانية، 1992، بيروت.
كرد علي، محمد: خطط الشام، مكتبة النوري، الطبعة الثالثة، 1983، دمشق.
النابلسي، عبد الغني بن إسماعيل: الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، القاهرة.
Avery, Peter; Hambly, Gavin; Melville, Charles: The Cambridge History of Iran (Vol. VII); From Nader Shah to the Islamic Republic, Cambridge University Press, 2008, Cambridge.
Cohen, Amnon. Palestine in the Eighteenth Century: Patterns of Government and Administration, Hebrew University, 1973, Jerusalem.
Inalcik, Halil: The Ottoman Empire, The Classical Age 1300-1600, New Rochelle, 1989, New York.
Mansel, Philip: Levant, Splendour and Catastrophe on the Mediterranean, Yale University Press, 2011, New Haven and London.
Philipp, Thomas: Acre, The Rise and Fall of a Palestinian City (1730-1831), Columbia University Press, 2002, New York.
Singer, Amy: Palestinian Peasants and Ottoman Officials; Rural Administration Around 16th Century Jerusalem, Cambridge University Press, 1994, Cambridge.
Uyar, Meust; Erickson, Edward J.: A Military History of the Ottomans; From Osman to Ataturk, ABC-CLIO, 2009, California.
Yazbak, Mahmoud: Europe, Cotton and The Emergence of Nazareth on 18th-Century Palestine, Oriente Moderno, 93 (2013), pp 531-546.
Yazbak, Mahmoud: The Politics of Trade and Power: Dahir al-Umar and the Making of Early Modern Palestine, Journal of the Economic and Social History of the Orient, 56 (2013), pp 696-736.