“من المفهوم أن تتّجه كلّ الجهود في هذه اللحظة نحو حصر انتشار الوباء ضمن حالة الطوارئ، ولكنّنا في فلسطين لا نملك ترف التعامل مع الأوبئة بفصلها عن صراعنا مع المستعمِرين وتأثيرات هذا الصراع على انتشار الأوبئة ومواجهتها”.
شهدت فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى انتشاراً لوباءٍ شبيهٍ بفيروس “كورونا” المستجِد، وهو ما عُرف باسم “الإنفلونزا الإسبانية”، والذي حمله الجيش البريطاني إلى بلادنا. لا نعرف تقريباً شيئاً عن عدد ضحاياه في بلادنا، إذ اختلطت آثاره بوباء الملاريا “المحليّ” والوفيات بسبب المجاعة عام الحرب، بينما تتحدّث المصادر المتوفّرة عن اجتياحه الجيوش كـ “النار في الهشيم” وتتناول الإصابات التي خلّفها في صفوف العسكرييّن البريطانيين والعثمانيين والألمان. ومن الصعب تقدير تأثيره على سير العمليات القتالية حينها، أو مساهمته في تحديد مصير فلسطين والمنطقة العربية، فقد غلبتْ الأحداث السياسية والعسكرية على أخباره، وبقيت منه في الذاكرة الجمعيّة لبلاد الشام والجزيرة “عام السَخنَة”؛ أي الحُمّى.
ستنتظر فلسطين مئة عامٍ قبل أن تتعرّض لانتشار وباءٍ خارجيّ آخر، وهو “الكورونا”، لكن هذه المرّة طغت الأحداث الصحيّة وتطوّراتها على الأبعاد السياسية للوباء.
في شهر كانون الأول 2019، بدأ فيروس “كورونا” المستجِد بالانتشار في مقاطعة “هوبي” الصينية، لينتقل بعدها إلى العديد من دول العالم ومن ضمنها فلسطين، ممّا دفع منظمة الصحة العالمية إلى اعتباره وباءً عالميّاً (جائحة) كما أعلنت في العاشر من آذار الحالي. وحتّى كتابة هذه السطور، بلغ مجموع الإصابات بالفيروس في ما يُسمّى “إسرائيل” 945 إصابةً، نتج عنها حالة وفاةٍ واحدة. أمّا في الضفة الغربية، فبلغ عدد الإصابات 59 حالةً، تعافى منها 17، بينما سُجّلت إصابتان في قطاع غزة المحاصَر. ويُعتبر القطاع من المناطق الأكثر حساسيةً وخطورةً لتبعات انتشار الوباء فيه، لا قدّر الله، بسبب الاكتظاظ السكانيّ الأكثف في العالم وتبعات الحصار المستمرّ على القطاع الصحيّ، فضلاً عن تماسّه المباشر مع مصر عبر معبر رفح، مصر التي تشير التقارير العالمية إلى تحوّلها إلى بؤرةٍ لانتشار الفيروس. وهنا موقع التذكير بأنّ القطاع لا يزال يخضع لعقوباتٍ فرضتها عليه سلطة رام الله، وأنّه لا يكفي أن ترسِل وزارة الصحة الفلسطينية شحنةً من شرائط فحص الفيروس وبعض المساعدات، وكأنّ القطاع منطقةٌ منكوبةٌ خارج الحدود!
وحتّى الساعة، ما زالت الأنباء متضاربةً حول وجود إصاباتٍ بالفيروس بين الأسرى في سجون الاحتلال. إنّ وصول الفيروس إلى السجون، لا سمح الله، يمكنه أن يتحوّل إلى كارثةٍ حقيقيةٍ بفعل سرعة انتشار العدوى في المناطق المكتظّة المغلقة، وبالنظر إلى السياسة الصحيّة التي تتّبعها إدارة السجون الصهيونية كوسيلةٍ عقابيةٍ وتأديبيّةٍ ضدّ الأسرى. ويبقى تحدّي مساندة الأسرى وحمايتهم من خطر الوباء من القضايا التي علينا العمل عليها شعبياً رغم حالة العزل العامّة السائدة، وألّا نكتفي بترديد تحميل السلطة هذه المسؤولية ونحن نعرف عجزها وتراخيها التاريخيّ في هذا الملف.
أمّا بالنسبة للشتات الفلسطيني وبالتحديد في مخيّمات اللجوء، فلا نملك أية إحصائياتٍ دقيقةٍ عن انتشار الفيروس فيها، ولا يتطرق أحدٌ إلى حالها في المؤتمرات الصحفيّة اليوميّة المتّصلة بالوباء، وخاصةً مخيّمات لبنان التي تعاني منذ سنواتٍ من تدهورٍ للخدمات الصحيّة شبه المعدومة، مع تراجع خدمات “الأونروا” وانحسار خدمات الهلال الأحمر الفلسطيني، وكارثيّة حالة نظام التحويلات الطبيّة للمستشفيات اللبنانية، بل ووصل الحال إلى استغلال حالة الطوارئ من قبل المجرم “سمير جعجع” للدعوة إلى فرض حصارٍ إضافيّ على المخيّمات لـ “منع انتشار الفيروس” .
وفي القدس، تتعامل حكومة العدوّ مع الفلسطينيّين بصفتهم “حصان طروادة” لنقل العدوى من أراضي الضفة الغربية، وأعلنت عن نيّتها بمنع حركة سكّان ما يُسمّى بـ “شرقي القدس” نحو الشطر الغربيّ من المدينة للحدّ من انتشار الفيروس، وهو ذات الإجراء الذي أعلنت عنه لمواجهة العمليات الفدائيّة الفردية قبل أعوام. وكما حال كلّ المخيمات وبسبب الاكتظاظ السكانيّ، يعتبر الصهاينة مخيم شعفاط بؤرةً محتمَلةً لتفشّي الوباء، وبالتالي خطراً صحيّاً على المستعمِرين الصهاينة، ويستعدّون لإغلاق الحاجز الذي يربطه بالمدينة.
بقي المسجد الأقصى “بؤرة التماس” الرئيسيّة التي زادت أزمة “الكورونا” من تأزّمها، في ظلّ الخطر المحِدق المتمثّل باستغلال “إسرائيل” لحالة الطوارئ لفرض وقائع جديدةٍ على الأرض (التحكّم بفتح وغلق الأبواب كمثال) لإحكام سيطرتها على الأقصى. ولذلك استُثني المسجد الأقصى من قرار دائرة الأوقاف القاضي بوقف صلوات الجماعة في المساجد، وظلّ ساحةً للاحتكاك اليوميّ ما بين المرابطين وقوات الاحتلال خلال حالة الطوارئ، إلى أن أعلنت دائرة الأوقاف مساء اليوم (22 آذار) عن إغلاقه إلى إشعارٍ آخر، بينما حافظت قرية العيسوية على اشتباكها اليوميّ مع الاحتلال على الرغم من حالة الطوارئ.
ينظر الصهاينة إلى “الوسط العربيّ” في “إسرائيل” كحيّز خطرٍ لانتشار العدوى ونقلها إلى الصهاينة، وذلك بسبب “لامبالاةٍ” اتجاه خطر الوباء وعدم الالتزام بتعليمات المباعدة والنظافة، بحسب ما قاله نتنياهو في اجتماعه مع كبار الأطبّاء العرب في النظام الصحي الصهيونيّ، مع اللمز بالعادات والتقاليد العربية المرتبطة بالتقارب بين الناس كالمصافحة والتقبيل. كلّ ذلك في وقتٍ تتداخل فيه تبعات الانتخابات الأخيرة للكنيست، وما رافقها من تحريضٍ ضدّ العرب ورفض وجود أعضاءٍ عرب في حكومة “وحدةٍ وطنيّة”، مع الاحتفاء بدور الأطبّاء العرب في النظام الصحيّ والحرب على “الكورونا”.
صهيونياً، ارتفع عدد الحالات المسجّلة ارتفاعاً صاروخيّاً خلال الـ 48 ساعة الماضية، وتتّجه الأوضاع نحو فرض منعٍ للتجوّل على مستوطنيها. وكما كانت كلّ المستعمَرات عبر التاريخ مختبراً لإنتاج تطوير تقنيات الرقابة والتعقّب، ومن ثمّ نقلها إلى داخل المجتمعات المستعمِرة، فقد أعلنت “إسرائيل” نيّتها استخدام تقنيات المراقبة الأمنية التي طوّرتها أجهزتها الاستخباريّة لتتبّع مُصابي الفيروس ومُخالطيهم، وقوبل ذلك بتخوّفٍ من قبل بعض الصهاينة على الحريات الشخصية ونشوء نظامٍ بوليسيّ بحجّة حالة الطوارئ. تتعامل “إسرئيل” مع الوباء كتهديدٍ أمنيٍّ سياسي، وتريد أن تثبت للعالم ولمستوطنيها، مع رسائل لليهود خارج فلسطين، أنّها أكثر “الدول” التي يُمكن الاطمئنان للعيش فيها وقت الطوارئ. ومعروفٌ أنّ “إسرئيل”، ولكونها قلعةً استيطانيّةً، قد عملت على مأسسة حالة الطوارئ داخل بنيتها الخدماتيّة والاقتصادية. ومع كلّ هذا، حطّت قبل أيامٍ طائرة شحنٍ تحمل مساعداتٍ أمريكيةً عاجلةً في مطار “ريمون” (وادي المنيعة) في أقصى جنوب فلسطين.
أتت أزمة “الكورونا” في وقتٍ تعاني فيه “إسرائيل” من أزمةٍ سياسيةٍ بعد ثلاث جولاتٍ انتخابيّة، مانحةً فرصةً لـ”نتنياهو” لتأجيل نهاية مستقبله السياسيّ بالدفع نحو حكومة “وحدةٍ وطنية” تبدو هي الخيار المرجّح بالنظر إلى مؤشّراتٍ إيجابيّةٍ من “غانتس” تخلّصه من مجازفة تحمّل المسؤولية الثقيلة في حالة الوباء والطوارئ. وبهذا، فقد كانت توصية القائمة المشتركة لـ “غانتس” خطوةً غبيّةً سياسياً من حيث التوقيت، بصرف النظر عن الموقف المبدئيّ منها.
وعلى المستوى العسكري، يحاول جيش العدوّ استغلال الوباء للتفرّد في إدارة حالة الطوارئ من خلال قيادة الجبهة الداخلية، وما يترتّب على ذلك من ميزانياتٍ إضافية. وبالطبع، فإنّ حالة انتشار الوباء، من حيث مماثلتها لحالة الحرب، هي فرصةٌ لفحص إجراءات الطوارئ واستعدادات الجبهة الداخليّة، خاصةً لهذا الخطر المستجِد الذي تخفّفت “إسرائيل” من الاستعداد لما يشبهه من أخطارٍ بعد انتهاء تهديد أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيماوية في العراق وسوريا. وفي الصورة الاستراتيجية العامة، ترى “إسرائيل” في “الكورونا” تهديداً بتعطيل خطّة الجيش التطويريّة وتباطؤ النمو الاقتصادي، مع الإشارة إلى “الأثر الإيجابيّ” لانتشار الوباء الكارثي في إيران على أمنها.
وأمّا على الساحة الفلسطينية، فقد استؤنفت الاتصالات التنسيقية السياسية ما بين الصهاينة وقيادة السلطة، تحت ذريعة أنّ الوباء لا يعترف بالحدود، مع فرض مجموعةٍ من إجراءات الإغلاق والعزل الصحيّ على الضفة الغربية. ويجدر بنا هنا الإشارة إلى طلب “إسرائيل” من العمّال الفلسطينيّين المبيت في أماكن عملهم، ممّا يشكّل تجربةً وسابقةً لفصل تأثير الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة في الضفّة على حركة العمالة الفلسطينية في “إسرائيل”، وهو ما تماشت معه السلطة الفلسطينية التي منحت العمال الفلسطينيّين 3 أيامٍ لتأمين أماكن مبيتٍ لهم في “إسرائيل”، ولن يُسمح لهم بالعودة إلّا بعد شهرين.
تريد دولة العدوّ ضمان استمرار عمل قطاعيْ البناء والزراعة الحيويّين خلال حالة الطوارئ من خلال اعتمادها على العمالة الفلسطينية وأماكن تشغيلها/استغلالها، واستثنائها من حالة الطوارئ، في ظروفٍ قريبةٍ من معسكرات العمل الإجباريّ في المستعمرات الأوروبية في آسيا وأفريقيا. ومع كلّ هذا، يتمّ التعامل مع العمّال الفلسطينيين كـ “جراثيم خطِرة على الصحة العامة”، كما صرّح أحد العمّال. وليس من المستبعد أن يؤدّي هذا التحريض الوبائي ضدّ العرب للقيام باعتداءاتٍ على تجمّعات العمّال، كما حصل سابقاً في عيون قارة في العام 1990. ومع الاتجاه نحو تشديد العزل ووقف العمل في القطاعات الإنتاجية للمواد الأوّلية لقطاع البناء تحديداً، فإنّ سيناريو كارثيّاً غير مستبعدٍ يمكنه أن يتحقّق بالنسبة للآلاف من العمّال الفلسطينيّين الذين يُمكن أن يجدوا أنفسهم عالقين ما بين توقّف عملهم حيث الظروف الصعبة لمبيتهم، وعدم سماح السلطة لهم بالعودة إلى منازلهم لعدم توفر منشآتٍ للعزل الصحي قادرةٍ على استيعاب الآلاف من الحالات.
تقوم الاستراتيجية الصحية المعتمَدة عالميّاً لمواجهة الوباء على اعتماد حزمةٍ من إجراءات العزل والحجر والمباعدة الاجتماعية، وصلت في بعض الحالات إلى الحجر الكامل ومنع التجوال، نظراً لعدم توفّر عقارٍ علاجيّ ولا مصلٍ وقائيّ حتى الآن. وبالنظر إلى سرعة انتشار الوباء، تسبّب كلّ حالةٍ جديدةٍ في نقل العدوى لحوالي 3 حالاتٍ بحسب الإحصائيات العالميّة. ويكمن الخطر الحقيقيّ في انهيار القطاع الصحيّ بسبب قلّة عدد أجهزة التنفس الصناعي الضروريّة لعلاج آثار الالتهاب الفيروسيّ على الرئتين، ممّا دفع الدول للعمل على ما أُطلق عليه “تسطيح المنحنى”؛ أيّ توزيع الإصابات على أطول فترةٍ زمنيّةٍ ممكنةٍ لكي لا يحصل إغراقٌ للنظام الصحي، وذلك بناءً على التنبؤات بأنّ يُصاب غالبية أفراد المجتمع بالعدوى عاجلاً أم آجلاً. ومن الواضح أنّ هذه الاستراتيجية هي الاستراتيجية الوحيدة المُمكنة اليوم، ولكنّها تعني أيضاً إطالة حالة الطوارئ، وما يعنيه ذلك من خسائر اقتصاديةٍ فادحةٍ ستتحمّل العبء الأكبر منها الفئاتُ المسحوقة اجتماعياً، وزيادة العوز والاعتمادية على المساعدات الخارجية على المدى البعيد، والتي سيكون لها ثمنٌ سياسيّ باهظٌ في ظلّ سيف صفقة القرن المُشرّع فوق رقابنا، كلّ ذلك ضمن توقعاتٍ سوداويةٍ بأزمةٍ اقتصاديةٍ عالميّةٍ خانقة.
وبالطبع، تزداد الأمور سوءاً في حالة الإعلان المبكّر عن تعطيل الحياة اليومية بشكلٍ غير متدرجٍ، ممّا يعني خسائر أكثر وتآكلاً أسرع لقدرة المجتمع على الصمود، وبالتالي الدفع باتجاه العودة إلى الحياة الطبيعية قبل وصول مناعة القطيع إلى العدد الكافي، وقبل توفّر علاجٍ أو مصلٍ لاستيعاب الوباء، ممّا يمكنه أن يؤدي إلى “موجةٍ ثانيةٍ” من “الكورونا”.
إنّ ثناء منظّمة الصحّة العالمية على أداء الحكومة الفلسطينية يجب ألّا يجعلنا نطمئن للصوابية المطلقة للأداء الحكوميّ للسلطة، ذلك أنّ منظّمة الصحة العالمية تهتم حصراً بنجاعة الإجراءات المتّبعة لمحاصرة الوباء، ولا تنظر في التبعات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الإجراءات. إنّ استمرار إجراءات الطوارئ لفترةٍ طويلةٍ يعني، بكلّ بساطةٍ، انهياراً اقتصادياً على المدى البعيد، وما يترافق مع ذلك من تحلّلٍ من احتياطات العزل والحجر. ومن خلال الاطّلاع على عددٍ من النماذج التنبؤية، نحن نتحدّث عن أزمةٍ يمكنها أن تستمرّ حتى نهاية الصيف القادم بافتراض ثبات المعطيات الحالية وبالنظر إلى أنّ أكثر التقديرات تفاؤلاً تقول إنّ علينا الانتظار 6 أشهرٍ، على الأقلّ، للحصول على مصلٍ ضدّ الفيروس، على أمل ألّا تحدث طفراتٌ جينيّة في الفيروس.
وبالنظر إلى ما سبق، لا يُمكن الاعتماد على إجراءات الطوارئ (العزل والحجر) كوسيلةٍ أحاديةٍ في مواجهة الوباء دون العمل على بناء خطّةٍ اقتصاديةٍ طارئةٍ تدعم الفئات الأكثر تضرّراً من حالة الطوارئ للتمكّن من الاستمرار في هذه الإجراءات لمدّةٍ أطول. ويبدو في ظلّ المعطيات الحالية أنّه على القطاع الخاص تحمّل مسؤوليةً تتناسب مع ما حصّل عليه من أرباحٍ خلال الفترة الماضية، لا بالنسبة للوضع الحالي. دعونا نقول إنّ مفهوم القطاع الخاص في الضفّة وغزة تحت الاحتلال بحاجةٍ إلى مراجعة، ليس فقط من باب نقد السياسات النيوليبرالية، إنّما من حيث دقّة المفهوم ذاته. فلا يُمكن فصل النشاط الاقتصاديّ للقطاع الخاص عن النظام الريعيّ السياسي الذي نشأ في فلسطين بعد “أوسلو”؛ السلام الاقتصادي المقنّع، بمعنى أنّ معظم مُدخلات النظام الاقتصادي لم تكُن ممكنةً دون تحويل الكتلة البشرية في الضفة إلى كتلةٍ مسالمةٍ، وخلقها دورةً للتبادل محكومةً بهذا السقف. ببساطة، إنّ ما على القطاع الخاص أن يقدّمه في هذه المرحلة هو بعضٌ من المال العام الذي استحوذ عليه خلال السنوات الطويلة الماضية، بسبب الإعفاء الضريبي ضمن قانون تشجيع الاستثمار مثلاً، ولا يعدّ هذا منّةً وتفضّلاً علينا الإشادة به وشكره عليه، ولا استعطافه للقيام به.
باعتقادي، تظهر قدرة وأداء السلطة الحقيقي في التحدّي الاقتصادي. وبالطبع، لا نقلّل هنا من نجاعة إجراءات السلطة وجدّيّتها في التعامل مع الوباء، ولكن علينا أن نتذكّر أن الذهاب إلى حالة الطوارئ مرّةً واحدةً لم يكُن ممكناً لو كان لدينا نظامٌ إنتاجيٌ حقيقيّ نخشى على تعطيله مرةً واحدةً، كما هو حال مستعمِرينا الصهاينة، وبالتالي فإنّ سرعة اتّخاذ القرار بفرض حالة الطوارئ يعود إلى طبيعة النظام الاقتصادي الريعيّ للسلطة. وهنا أيضاً علينا الإشارة إلى التجاوب المجتمعيّ العام مع العزل والحظر، والذي يعود في جزءٍ كبيرٍ منه إلى تحوّل حالة الطوارئ والتأقلم مع الظروف المستجدّة إلى مكوّنٍ من مكوّنات الشخصية الفلسطينية في صراعها المديد مع المستعمِرين، وهو ما ظهر أيضاً في انطلاق العديد من المبادرات التطوّعية والفزعات لمساعدة الفقراء والمحتاجين، خاصةً في المناطق التي تخضع للحجر، بالإضافة إلى حملات التوعية والتعقيم.
ويُمكننا أن نشخّص أيضاً استغلالاً لحالة الطوارئ من قبل السلطة لتثبيت شرعيّتها وتعزيز قبضتها الأمنية والمعلوماتية على المجتمع وقبضة الأطر التنظيميّة التابعة لها على النشاط المجتمعيّ الإغاثي. ولعلّ الجانب الذي علينا العمل عليه بشكلٍ جاد هو بناء منصّاتٍ معلوماتيّةٍ مستقلّةٍ للتحقّق من المعلومات والأخبار ولمحاربة خطر الشائعات والأخبار الزائفة، دون أن نستثني من هذا الجهد المعلومات التي يقدّمها الناطقون الرسميون، فهم لهم أسبابهم لعدم قول الحقيقة أحياناً، وخوفاً من استغلال حصر المعلومة المثبتة في الناطق الرسميّ مستقبلاً في القضايا السياسية.
الخلاصة، من المفهوم أن تتّجه كلّ الجهود في هذه اللحظة نحو حصر انتشار الوباء ضمن حالة الطوارئ، ولكنّنا في فلسطين لا نملك ترف التعامل مع الأوبئة بفصلها عن صراعنا مع المستعمِرين وتأثيرات هذا الصراع على انتشار الأوبئة ومواجهتها. وعلى الرغم من تركّز الحديث في هذه الأثناء في الأمور التقنيّة الطبيّة كأجهزة التنفس الصناعي وأسرّة العناية المكثفة، والتي لا نعرف بالمناسبة الخطّة الحكومية لمعالجة النقص فيها بشكلٍ عاجل، إلا أنّه من الخطر حصر استعداداتنا في المجال الطبيّ على أهميته دون بناء استراتيجيةٍ صحيّةٍ اقتصادية شموليةٍ لمواجهة هذه الجائحة. ومعروفٌ أنّ الدول والمجتمعات تبدأ بعملية استخلاص الدروس والعبر بعد أنْ تباغتها الأحداث غير المتوقعة استعداداً لمواجهتها في المستقبل، إلا أنّه من الخطورة بمكان أن نحصر دروسنا في تنمية المجال الصحيّ بفصله عن قضية التحرّر الوطني سياسياً واقتصادياً.
يقول المنظّرون العسكريون إنّ المعضلة المزمنة لعملية استخلاص العِبر من الحروب تتمثّل في أنّها تمكّننا من الاستعداد للحرب السابقة، لا القادمة. ويمكننا تخيّل سيناريو أن تكون العبرة الرئيسية المستخلَصة من أزمة “الكورونا” هي شراء العشرات من أجهزة التنفس الصناعي التي ستُنقل إلى المخازن وتتلف مع الوقت بعد انقضاء الأزمة، بينما التحدّي الحقيقي هو بناء نظامٍ سياسيٍّ اقتصاديّ بمنظومةٍ خدماتيّةٍ قادرةٍ على الاستجابة للحالات الطارئة.