ترجمة: فارس جقمان

يقود عُمّال تشيلي، الأكثر تهميشاً، ثورةً تهدّد النظام السياسي بالكامل. حان الوقت لتصعيد النضال وشنّ “إضرابٍ وطنيٍ” يُمكن أن تُبنى على إثره ديمقراطيةٌ اقتصاديةٌ وسياسيةٌ حقيقية.

نُشر النصّ الأصلي، باللغة الإنجليزيّة، بتاريخ 22 تشرين الأوّل.

****

قبل عامين، بدأت عملية إعادة تشكيل النظام الحزبي الأوليغارشي  [1] في تشيلي بعد الانتخابات العامة التي عُقِدت آنذاك. إلا أنّ عملية التغيير هذه لم تستطِع مواكبة حالة الغضب المحتقِن والمتصاعد ضدّ الطبقة السياسية السائدة، كما ولم تتمكّن الانتخابات من منع هذا الغضب المتفجّر من الانتقال إلى حيّز الشوارع والميادين.

سادت في الأيام الأخيرة تظاهراتٌ عفويةٌ وموجاتٌ من السرقة والتخريب والحرق التي لم يكُن من الممكن احتواؤها، هي المظاهرات التي قد تترك خلفها نظاماً هرِماً غير مرغوبٍ به من منظور الجماهير من العمال والفقراء. وهي ذات الجماهير التي تقول لنا إنّ هذه المظاهرات هي مجرّد البداية، وإنّ انتشار النيران سيغيّر تشيلي إلى الأبد. ولكن، وبعدما ينقشع الدخان، كيف سنرى تشيلي الجديدة؟

انفجار الحقد الطبقي

اندلعت شرارة الانتفاضة الحالية في الأوّل من تشرين الأول، بعد إقرار الحكومة رفع أجرة القطارات بمقدار 30 بيزو. هذا بالاضافة إلى أنّ السعر السابق، والذي بلغ مقداره 800 بيزو (1.15 دولار أمريكي)، كان ثاني أعلى أجرة قطارٍ في أمريكا اللاتينية. لم تتوقّع لجنة “المختصين” التي اقترحت هذا الإجراء، ولا حكومة “سيباستيان بينييرا” اليمينية أو حتّى معارضته السائدة، أي شكلٍ من الاعتراض، إلى أنْ خرج الشباب بفعلٍ عصياني جماهيري، مُشكّلين امتداداً للاحتجاجات الطلابية المتتالية، والتي لم تنقطع منذ العام 2006.

نظّمت اتحادات المدارس الثانوية حملةً على مواقع التواصل الاجتماعي لتفادي دفع أجرة القطار من خلال القفز عن أبواب المحطّات في كافة أنحاء العاصمة. وبعد أسبوعٍ من هذا الفعل الطلابي المباشر، تصاعدت الحملة حتى انتشارها في المدينة في 14 تشرين الأول. وقدّرت إدارة المواصلات العامة في مدينة “سانتياغو”، المكونة من تحالفٍ بين القطاع العام والقطاع الخاص، خسارتها بما يقرب من ربع مليون دولارٍ.

ردّ “بينييرا” بقبضةٍ حديدية، مُصِراً على فرض القانون والأمن العام. فقام الطلاب، بالتحالف مع ناشطين مجتمعيين محليين الآن، بتعميق وتوسيع الاحتجاجات إلى عدة محطاتٍ منذ يوم 18 تشرين الأول. انهالت وحدات  “الكارابينيرو” (Carabinero)، حرس الحدود “الصاعقة”، على المحتجين بالضرب، واحتُجزوا بالسيارات وتعرّضوا للتنكيل. أتى الردّ فوراً: تحول ما كان يُمكن اعتباره اضطراباً خفيفاً مُصاحِباً لحملة رفض دفع الأجرة إلى حملات تخريبٍ وتكسيرٍ واسعة. وبفعلٍ عقابي أحمق، أغلق “بينييرا” نظام المواصلات بالكامل، عند الساعة الرابعة عصراً، أي مباشرةً قبل فترة الذروة والعودة من العمل.

وعندما علِم الأهالي بما تعرّض له أولادهم،  مُثقَلين بالتعب واليأس وعالقين في منتصف المدينة التي تتجاوز فيها مدّة رحلة العودة من العمل الساعتين، انتفضوا بحدّة غير معهودة من شرائح تشيلي المُهمّشة، والتي كان من الشائع اعتبارُها “مُروَّضةً” مقارنةً مع نُظرائها من المهمّشين في دول الأقاليم المجاورة. فكانت هذه الصفعاتُ القشّةَ التي كسرت ظهر البعير، وكانت لحظة الانفجار بعد عقودٍ من تحمّل التفاوت في الثروة والخدمات العامة الشبيهة بأنظمة الفصل العنصريّ والأنظمة المستبدّة.

تمّ تخريب ما يقرب من ثمانين محطةً، وحُرقت عشرات القطارات والمحطّات إلى حدّ التفحُّم. ومع اقتراب الغروب، استهدفت الحشود والعصابات البنيةَ التحتية العامة والطرق الأساسية، والأهمّ من ذلك المحالّ التجارية الكبرى؛ أهمُّ لأنّها أقلقت النخب أكثر من أيّ عملٍ تخريبيٍّ آخر.

وعند منتصف الليل تقريباً، رافضاً أو غير مستعدٍ استيعاب الغضب الذي أوقد أعمال الشغب، أعلن الرئيس “بينييرا” حالة الطوارئ في العاصمة. لكن وقبل إرسال جنوده إلى الشوارع، لم يبخل ذلك الرئيس الملياردير بالتباهي بعدم اكتراثه للفقراء عندما احتفل بعيد ميلاد حفيده في أحد المطاعم الفارهة في المدينة. وبعد أن أثار مشهد دوريات الجنود المتجولة في الشوارع أسوأ ذكريات فترة حكم ديكتاتورية “بينوشيه”، تأهّبت الطبقة العاملة -الفقيرة المنسيّة- للمعركة.

لم يساهم الاحتلال العسكريّ لمدينة “سانتياغو” إلّا في تأجيج النيران.  وعلى مدار الليلة وفي اليوم التالي، انتشرت أعمال السرقة والحرق إلى مدن محورية أخرى، بما فيها موانئ “فالبارايسو” و”كونسيبسيون” الكبيرتين في الجنوب. وأعلن اللواء المسؤول عن حالة الطوارئ منعَ التجوّل عند الساعة العاشرة مساءً، آملاً بذلك كسر وتيرة الاضطرابات.

وفي العاصمة، صَوبت الشرطة بنادقها على المدنيين، بينما أقدم البحّارون في “فالبارايسو” على ضرب سكان المنطقة. في حين تدفّقت شرائح كبيرة من الطبقة الوسطى التقدمية إلى شوارع العاصمة احتجاجاً على التواجد العسكري وتعبيراً عن رفضهم للحكومة اليمينية، وتجمهروا في الميادين المركزيّة وقرعوا الطناجر لساعات طويلة، مردّدين شعار “فليرحل العسكر” (“que se vayan los milicos”)، والذي أتى ضمن احتجاجهم الأساسي على تلاشي الحريات المدنية وعسكرة النظام العام، حذرين من عودة أيام الحكم السلطوي.

 إلا أنّ الرد اليمينيّ، الذي يزعم أنّ التواجد العسكريّ الحاليّ مختلف عن أيّام حكم العسكر تحت “بينوشيه”، لا يخلو من الصواب؛ لا يُوَظَّف الجيش اليوم لفرض الدكتاتورية، إنّما لحماية “ديمقراطية السوق الحرّ” ما بعد “بينوشيه”.

لم يفلح كلّ هذا القمع وتجميد أبسط الحقوق في إحباط الانتفاضة، فانتشرت النيران وأصبحت السرقة شائعةً مع وصول الثورة إلى البلدات الصغيرة والمتوسطة. وعندما استيقظ التشيليون صبيحة يوم الأحد 20 تشرين الأول، تمّ السطو على المحال التجارية الكبيرة والصيدليات في العاصمة، وأعلنت شركة “والمارت” الأمريكية، مثلاً، عن سرقة ثمانين متجراً كبيراً لها (تحت اسم “ليدر” و “إيكونو” في تشيلي).

ومن جهته، صرح وزير الداخلية “أندري تشادويك” أنه تمّ حرق ثماني محطات قطارٍ جديدةٍ، بالاضافة إلى ما يفوق 700 معتقل و 60 مصاباً في صفوف الشرطة. وفي أحد الحوادث، تمّ إطلاق النار على اثنين مدنيّيْن، عند حاجز عسكريّ وتركهما في حالة حرِجة.

ومع بداية الأسبوع التالي، بدأ المشهد الضبابي بالاتّضاح قليلاً: لقد قامت جماهير تشيلي المنسية، تلك الكتل السياسية الفاقدة للكيانية والمحرومة ممّا يُسمى “معجزة السوق الحرّ”، بشلّ الحياة العادية. لقد أخذ هذا “النصف الآخر” من المجتمع زمام المبادرة، وسارت خلفه، حتى الآن، الطبقات الوسطى.

تلاشى خوف الناس من أجهزة الدولة القمعية مع الانتشار الضخم لأعمال السرقة والشغب ونصْب المتاريس في الميادين ومفترقات الطرق. ومع حلول منع التجوّل الثاني عند الساعة السابعة مساءً، استمرّ خمسة وعشرون ألف متظاهرٍ بقرع الطناجر في إحدى أكبر مظاهرات “الكاسيرولازو”، [2]  أو “مظاهرات الطناجر”، في العاصمة. وبكلماتٍ أخرى، اختفى الاستقرار في “أكثر الدول استقراراً في أمريكا اللاتينية”. وعند منتصف الليل، تمّ تدمير مئتي متجرٍ كبيرٍ و120 صيدليةً و75 محطة محروقات، جزئياً أو بالكامل.  وشنّ المنتفضون، في إحدى الموانئ الشمالية، هجوماً غير مترددٍ على أحد الكازينوهات الفخمة.

توفّي منذ بداية هذه الانتفاضة الطبقيّة، وحتى نشر هذا المقال في 22 تشرين الأوّل، 11 من الشباب المنتفضين، حيث أطلق أحد الجنود النار على أحدهم، بينما مات معظمهم حرقاً في المتاجر التي كانت في بؤرة المواجهات، في حين أُصيب المئات وتمّ اعتقال نحو ألفي شخصٍ.

سيستمرّ الفقراء في دفع ثمن مقاومتهم، ولكن، لقد فُرض الثمن الأكبر على الطبقة الحاكمة. وبتنظيمهم وحشدهم العفوي، تمكّن عمّال تشيلي من تعطيل وشلّ الحركة على نطاق النظام بأكمله.

عندما حرقت الطبقة السياسيّة ذاتها

تعترف كل القوى السياسية في تشيلي بما هو مفروغٌ منه: يعكس هذا الغضب العارم أكثر من مجرّد “حادثة” رفع تكلفة المواصلات. ففي الوقت الذي تتباهى فيه النخب بثرائِها المتراكم، سئمت الناس من الأجور تحت مستوى الفقر، والرواتب التقاعدية المهينة للكرامة، والمدارس المفصولة طبقياً.

وفي دولة يبلغ فيها معدل إجمالي الناتج المحلي للفرد الواحد 16 ألف دولار أمريكي، يعيش نصف السكان بأقلّ من مئتي دولار بالشهر، وهو نصف مبلغ الحدّ الأدنى للأجور الذي هو بحدّ ذاته مُجحِف. بينما لا يتجاوز الحدّ الأدنى للراتب التقاعديّ في القطاع العام للذين تتراوح أعمارهم بين 70-75 عاماً هذا المبلغ بكثير. وفي ذات الوقت، تبلغ التكلفة الشهرية الفعلية للمنتجات الغذائية، وحدها، 500 دولار، وهو عشرة أضعاف الرقم الرسمي الفاقد للمصداقية.

إنّ آثار هذا الواقع مُميتة، ففي العام الماضي، توفّي 27,000 تشيليّ أثناء انتظارهم العناية الطبيّة في نظام الخدمات العامّة المُزري. لذلك، يعيش أولئك الشاجبون والمندهشون من استهداف الصيدليّات والمحال التجارية الكبيرة في عالم اجتماعيّ منفصلٍ تماماً.

وفي الوقت الذي يبلغ فيه متوسط الدخل الشهري 550 دولاراً، يجني 1% من التشيليين عشرة أضعاف ذلك الرقم، بالحدّ الأدنى، أيّ يتحكمون بثلث الدخل القومي. وكانت حكومة اليمين-الوسط قد اقترحت مؤخّراً، بدعم اليسار-الوسط، إصلاحاً مضادّاً يهدف إلى تخفيف الضرائب على الأغنياء، مما سيمنحهم 650 مليون دولارٍ.

أجّج هذا التفاوت الفاحش في تشيلي، مصحوباً بتركيز القوة السياسية في أيدي شريحةٍ محصورة، الأحداث وأذكى جذوة الانتفاضة. ومع ردّة فعلها الهزيلة والفاقدة للحسّ الاجتماعي، تبدو الطبقة السياسية مصرّةً على إنكار الواقع وتحديه، وصولاً إلى ملاحقتها النيران.

اقترح كلٌّ من اليمين-الوسط الحاكم واليسار-الوسط الهلامي، واللذان حكما تشيلي في فترة ما بعد الديكتاتورية، استعادة الوضع القائم ما قبل الثورة. وفي سبيل استعادة نفوذهما، يحاولان الدفع باتجاه مزيج من “الأمن العام” وتقديم بعض الإغاثة المخصصة.

بدايةً، ناشد الرئيس بالحوار الوطني والتراجع عن قرار رفع أجرة المواصلات، إلا أنّه سرعان ما ضاعف سياساته القمعية وفرض استراتيجية “القانون والنظام العام”. أمّا اليمين التشيلي، فيبدو غير قادر، حقاً، على تكوين ردٍ مختلف، واعتمد خطاباً معادياً للجريمة مع تصعيد أيام الغضب. أعلن “بينييرا” الدخول في “حالة حرب”، في حين قال الوزير الارستقراطي “تشادويك” إنّ جهاتٍ منظّمة ومنسّقة تقف خلف موجة التخريب وأعمال الشغب.

تأتي هذه الإزاحة في الخطاب كمحاولةٍ للتفريق بين المتظاهرين “المسؤولين السلميين” الذين يقدّمون مطالب “معقولة”، وبين المتظاهرين المجرمين “المناصرين للعنف”، الـ (Violentistas)، الذين يناصرون العنف والتخريب من أجل العنف. كانت هذه إحدى الوسائل التي اتّبعتها الحكومة لكسب الطبقات الوسطى وعزلها عن الفقراء في الأطراف. فعمل الوزير “تشادويك”، وغيره من السياسيين، على ترديد المخاوف المتعلّقة بسلامة أملاك الطبقة الوسطى ومكتسباتها؛ أيّ وجّهوا رسائل مبطنة لجمهور الطبقة الوسطى بهدف تخويفهم وترويعهم من حالة الفلتان. كما ويعكس هذا الخطاب نظرة السياسيين المحافظين وقواعدهم للعالم.

أمّا اليسار التشيلي التقليدي، فلم يختلف جوهرياً عن اليمين إلا بدرجات. تبنّى الائتلاف الاشتراكيّ-المسيحي الديمقراطي خطاب الرئيس ذاته حول “النظام العام”. ودعا المفاوض الاشتراكي في مجلس الشيوخ التشيلي إلى زيادة وتيرة القمع والتشديد. بينما انضمّ اليسار-الوسط إلى جوقة إدانة التخريب، مُصرّحاً بضرورة انصياع المتظاهرين للقانون إذا ما أرادوا رؤية أي إصلاح، في حين دعت المعارضة المعتدلة إلى حوار وطني ونادت بالتخفيف من حدّة التفاوت واللامساواة في التشيلي، في بعض الجوانب.

اعترف قائد الحزب المسيحي الديمقراطي، فؤاد شاهين، بأنّ الطبقة السياسية بأكملها قد خلَقت الوضع الحاليّ ويجب أن تتحمّل مسؤولية إعادة الاستقرار من خلال تلبية مطالب المتظاهرين. ومع أنّ استراتيجية اليسار-الوسط تهدف إلى شفاء “المرض” من خلال تبنّي سياسات اجتماعية بدلاً من معالجة “أعراض ارتفاع درجة الحرارة” من خلال البنادق والهراوات، إلا إنها ترمي في نهاية المطاف إلى الحفاظ على قدرة النظام على الحكم. فيُحذّر شاهين، مثلاً، من أن يؤدي فشل الطبقة الحاكمة إلى كابوس “الشعبوية غير الليبرالية”.

ولربما تظهر حدّيّة الموقف القائل “لقد أخفقنا، هيا بنا نُصلِح الوضع القائم” في حالة الحزب الشيوعيّ الذي انضمّ إلى ائتلاف اليسار-الوسط في العام 2014، إذ قال قائد الحزب للرئيس “بينييرا”: “عليكَ التنحّي إن لم تعرف كيف تحكم”. بكلماتٍ أخرى، ومثل نظيره اليميني، يريد اليسار-الوسط استباق الانتفاضة وتجنّب جرفهم من قبل الغضب الشعبيّ.

وإنّه من المؤسف أنّ اليسار الجديد المستقلّ لا يزال، أيضاً، غير قادر على اغتنام الفرصة وتحقيق التحوّلات المؤسساتية والبنيوية المطلوبة في سياق الانهيار السياسي والمجتمعي الذي يشوب تشيلي الآن. فمثلاً، لم يستطِع الائتلاف اليساري الجديد المُسمّى بـ (ائتلاف فرينتيه أمبليو)، والذي حاول مجابهة النظام الاقتصادي النيوليبرالي قبل عامين في تشيلي، قيادة استراتيجية تَحَوُّلٍ حقيقية حتى الآن. كما يتمّ تخوين أبرز أعضائه واتّهامهم بشرعنة العنف.

وعلى الرغم من محاولة الائتلاف اليساري تجنُّب ثنائية المتظاهر “الجيد” والمتظاهر “السيء”، إلا إنّه يحصر ذاته في زاوية ردّة الفعل على الظروف وتطوّراتها. وبين مطالبته بإزالة الجنود ومُناداته بتنحّي الرئيس، لم يستطِع الائتلاف إعادة تأطير الحوار الوطني حول السياسات، كما ولم تتمكن أحزابه من بناء روابط حقيقية مع المتظاهرين. ومع أنّ البرلماني المعروف “غابرييل بورك” قد واجه الجنود بشجاعةٍ في وسط البلد في “سانتياغو”، إلا إنّ هذا الفعل الرمزيّ غير كافٍ.

حلٌّ شعبيّ ديمقراطيّ

مع محاولات الأحزاب لركوب موجة الأحداث التي وصلت مرحلة متطوّرة، تستمرّ الجماهير الغاضبة بالوفاء بوعدها المُهدِّد بأنّ هذه هي مجرّد البداية. إنّ مجرّد إلغاء رفع سعر الأجرة، الذي أُقِرّ في 21 تشرين الأوّل، أو رفع الحدّ الأدنى للراتب التقاعدي، لن يُقنع هذه الجماهير بإخلاء الشوارع. ومع أنّهم يفتقرون إلى مجموعة من المطالب الواضحة، أو لمُمثّلين مُفوّضين للتفاوض عنهم، فإنّ العصابات وقارعي الطناجر واضحون في أنّ عليهم مواصلة مُعاداتهم للدولة.

عبّر عامل مُتقاعد عن هذه العواطف بشكل مثالي في قوله لمذيعة: “إن لم نترك لهم بُرازَنا، لن ينظروا إلينا” (“si no dejamos la cagá, no nos pescan”). أو بكلماتٍ أخرى: “إن لم نخرّب كلّ شيءٍ، لن يعرف هؤلاء أنّنا موجودون”.

ومع فرض التشيليين المزيد من الخسائر على النُّخب، لا بُدّ من الخلوص إلى خطوات واضحة من الانتفاضة الحالية. في المقام الأول، يجب تحويل فِطرة المتظاهرين وفعلهم التمرُّدي وتصعيدهم لأعمال شلّ الحركة إلى حشد جماهيري يُتوَّج باضراب وطني عام. في الوقت الراهن، لا توجد قوىً سياسية قادرة على قيادة مجهودٍ كهذا، ولكنّ تسيير الغضب الشعبي في هذا الاتجاه ضروريّ؛ خشية تلاشي الغضب وإطفاء الحرائق مع ازدياد إرهاق الناس واحباطهم.

ولكن، من المهم الإشارة إلى أنّ القوى الاجتماعية القادرة على مواصلة إضرابٍ كهذا قد نزلت إلى الساحة وبادرت في تحقيقه. اضُطرّ المعلمون في معظم المدن الكبيرة إلى البقاء في منازلهم، وحذّرت نقابات المواصلات أعضائها من أوضاع خطيرة في العمل، كما انضمّ عمّال المناجم ذات النفوذ الواسع إلى إضراب شامل لقطاعهم، ورفع عمّال الموانئ شعار الإضراب الوطني. وإذا أصبحت هذه الجهود منظّمةً، قد تُجبَر الطبقة السياسية على تبنّي إصلاحاتٍ جذرية.

ومن أجل تحقيق ذلك، يستلزم وضع قائمةٍ بالحدّ الأدنى للإصلاحات الشاملة على الأجندة. ومع رفض الحركة الشعبية للإغاثة الجزئية التي تقطُرُ ببطءٍ وشُحّ من البرلمان والقصر الرئاسي، يجب أن يظهر برنامجٌ بديلٌ ليشكّل الحدّ الأدنى من التنازلات التي يجب انتزاعها.

محتوى هذا البرنامج ليس لغزاً؛ إذ يتضمّن إعادة تأميم النحاس، وإصلاحاً ضرائبياً جذرياً، فضلاً عن ارتفاعٍ في المعاشات، وحقوق عُمّالية وحماية للعمّال، وكذلك عناية صحية شاملة وصندوق تقاعُدي شامل، إلى جانب تعليم عام شامل يدفع له الأغنياء. وإذا تمّ تنظيم هذه الجهود فعلاً، فستكون الحركات الاجتماعية التي خرجت العقد الماضي في تشيلي قادرةً بالكامل على رسم هذه المخطّطات السياسية.

وبالطبع، تتطلّب هذه الأشكال من الدَمَقرَطة الاقتصادية والاجتماعية ديمقراطيةً سياسيةً حقيقيةً، وقد وُجد النظام الحالي وصُمّم لمنع الإصلاحات. ولكنّ انتفاضة تشيلي قد خلقت مفترقَ طرقٍ فتح المجال لإعادة هيكلة الدولة. وقد حان الوقت للمطالبة بجمعية تأسيسية والتخلّص من دستور “بينوشيه” النيوليبرالي، والذي كان يشكّل إطاراً لديكتاتورية الطبقة الرأسمالية مع مظاهر شكلية للإجراءات الديمقراطية.

في تشيلي، يوجد ما قبل  تشرين الأول 2019، وما بعده. ولقد خلق التحدّي الجماهيري لعمّال تشيلي، الأكثر تهميشاً،  نقطة التحوّل هذه، ويعتمد “ما بعد تشرين الأول” على ما سيفعله الناس بهذه الفرصة.

****

الهوامش:

[1] الأوليغارشيّة: الطغمة، أو حكم الأقلية الذي تكون فيه السلطة السياسية والاقتصادية محصورةً بيد فئةٍ صغيرة.
[2] “الكاسيرولازو” (Cacerolzao): شكلٌ من أشكال التظاهر الشعبيّ الشائع في أمريكا اللاتينية، تقوم فيه الجموع بقرع الطناجر.