يطرح الكاتب عنان الحمد الله، في هذه المقالة البحثية، مسألة التحرّر للأفارقة الأمريكيين من خلال ما مثّله النموذج المعرفي البديل الذي قدّمه “مالك شاباز” (مالكوم إكس)، باعتباره متجاوزاً لجدلية السيد والعبد لدى هيجل والاعتمادية المتبادلة بينهما، ومؤكداً على ضرورة البحث عن ذاتية وتاريخ الأسود خارج ذاك الحقل والنظام المهيمن، عبر الإقرار بأنّ التاريخ سابقٌ للعبودية، والدعوة لثورةٍ ثقافيةٍ شاملةٍ تقضي بالعودة إلى إفريقيا ثقافياً وفلسفياً ونفسياً، لكسر فكرة الوجود الاجتماعي من داخل النظام نفسه.

في مقالة “جيسيكا لانجر” حول النقد الذاتي والأكاديميا، تناقش الكاتبة العلاقة بين النقد الأكاديمي ونقد الذات من جهة، والمؤسسة الأكاديمية من جهةٍ أخرى. فبالنسبة لها، تشكِّل المؤسسة الأكاديمية تصوّرَنا عن ذواتنا بشكلٍ جبريٍّ، حيث يتحكم نمط التفكير الأكاديمي للمهنيين بمشاعرهم.[1] يمكن اعتبار تحليل “لانجر” ونقدها صحيحَيْن في حالاتٍ كثيرةٍ من صنعة الأكاديميا، أو ما أسمّيه بـ”صنعة الإشكاليات” ضمن الإنتاج المعرفي المنضوي تحت مظلّة الرأسمالية، والذي يمهّد الطريق لوعيٍ زائفٍ في ما يتعلق بالتفكير النقدي وأهدافه؛ من حيث اتجاهه إلى بناء سيرةٍ ذاتيةٍ مهنيٍة بالمعنى العام، والحصول على منافعَ فرديةٍ وشخصيةٍ بالمعنى الخاص. على إثر ذلك، تلعب النزعة الشائعة والمُتنامية للتفكير النقدي دوراً في سعي الرأسمالية لتحقيق الفاعلية في الماكينة الخاصة بها، حتى عند معالجة الأكاديميا لقضايا شائكةٍ كالحياة، والموت، والسعي نحو الحرية.

من النظرة الأولى، يتوهّم القارىء بأن موقف لانجر ونقدها ليسا سياسيَيْن، ولكن عند فحص فكرتها حول تحقيق الذات واستخدام المعرفة، يمكن ربط ذلك في إطارٍ أعمٍّ حول أزمات إنتاج المعرفة في أوضاع غير ثوريةٍ، أو في تعارضٍ مع المعرفة الثورية، والنقد والممارسة الثوريتين وأهدافهما. يعدّ هذا التمييز مهماً عند تناول قضايا مهمّةٍ وحيويةٍ، مثل مسألة تحرّر الأفارقة الأمريكيين وما يرتبط بهذا التحرّر من موضوعاتٍ.

عالج “باولو فريري” تلك الإشكالية في مؤلّفه “تربية المضطهدين”، إذ ناقش ما أسماه الاجتياح الثقافي وأثره في المُعضلة التي عاشها المهنيون. رسم “فريري” نموذجين للمهنيين؛ الأول: المهنيون الذين يُوصِمون الناس بالجهل الكامل ولا يصلحون إلا لتلقّي التعاليم منهم. أما النموذج الثاني: المهنيون المُصابون بالاغتراب والمرتبطون بثقافة الإنجاز والنجاح الفرداني؛ فلا يستطيعون تحديد مواقعهم بين الناس بسبب احتمالية تهديد فرص نجاحهم الشخصي، أو ما يمكن تسميته بالخوف من الحرّية وتأثيرها في طريقة تعاطيهم مع الناس.

بناءً على ما تقدّم، أدّعي أن حياة وفكر الحاج “مالك شاباز”، خصوصاً في مرحلة ما بعد مغادرته تيار أمّة الإسلام، شكّلا أنموذجاً معرفياً بديلاً يحمل موقفاً سياسياً ثورياً للأفارقة، مع ذاتيةٍ حميميةٍ ملتزمةٍ بحريّة الأفارقة الأمريكيين، حيث التزم بـ”المسألة السوداء” (Black Question) داخل الولايات المتحدة الأمريكية بطريقةٍ نقديةٍ جمعيةٍ خارج الإطار الأكاديمي المُسلّع، وأكّد في العديد من المناسبات على التفكير النقدي كطريقٍ لإدراك بُنى وقوى الاضطهاد، مُعالِجاً إياه بالرجوع إلى جذور “المسألة السوداء” من أجل إيجاد الحلول، فكان لعمله هذا في رحلته أن قدّم آفاقاً أخرى للتحرّر الجمعي.

كما شكّلت رحلته كشفاً للفرق بين الضرورات الثورية التي تُعالج مسألة التحرر، والأطر النظرية “المُترَفة” أو الفوقية التي تقع أحياناً في “صنعة الإشكاليات”، وتُمثّل خوفاً من الحرية من خلال تعقيد أيّ عملٍ ثوريٍّ لغرض ردعه، بدلاً من تدعيمه بطريقةٍ بنّاءةٍ.

لذلك، بُنيت هذه الدراسة على منهاجٍ مُقارنٍ بين انعكاساتٍ متزامنةٍ للوضع الثوري الذي يحمل في باطنه الممارسة- النظرية من جهة، والبُنى النظرية الفوقية لبعض المفكّرين من جهةٍ أخرى، مُدّعياً في الوقت ذاته أن إحدى القضايا الأساسية المُشكّلة للمحدّدات التي تحكّمت بطريقة ممارسة القوى الثورية للأفارقة الأمريكيين لنشاطاتها، وتصوّرها عن نفسها وتعريفها لذاتها هي الموت الاجتماعي.

إنّ العديد من الأدبيات الأساسية التي فحصت العبودية بشكلٍ عامٍّ، واستعباد الأفارقة-الأمريكيين بشكلٍ خاصٍّ داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وَسَمت العبودية بصفة “حالة الاستثناء” التي تأخذ أشكالاً مختلفةً، سواءً أكان الاستثناء ينطوي على العزل، أو الفصل، أو التهميش من الجماعة-المجتمع، أو المواطنة داخلة الدولة-الأمة.

وبناءً عليه، تمّ تعريف الحرية على أنّها التغلّب على حالة الاستثناء والإقصاء؛ حيث تمّ اعتبارها أمراً كافياً لتحقيق الاعتمادية والاعتراف المُتبادَلين بين السيّد والعبد، أو عملية إدماج العبد في ما تمّ استثناؤه منه، لتحقيق الانعتاق الكامل في حالة الأفارقة الأمريكيين. فعلى سبيل المثال، شكّلت مداخلة “أورلاندو باتيرسون” (Orlando Patterson) في مؤلّفه حول العبودية “العبودية والموت الاجتماعي: دراسة مُقارنة” تحليلاً مُقارناً للعبودية في سياقاتٍ وفتراتٍ تاريخيةٍ مُختلفةٍ، وإطاراً نظرياً مُنطلِقاً من جدلية السيّد-العبد لـ”هيجل”، إلى جانب مصادر الشرعية لـ “ماكس فيبر”.

فالبنسبة لـ”باتيرسون”، تمثّل كلُّ حالة استعبادٍ موتاً اجتماعياً، فيما شكّل مفهوم “الإدماج الحدّي” حجر زاويةٍ في تعريفه للموت الاجتماعي؛ بمعنى أنّ لا وجودَ اجتماعياً للعبد خارج ذاتية السيّد (Subjectivity)، فيظلُّ العبد واقعاً تحت إطار التهميش في مجتمع السادة. وبرأيه، كان ذلك نتيجة الخسارة الفادحة لذاتية العبد من خلال عملية الاستعباد، وما يواكبها من محوٍ قسْريٍّ؛ حيث يظّل العبد ككائنٍ غيرِ مولودٍ![2] 

وفي مقاربةٍ مُشابهةٍ لمداخلة “باترسون”، ناقش “اشيل ممبي” في مقاله حول سياساتية الجثث (Necropolitics) موضوع الموت الاجتماعي في حالة عبودية المزارع (Plantations)، واعتبرها موقعاً لحالة الاستثناء. كما اعتبر الموت الاجتماعي مُماثلاً للإخراج والطرد من الإنسانية، إذ إنّ حالة العبودية ناتجةٌ عن خسارةٍ ثلاثيةٍ. الأولى خسارة الوطن والبيت، والثانية خسارة حقوق العبد في السيطرة على جسده، وأخيراً خسارة المكانة السياسية. ولكن وفقاً له، يُبقى على العبد في حالة إصابة/جرح (كالجرح الاستعماري).[3]

يؤكّد استطراد “ممبي” في تعريف حجم الموت الاجتماعي- باعتباره طرداً من الإنسانية-  ما ناقشه “جورجيو أجامبين” في كتابه “الإنسان الحرام” (The Homo Sacer) حول أزمة الإنسانية في الوجود والتعريف، وذلك على الرغم من عدم تناول “أجامبين” موضوعة الموت الاجتماعي، إلا أن نقاشه الذي تناول الأزمة رَبَطها بشكلٍ مباشرٍ بأزمة الدولة-الأمة، على اعتبار أن أزمة الإنسانية منقوشةٌ في داخل هياكل الدولة-الأمة في الأساس. لكنه، في الآن ذاته، تغاضى عن الجرح الاستعماري الذي خلّفه مشروع الحداثة خلال أطواره المختلفة.

مع ذلك، بقي السؤال المُلح دون إجابةٍ في النقاشات السابقة؛ وهو إمكان المقاومة في السعي نحو التحرّر من العبودية. إمكانٌ تمّ حجبه في المداخلات التاريخية والنظرية التي ركّزت على كُلّية بُنى قوى الاستعباد دون التطرّق إلى كيفية مواجهتها. ولذلك تسعى هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على الإمكان الكامن الذي يمكن تحويله إلى واقعٍ ملموسٍ، والذي يتغلّب على جدلية السيد والعبد، ليس من خلال نفي عبودية العبد وظروف العبودية فقط، بل من خلال نفي سيادة السادة أيضاً، وإلا كلُّ شكلٍ من أشكال الانعتاق دون نفي سيادة السيد سيبقى استمراراً للعبودية بأشكالٍ أخرى.

في هذا المقام، تأتي أطروحات الحاج “مالك شاباز” البليغة-البسيطة، كالسهل المُمتنع، في إدراكه الاستثنائيّ لمسألة الأفارقة الأمريكيين داخل الولايات المتحدة الأمريكية. فكما شرح أحد المُعلّقين، فإنّ الحاج شاباز “قام بالتدريس والتعليم، والشرح لناسه بصبرٍ لا مثيلَ له، وبلغةٍ وأسلوبٍ يصلان بشكلٍ مباشرٍ للناس”. واعتُبِر تحليل” شاباز” للوضع الإفريقي الأمريكي متقدّماً على عصره في حينه.

فهم “شاباز” أزمة الإنسانية من تجربة حياته وبكلماته، فالمسألة ليست مسألة “زنوج”، أو مسألةً أمريكيةً، بل هي مسألةٌ إنسانيةٌ وإشكاليةٌ في البناء الإنساني نفسه. أوصله هذا الفهم إلى إعادة موضعة مسألة الأفارقة الأمريكيين خارج نطاق صلاحيات الولايات المتحدة الأمريكية لأسبابٍ مُختلفة. أوّلها؛ إدراكه أن النظام الأمريكي في جوهره غيرُ قادرٍ على إنتاج الحرية للأفارقة الأمريكيين، حيثُ إنّ الصلاحيات المحلّية ليست سوى صلاحيات الاضطهاد. أما السبب الثاني، كما يناقش “شاباز”، أنّ “وجودك في الولايات المتحدة الأمريكية لا يجعل منك أمريكياً، كما أنّ ولادتك في أمريكا لا تجعل منك أمريكياً”. فالفكرة الأخيرة تشبه -إلى حدٍّ ما- ما تمّ التنظير له حول “مُغتربي الولادة” (Natal Alientation)، لكنّه عمل على موضعتها في إطارٍ يخدم رُؤاه لفتح آفاقٍ مُختلفةٍ، وبناء مواقع للمقاومة المُستدامة؛ فعملية تجريد الأفارقة من ذاتيتهم -من وجهة نظره- لا يمكن أن تؤدّي إلى انعتاقهم. ولذلك، تستدعي الحاجةُ بناءَ ذاتيةٍ خارج حقل السيّد؛ أي النظام الأمريكي ونطاق صلاحياته، والمواطنة.

مثقّف الشارع أو مكافح في الحياة-الشارع

إحدى الأسئلة الأساسية التي ناقشها “والتر منيولو”، في مقاله” العصيان المعرفي”، هي “من، ومتى، ولماذا تُنتَج وتُنشَأ المعارف؟”. يرتبط هذا السؤال ارتباطاً وثيقاً بمسألةٍ ناقشها “منيولو” حول التمثيل (Representation)، فيقول: “افترض الباحثون أنّكَ إذا أتيت من أمريكا اللاتينية، يجب عليك الحديث عن أمريكا اللاتينية، ما يعني أن تتحوّل لرمزٍ لثقافتك”.

حاول “منيولو” ربط مسألة التمثيل بالكيفية التي من المتوقع أن تتعامل فيها الإبستمولوجيا (علم المعرفة أو المعرفيات) المتمركزة غربياً مع إبستمولوجيات مُغايرة، حيث إنّ الإبستمولوجيا المُتمركزة غربياً “مختبئةٌ في العلوم الاجتماعية، والإنسانيات، والعلوم الطبيعية والمدارس المهنية، في المراكز البحثية والقطاع المالي والمصرفي، ومجموعة الدول الثماني الكبار، ومجموعة الدول العشرين”.

بالمقابل، يجب على الإبستمولوجيات المُغايرة فكُّ ارتباطها مع الإبستمولوجيا المُتمركزة حول الغرب، وذلك من خلال جيوسياسية المعرفة وجيوسياسية التعلّم؛ بمعنى أنّ الموقع الجغرافي للذوات الإنسانية تحكم طريقة التفكير، والانتقال من الملفوظ إلى عملية التلفّظ كتجلٍّ للمعرفة والإبستمولوجيا المُغايرة. وبهذا، يقترح “منيولو” أنّ الرابط الوحيد بين المناطق التي تحكمها مصفوفةُ الاستعمار والإمبريالية هو الجرح الاستعماري.[4]

من جهةٍ ثانيةٍ، شكّل النقاش/الحوار الذاتي لـ “فرانتز فانون”، في مؤلفه “بشرةٌ سوداءُ، أقنعةٌ بيضاء”، حول العِرق خروجاً بنتيجةٍ مفادُها أنّ العِرق لا يرتبط بلون البشرة، بل اعتبر ذلك بدايةً نحو إعطاء العرق وجوداً أنطولوجياً تاريخياً، وتاريخاً فيزيائياً مستمرّاً. اعتبر “فانون” أنّ التاريخ ككائنٍ حيٍّ يتمثّل بوجود (existence) الأفارقة الأمريكيين كأفرادٍ وأمّةٍ، وضمن الفكرة القائلة بالزنجية (negritude)، مُرتبطاً بفكرة “منيولو” أنّ الجرح الاستعماري للأفارقة يتجلّى بالعرق/لون البشرة الذي يخلق بشكلٍ دائمٍ حالةً من التوتّر الوجودي بين المستعمِر والمستعمَر.

في ذات السياق، اقترح “فانون” أن لا وجود للفرد الإفريقي دون أن يعي ماضيه ومستقبله. كما رفض  اعتبار المسألة الإفريقية مسألةَ عمالةٍ (Labor) فحسب، كما الماركسية والرأسمالية على حدٍّ سواء، مع التزامه بوجود قاسمٍ مُشتركٍ بين الاضطهاد الذي يتعرّض له الأفارقة الأمريكيون وآخرون من الرأسمالية. يشكّل تقاطع فكرتي “منيولو” و”فانون” إطاراً لفهمٍ أوسع وأدقّ لحياة الحاج “مالك شاباز” وأفكاره،  كما عبّر عنها في السيرة الذاتية (السيرة الذاتية لمالكوم إكس كما رواها اليكس هيلي)، دون تحجيم “الحاج شاباز” وفكره وحياته ضمن هذا الإطار.[5]

في المقابل، اهتمامي هنا مُنصبٌّ على ما بعد انفصال الحاج “مالك شاباز” عن تيار “أمّة الإسلام” في آذار من عام 1964، حيث برّر انفصاله هذا في مقابلةٍ له بالقول إنّ هذا التيار لم يُمارس النضال السياسي للأفارقة الأمريكيين ولم يهتم بالأمور السياسية، “فكلّ ما فعلوه هو التأكيد على الكود الأخلاقي من عدم شرب الخمور والتدخين، ولذلك أفضل وسيلةٍ فعّالةٍ وذات معنىً لمواجهة الاضطهاد الذي يُعانيه الأفارقة هو من خلال التوجّه لنقاش القضايا السياسية والاقتصادية في نضال الأفارقة”.[6]

لاحقاً، شكّلت زيارة الحاج “مالك شاباز” لمكة لأداء الحج وترحاله في البلدان الإسلامية نقطةَ تحوّلٍ في إدراكه المسألةَ الإفريقية؛ فلم يقتصر أداء الحج على الطقوس الدينية، بل قام بتوسعة منظور “شاباز” لمسألة العرق ولون البشرة بقوله: “على الأمريكيين فهمُ الإسلام، فهذا الدين الوحيد الذي يمحي من المجتمع مشكلة العرق. في ترحالي في البلدان الإسلامية، التقيتُ وتحدّثتُ وحتى شاركتُ الطعام مع من يُعتبر في الولايات المتحدة الأمريكية أبيضَ، غير أنّ ذوي البشرة البيضاء في البلدان الإسلامية لم يتّخذوا موقفاً أو عقلاً عنصرياً. فرأيتُ الإخوة من جميع الألوان بغضّ النظر عن لون البشرة…رُبّما ستُصدَمون أنّ هذه الكلمات خارجةٌ منّي، ولكنّي في الحج قمتُ بإعادة ترتيب أفكاري السابقة وإلقاء استنتاجاتي القديمة جانباً. لم يكن ذلك صعباً عليّ، على الرغم من قناعاتي الصّلبة، فقد كنتُ دائماً الرجل الذي يحاول أن يواجه الحقائق، والقبول بالوقائع عندما تتكشّف تجاربُ ومعارفُ جديدةٌ. فقد احتفظت بعقلٍ مُنفتحٍ بشكلٍ دائمٍ عند بحثي عن الحقيقة…خلال 39 عاماً على هذه الأرض، هذه المرة الأولى في مكّة التي أقف فيها أمام الله شاعراً بأنّني كائنٌ بشريٌّ مكتملٌ”.[7]

لم تؤثّر تجربة “شاباز” الذاتية على سعيه المحموم لتحقيق وحدة النضال للأفارقة الأمريكيين بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية. فعلى سبيل المثال، في أيار من عام 1964 في نيويورك، قدّم “شاباز” خطاباً حول “ثورة السود”، ذكر فيها: “إنّني مازلتُ مسلماً، هذا هو ديني الإسلام…ولكنّ الفعالية التي أعمل بها اليوم لا تنوي دمج ديانتي مع مسألة 22 مليونَ إفريقيٍّّ في الولايات المتحدة الأمريكية”.[8]

شكّل إدراك “شاباز” لمتطلبات النضال ميزةً أساسيةً ومهمّةً في شخصيته من خلال تفاعل تجربته ما بين الحياة والناس. إحدى الأمثلة على ذلك يوم تعرّض “شاباز” لنقدٍ من قبل مهنيين عاملين في المجال الاجتماعي (professional social workers)، بقولهم إن “الثقافة التحتية لحيّ هارلم قد تمّ تبسيطها واختزالها وتشويهها من قبل مالكوم إكس لغاياته الشخصية”، فكان ردّه: “أتساءل مَنْ منّا يعرف الثقافة التحتية لغيتو هارلم، أنا من تمرّستُ في الكفاح في الشارع أم هؤلاء المهنيون المتكبّرون؟”.[9]

بناءً عليه، ميّز “شاباز” بين التعليم والتعليم المُزيّف المقدّم من نظام التعليم الرسمي في المدارس والكليات والجامعات، وحين سُئل في مقابلةٍ مع الاشتراكيين الشباب في آذار-نيسان من العام 1965 عن سبب التحيّز العِرقي العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية، كان جوابه: “الجهل، وبرامج مُصمّمةٌ بمهارةٍ للتجهيل إلى جانب نظام الاضطهاد والاستغلال…إذا ما تلقّى السكان تعليماً مُناسباً، وأقصد بالتعليم المناسب تقديم صورةٍ حقيقيةٍ عن تاريخ ومساهمات السود الحضارية، حينها سيكون ذوو البشرة البيضاء أقلّ َعنصريةً في مشاعرهم، بالإضافة إلى أن الشعور بالدونية لدى السود سيُستبدل بمعرفةٍ متوازنةٍ عن ذواتهم”.[10]

طال نقد شاباز للتعليم الكتبَ المدرسيةَ أيضاً، فأشار إلى أنّ طلاب المدارس لا يتعلمون شيئاً عن تاريخهم كأفارقةٍ أمريكيين، أو عن مساهماتهم وعلاقتهم بالحضارات الإفريقية التي انحدروا منها قبل استعبادهم من قبل المستعمِرين الأوروبيين والأمريكيين. قادت هذه النظرة إلى دور التعليم “شاباز” أيضاً إلى نقد المتعلّمين من الأفارقة الأمريكيين “الذين لم يفهموا المقاصد والغايات أو تطبيقات التعليم سوى استعراض الكلمات الكبيرة، والذين قادوا مجتمعاتهم من خلال كونهم صدىً لتفكير الرجل الأبيض الاستغلالي”.[11]

يمكن ربط هذا الكفاح في الشارع-الحياة بنموذج المثقف لدى “باولو فريري” في مؤلفه “تربية المضطهدين”. فكما ورد سابقاً؛ تميّزت شخصية “شاباز” بمستوى عالٍ من الذكاء والتكيّف والمرونة، حيث شارك الناس تعليماً ونقاشاً تفاعلياً ثورياً لتحقيق أهداف الأفارقة الأمريكيين. وكما يروي “شاباز”: “باستثناء جميع المستمعين السّود، أحببتُ المستمعين من الكليات والجامعات، والتي كانت- أي النقاشات- تستمرّ لساعتين أو أربع ساعات..تحدّياتٌ وتساؤلاتٌ ونقدٌ كان يُمطِرني بها الطلاب الباحثون عن إجاباتٍ شافيةٍ، فنجحوا في مساعدتي في إكمال التعلّم من خلال التحدّث والنقاش معهم”. [12]

ولتوضيح الفكرة أكثر، إن كلّ نشاطٍ إنسانيٍّ يتكوّن من الفعل (Action) وارتداده (Reflection) بحسب “فريري”، والذي لا يمكن قصره على الملفوظ أو الفعل؛ “فكلُّ ثورةٍ لا يمكن تحقيقها من خلال الفعل أو الملفوظ؛ كلٌّ على حدة، ولكن من الممارسة التي تحوي الأمرين معاً، واللذين يحدثان بشكلٍ متزامنٍ في الوقت ذاته، باتجاه البُنى التي يُراد إعادة تشكيلها”. ويؤكّد “فريري” أن الثوار المُخلصين لا يمكن لهم أن يتعاملوا مع الناس كأشباه فاعلين، وأن الممارسة يجب أن تُوجّه أيضاً ضدّ النخب التي تتعامل مع الناس على أنهم ممتلكاتهم الخاصة.

لذلك، اعتبر “فريري” أنّ تحقيق الوحدة من القضايا الأساسية لتحقيق التحرّر بالنسبة للثوار، إذ إن المهيمنين يسعون دائماً إلى سياسة “فرّق تسُد” للإبقاء على هيمنتهم. هذه المنهجية التي تمّ إيضاحُها حول تحقيق الوحدة، شكّلت ركناً أساسياً بالنسبة لـ”شاباز”، أيضاً، من خلال سعيه إلى تشكيل “تنظيمٍ” -ليس بالمعنى المؤسّساتي للكلمة-  للوحدة الإفريقية من خلال الإحياء الاجتماعي للأفارقة الأمريكيين.[13]

الوحدة بواسطة الإحياء الاجتماعي: العودة إلى الذات

في السابع من كانون الثاني لعام 1965م، قدّم “شاباز” خطاباً حول “آفاق الحرية لعام 1965″، أشار فيه إلى أنّ القوى الإمبريالية والاستعمارية تسعى دوماً لسياسة “فرّق تسُد” التي تتّبعها بالسيطرة، خصوصاً في القارة الإفريقية لإبقاء الناس منفصلين عن بعضهم البعض. على نفس المستوى، أكّد “شاباز” أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم نفس السياسية تجاه الأفارقة الأمريكيين لتُبقيهم متفرّقين. ولذلك، قرّر “شاباز” وآخرون تشكيلَ “منظمة الوحدة للأفارقة الأمريكيين” (Organization of Afro-American Unity)، تتبع روحُ الوحدة تنظيمَ الوحدة الإفريقية في القارة السمراء.[14]

مع ذلك، أدّعي أنّ “منظمة الوحدة للأفارقة الأمريكيين” لم تكن تنظيماً بالمعنى المؤسّساتي، بل ثورةً ثقافيةً مُوجّهةً نحو إحياء مسألة الأفارقة الأمريكيين في الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق الحرية بأيّة وسيلةٍ كانت. فقد ذكر “شاباز” في العديد من المناسبات كالمؤتمر التأسيسي لـ”منظّمة الوحدة للأفارقة الأمريكيين” في الثامن والعشرين من حزيران لعام 1964 أنّ نيّته “محاولة تشكيل ما يشبه المنظّمة، لإيجاد الوضع الملائم للشباب الأفارقة والطلاب وآخرين لدراسة مشكلات الأفارقة الأمريكيين للخروج بتحليلاتٍ جديدةٍ تُعطينا أفكاراً واقتراحاتٍ جديدةً في كيفية التعامل مع المشاكل التي تواجه مجتمعنا، والتي لطالما تلاعب الكثيرون بها”.[15]

تتضمّن مقاربة “شاباز” هذه أمرين أساسين. الأول، مواجهة ما يمكن تسميته بالموت الاجتماعي لمجتمعات الأفارقة الأمريكيين. والثاني، ربطُ مسألة الأفارقة الأمريكيين مع النضالات العالمية، وخصوصاً في القارة الأم، إفريقيا، في مواجهة الإمبريالية والقوى الاستعمارية؛ حيث يمكن للأفارقة الأمريكيين أن يلعبوا دوراً مهمّاً من داخل المركز الإمبريالي، أي الولايات المتحدة الأمريكية.

وبخصوص الأمر الأول، فقد تناوله “شاباز” في المؤتمر التأسيسي بالقول: “أناسٌ ينتمون إلى عرقٍ معيّنٍ يشبه الفرد؛ فمتى استخدم موهبته الخاصّة وفخره في تاريخه، يعبّر عن ثقافته الذاتية، ويؤكّد على ذاتيته، لا يمكن له أن يحقّق ذاته… يجب علينا إعادة اغتنام إرثنا وهويتنا إذا ما أردنا تحرير أنفسنا من عبودية الهيمنة والتفوّق لذوي البشرة البيضاء، يجب علينا أن نُطلق ثورةً ثقافيةً لإزالة مفعول غسل الأدمغة الذي تعرّضنا له”.[16]

بناءً عليه، يمكن تمييز مقاربة “شاباز” عن الثورة الثقافية التي تحدّث عنها “فريري”؛ فالثورة الثقافية للأفارقة الأمريكيين تأتي قبل التحصّل على السلطة بحسب “شاباز”، فيما الثورة الثقافية عند “فريري” تأتي كمرحلةٍ ثانيةٍ بعد السيطرة على السلطة. كما أنّ تصوّر “شاباز” للموت الاجتماعي يتجاوز العلاقة الجدلية حول السيّد والعبد لـ”هيجل”، فيعتبر “شاباز” التاريخ مهمّاً لمعرفة وفهم أصل المشكلة؛ فمتى عُرف أصل المشكلة، يمكن إدراك القضية بكُليّتها حينها. وبمعنىً آخر، توجدُ هناك ذاتيةٌ للأفارقة الأمريكيين خارج إطار جدليّة السيّد والعبد، وفي هذه الحالة الهيمنة الأمريكية. وبكلماته: “فالماضي يتعامل مع تاريخ أو أصل أيّ شيءٍ؛ أصل الشخص، أصل الأمة، أصل حادثةٍ ما. ومتى عُرف جذر المشكلة، حينها ستمتلك فهماً أفضل للأسباب ومنطقها. ولكنّ ما حدث بالنسبة للأفارقة الأمريكيين أنّهم كانوا دائماً مفصولين عن تاريخهم من قِبَل النظام لاستدامة الوضع القائم”.[17]

ولذلك بالنسبة لـ”شاباز”، لم يبتدئ تاريخ الأفارقة الأمريكيين بالعبودية. بل بالعكس، فالأفارقة الأمريكيون لديهم تاريخٌ طويلٌ وغنيٌّ كأفارقةٍ امتلكوا ثقافةً وحضارةً مُتقدّمتين، ولكنها دُمّرت عندما تمّ استعباد الأفارقة وجلبهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية بسُفن العبيد. ومن خلال النظام، تمّ تجريد الأفارقة الأمريكيين من جميع خصائصهم الإنسانية؛ كالتاريخ والثقافة واللغة، فكما يشرح الأمر بكلماته – أي “شاباز”: “لقد أنزلونا إلى مرتبة الحيوانات، ثم بدأوا بمعاملتنا كالحيوانات، يشتروننا وينقلوننا من مزارع العبودية واحدةً تلو الأخرى، ويبيعوننا إلى واحدٍ تلو الآخر، ويربوننا كما يربون قطعان الحيوانات…فعندما لا تمتلك معرفةً بتاريخك، فأنت مجرد حيوانٍ آخر. في الحقيقة أنت زنجيُّ (negro)، لا شيء، فالرجل الأسود الذي لا يمتلك معرفةً بتاريخه يسمّى زنجيّاً، هذا الموجود في الولايات المتحدة الأمريكية، فهم لا يطلقون لقب زنجي على الأفارقة في القارة الإفريقية”.[18]       

وبحسب “شاباز”، فإن عملية الاستعباد -أي تحويل الناس إلى كائنات ميتة اجتماعياً- هي عمليةُ علميّةُ، حيث يتمّ إنتاج العبيد “الزنوج” بواسطة الرجل الأبيض من خلال عدّة طرق، مبيّناً الأمرَ من خلال مقارنته الإنسانَ بالشجرة، قائلاً: “كما تكون الشجرة ميتةً دون جذورٍ، كذلك الناس دون تاريخٍ أو جذورٍ ثقافيةٍ يضْحون أناساً ميّتين. ومتى نظرتَ إلينا مَنْ منّا يُطلق عليه لقب زنجيّ، تجد أنّه تمت تسميتُنا بذلك لأنّنا ميتون. فليس لدينا ما نُعرّف به ذواتنا كجزءٍ من الأسرة الإنسانية. فخُذوا على سبيل المثال: الشجرة، يمكن التعرّف عليها من أوراقها، وإذا ما ذهبت الأوراق، فإنّه يمكنك النظر إلى لحاء الشجرة لتمييزها. ولكن عندما ترى شجرةً فاقدةً للأوراق واللّحاء وكلّ شيءٍ، ماذا تدعوها؟ غصناً مقطوعاً، ولا يمكنك تمييز الغصن المقطوع بسهولةٍ كما الشجرة”.[19]  

كما ناقش “شاباز” طقوس تحويل الكائن الإنساني إلى عبدٍ، فبرأيه لا يمكن تحويل محاربين وحكماء إلى عبيد قبل أن تكسرهم أولاً. تستدعي عملية الكسر هذه شخصاً وحشياً كصانع العبيد، وأفعالاً غيرَ إنسانيةٍ. فبالإضافة إلى جميع أنواع التعذيب، فإنّ أحد أهمّ طقوس صناعة العبيد هو أن تسلّب الفرد لغته، “فمتى ذهبت اللغة، تحول الشخص إلى دُمية (Dummy)؛ فلا يمكنك التواصل مع أقاربك، ولا يمكنك أن تتحصّل على المعرفة من أهلك، بكلّ بساطةٍ لا يمكنك التواصل مع أحد”.[20]

ثمّة شكلٌ آخرُ من أشكال الموت ناقشه “شاباز”، ألا وهو الموت السياسيّ، مشيراً إلى أن إحدى مهام “منظمة وحدة الأفارقة الأمريكيين” هي العمل ضمن العناصر غير الفاعلة سياسياً بين مجتمعات الأفارقة الأمريكيين، فكان الأفارقة الأمريكيون -بنظره- زاهدين في السياسة نتيجةً لكون معظم السياسيين منهم يُعتبَرون دُمىً يتمّ التحكم بهم من الخارج، ولا يمثّلون مصالح أناسهم ومجتمعاتهم.[21]

بالإضافة إلى ذلك، أكّد “شاباز”، بشكلٍ دائمٍ، على دور الناس في خلق برامجهم الخاصة؛ فقد آمن أنه عندما يفهم الناس ما يواجههم والأسباب الكامنة وراء كلّ ذلك، سيبنون برنامجاً يؤدّي للفعل؛ الفعل بأيّة وسيلةٍ كانت (By any means necessary)، متجاوزين القادةَ الدُمى الذين يسعون إلى بناء برامجَ لأغراض الحدّ من نضال الأفارقة الأمريكيين والإبقاء عليهم ضمن مستوىً وروتينٍ مُعيّنين.[22]

أشار “شاباز”، في مقابلةٍ له مع الاشتراكيين الشُبّان في كانون الثاني لعام 1965، إلى أنّ الطلاب الأفارقة الأمريكيين تمّ التلاعب بهم من قبل حركة الحقوق المدنية؛ فتمّ الدفع بهم باتجاه تحليلٍ أحاديٍّ، ومُنِحوا انطباعاً بأنّ المشكلة تمّ تحليلها بالكامل حتّى لا يحللوها هم بأنفسهم. فلو أُتيح لهم المجال لتحليل المشكلة، فسيخرجون بنتيجةٍ مفادُها أنّه لا يمكنهم الاعتماد على الحكومة لحلّ مسألة العنصرية. بهذا، كان “شاباز” يدعو إلى التفكير الإبداعي الخلاّق الشبيه بتفكير الفنانين الأفارقة الذين كرّسوا أنفسهم للترفيه عن مجتمعاتهم.[23]

إنّ القضية الأخرى المُضمَّنة في فكر “شاباز” هي محاولته الربطَ بين نضال الأفارقة الأمريكيين والنضال العالمي ضدّ الاضطهاد والقوى الاستعمارية والإمبريالية، معتبراً أنّ الأفارقة الأمريكيين قد حُرموا من حقوقهم عمّا يزيد عن 300 عامٍ، كما أنّ تحصيل الأفارقة لحقوقهم كان دائماً نتيجةَ أسبابٍ خارجيةٍ تعرّضت لها الولايات المتحدة الأمريكية.

يروي “شاباز” كيف كانت أوضاع الاستعباد التي عاشها الأفارقة الأمريكيون ما قبل عام 1939، وكيف أنّ السبب الكامل وراء جعلهم يتقدّمون في الحياة هي الحرب المُعلنة ضدّ ألمانيا، ولاحقاً الحرب الباردة عندما واجهت الولايات المتحدة الأمريكية نقصاً في القوة العاملة في المصانع والجيش، إذ يقول بهذا الصدّد: “لم ينظروا إلينا ككائناتٍ بشريةٍ، إنّما أرادوا أن يضمّونا إلى نظامٍ ما ويجعلونا نتقدّم فيه خدمةً لأهدافهم.. أيُّ واحدٍ منكم ممّن يمتلك معرفةً بالتاريخ أو علم الاجتماع أو العلوم السياسية أو التنمية الاقتصادية لهذا البلد وعلاقته بالعرق، فليذهب ليبحث عن السبب…فالوعي الداخلي الأخلاقي لهذا البلد مُفلسٌ حقيقةً؛ ولا يوجد وعيٌ أخلاقيٌّ لهذا البلد منذ أن جلبونا هنا على سفن العبودية”[24]

أظهر تحليل “شاباز” بالنسبة للأفارقة الأمريكيين داخل الولايات المتحدة الأمريكية قُصوراً في تحليل المنهج الماركسي وتطبيقاته على وضع الأفارقة الأمريكيين في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عندما تمّ تحويل قضيتهم إلى مجرّد قضيةٍ عُمّاليةٍ. لقد فهم “شاباز” أنّ الرأسمالية والعنصرية مُحَاكَةٌ معاً، إذ “لا يمكن أن تحصل على رأسماليةٍ دون عنصريةٍ”، ولا يمكن للنظام الرأسمالي أن يعمل بفعاليةٍ دون أن يمصّ دماء أحدهم. لذلك، ساءَلَ “شاباز” الأفكارَ التي تتحدّث عن الحصول على حياةٍ أفضل (السكن، التعليم…) ضمن فكرة الاندماج في النظام.

وأوضح “شاباز” أنّ التراكم المالي الرأسمالي، الذي مكّن الولايات المتحدة الأمريكية مِن أن تصبح ما عليه، تَولَّدَ من العبودية في المقام الأول، إذ إنّ العبيد عملوا دون أن يحصلوا على قرشٍ واحدٍ (dime) لمئات السنوات، فيقول بهذا الصدد: “تفكّروا كيف صار العم سام غنياً بهذا الشكل، ليس بأيديه، بل من ملايين الأفارقة. أنت وأمك وأبوك الذين عملوا فتراتٍ تتجاوز الثماني ساعات، فترات تمتدّ من “لا أستطيع أن أرى” في الصباح، إلى “لا أستطيع أن أرى” في المساء، وعملوا دون مقابل، جاعلين الرجل الأبيض غنياً، جاعلين العم سام غنياً!”.[25]

بذلك حدّد “شاباز” أنّ المشكلة تكمن في النظام والمجتمع الذي بُنيت عليه الولايات المتحدة الأمريكية بأكمله، فلا تكمن في الانتقاص من الحقوق المدنية، كما لا تكمن في حالة الاستثناء في ضواحي وجيتوهات ومزارع العبودية. ولا يكمن الحلّ، كذلك، في الإشارة إلى كون المشكلة تكمن هناك، مُوضّحاً أنّ النظام الأمريكي بفروعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا يمكن له أن يُنتج الحرّية للأفارقة الأمريكيين.[26]     

وبالعودة إلى ما ذكرناه آنفاً، فقد أضفى ذهاب “شاباز” للحج تقدّماً فكرياً بالنسبة لمسألة العنصرية البيضاء. فيقول هنا إنّ الإشكالية لا تكمن في الأفراد ذوي البشرة البيضاء؛ فالعنصرية ليست أمراً وراثياً، ولكنّه المجتمع الذي يولّد العنصرية، إلى جانب النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يُغذّي النفسية العنصرية لدى الأفراد من ذوي البشرة البيضاء. مع ذلك، فقد آمن بنضال الأفارقة الأمريكيين بأيّ وسيلةٍ كانت، وطالَب ذوي البشرة البيضاء بالانضمام إلى مجتمعاتهم لشرح مشكلة العبودية والنضال ضدّ العنصرية، بدلاً من الانضمام للأفارقة الأمريكيين، فالمشكلة لا تكمن فيهم، بحسب رأيه. كما حذّر “شاباز” من الليبراليين ذوي البشرة البيضاء وخداعهم للأفارقة الأمريكيين بتحويل الإشكالية إلى ملعب الليبرالية للنظام.[27].

وبذلك، دعا “شاباز” لثورةٍ شاملةٍ من أجل خلق عالمٍ إنسانيٍّ جديدٍ. عالمٌ يستطيع فيه الجميع العيش بحريةٍ ومساواةٍ، وثورةٌ تعني قلب وتدمير النظام القائم بأكمله واستبداله بنظامٍ جديدٍ. وفي مسعاه هذا، اتّجه نحو تحقيق وحدة المضطهدين، وخصوصاً الأفارقة الأمريكيين، دون أن تهدّد هذه الوحدة النضال وتُفرِغه من مضامينه الأساسية، فالجرح الاستعماري بالنسبة للأفارقة الأمريكيين والسكان الأصليين قائمٌ منذ مئات السنين.[28]

خاتمة

يشكّل هذا البحث في فكر وحياة الحاج “مالك شاباز” محاولةً متواضعةً للكشف عن القصور الأكاديمي في التعامل مع قضايا العبودية والموت الاجتماعي، وخصوصاً في حالة الأفارقة الأمريكيين، بالإضافة إلى محاولة إعادة التفكير بمسألة الأفارقة الأميركيين، انطلاقاً من نظرة الحاج “شاباز”، مع الأخذ بالاعتبار بنصيحته للشباب.

لقد تجاوزت فطنة وبصيرة الحاج “شاباز” جدلية السيد والعبد والاعتمادية المتبادلة بينهما، فالاعتمادية المتبادلة عند “هيجل” مبنيةٌ على الاعتراف المتبادل بين السيّد والعبد الذي يؤكّد بدوره خانات السيّد والعبد على حدٍّ سواءٍ. فالسيّد يحتاج أن يستنسخ (Duplicate) وعيه لإدراك أنّ وجوده وتحقّق وجوده مُعتمِدان على العبد. وفي المقابل، على العبد أن يستنسخ وعيه ليُدرك أنّه سيّدٌ إلى جانب كونه عبداً من خلال إدراك حاجات السيد له، فيُعيد تعريف نفسه. ومن هذه الجدلية، يتشكّل نوعٌ من “الوحدة” التي تظهر في انصهار وعي العبد في الباحة الخلفية للسيّد.

ولذلك، فإنّ الاعتمادية المتبادلة التي نصَّ عليها” هيجل” لم تكن نهايةَ جدلية السيّد-العبد، وإنّما تأكيدٌ نهائيٌّ عليها، والانتقال بها من عبوديةٍ مُتدفّقةٍ إلى عبوديةٍ مُمَأسسةٍ ضمن نظامٍ معياريٍّ خاصٍّ بالعبودية. والأمر هذا واضحٌ لدى “فانون” بقوله: “بالنسبة لهيجل، هنالك اعتماديةٌ متبادَلةٌ، فالسيّد يتلاعب بوعي العبد، فما يريده من العبد ليس الاعتراف، بل العمل.”[29]

وعلى النقيض من جدلية السيّد والعبد لدى “هيجل”، اقترح الحاج “شاباز” شكلاً آخر للجدلية والاعتمادية المتبادلة، حيثُ يسبق فيها التاريخُ واقعَ العبودية، ولا يتمّ تجاهله. هذا الرابط بين الماضي والحاضر يخدم الموقف نحو كسر الدائرة المُفْرغة للعبودية، وشروط السيّد. كما يقدّم اقتراح “شاباز” جواباً لتساؤل باترسون في مؤلّفه، “إذا ما كان العبد لا ينتمي لمجتمعٍ، إذا لم يمتلك وجوداً اجتماعياً خارج الوجود الاجتماعي لسيّده، فماذا يكون؟”، حينها تكون الإجابة: إفريقي.[30]

إنَّ طقوس إعادة الإحياء المتمثّلة بالثورة الثقافية التي نصّ عليها الحاج “شاباز”، والتي تقضي بالعودة إلى إفريقيا ثقافياً وفلسفياً ونفسياً، هي ضرورةٌ لتطوير علاقةٍ روحيةٍ بين الأفارقة الأمريكيين وإفريقيا. كما أنّها تشكّل رابطاً بين نضال الأفارقة الأمريكيين وآخرين خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وتبني في الوقت ذاته تفاهماً مُتبادلاً حول أسباب الاضطهاد وأشكال مواجهته. هذا يعني أخذ مسألة الأفارقة الأمريكيين خارج نطاق صلاحيات الولايات المتحدة الأمريكية للتخفيف من العناصر المُضادة للثورة لأيّ تحرُّكٍ مُستقبليٍّ.

إنّ الثورة الثقافية، التي دعا لها “شاباز”، تخدم كطقوس إحياءٍ اجتماعيٍّ مُضادّةٍ لطقوس وممارسات الاستعباد المباشرة وغير المباشرة، وتشكّل طريقاً للانعتاق الكامل للأفارقة الأمريكيين نحو الحرّية التي أعاد “شاباز” تعريفها باعتبارها تغييراً كاملاً للنظام، وذلك يتعارض مع النظرة القائلة بمحلّية مسألة الأفارقة الأمريكيين، وأنها ترتبط بقضايا التهميش والاندماج داخل المجتمع أو الدولة-الأمة.
 ……………………  

الهوامش:

[1] Langer, Jessica. 2016. The Professor Is in. March 29. Accessed May 2016. http://theprofessorisin.com/2016/03/29/self-criticism-and-the-academy-postac-post-by-jessica-langer/.
[2]Patterson, Orlando. 1982. Slavery And Social Death: A Comparative Study. Cambrdige, Massachusetts and London: Harvard University Press. p 5, 38, 45.
[3] Mbembe, Achille. 2003. “Necropolitics.” Public Culture (Duke University Press) 15 (1): p 21.
[4]Mignolo, Walter D. 2009. “Epistemic Disobedience, Independent Thought and De-Colonial Freedom.” Theory, Culture & Society (SAGE) 26 (7-8): p 2.
[5] Fanon, Frantz. 2008. Black Skin, White Masks. Translated by Charles Lam Markmann. London: Pluto Press, pp. 101-103
[6]X, Malcolm. 2015. By any means neccessary . New York, London, Montreal, Sydney: Betty Shabazz and Pathfinder Press. p. 190.
[7]X, Malcolm. 2015. By any means necessary. P.58; 2015. The Autobiography of Malcolm X. New York: Ballantine Books. p 347, p 372.
[8]X, Malcolm. 2015. Two Speeches by Malcolm X. Betty Shabazz and Pathfinder Press. p7; The Autobiography of Malcolm X. p272.
[9]2015. The Autobiography of Malcolm X. New York: Ballantine Books. p 272.
[10] X, Malcolm. 2002. Malcolm X Talks to Young People: Speeches in the United States, Britain, And Africa. New York, London, Montreal, Sydney: Pathfinder. p. 120.
[11]X, Malcolm. 2015. Malcolm X on Afro-American History. New York, London, Montreal, Sydney: Pathfinder. p.85; 2015. The Autobiography of Malcolm X. p272-p273.
[12]2015. The Autobiography of Malcolm X.  p.288.
[13] Freire, Paulo. 1996. Pedagogy of The Opressed. Translated by Myra Bergman Ramos. Penguin Books. pp. 106-109, p 141, p.153.     
[14]X, Malcolm. 2015. Two Speeches by Malcolm X. p42.
[15]X, Malcolm. 2015. By any means neccessary. p.59.
[16] X, Malcolm. 2015. By any means neccessary . p.80.
[17]X, Malcolm. 2015. Malcolm X on Afro-American History. Pp 12-13.
[18] X, Malcolm. 2015. By any means neccessary. p81, p83.
[19] X, Malcolm. 2015. Malcolm X on Afro-American History. pp 27-28.
[20] X, Malcolm. 2015. Malcolm X on Afro-American History. pp 48-51.
[21]X, Malcolm. 1990. Malcom X Speaks: Selected Speeches and Statements. New York: Grove Press. p.203.
[22]X, Malcolm. 2015. By any means necessary. p. 82; X, Malcolm. 1990. Malcom X Speaks: Selected Speeches and Statements. pp 118-119.
[23] X, Malcolm. 2015. By any means necessary. pp 82-83, p 196.
[24]Malcolm. 1990. Malcom X Speaks: Selected Speeches and Statements. pp. 140-142.
[25]Malcolm. 1990. Malcom X Speaks: Selected Speeches and Statements.  p. 32, p 69, p. 121.
[26] Malcolm. 1990. Malcom X Speaks: Selected Speeches and Statements. pp. 68-69.
[27] 2015. The Autobiography of Malcolm X. p.374, p. 378; X, Malcolm. 2015. By any means necessary. p197; Malcolm. 1990. Malcom X Speaks: Selected Speeches and Statements. p. 167, p.224.
[28] 2015. The Autobiography of Malcolm X. pp. 374-375.
[29] Fanon, Frantz. 2008. Black Skin, White Masks. p.172; Patterson, Orlando. 1982. P.36.
[30]Patterson, Orlando. 1982. p. 38.