في هذا النص، يحدّثنا بهاء جرادات عن تاريخ التطبيع والعلاقات ما بين النخب السياسية في السودان مع العدو الصهيونيّ التي قامت منذ استقلال السودان ضمن مصالح شخصيةٍ لأفرادٍ يودّون تحقيق مكاسب سياسيةٍ واقتصاديةٍ. ولا يميّز هذه العلاقات آنفاً إلا خروجها إلى العلن.

مقدّمة

لم يكن ما أخذه لفظ “التطبيع” من الاصطلاح كافياً للتعبير عنه، إذ إنّ فيه ما يوهم بتكافؤ العلاقة بين “طرفي التطبيع”، لكن الحاصل في العالم العربي والعلاقة مع “إسرائيل” هو خضوع وخنوع أنظمةٍ عربيةٍ أو شخصياتٍ ونخبٍ سياسيةٍ لـ “السيد” الصهيوني بُغية الحفاظ على مكاسب شخصية، وضمن صراعاتٍ طبقية وسياسية داخلية، مقابل تحقيق أهدافٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ على المستوى الاستراتيجي لـ”إسرائيل”.

بهذا المعنى، فإن ما يسمى بالتطبيع هو تعبيرٌ ناعمٌ للعمالة، إذ ترتكز فيه العمالة على عدم التكافؤ بالقوة بتعبير هادي العلوي، [1] وبالمعنى الذي تقوم فيه العلاقات بروحيّة الولاء للسيد من أجل الحفاظ على ديمومة النظام الحاكم، أو للحفاظ على شخوصٍ بعينهم. وهو ما يحاول فيها النظام الحاكم خداع شعبه، بإقناعه بضرورة إنشاء علاقاتٍ مع الاحتلال وتبريره ذلك لإنقاذ البلاد من أزمةٍ سياسيةٍ أو أزمةٍ اقتصاديةٍ تمرّ بها.

وفي هذا السياق، سعت “إسرائيل” إلى إنشاء علاقاتٍ سريةٍ مع أفرادٍ وجهاتٍ سودانية منذ ما قبل استقلال الأخيرة عام 1956. تراوحت تلك العلاقات ما بين التقارب والتباعد تبعاً للظرف الإقليمي، والسياسات الداخلية والخارجية للسودان، وتبعاً لطبيعة الشخوص والأنظمة التي حكمتها. كما أنّها ما لبثت أن تحوّلت إلى بروز أصواتٍ داعيةٍ للتطبيع العلني والرسمي مع “إسرائيل”.

في ظل الاجتماع الثلاثي الأخير الذي عُقِد في الإمارات بين شخصياتٍ إماراتيةٍ وأمريكيةٍ وسودانيةٍ وفي مقدّمتهم رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني؛ عبد الفتاح البرهان، نقل مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبر صفحته على موقع “فيسبوك” أنّ الاجتماع دار حول قضية حذف اسم السودان عن قائمة الإرهاب، وتناول قضايا إقليميةٍ أبرزها مستقبل السلام العربي- “الإسرائيلي”، ودور السودان في تحقيقه. [2]

إضافةً لما سبق ذلك من تصريحاتٍ وترحيباتٍ متبادلةٍ بين نخبٍ سياسيةٍ ودبلوماسيةٍ سودانيةٍ و”إسرائيليةٍ”، فإنّ هذه الورقة تتناول -بشكلٍ مقتضبٍ- تاريخ العلاقات السودانية “الإسرائيلية”، مبينةً أنّ تاريخ هذه العلاقات لم يقم إلا في سياق تدعيم أطرافٍ أو نخبٍ معينةٍ في الحكم. كما تضيء على الغايات “الإسرائيلية” والسودانية من تطبيع العلاقات وتوقيع اتفاقاتٍ بينهما، وعلاقة ذلك بالموقع الجيوسياسي للسودان، إضافةً لاستشراف انعكاس هذا التطبيع على الشأن السوداني الداخلي.

نشأة العلاقات السودانية “الإسرائيلية”

في عام 1955، انطلق تمردٌ في الجنوب السوداني، كانت له عدّة مسبّباتٍ، أولها نمط العمليات الانتخابية والثقافية التي تتحكّم بها طبيعة التركيبة الاجتماعية للسودان، وطابعها القبلي والطائفي بوصفه الإطار الاجتماعي المحدّد لذلك، إضافةً إلى سياسات الاستعمار البريطاني الممنهجة في فصل جنوب البلاد عن شمالها.

تمثّلت تلك السياسات في تقسيم السودان على نطاق كلٍّ من الإدارة والتنظيم، والتعليم وتكوين النخب الجديدة، إضافةً إلى الجيش والشرطة، والعمل على إنتاج بنًى اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ تعزّز من الفصل بين شمال البلاد وجنوبها. [3] كما عمد البريطانيون إلى وضع حاجزٍ بين الشمال والجنوب من خلال سياسة الأراضي المقفولة التي صدرت ضمن قانون المناطق المقفولة عام 1922. [4]

علاوةً على ذلك، فإنّ فشل أنظمة الحكم في إدارة التنوع الثقافي والديني والقبلي في جنوب البلاد وشمالها، انعكس على البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ إذ لم يتمتع السودان بالاستقرار السياسي منذ إعلان استقلاله وحتى اليوم، نتيجة تعدُّد الانقلابات العسكرية التي حدثت ضدّ أنظمة الحكم.

تراوح الحكم في السودان بين ثلاث مراحل مدنيةٍ تخللتها ثلاثٌ أخرى عسكريةٌ منذ الاستقلال في عام 1956، بدءاً من حكومةٍ مدنيةٍ انتقاليةٍ تؤسّس لاستقرار السودان وفصل التبعية عن الحكم الثنائي (البريطاني-المصري)، [5] وصولاً إلى الحكومة الانتقالية التي جاءت عقب تنحية البشير في ثورة كانون أول/ديسمبر عام 2018، ممازِجةً بين الحكم المدني والعسكريّ في إدارة المرحلة الانتقالية. ألقى ذلك بظلاله على أزماتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، وعجزٍ مضاعفٍ في التعامل مع تبعات تمرّد الجنوب.

دفعت هذه الأسباب، ضمن فتراتٍ تاريخيةٍ مختلفةٍ، جهاتٍ ونخباً سودانيةً مختلفةً للتعاون مع “إسرائيل”، ضمن ما يتقاطع مع مصالحها في المنطقة، وضمن علاقاتٍ محفوفةٍ بالمد والجزر بناءً على النظام الحاكم في السودان وسياساته ومواقفه من “إسرائيل”، وضمن الظرف الإقليمي المحيط بالسودان.

كانت بدايات ذلك التعاون في حزيران 1954 وامتدّت حتى 1958، إذ بدأت آنذاك اتصالاتٌ بين وفد حزب الأمة السوداني المتواجد في بريطانيا بحثاً عن استقلال السودان، ومسؤولين صهاينة من السفارة “الإسرائيلية” في لندن.

دارت تلك الاتصالات حول حاجة حزب الأمة إلى قروضٍ ماليةٍ من أجل تمكينه من مواجهة التدخّل المصري في السودان، ومواجهة الأحزاب السودانية التي تدعو إلى وحدة النيل والحفاظ على علاقاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ مع مصر، مثل الحزب الوطني الاتحادي؛ كي يتمكن من المشاركة في الانتخابات البرلمانية بقوةٍ. أما الغاية “الإسرائيلية” من ذلك، فهي كسر نفوذ جمال عبد الناصر المتصاعد في العالم العربي، وكسر خطاب الوحدة العربية الداعي إليها، إضافةً إلى الاستثمار بمشاريع اقتصادية في السودان، خاصةً في ما يتعلق بزراعة القطن وبيعها. [6] وهو ما عملت عليه “إسرائيل” من تقديم قروضٍ ماليةٍ لحزب الأمة، وشراء محاصيل القطن الناتجة من أراضي المهدي الواسعة، ودفع ثمنها مقدَّماً لمدة ثلاث سنواتٍ.

وفي عام 1958، قام إبراهيم عبود بانقلابٍ عسكريٍّ سيطر من خلاله على نظام الحكم، وهو ما غيّر بعض السياسات الخارجية للسودان؛ إذ تحسّنت العلاقة مع مصر، وحدثت قطيعةٌ بين السودان و”إسرائيل”. لكن، عملت الأخيرة على بناء علاقاتٍ مع حركة التمرُّد في الجنوب، من خلال دعمها عسكرياً بتزويدها بالعديد من الأسلحة والمدافع، إضافةً إلى إرسال قياداتٍ عسكريةٍ بُغية تدريب حركة “أنيانيا” وتطوير قدراتها القتالية وإرشادها. [7] فيما استمرّ نظام الحكم في السودان ما يقارب العقد من الزمن في القطيعة مع “إسرائيل”.

بدأت تلك العلاقة -بين حركة التمرّد في الجنوب وبين “إسرائيل- منذ عام 1954 واستمرّت حتى توقيع اتفاقية “أديس أبابا” عام 1972 بين شمال البلاد وجنوبها، [8] وهو ما أثار حفيظة “إسرائيل” وقلقها من ذلك الاتفاق، إذ إنّها تنظر إلى حركة التمرُّد في الجنوب كمدخل لإضعاف وإرهاق إحدى دول الأطراف في المنطقة العربية، وتتقاطع معها في العداء لإنشاء أيّ هويةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ في المنطقة، فضلاً عن البعد الجيو-سياسي والجيو-استراتيجي التي تنظر به “إسرائيل” إلى منابع نهر النيل، وما يمثله من امتدادٍ للاستراتيجية الأمنية “الإسرائيلية” تجاه القرن الإفريقي والبحر الأحمر.

توقفت “إسرائيل” عن دعم حركة التمرّد في الجنوب منذ توقيع اتفاقية “أديس أبابا” وحتى بداية الثمانينيات التي عاد الصراع في الجنوب خلالها إلى أشُدّه. شكّلت المرحلة اللاحقة أكثر مراحل “إسرائيل” تدخُّلاً في الشأن السوداني؛ إذ تمكنت من الحفاظ على علاقاتٍ مع حركة التمرد في الجنوب، إضافةً لإنشاء علاقةٍ مع جعفر النميري الذي استلم الحكم في انقلابٍ عسكريٍ عام 1969.

وبهذا، عادت الحرب بين جنوب البلاد وشمالها، نتيجة إخلال النميري باتفاقية “أديس أبابا”، إضافةً إلى تقسيمه الجنوب إلى ثلاث ولاياتٍ، ما أقلق الجنوبيين من سياسات النميري، ودَفَعَهم إلى العودة إلى حمل السلاح.

عملت “إسرائيل”، مرةً أخرى، على إذكاء الصراع بين شمال البلاد وجنوبها من خلال دعم حركة التمرُّد في الجنوب وإمدادها بالأسلحة والخبرات القتالية، والمعونات الإغاثية والفرق الطبية. أما في شمال السودان، فقد حافظت على علاقةٍ مع النميري من خلال الأمريكان، ومن خلال رجل الأعمال السعودي عدنان خاشقجي. تُوّجت تلك العلاقة نهايةً بعمليات نقل يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى “إسرائيل” عبر السودان ضمن ثلاث عملياتٍ، على امتداد بضعة شهورٍ، عُرفت بعمليات: “موسى”، و”سبأ”، و”سليمان”، [9] وكان ذلك مقابل مبالغ ماليةٍ من “إسرائيل” وأمريكا إلى جعفر النميري بغية تحسين اقتصاد السودان. [10]

ولاحقاً، تولّى عمر البشير رئاسة الحكم في انقلابه العسكري عام 1989، ومن حينها توقفت العلاقات “الإسرائيلية” مع شمال السودان، إذ رفع شعاراتٍ جذريةً تعلن العداء لـ”إسرائيل”. تطوّر ذلك إلى وضع أمريكا السودان على قائمة الإرهاب؛ خشية المد الإسلامي المتصاعد هناك، ونتيجة التقارب السوداني الإيراني، فضلاً عن قيام السودان باستقبال أسامة بن لادن عدّة سنواتٍ.

إضافةً إلى تقوية العلاقات مع إيران بعد فتورٍ لفترةٍ وجيزةٍ اختلقه البشير، في سبيل تحسين العلاقات مع الدول العربية من مثل السعودية والإمارات، لكنها لم تكن تنظر لنظامه غير أنه امتدادٌ للإخوان المسلمين، وهو ما تكنّ كلتاهما إليه العداء.

ساهم التقارب السوداني الإيراني في نقل الأسلحة من إيران عبر السودان إلى مصر ثم سيناء وصولاً إلى حركة حماس في غزة، وهو ما انعكس على توتّر العلاقات السودانية “الإسرائيلية”، الذي تمظهر بقصف “إسرائيل” لعدّة مواقع في السودان، في فتراتٍ مختلفةٍ من العام 2009 وحتى العام 2012، متّهمةً إياها باعتبارها مقاراً لصناعة الأسلحة الذاهبة إلى غزة. [11] كما ساهم ذلك التقارب، بتوسيع الفضاء الجيو-سياسي لإيران ضمن البحر الأحمر، والنقل عبر قناة السويس، وهو ما أثار قلق “إسرائيل” من تنامي الدور الإيراني في القارة الإفريقية.

إنّ التحوّلات الحاصلة بانفصال الجنوب عام 2011، وما ترتّب عليه من انهيارٍ مُضاعفٍ للاقتصاد في السودان وما نشب من خلافاتٍ حول الحدود بينها، إضافةً إلى قيام حكومة السودان برفع ضريبة نقل النفط الصادر من جنوب السودان عبر أنابيب السودان وموانئ التحميل على ساحل البحر الأحمر، الذي دفع الأخيرة للتوقف مؤقتاً عن استخراج النفط ونقله، انعكس على السودان وجنوب السودان بمزيدٍ من الأضرار الاقتصادية والحروب الأهلية.

وهو ما استثمرته “إسرائيل” بتقديم المزيد من الدعم إلى دولة جنوب السودان الوليدة وتوقيع العديد من الاتفاقيات معها؛ ما يهدّد الأهمية الجيوسياسية للسودان، ويقلّل من حضورها الإقليمي. وفي محاولتها لرسم الجغرافيا السياسية للمنطقة تحسّباً لأيّ طارئٍ مستقبلاً، فإنّ ما سبق يساهم في التضييق على مصر، من خلال “ضبط” مياه النيل، وإضعاف العمق الاستراتيجي المصري في السودان.

نتيجةً لما سبق، ولما رافقه من حالةٍ إقليميةٍ متغيرةٍ وقلقةٍ بعد موجات “الربيع العربي” والثورات المُضادّة لها، عمل البشير على إعادة رسم علاقاته وتغيير مواقفه من “إسرائيل” ودول العالم العربي وإيران، من أجل إنقاذ اقتصاد بلاده، وبما يحفظ له حكم السودان من خلال تحالفاته مع الأنظمة المناوئة لثورات العالم العربي التي باتت تهدّد نظامه في الشارع السوداني.

التطويع نحو التطبيع: تحوّلات السياسة الخارجية

ترفض العديد من الشركات والبنوك الأجنبية الاستثمار في السودان، نتيجة وجوده على قائمة الإرهاب الأمريكية، التي بدورها تقلق المستثمرين وتشكّكهم بمدى نجاح استثماراتهم هناك. وقد أعاد البشير نظره بالعلاقة مع إيران كونها أيضاً محاصرةً بسبب مشروعها النووي، وعدم قدرتها على دعمه اقتصادياً، تُرجم ذلك في عام 2014 بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في البلاد، وبدأ التقرّب من السعودية وتحسين العلاقات معها كي تعمل دور الوسيط أمام الأمريكان لإزالة السودان عن قائمة الإرهاب.

في ذات الوقت، تلقّت السودان دعماً اقتصادياً مستمراً من قطر منذ عام 1997، وهو ما أربك الموقف السوداني من الحصار الخليجي لقطر عام 2017، ففي حين تسعى السودان للتقارب مع السعودية، فإنها لا تريد خسارة الدعم المقدّم من قطر، وبذلك، فقد وقفت على الحياد في الأزمة الخليجية، لكنها كانت قد أرسلت جنودها للمشاركة في القتال في اليمن ضمن ما يسمى “عاصفة الحزم”، بغية استرضاء السعودية والإمارات، ومقابل أموالٍ مقدّمةٍ إليها من السعودية والإمارات. [12] وهو ما مثّل قطع العلاقات الرسمية مع إيران بوصفها داعماً أساسياً للحوثيين.

رافق ذلك، تحولٌ في العلاقة بين السودان ونظام السيسي، الذي نظرت إليه الأولى بوصفه انقلاباً على الديمقراطية والشرعية، وجعلت أراضيها حصناً لهروب قيادات الإخوان من مصر إليه. لكن سرعان ما أعادت النظر في تلك العلاقة، وأخذ البشير بالتقارب مع مصر، والبراءة، على استحياءٍ، من الإخوان المسلمين، كجزءٍ من انخراطه ضمن الدول المناوئة للربيع العربي.

بذلك، عملت السعودية والإمارات ومصر على تغيير موقع السودان من المعادلة الإقليمية؛ بإبعادها عن إيران، وإبعادها عن الإخوان المسلمين، وهو ما يمثلّ بداية تدحرج عجلة التطبيع السوداني الرسمي لنظام البشير مع “إسرائيل”، إذ تتلاقى جميعها في العداء للإخوان المسلمين، الذي ظهر كالمستفيد الأول من الربيع العربي، والعداء لإيران الآخذة بالتوسُّع في العديد من البلدان العربية.

وبهذا، تمكّنت السعودية من إقناع أمريكا بتخفيف العقوبات الاقتصادية على السودان، [13] لكنها لم تتمكن من تحقيق ما تريده السودان بإزالتها عن قائمة الإرهاب الأمريكية، وهو ما دفع توجّهات السودان نحو إمكانية التقارب مع “إسرائيل” بغية التوسُّط لها عند الأمريكان، وهو ما تريده “إسرائيل” لتسهيل عمليات الطيران لديها وتخفيف تكاليفها، وبما تمثله السودان كأراضٍ يمكن إنشاء قواعد عسكريةٍ “إسرائيلية” فيها سعياً لبناء قوة ردعٍ أمام السفن الإيرانية.

كما تحقق “إسرائيل” بذلك التقارب، زيادة الحصار على مصر، الذي سيدفع الأخيرة بمزيدٍ من التنازلات السياسية، إضافةً لما يمثله ذلك من “انتصارٍ” على صراع النفوذ “الإسرائيلي”-التركي-الروسي في القارة الإفريقية، مما يزيد من ثقل “إسرائيل” على المستوى الدولي.

آفاق التطبيع السوداني: بين التأييد والمعارضة

ما بين إقالة المتحدث باسم وزارة الخارجية السودانية؛ حيدر بدوي صادق، نتيجة تصريحاته [14] التي تشي بتفاهماتٍ سريّةٍ حول تطبيع العلاقات السودانية “الإسرائيلية”، التي قوبلت بإنكار وزير الخارجية السودانية من وجود أيّة خطواتٍ فعليةٍ تجاه التقارب السوداني “الإسرائيلي”، ما يعكس حالةً من التخبُّط داخل المؤسسة السودانية الرسمية. وما بين الترحيبات التي عبّر عنها “بنيامين نتنياهو” لتصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية السودانية، التي توحي بالمزيد من التقارب السوداني “الإسرائيلي”، وما سبق ذلك من تصريح رئيس “الموساد”؛ “يوسي كوهين”، بترجيح هرولة النظاميْن السوداني والبحريني لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” على غرار التطبيع الإماراتي الرسمي للعلاقات معها، الذي سرعان ما تُرجِم بذهاب البحرين نحو التطبيع الرسمي مع “إسرائيل”.

وما سبق ذلك كلّه، من لقاء رئيس مجلس السيادة الانتقالي؛ عبد الفتاح البرهان، برئيس الوزراء “الإسرائيلي”؛ “بنيامين نتنياهو”، في أوغندا، خلال شهر فبراير من عام 2020، الذي رتبت له الدبلوماسية السودانية “نجوى قدح الدم”. تكمن الحاجة إلى استشراف آفاق هذه الدعوات وحدودها، وأثرها على الشأن السوداني الداخلي.

يبدو أنّ السياسية التقليدية المتحكّمة في شؤون السودان الداخلية والخارجية اقتنعت بضرورة التطبيع مع “إسرائيل” في سبيل الوصول إلى أمريكا وإقناعها بإزالتها عن قائمة الإرهاب، وهو ما تساهم فيه كل من مصر والسعودية والإمارات وهو ما يعكسه مشاركة ممثلين عن هذه الدول في الاجتماع السوداني الأمريكي في الإمارات الذي عقد بتاريخ 21 أيلول/ سبتمبر 2020، لكن لم يصل الأمر نحو إشهار هذه الرغبات ضمن المؤسّسات الرسمية، إنما من خلال شخوصٍ لم تستطع الخروج من أزمة السياسي السوداني الذي ينظر للانقلاب العسكري كاستمرار للعملية السياسية. [15]

تقف المعارضة التقليدية ضدّ الذهاب نحو التطبيع ضمن الصراع على السلطة وتولي الحكم فقط. وإن ادّعى حزب الأمة رفضه للتطبيع وتصريحات المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأخيرة، فهو في سياق المقارعة السياسية، وليس الموقف الجذري من خيار التطبيع مع “إسرائيل”، خاصةً وأنّ السودان كانت جزءاً من الدول الموقعة على اتفاقية السلام العربية حول إمكانية الاعتراف بـ”اسرائيل” شريطة الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، دون تحفّظاتٍ من حزب الأمة.

إنّ عدم الثقة بمدى صدقية حزب الأمة بموقفه من التطبيع لا يقلل من أهمية هذا الصوت في هذا الظرف الحسّاس من تاريخ السودان، إلى جانب رفض حزب البعث وحزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي للتطبيع مع “إسرائيل”. كما أنّ الغالبية الساحقة من السودانيين تنظر للتطبيع كخيانةٍ للقضية المركزية عند العرب والمسلمين في فلسطين، إضافةً إلى أنّ “تجمع المهنيين السودانيين” الذي أنشئ في عام 2016، وبرز على الساحة السياسية مع بداية ثورة كانون أول/ديسمبر عام 2018، وانضم إلى تحالف “إعلان الحرية والتغيير”، حاملاً مسؤولية توجيه الناس وتحشيدهم في الشوارع بُغية إسقاط نظام البشير، ما زالت لديه القدرة على التأثير على الشارع السوداني وتحريكه.

يبرز تجمع المهنيين السودانيين، كقوةٍ معارضةٍ متقدّمةٍ سياسياً على الأحزاب السياسية التقليدية في السودان، سواءً أكان ذلك من خلال إصراره على حماية الثورة ومنعها من الاختطاف على يد العسكر عند تشكيل الحكومة الانتقالية بعد تنحّي البشير من خلال عدم الخضوع لقرارات العسكر، والاستمرار في النزول إلى الشوارع بغية تقاسُم المرحلة الانتقالية معها، أو من خلال عودته، في تاريخ 17 آب/ أغسطس 2020، إلى الشارع ضمن تسيير مواكب ثوريةٍ رفضاً لسياسات الحكومة الانتقالية (المدنية والعسكرية) التي أوصلته إلى قناعةٍ بأنها لا تختلف عن سابقاتها من الحكومات والأنظمة، وأنها تعمل ضمن أجنداتٍ شخصيةٍ بعيداً عن تحقيق الديمقراطية وإنعاش اقتصاد البلاد وإخراجها من أزمتها، وهو ما دفعه للانفصال عن تحالف “إعلان الحرية والتغيير”.

إنّ ملف “التطبيع مع إسرائيل” والموقف منه يعبّر عن حالةٍ مكثّفةٍ من الصراعات التي تحدث داخل الحكومة الانتقالية السودانية، ما بين محاولات العسكر المستمرّة لخطف الثورة والتفرّد في الحكم، وما بين السعي الدؤوب لممثلي تجمع المهنيين السودانيين المدنيين في الحفاظ على ما قامت الثورة من أجله. بمعنى أنّ توقيع اتفاقاتٍ بين السودان و”اسرائيل” يعني، بصيغةٍ محدّدةٍ، خطف ثورة كانون أول/ ديسمبر 2018، وانتصاراً للعسكر على إرادة الشعب السوداني وقواه السياسية المعبرة عنه، وهو ما يتمثّل بوصف الحالة السودانية نموذجاً لانعدام آفاق التغيير السياسي والاجتماعي دون العداء لـ”إسرائيل”.

وهذا ما يوضّحه تقارب المجلس العسكري في الحكومة الانتقالية من مصر والسعودية والإمارات و”إسرائيل” بوصفها أنظمةً مناوئةً للربيع العربي، ومحرّكةً للثورات المضادة في المنطقة، وهو ما أدركه تجمّع المهنيين السودانيين بشكلٍ مبكّرٍ ضمن أطرٍ استراتيجيةٍ وجذريةٍ، على خلاف العديد من الأحزاب التقليدية التي تراوغ ضمن تكتيكاتٍ مرحليةٍ.

وبذلك، فإنه فيما لو تمّ توقيع أي اتفاقياتٍ بين السودان و”إسرائيل” فإن تجمع المهنيين السودانيين هو الجهة الأكثر بروزاً والأقدر على تحريك الناس في الشارع ضدّ هذه الاتفاقيات، وهو الأكثر جذريةً في تبني مواقف الشعب السوداني، وهذا ما سيقف أمامه النظام -في ما لو حدث- بقوةٍ عسكريةٍ تقضي على أيّة محاولة إحداث تغييرٍ مدنيٍّ، بقمعٍ شديدٍ يقضي على أي إمكانية لإعادة إحياء الشارع مرةً أخرى لسنواتٍ طوالٍ، بدعمٍ عسكريٍّ واقتصاديٍّ من “إسرائيل” لرموز التطبيع السوداني، وتدعيم وجودهم ضمن نظام الحكم بعد انتهاء المرحلة الانتقالية أو من خلال انقلابٍ عسكريٍّ قريبٍ يعزّز من سيطرة العسكر على نظام الحكم، وذلك من خلال توجيه الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان (التي يوجد لديها مكاتب في “تل أبيب”) إلى الوقوف بجانب تلك الشخصيات ودعمها، وتثبيت جذورها في الحكم، وتقديمها للعالم كشخصياتٍ قويةٍ في السودان، وبغطاءٍ وقبولٍ دوليٍّ ترعاه أمريكا.

الخاتمة

إنّ العلاقات السودانية “الإسرائيلية” ليست حديثةً، فهي قديمةٌ منذ ما قبل استقلال السودان، وقد قامت تلك العلاقات ضمن مصالح شخصيةٍ لأفرادٍ يودّون تحقيق مكاسب سياسيةٍ واقتصاديةٍ شخصيةٍ. لكنّ ما يميز النقاش الدائر اليوم حولها، هو خروج تلك العلاقات إلى العلن، وهو ما يعني إعلاناً رسمياً لخيانة الشؤون السودانية الداخلية ومطالب ثورة كانون أول/ ديسمبر 2018، من خلال التحالف مع الأنظمة المناوئة للثورات العربية، وتدعيم المجلس العسكري لقمع أيّ ثورةٍ يمكن أن تلوح في الأفق.

وهو ما بدت ملامحه تتشكل من خلال ما يقوم به المجلس العسكري في الحكومة الانتقالية من خلال ربط اقتصاد السودان بالمؤسّسة العسكرية، والتحكم بمفاصل الدولة الداخلية والخارجية، والحصول على التمويل من السعودية والإمارات، وإرسال المزيد من الجنود للقتال في اليمن ضمن ما يسمّى “عاصفة الحزم”، وهو ما يوضحه أيضاً القمع الأخير الذي حدث في 17 آب/ أغسطس من العام الجاري، على إثر المسيرات التي خرجت ضدّ سياسات الحكومة الانتقالية تحت عنوان “جرد الحساب”، لتصحيح مسار الثورة.

*****

 

الهوامش

[1] العلوي، هادي. الجذور التاريخية للعمالة. مجلة دراسات عربية، العدد 4، شباط 1980.
[2] رابط منشور مجلس السيادة الانتقالي السوداني على موقعه في “فيسبوك” بتاريخ 23 أيلول/ سبتمبر 2020، من هنا
[3]  ولد الصديق، ميلود. الانقسام الاجتماعي وأثره في بنية الأحزاب السياسية. عمان: مركز الكتاب الأكاديمي، 1999، ص 109.
[4]  الشمالي، منى حسين عبيد. قضية جنوب السودان: دراسة تاريخية سياسية، مجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، العدد 70 (2020): ص 174
[5]  عمر، معتز بالله عبد العزيز. إشكالية الانقلابات العسكرية في السودان. السودان: جامعة أم درمان الإسلامية، 1991، ص 170-180.
[6]  محارب، محمود. التدخل الإسرائيلي في السودان. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2011، ص 3.
[7] عودة، إبراهيم. الدور الإسرائيلي في انفصال جنوب السودان وتداعياته على الصراع العربي-الإسرائيلي. فلسطين: جامعة النجاح الوطنية، رسالة ماجستير غير منشورة، 2014: ص 69.
[8]  مرجع سابق، ص 66
[9]  محمد، تغريد ذنون يونس. دور السلطات السودانية في تهجير يهود الفلاشا إلى إسرائيل (1984-1991). مجلة جامعة كركوك للدراسات الإنسانية، مجلد 12، العدد 4 (2017): ص 54-57.
[10] التدخل الإسرائيلي في السودان، مرجع سابق، ص 20.
[11]  حمد، النور. السودان وإيران: رحلة التقارب والمشهد العربي الراهن. مجلة سياسات عربيّة. العدد 1، آذار 2013: ص 67.
[12] عبدالرازق، ابو بكر. المصطفى، حمزة. الطريق الأخرى: دراسة في مواقف السودان والمغرب والصومال من الأزمة الخليجية. مجلة سياسات عربية. العدد 27، تموز 2017: ص 45-50.
[13] خبر، السعودية تسعى لإتمام رفع العقوبات الأمريكية عن السودان، رابط الخبر من هنا
[14] رابط الفيديو لتصريح المتحدّث باسم وزير الخارجية السوداني حيدر بدوي صادق، من هنا
[15]  أحمد، حسن الحاج علي. الانقلاب العسكري بمنزلة عملية سياسية: الجيش والسلطة في السودان، مجلة سياسات عربية، العدد 24، كانون الثاني 2017: ص 53