«أيّ فكرٍ دون قوّة يبقى نظريّاتٍ تتآكلُها الكتب، وأيّ قوّة دون فكرٍ تبقى ردّ فعل دون استمراريّة وأثر». [1]

 

مع استمرار حرب الإبادة الصهيونيّة على قطاع غزّة، والتي جاءت ردًّا على عبور المقاومة في معركة «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر عام 2023، يُفتح سؤال «ما العمل؟» كبحث في دور مختلف مكوّنات المجتمع الفلسطينيّ في هذه الحرب وموقعهم منها، وبخاصة طلّاب الجامعات الفلسطينيّة والعربيّة، بالتزامن مع امتداد المواجهة مع الاستعمار الصهيونيّ إلى ساحات الجامعات حول العالم في الوقت الراهن، وخاصةً في الغرب. يعيدنا هذا السؤال إلى شخصيّة عربيّة أجابت عليه بالتفكير والممارسة داخل ساحة الجامعة اللبنانيّة الأمريكيّة في بيروت، الشهيد جهاد مغنية. منذ التحاقه بها، ذهب مغنية إلى الإجابة عن دور الطالب الجامعيّ في مواجهة العدوّ الصهيونيّ أينما وجد وتمركز دون لغو أو تنظير؛ حيث شاعت في الأوساط الأكاديميّة -بما في ذلك الجامعة التي التحق بها الشهيد- ثنائية العمل المقاوم والدراسة كخطّين منفصلين. فحاول مغنية الربط والموازنة بينهما، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، إيمانًا منه بأنّ لا عمل مقاومًا دون تعليمٍ فاعل ولا تعليم فاعلًا دون عملٍ مقاوم.

 

بدون مقدمات

 

ولد جهاد عماد مغنية في الثاني من أيّار عام 1991، في بلدة طير دبا قضاء صور جنوب لبنان. وهو ابن الشهيد القائد عماد مغنية (الملقّب بالحاج رضوان) والذي استُشهد في الثاني عشر من شباط عام 2008. التحق مغنية الابن بالجامعة اللبنانيّة الأمريكيّة في بيروت (LAU) عام 2009 ليدرس إدارة الأعمال. كان هدفه من التعليم الجامعيّ واضحًا ومحدّدًا، فقد تمتّع مغنية بفكر ميّزه عن أقرانه، ذلك بإدراكه لأثر بيئة حركة المقاومة الإسلاميّة عليه وتمايزها عمّا هو معتاد في بيئة الجامعة اللبنانيّة الأمريكيّة.

أمّا عن اختياره لتخصّص إدارة الأعمال بالذّات، فربّما يعود إلى الخصال القيادية والتنظيمية التي كانت بارزةً في شخصية الشهيد، وإلى الفرصة التي وفّرها هذا التخصص في صقل تصوّراته عن دوره القيادي في العمل الميدانيّ فيما بعد. لم يتوقّف مغنية عن التفكير بدور الطالب الجامعيّ في الفعل المقاوم وكيفيّة تعزيز انخراطه فيه. ولم يقتصر همّه عند التحاقه بالجامعة على تسجيل المساقات والانخراط في بيئة اجتماعيّة جديدة مرتبطة بمرحلة عمريّة انتقاليّة-من المدرسة إلى الجامعة- كسائر أقرانه، بل سعى مغنية للتوفيق بين التزامه تّجاه المؤسّسة الأكاديميّة كطالب جامعيّ، والتزامه بواجبه الوطنيّ والدينيّ مع المقاومة، بالإضافة إلى دور الجامعة التربويّ والتعليميّ. رأى مغنية في الجامعة ساحةً أساسيّةً للعمل والتأثير ضمن فكر تحرّري مقاوم، فعمل على استثمار وجوده كحلقة تشبيك بين الساحتين، ساحة الدراسة وساحة الجهاد. 

 

التحرّك في ساحة الجامعة: التعبئة ونشر فكر المقاومة

 

بدأ مغنية العمل في ساحات الجامعة اللبنانيّة الأمريكيّة بعد عامٍ من التحاقه بها، فأسّس رابطة طلابيّة تابعة لحركة المقاومة الإسلاميّة في لبنان- حزب الله. ضمّت الرابطة مجموعة من اللجان التي تغطّي كلّ منها جانبًا من جوانب الحياة الجامعيّة؛ لجنة العمل السياسيّ، ولجنة العمل الثقافيّ، ولجنة أندية الطلبة ولكلّ منها مسؤول من الطلبة. أمّا جهاد فكان يتولّى إدارة عمل هذه اللجان داخل الجامعة وخارجها بالتنسيق المباشر مع جهاز التعبئة التربويّة في المقاومة. 

تمثّلت النقلة النوعيّة في العمل الطلّابي داخل الجامعة بعد التحاق مغنية بها في إنشاء وجود تمثيليّ للمقاومة الإسلاميّة وتأسيس قاعدة طلّابيّة لها، والتي كانت غائبةً قبل ذلك. فاستغلّ مغنية خصوصيّته المتعلّقة بوالده القائد الشهيد والعلاقات التي اكتسبها من خلاله، للتشبيك مع الطلّاب والعمل على إحداث التغيير. وعنيَ مغنية بتأسيس قاعدة طلّابيّة من طلبة هذه الجامعة تحديدًا بسبب خلفيّة الطلبة الملتحقين بها، الذين ينتمون لفئات مجتمعيّة نخبويّة مرتبطة إمّا بشخصيّات معروفة أو رجال أعمال من طبقة اقتصاديّة ثريّة، والذين لم يكُن لهم أيّ ارتباط أو علاقة مباشرة بفكر المقاومة وهمومها. فكانت أكبر همومهم قضاء إجازة العطلة الصيفيّة في إحدى الدول الأوروبيّة أو استكمال الدراسة وتأسيس حياة خارج البلاد في إحداها. فسعى مغنية لربط هذه الفئة مع المقاومة، ورأى في دورهم كطلبة جامعيين إضافة نوعيّة للمقاومة باعتبارهم عنصرًا واعيًا يمتلك المعرفة والحجّة والبرهان، وإيمانه الراسخ بضرورة التمتّع بالوعي والفهم والالتزام بخطّ بالمقاومة بدافع الإدراك والقناعة، وليس عن عاطفة فحسب. بهذا، يمكن للطالب المقاتل الانخراط أيضًا في بناء خطاب المقاومة اليومي ومواجهة خطاب الاستسلام والخضوع. 

فالخطاب اللبنانيّ الشعبيّ السائد عن المقاومة (حزب الله) يحتفي بكونها مقاومة قويّة ومنتصرة، وكان الانتماء لها يأتي بناءً على هذه الصورة. أمّا مغنية، فسعى إلى الابتعاد عن هذا في خطابه مع الطلبة، والذي ارتكز على كون الطالب الجامعيّ لا ينتمي ويناصر المقاومة عندما تكون قويّة ومنتصرة فحسب، بل لأنّها الطريق العمليّ الوحيد للحرّية الحقيقيّة، فكان يغذّي هذا الجانب العقلانيّ عند الشباب المتجنّد لصالح المقاومة. حرص مغنية على بناء الطالب الجامعيّ سياسيًّا وثقافيًّا، بحيث يتحوّل مساره من التحصيل العلميّ في المجالات المختلفة المجرّدة من السياسة، إلى مسار يوظّف فيه معرفته المكتسبة ومجاله لخدمة مجتمع يحتضن المقاومة. فاعتاد مغنية القول «لو حوّلنا كلّ مجموعة شباب في كلّ حيّ في المجتمع إلى نخبويّين سنكون قادرين على العمل مع كلّ فئات المجتمع بسبب قدرة الطلبة على الانخراط والتفاعل الأفقيّ والعموديّ في مجتمعاتهم». وللتوضيح، فقد جاءت هذه المقولة انطلاقًا من إيمان الشهيد بأنّ الطلبة هم نخبة المجتمع، وبمقدورهم دعم المقاومة وقواعدها

كانت الجامعة بالنسبة له ضرورة، ويتّضح تصوّره عن دورها في مقولته «هناك وفرة سلاح، ولكنّ المشكلة في الشخص الذي سيقف خلفه؛ المعركة اليوم هي معركة عقول وأسلحة وتكنولوجيا. إذا لم نكُن متعلّمين من سيحمل السلاح؟ ومن سيطوّر هذا السلاح ومن سيطوّر ويواكب التكنولوجيا؟ ومن سيمثّل المقاومة في المؤتمرات وعلى المنصّات الإعلاميّة. كحركات مقاومة وتحرّر نحن بحاجة لأفراد من مختلف المجالات، مثلهم مثل من يقاتل بالسلاح على الجبهة، لذا فإنّ الوجود في الجامعة جزء من مهمّتي في حركة التحرّر التي أنتمي إليها، سواء المقاومة الإسلاميّة أو غيرها».

مثّل مغنية حالة القول والفعل، وطبّق ما يعظ وينصح به، فعندما قال «نحن نريد متعلّمين يعملون» كان سبّاقًا إلى مقاعد الدراسة وميدان العمل، ذلك أّنه أراد أن يمثّل نموذجًا يحتذي به الطلبة. وكثيرًا ما ردّد «أنا لا أقول لكم ماذا عليكم أن تفعلوا، بل أقول لكم ماذا يجب علينا أن نفعل جميعًا. وأنا أوّل شخص بينكم يجب أن يفعل». وهذا ما ميّز مغنية بين زملائه وجعلهم يلتفّون حوله، فعلاقته بهم كانت مبنيّة وفق منطق أخويّ اجتماعيّ. 

بنى مغنية علاقاته على أساس متين من الثقة والصدق، فأخذت آثارها أبعادًا مستمرّة ودائمة؛ فلم تكن مجرّد زمالة عابرة في مرحلة مؤقتة. خصّص مغنية أغلب وقته للطلبة سواء داخل الجامعة أو خارجها، أو في أوقات الدراسة وبعدها، سعيًا منه لبناء مسار مستمرّ وليس هيكليّة إداريّة لحركة طلابيّة فحسب. وركّز في عمله على محور قضيّة المقاومة، القضيّة الفلسطينيّة، في الوقت الذي انشغل فيه شباب الجامعة بالتفاصيل الأكاديميّة فقط. فلم يفوّت ذكر فلسطين في أي جلسة أو لقاء عقده مع أقرانه. في إحدى جلساته مع الطلبة عام 2011، كان مغنية يرثي والده بالحزن والبكاء، ثمّ أدرك حينها أنّه يرثيه بطريقة خاطئة، وأنّ طريق الرثاء والوفاء الحقيقيّ إنّما هو بالعمل الميدانيّ الفعليّ، الذي رأى في العمل الطلّابيّ أسمى أنواعه. وكثيرًا ما روى قصّته الشخصيّة هذه للشباب الجامعيّ، ليعزّز علاقتهم مع من ارتقى من الشهداء، سواءً ربطتهم بهم علاقة مباشرة أو لا، وهي قصّة مفادها أنّ وفاءهم لهؤلاء الشهداء يكون من خلال تفعيل دورهم ضمن حركة المقاومة التي بذلت هذه التضحيات. 

 

من الخلاص الفردي إلى الخلاص الجماعي

 

أدرك مغنية بأنّ العمل العسكريّ له جوانب متعدّدة تمتدّ إلى العديد من المجالات، وأنّ المقاومة بحاجة لمقاتلين على مختلف الجبهات؛ إلى مهندسين يطوّرون الأسلحة، وإعلامييّن قادرين على نقل الصورة والتحدّث بطلاقة، وسياسيّين فطنين إداريًّا، ومبرمجين يساعدون المقاومة على مواكبة التطوّر التكنولوجيّ في العالم. لذا عمل مغنية على توطيد علاقة الطلبة من مختلف المجالات بالقضايا السياسيّة وقضايا المظلومين، ذلك لتصبح جزءًا لا يتجزّأ من ممارستهم لمهنهم فيما بعد، فأعاد مغنية إحياء هذه المشاعر فيهم. وكان منطلقًا من «مشترك جماعيّ» قائم على إدراكه بأنّ فطرة الناس هي نصرة المظلوم، ولكنّها في كثير من الحالات بحاجة إلى من يوجهّها؛ إلى قائد قريب من الناس يبدأ التغيير. تحوّل مغنية إلى قائد في الوسط الطلّابيّ، خاطبهم بلغة عقلانيّة علميّة قادرة على استيعاب الاختلافات بينهم كما المشتركات والبناء عليها. فخلال تلك الفترة، لم يكن الانقسام السياسيّ في لبنان بالحدّة التي نعرفها اليوم، وكان العداء للكيان الصهيونيّ أمرًا لا يُختلف عليه، أي كان خطاب المقاومة هو الدارج، فاستثمر مغنية في هذه المشتركات. 

يُلمَس إنجاز مغنية في ميدان العمل الطلّابي في النقلة في توجّه الطلّاب، من الانشغال بالهمّ الفرديّ إلى التفكير بهموم المقاومة وإدراك أهميّة دورهم في استمراريّتها ونجاحها. أصبحت ساحة الجامعة قاعدةً ذات تأثير وفاعليّة في المسار السياسيّ والعلميّ معًا؛ ما كان ذات يومٍ غائبًا عن ساحات الجامعة، أصبح لا بدّ منه، وأصبح شباب المقاومة الإسلاميّة وممارستهم نموذجًا لسائر الطلبة. فاستطاع مغنية خلال فترة دراسته، أن يخلق موطئ قدم للمقاومة الإسلاميّة، الأمر الذي كان يومًا ما حلمًا بعيد المنال. واستطاع أن يغيّر منظور الطلبة، من منظور قائم على التنظير وحده إلى منظور يربط النظريّة بالممارسة العمليّة؛ فتمكّن بهذا من تقريب فئات جديدة من فكر المقاومة ومسارها. 

 

فصل اكتمل وآخر ما زال مفتوحًا 

 

من جهاد كـ «اسم» إلى جهاد كـ «فعل»؛ خلال دراسة مغنية في الجامعة لم يترك العمل الجهاديّ العسكريّ بل واءَم بين المسارين. في الوقت الذي كان يحثّ الطلبة على الفعل، كان هو على نحوٍ غير معلن يستكمل فصول عمله الجهاديّ خارج الجامعة. خلال عام 2012، استجدّت على عمله الجهاديّ بعض الظروف التي اضطرّته للالتحاق بصفوف التدريب في ساحة الجهاد، ما أجبره على تأجيل فصله الدراسيّ الأخير، والذي نوى استكماله بعد الانتهاء من مهمّته في التدريب والإعداد. إلّا أنّه خلال عام 2015، وتحديداً في الثامن عشر من شهر كانون الأوّل، كان مغنية في القنيطرة مع موكب من المجاهدين، حين استهدفتهم غارة جوّية صهيونيّة فاستشهدوا جميعًا. ودُفن جهاد مغنية بجانب والده في منطقة الغبيري في الضاحية الجنوبيّة في مقبرة روضة الشهيدين. 

بارتقاء مغنية شهيدًا، بقي فصل الجامعة مفتوحًا غير متمّم بتخرّجه من ساحة الجامعة التي بدأ فيها مشواره الجهاديّ، فلم يرحل جهاد كشابّ اختار المسار الجهاديّ بديلًا عن المسار التعليميّ الأكاديميّ، بل كان مساره الأكاديميّ جزءًا من مساره الجهاديّ، والذي نوى استكماله بعد انتهاء مهمّته الجهاديّة؛ إلّا أنّ غارات الغدر الصهيونيّ أكملت فصله بالشهادة الجهاديّة، دونما الجامعيّة. فارتقى جهاد قبل أن يصعد منصّة التخرّج ولم يلقِ كلمة التخريج الأخيرة. أصبح الشهيد جهاد، وهو الشابّ اللبنانيّ الجامعيّ الذي حصّل هذه المنجزات لأنّه حمل على عاتقه هذه المهمّة، وعمل عليها ضمن مسارات مجتمعه وبيئته، أصبح بعد نيله هذا النوع من الشهادة أيقونةً في عقول وقلوب العديد من الشباب العرب. كان مغنية ماكينة للعمل المقاوم الذي كانت فلسطين عنوانه، فقد كانت حاضرةً في كلامه ومحاضراته ووجدانه، ليس كتفصيل في مسار عمله، بل كانت بالنسبة له هي المقاومة بذاتها. 

« سنروي للعالم كلّه كيف تُصنع الحرّية وكيف بالدم يُصنع النصر».[2]

«نفخر بأنّنا ثمرة أعمار فتحت عينًا على الجهاد بالاختيار والإخلاص وأغمضت عينًا على الشهادة بالإرادة والعشق». [3]