يقدّم الباحث موسى السادة تحليلاً للجمود السياسي الشعبي في الخليج العربي، في ضوء ديناميكيات الدولة الريعية النفطية، وما تنتجه من تمايزات طبقية محتمية بالمَلكيّة والمشيخة النفطية. 

 

لاحظ الاقتصادي الإيطالي “جيوكومو ليوساني” أحد منظّري نظرية الدولة الريعيّة، إلى جانب الاقتصادي المصري حازم الببلاوي، غياب مفرداتٍ كالرأسمالية، والبرجوازية، والطبقة من الدراسات والبحوث المتعلّقة بالخليج العربي. تنسحب هذه الملاحظة تحديداً على البحوث الرامية لتحليل البنية الاقتصاديّة السياسيّة في المملكة العربية السعودية. [1]

بكلماتٍ أخرى، عادةً ما تُوسم هذه الدول بالدول الريعيّة والبترودولاريّة بشكلٍ أصم دون الولوج إلى تعقيدات شبكات العلاقات والمصالح الطبقيّة التي نتجت وتمظهرت بُعيد اكتشاف واستخراج مخزون النفط والغاز في الخليج.

تشكّل دول/مدن الخليج ظاهرةً فريدةً لأيّ مراقبٍ لها من زوايا عدّة؛ إذ تمثّل نمواً متسارعاً لعمرانٍ “إعجازيٍّ” في غضون عقودٍ، يحمل بدوره تعقيداتٍ وعلاقاتٍ أعمق في طيّاته. فإنْ كان ممكناً نظرياً إسقاطُ سمات الدولة الريعيّة على هذه الكيانات، مع الإقرار بالاختلافات البينيّة بينها، إلا أنها في ذات الوقت تحمل خصائصَ ذاتيةً تفصلها عن هذا الاختزال.

تشكّلت تلك الخصائص نتيجةً لطبيعة الظرف التاريخي والاجتماعي الذي نشأت فيه هذه الدول، ودورها الوظيفي السابق على هامش شبكة المصالح الاستعماريّة الجبّارة للإمبراطورية البريطانية، وصولاً إلى نموها بشكلٍ متلازمٍ مع نمو وتضخّم الرأسماليّة العالميّة تحت مظلّة الإمبراطورية الأمريكيّة.

يؤسّس ذاك النمو اليوم، وفقاً لمفردات المؤسسات المالية الدولية، “بيئةً صديقةً للأعمال”؛ أي بيئة مناسبة لتعمل فيها آلية اقتصاد السوق بفعاليّة، بشكلٍ لم يشترط التأسيس لديمقراطيةٍ ليبراليّةٍ لتعمل كناظمٍ لهذه البيئة. يطرح هذا سؤالاً عن فشل التنظير الليبرالي التاريخي حول الرابطة المتلازمة بين الاقتصاد الحر والمؤسسات الديموقراطية.

وضع كلٌّ من الببلاوي و”ليوساني” أربع ميزاتٍ تساهم في تعريف الدولة الريعيّة بشكلٍ نموذجيٍّ. أوّلها أن مصدر الريع خارجيٌّ عن ذات الاقتصاد، والثانية أن تكون الريوع مهيمنةً على النشاط الاقتصادي، بما يتجاوز 40% من إجمالي الناتج المحلي. فيما الثالثة تقضي بأنّ غالبية السكان مشاركون في عملية استهلاك وإعادة توزيع الريوع عوضاً عن إنتاجها. أمّا الأخيرة فهي أن تكون الحكومة- العائلة الحاكمة في الحالة الخليجية- المتلقّي والمستفيد الأول والأبرز للريوع. وفقاً لما تقدّم، يمكن إسقاط سمة الدولة الريعيّة على الدول الخليجيّة بشكلٍ لا لبس فيه. [2]

أسّس هذا التعريف للدراسات المحاولةَ للغور والاستفاضة أكثر في الحالة الريعية الخليجية، ليلخّصها الباحث الفلسطيني آدم هنية في خصائص اقتصاديةٍ رئيسةٍ: الأولى هي بالرجوع إلى تحليل الاقتصادي الإيراني حسين مهدوي الذي استند الببلاوي و”ليوساني” إلى طروحاته المتعلقة بالدول الريعيّة. وفقاً لمهدوي، فإنّ هيمنة الحالة الريعية تؤدي إلى جمودٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ في الدولة.

وعليه، تُوجد في نظره علاقةٌ متلازمةٌ بين الحالة الريعيّة والاستبداد الذي يقوم بتمكين سطوته عبر تقليل الضرائب وبناء شبكاتٍ زبائنيةٍ ضخمةٍ تنهي أيّ فرصةٍ لتكوين شبكاتٍ موازيةٍ تتحدّى السلطة القائمة. فيما السمة الثانية تقوم على افتراض وجود حالةٍ من “الاستقلالية النسبية” للقرار الاقتصادي للحكومة، قائمةٍ بدورها على حرية اختيار آلية توزيع الريوع بين مختلف شرائح الشعب.

أمّا الخاصية الثالثة والأخيرة فتتمثّل في الانحياز الذاتي للاقتصادات الريعيّة نحو اقتصاد الخدمات، عوضاً عن صناعاتٍ متمحورةٍ حول إنتاج قيمةٍ مضافةٍ، حيث تجنح السلطة هنا إلى حالةٍ متجذّرةٍ من الاستهلاكية والاستيراد لسهولتها في إشباع متطلّبات المستهلكين الذين يمثّلون غالبية السكان. [3]

بينما يؤكّد هنية أنّ هذه الخصائص سلّطت بالفعل على جوانب مهمةٍ من آلية عمل الاقتصادات الخليجيّة في الحقبة المابعد استعماريّة، إلا أنه يُدرج الخاصية الثانية المتعلقة بـ”الاستقلالية النسبية” في خانة التساؤل، كونها تفصل بين فضاء ما تحت اسم الدولة وفضاءٍ فضفاضٍ آخر يُسمّى التجار. ينطلق هنية، بذلك، من النظريات الماركسيّة وتحليلها للدولة، فوفقاً له يقتضي الافتراض باستقلالية الدولة التعاملَ معها ككيانٍ منفصلٍ بذاته عن الشعب، بيْدَ أنه ماركسياً لا تعيش الدولة حالةً من الغربة عن الشبكات والعلاقات الاجتماعية التي تغذّيها، بل إنّ الدولة هي محض تلك العلاقات.

يخطو هنية في تحليل الدولة الخليجّية خطوةً أبعد وأعمق، مُقارِباً إيّاها من منظورٍ يقضي بأنها عبارة عن شبكة مؤسساتٍ وعلاقاتٍ تتيح للطبقات الحاكمة ممارسةَ سطوتها الطبقيّة. وعليه، تقتضي المقاربة بأنّه على الرغم من عدم تطوّر آلية عملٍ ديمقراطيّةٍ شبيهةٍ بباقي المجتمعات الرأسماليّة، حيث تعمل الديمقراطية كشكلٍ من أشكال السطوة الطبقيّة، [4] غير أنّ الدول الخليجية أوجدت آليةً توافقيةً مختلفة.

ويوضح هنية بأنّه في ظلّ حالة الفوضى والأناركيّة التي تعيشها عملية التبادل والإنتاج في المجتمعات الرأسمالية وسعي كلّ فردٍ نحو مصالحه الخاصة، تلعب الدولة هنا دور الوسيط والسلطة “المستقلّة” عن مختلف الأطراف، صوناً للهدف الأساسي لنمط الإنتاج الرأسمالي، وهو مراكمة الثروة.

بذلك، ينحصر دور الدولة في التنظيم والحرص على عدم تشابك الأيادي الخفية إذا ما قمنا باستعارة وصف الاقتصادي الأسكتلندي “آدم سميث”. وبمقارنةٍ سريعةٍ بالنمط الاقتصادي لساحل الخليج قبل اكتشاف النفط، عاشت طبقة التجار يومها استقلالاً نسبياً عن العوائل الحاكمة التي تعمل كمندوبٍ للمصالح البريطانية؛ إذ كانت تلك العوائل قائمةً عبْر سياسةٍ ضريبيةٍ تقضي بجباية الأموال من تجار اللؤلؤ والمزارعين والصيادين. [5]

غير أنّ انعدام تلك الديمقراطية الليبرالية في الحالة الخليجية أنتجَ حالةً اقتصاديةً فريدةً؛ إذ إنّ الدولة هنا لا تسعى للعب هذا الدور الناظم والوسيط “المستقل”، إنّما استحدثت آليةً ناظمةً داخليةً بشكلٍ ذاتيٍّ. إنّه من المستحيل خليجياً الفصلُ بين الدولة والقطاع الخاص والطبقة الرأسمالية، وافتراض “استقلالها” عن بعضها البعض. يعود ذلك إلى التمازج والانصهار بين رموز القطاع الخاص من جهةٍ، وأفراد السلالات الملكيّة والشيوخ وشبكة العلاقات المتّصلة معها، من جهةٍ أخرى.

إنّ الدولة المعاصرة اليوم قائمةٌ عبْر ما هو أشبه بمصافحة اليد اليمنى لليسرى، حيث يقوم الأمير والشيخ أو مسؤولٌ بخصخصة قطاعٍ عامٍ ما يرأسه بيده اليمنى ليسلّمه لشركةٍ “خاصةٍ” يملكها هو أو من ينوب عنه بيده اليسرى.

إنّ النيوليبراليّة خليجياً تعني عملية نقل ملكية القطاع العام من مالكه الملك والأمير إلى الملك والأمير، لكن بصفته هنا مستثمراً. ومن أجل فهم التمايز الطبقي وسطوته في الخليج، وجب فهم شبكة العلاقات القائمة وتتبّع جذورها، وصولاً الى آبار النفط ذاتها.

ولادة طبقةٍ من رحم شبكات الريع

أدى اكتشاف النفط بكمياتٍ تجاريّةٍ إلى تطورٍ كبيرٍ في طبيعة دور العوائل الحاكمة وطريقة فرض سطوتها، والتي تحوّلت إلى محتكرٍ يتقاسم موارد النفط بنسبٍ مختلفةٍ مع البريطانيين. أفضى هذا الاحتكار إلى تضخّم دورها ومركزيّته، حيث قامت تلك العوائل بشراء طبقة التجار القديمة في كلٍّ من قطر والكويت، كما تشير الباحثة الأمريكية “جيل كرستال”. [6]

هذا الابتلاع شهدته كلٌّ من الدول الخليجية الصغيرة في البحرين وقطر والكويت، بينما امتدّ الأمر في الإمارات إلى منح الإمارة النفطية أبوظبي سطوةً على باقي أخواتها في ما كان يُسمّى بإمارات الساحل المهادن. فيما كان المشهد مختلفاً بشكلٍ أكبر في السعودية نظراً للجغرافيا الأوسع والبعد المناطقي الفجّ لأصل العائلة المالكة.

بذا، بدأت عملية تكوين شبكة علاقاتٍ ومصالح غير اعتباطيةٍ قائمةٍ على ضمان الولاء العشائري والمناطقي وحتى الطائفي، في مشهدٍ متكرّرٍ في الدولة العربية القُطرية ما بعد الاستعمار بشكلٍ عام، لم تكن فيه الجمهوريات العربية في سوريا والعراق، مثلاً، استثناءً عنه. ففي البحرين، أخذت عملية بناء تلك الشبكات بعداً طائفياً؛ إذ استنسخ البريطانيون في كلّ بقعةٍ خليجيةٍ عمليةَ توكيل شؤون البلاد قبل النفط لقبائل معينةٍ ذات امتداداتٍ وعلاقات مع مثيلاتها. [7]

لعب آل خليفة هذا الدور رغم كونهم قادمين جدداً لها، مكوّنين طبقةً عليا ذات لونٍ طائفيٍّ وقبليٍّ معينٍٍ، كانت تجبي وتحصّل الضرائب قبل اكتشاف النفط، خصوصاً مع شغْل الأغلبية الشيعيّة التي تشكّل الهوية الطائفية نسيجها الاجتماعي، لا الحالة القبليّة، لأبرز “المهن الدنيا” من زراعةٍ وصيدٍ.

جعلها ذلك تمثّل الطرف الدافع للضرائب في المعادلة، والمُستثنى من الشبكات المباشرة لتوزيع الريع النفطي، لينعكس ذلك على هيئة شرخٍ طبقيٍّ بصبغةٍ طائفيّةٍ، لا تزال تقاسيه الجزيرة الصغيرة حتى اليوم من انقسامٍ عموديٍّ وأفقيٍّ للمجتمع. 

أمّا المشهد في السعودية فاكتسب شكلاً أكثر تعقيداً؛ إذ لعبت حقيقة أنّ المُلك السعودي مثّل عملية تمدّدٍ وتوسّعٍ مناطقيٍّ نجديٍّ عسكريٍّ بهويةٍ دينيةٍ عصبيةٍ، دوراً محورياً في تكوين شبكة المصالح وآلية توزيع الريع والمنافع والمناصب بشكلٍ عائليٍّ.

أفضى هذا إلى تطوّر الطبقة الرأسمالية الحديثة والمعاصرة التي تتفاعل اليوم مع الملكيّة كمؤسسةٍ وأمرائها بشكٍل مختلفٍ، حيث تراها جزءاً من هويتها وهوية الوطن. انعكس هذا على هوية الانقسام الطبقي الحالي، وحجم التراكم التاريخي للثروات في العاصمة الرياض ومحيطها. تُعتبر تلك الطبقة الرأسمالية ذاتَ الطبقة الحاملة للواء ما تُسمّى برؤية 2030، فلا يجاريها من بعيدٍ سوى عوائل محدودةٍ في منطقة الحجاز التي تكتسب أهميتها من موقعها الديني المتمثّل بمواسم الحج والسياحة الدينية.

يؤسّس هذا الجذر التاريخي لقيام الدولة/العائلة في الخليج لفهم طبيعة تكوّن الطبقة الرأسمالية الخليجية اليوم، وكذلك طبيعة باقي مختلف الطبقات. غير أنّ فرادة الحالة الخليجية هنا مكّنت من تحييد تطور هذا التمايز الطبقي إلى صدامٍ مستمر، فمحض وجود الاختلاف الطبقي في مجتمعٍ ما ليس كفيلاً بتحويله إلى صراعٍ، وبالتالي إنهاء حالة الجمود السياسي والاستمرار في ديمومة الجدلية التاريخية.

فبالرجوع إلى حسين مهدوي [8] الذي استخلص من خلال تحليله لبنية الاقتصاد الإيراني ما بين الخمسينيات والستينيات، أنّ ثمّة توأمةً بين الجمود الاجتماعي أو ما يمكن التعبير عنه بالكسل ونمط الاقتصاد الريعي، نراه ينتهي إلى نتيجةٍ مفادها أنه يتوجّب على الإيرانيين قلب البنية الاقتصادية، وتبنّي سياساتٍ متمحورةٍ حول الصناعة، ليس لغايةٍ اقتصاديةٍ صِرف، بل لبثّ الروح في حركة البنى الاجتماعية، وبالتالي التأسيس لعمليةٍ سياسية.

التطبيع في ضوء جدليّة المركز والهامش

شكّلت الوفرة الريعيّة التي أنتجتها الطفرة النفطيّة في السبعينيات حلقةً محوريّةً في تطوّر المجتمعات الخليجيّة وعلاقتها بالسلطة؛ إذ أنتجت تلك الطفرة زخماً في حجم توزيع آلية الريع رغم عدم تناسب الحصص بين مختلف شرائح الشعب.

أثّر ذلك بشكلٍ مباشرٍ على طبيعة الحراك السياسي في الخليج الذي شهد عصره الذهبي قبل الطفرة النفطيّة، خصوصاً مع الأخذ بالاعتبار عملية التصفية المتعمّدة للحالة العمّاليّة في الخليج، وبدء عملية إزاحةٍ سكانيةٍ من شرق آسيا، عبْر استيراد طبقةٍ عماليّةٍ معدومة الحقوق ومضمونة الولاء بأكملها لتستبدل بها العمّال المحليين. [9]

فتحديداً في عام 1975، أصدر الملك السعودي خالد عفواً شمل مجمل التيارات اليسارية العاملة في الخارج، وكذلك أصدر قراراً بالإفراج عن المعتقلين في الداخل ليعود معارضو الخارج، ويتمّ ضمّهم في شبكة الريع المتوسّعة منذ أزمة النفط عام 73. على إثر ذلك، تحوّل هؤلاء من النضال السياسي إلى منتمين جددٍ للنخب، وما يُطلق عليهم بالوجهاء خصوصاً في المنطقة الشرقية. [10]

انعكس ما سبق سلباً على شعوب الخليج العربيّ من جميع النواحي، حيث أنتجت الحالة الريعيّة نمطاً إنتاجياً مشوّهاً تعيش غالبية سكانه خارج حيّزه الإنتاجي. بذا، أفضت حقيقة تلاحم الاقتصادات الخليجية مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي إلى هيمنة الحالة الاستهلاكية بكلّ تمثّلاتها المادية والثقافية والهوياتيّة.

اتّخذت آليّة الصراع مع السلطة جرّاء ذلك بعداً هوياتيّاً مع الصحوة الإسلاميّة وعمليات التمّرد المدفوعة بشكلٍ أساسيٍّ بالاختلاف الفكري، لا التمايز الطبقي القائم على البعد والقرب من مركز مراكمة الريوع. هيمنت تفاسير الصراع والأزمات القائمة على تقسيم المجتمع عمودياً على أسسٍ دينيّةٍ ومذهبيّة، إذا ما استثنينا كلّاً من محافظة القطيف في السعودية والبحرين، والتي طالما كانت بؤر تمردٍ بشكلٍ نسبيٍّ يحيلها بعضهم إلى “الثوريةّ” الذاتية في التراث والأدبيات التاريخيّة الشيعيّة- والتي بالطبع لعبت دوراً محفّزاً- غير أنّ حالة الحرمان والإقصاء من قلب ومركز شبكات الدولة إلى هامشها كانت الفاعل الرئيس.

وكشاهٍد على جدليّة المركز والهامش في الخليج، شكّلت ردات الفعل الشعبية على تظهير التطبيع بشكلٍ رسميِّ لكلٍِّ من البحرين والإمارات مع العدو الصهيوني، تبياناً واضحاً لمديات الحدّ الفاصل بين مراكز شبكات توزيع الريوع وهوامشها.

فمن جهةٍ، لعبت حقيقة ابتلاع الواردات النفطية لأبوظبي لجلّ المواطنين في الإمارات السبع، والذين يشكّلون قرابة المليوني نسمة من أصل تسعة ملايين من السكان، دوراً في انعدام أيّ ردة فعل شعبيّة على التطبيع، باستثناء عددٍ من الإماراتيين المقيمين في الخارج، ممّن يحملون خصومةً أيديولوجيةً مع النظام. فحتى الإمارات التي عُرف عن حكامها تبنّيهم مواقفَ مساندةً للقضايا العربية، وقفت أسيرةً لعلو الكعب المركزية الاقتصادية البترودولاريّة لأبوظبي.

بالمقابل، انعكست الاستثنائيّة التاريخيّة لمدى توسّع شبكة الريع في البحرين، والتي أنتجت هامشاً فجّاً لأسبابٍ طائفيةٍ متعلّقةٍ بتمكين الولاء، على حجم وشكل ردة الفعل الشعبية على خيانة الطبقة الحاكمة. لم تلعب حقيقة التهميش هنا حافزاً لمناقضة ومناكفة النظام فحسب، بل ساهمت في امتزاج الوجدان الشعبي في البحرين مع نظيره العربي في فلسطين على أساس وحدة المصير وترابط القضايا.

بالإضافة الى ذلك، أعادت خيانة الملكية البحرينيّة الزخمَ لحراكٍ سياسيٍّ وجماهيريٍّ مُجهضٍ، حيث اتّخذت الجمعيات السياسيّة المعارضة موقفاً من النظام أكثر حدّةً، ولتنشط التظاهرات الأسبوعيّة في جيوب وأزقة القرى من جديدٍ. كما استرجع الموقف من قبول التطبيع ورفضه ذاتَ الشرخ والاستقطاب بعنوانه السياسي/الطائفي ومضمونه الطبقي، والذي برز إبان الانتفاضة الشعبية بداية العقد الجاري، لتتمترس ذات الأوجه والعوائل المرتبطة مصالحها مع سلالة آل خليفة في خندق المطبّعين أمام الشرائح الشعبيّة المنتفضة والمهمّشة في القرى.

الملكيّة كحامٍ للطبقة

وصلت الممالك والمشيخات الخليجية اليوم إلى مفترق طرق، فالمقامرة العبثيّة التي تلت الطفرة النفطية وصلت إلى حدّها مع الأزمات النفطية المتلاحقة والمتصاعدة. بيْدَ أنّ المسألة تتعدّى بعدها الاقتصادي؛ ذلك أنّ الممالك الخليجية تشكّل حالةً شاذةً وركيكةً عن تاريخ الأنظمة الملكيّة حول العالم، خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار طريقة تفاعل الأنظمة الملكيّة من اليابان إلى هولندا مع صعود الرأسماليّة وتضخّمها.

تاريخياً، سطّرت الأنظمة الملكيّة طوال التاريخ البشري أقوى البنى والتراكيب التي تتجذّر في وعي الشعوب المحكومة، بشكلٍ جعلها تعمّر طويلاً، عابرةً بذلك للتغيّرات والنقلات النوعيّة الاجتماعية في التاريخ، وعلى وجه الخصوص مناورتها الأبرز بعد صعود البرجوازية الأوروبية، وتهديدها لثلاثي النظام القديم من مؤسسةٍ دينيّةٍ بأشكالها المتعدّدة شرقاً وغرباً، والعوائل الملكية، والإقطاع. نجحت، بذلك، الملكيّة في المساومة عبر تقنين صلاحياتها دستورياً والبقاء، بل في ترويج ذاتها كأحد المنافع والأدوات التي تستغلّها البرجوازية المحليّة.

إنّ الملكيّة هنا تتعدّى كونها نظام حكمٍ أو تعبيراً عن شرعيةٍ دينيةٍ محدّدةٍ، بل إنّ صُلب الحاجة العمليّة تكمن في كونها إحدى أدوات تعبير الهويات القوميّة الصاعدة عن ذاتها بشكلٍ متجذّرٍ في الوعي الجمعي للشعوب، ما يفسّر نجاحها بالبقاء على نحوٍ لافت. فحتى مع هروبها إلى المملكة المتحدة جراء الاجتياح النازي ونهايتها عملّياً، نجحت ممالك هولندا وبلجيكا في إعادة إنتاج نفسها، كون أنّ الشعب- البيض وليس السود والسمر من المهاجرين وأحفاد العبيد- ينظُر لها كأحد أعمدة الوطن وهويته.

ينسحب ذات الأمر على الحالة التي أعقبت الاحتلال الأمريكي لليابان، فعلى رغم شغْل الملكيّة دوراً في مشاركة الفاشية اليابانية في الحرب العالمية، قرر الأمريكيون الإبقاء عليها كوحدةٍ أساسيّةٍ في إعادة بناء اليابان، خصوصاً على الصعيد الهوياتي، رغم تشكيل الحقبة نهايةً لعصمة وألوهيّة الإمبراطور الياباني الذي وقف أمام الشعب، معلناً بأنه ليس بإله. 

تعاني هذه الملكيّات اليوم من أزمةٍ وجوديّةٍ مرتبطةٍ بتصاعد تناقضات الرأسمالية في المركز مع ذاتها. ففي اليابان كما في الغرب، تتمسك الحركات اليمينيّة المتطرّفة بالملكيّات كنوعٍ من الحيميائيّة على الهوية والتقاليد أمام موجةٍ تهدّدها الآن اقتصادياً وأيديولوجياً. ذلك أنّ تمظهر العوائل الملكيّة كجزءٍ لا يتجزأ من الإرث والهوية القوميّة يتصدّع اليوم، وإنْ كان وجب التعلّم من التجربة التاريخية والتريّث قبل الحكم بانتهائها.

أمّا في الحالة الخليجيّة فعمر هذه الممالك القصير جداً، والتي انبثقت بدورها كنتيجةٍ مباشرةٍ لتبعات السياسات البريطانية- لم تنبت بشكلٍ ذاتيٍّ ومستقلٍّ من بيئتها الاجتماعية- يحيلنا إلى دورها الاقتصادي مع المركز الرأسمالي الغربي.

إنّ المشيخات أسيرة ركاكةٍ بنيويّةٍ، نظراً لاعتماد وجودها على شريان الريع النفطي، إلا أنها تتمايز من ناحية حجم شبكة علاقاتها المادية وأثرها على الوعي الشعبي. ففي الكويت مثلاً، شهدت في التسعينيات إبان الاجتياح العراقي تكراراً للحدثين الهولندي والياباني عندما قامت الولايات المتحدة بإعادة العائلة الملكيّة إلى سدّة الملك، وتم تقبّل ذلك شعبياً. يُعزى هذا إلى كون الحالة الأميرية الكويتية متصلةً تاريخيّاً على نحوٍ مباشرٍ مع جميع أفراد الطبقة الحاكمة من الرأسماليين والتجار جميعهم على اختلافاتهم المذهبية.

ينطبق الأمر عينه على الحالة القطَرية بعد الأزمة الخليجية الحالية؛ إذ تتمترس الطبقة الرأسمالية خلف الحكم الأميري لتميم بن حمد، لتتمترس بذلك حول ذاتها، ما ينعكس على النظرة الشعبية للدواوين والمؤسسة الأميريّة ككل. بالمقابل، تتمايز الحالة السعودية نظراً لحجم السكان واختلافه الديمغرافي والجغرافي، ما جعل من الأغلبية الشعبية تعيش خارج شبكة المصالح الطبقية الملكية، وعلى هامشها، وبالتالي اختلاف العلاقة الشعبية مع ذات الملكية كمؤسسة.

أمّا فيما يتعلّق بالأزمة النفطية الحالية وانعكاسها السياسي، فيصعد الحديث عن أنّ زمن الانتقال للمرحلة الدستورية قد حان، أو ما يعبّر عن المشاركة الشعبية. فعلى الرغم من وجود تجارب دستوريةٍ مترهّلةٍ وعقيمةٍ في البحرين والكويت، إلا أنّ العديد من النخب السياسية الخليجية تعيد التنظير بتكرار التجربة، وإنما بفعاليةٍ أفضل.

تفتقر المسألة هنا إلى صوابية التشخيص تارةً، وتعبّر عن رغبويّة ليبراليّة تارةً أخرى، وليصطدم كلّ ذلك مع حقيقة الاختلاف البنيوي لآليّة عمل الملكيات الخليجية عن غيرها، تحديداً من جانبين: فالمنادون بالدستوريّة اليوم في أغلبهم هم من ذات طبقة المنتفعين من شبكة العلاقات العميقة للدولة، والذين أنتجت تناقضات المؤسسة الحاكمة مع ذاتها إزاحتَهم.

وعليه، عانى هؤلاء من فشل الحالة التوافقية التاريخية، ويحاولون اليوم إعادة هيكلة شروط اللعبة وتنظيمها دستورياً. فمن ناحيةٍ هوياتيةٍ، فلا تناقض لهؤلاء من الهوية الوطنية لكلّ دولةٍ خليجيةٍ، والتي بُنيت بشكلٍ متلازمٍ مع الذات الأميريّة والملكيّة، واللتين تُعتبران جزءاً تاريخيّاً منها، بشكلٍ مشابهٍ للمجتمعات البيضاء في الملكيات الأوروبية.

لا يجد هؤلاء مشكلةً في إعادة تقنين الدواوين الملكية والأميرية، ولعبها دوراً كجزءٍ من وطنية البلاد، متجاهلين الاختلاف الجوهري لطبيعة علاقة أغلبية السكان ونظرتهم للمؤسسة الملكية وتاريخ تفاعلهم وتناقضهم معها منذ عهد الاستعمار وقيام الدولة.

أمّا الجانب الآخر فيتمثّل في طبيعة العملية السياسية المفترضة تحت مظلّة “المشاركة الجماهيرية”. ففي ظلّ الحالة الريعية والشرخ الهوياتي العمودي الناخر للهويات الوطنية الخليجية المفترضة، لا يمكن إنتاج عمليةٍ ديمقراطيةٍ على أساس جماعاتٍ سياسيةٍ خارج آلية توزيع الريع التي تقودها الطبقة الحاكمة وتمظهراتها الهرمية القبليّة والطائفيّة، كما شهدنا ونشهد من “صندوقراطيات” في البحرين والكويت والعراق.

كلمة أخيرة

أخيراً، يمكننا القول إنّ العملية السياسية في الخليج تحتاج إلى فضّ الجمود الذي أنتجته الحالة الريعيّة، عبْر تبني سياساتٍ صناعيةٍ تصوغ المجتمع على أساسٍ منتجٍ صناعياً وثقافياً وسياسياً، وتفكيك شبكة العلاقات المادية القديمة والهوية الوطنية الهزيلة التي أنتجته.

يتطلّب ذلك تنظيم المجتمع على أسس توجّهاتٍ سياسيةٍ، لا هوياتيةٍ محكومةٍ بالمنفعة المادية، وهو أمرٌ لا يمكن تحقيقه دون التفكير والعمل على تأسيس عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يتناقض مع الموروث، والبنية الملكيّة وجميع تمظهراتها المادية والهوياتية.

****

الهوامش:

[1] Luciani, G. 2006. “From Private Sector to National Bourgeoisie: Saudi Arabian Business,” P. 145.
[2] Beblawi and Luciani, 1987. “The Rentier State” P. 86-88
[3] Hanieh, Adam. Capitalism and Class in the Gulf Arab States . Palgrave Macmillan US. Kindle Edition.
[4] تتنكّر النخب بثياب الديمقراطية بتعبير الباحث اللبناني علي قادري، فتقوم بتنظيم اختلافات أطراف الطبقة الحاكمة خلال صيرورة مراكمة الثروة، والتأكيد على ديمومة تصفية أيّ تهديدٍ أو تحدٍّ لهذه السطوة الطبقية.
[5] تصدير الثروة واغتراب الانسان: تاريخ الخلل الانتاجي في دول الخليج العربية، للكاتب عمرهشام الشهابي
[6] Crystal, J. 1995. Oil and Politics in the Gulf: Rulers and Merchants in Kuwait and Qatar.
[7] Hanieh, Adam. Capitalism and Class in the Gulf Arab States . Palgrave Macmillan US. Kindle Edition.
[8] Mahdavy, H. 1970. “The Patterns and Problems of Economic Development in Rentier States: The Case of Iran
[9] تصدير الثروة واغتراب الانسان: تاريخ الخلل الانتاجي في دول الخليج العربية للكاتب عمرهشام الشهابي
[10] Matthiesen, T. (2015). The other Saudis Shiism, dissent and sectarianism. New York, NY: Cambridge University Press.