توطئة
يستعرض رادار ثلاث مقالات نُشرت خلال شهر شباط تناقش نضال المُستَعمَرين المستمر في المعارك المختلفة التي يشنها المستعمر. إذ يتحدث المقال الأول عن آخر المشاريع الاستعمارية التي ينفذها الكيان الصهيوني، والذي يتمثل بمشروع “الضم” الاستعماري”. فيما يناقش المقال الثاني ما يحاول المستعمر فرضه من ممارسات ساعية لتفكيك العلاقات الاجتماعية الفلسطينية سواء فيما بينها أو مع امتدادها الطبيعي العربي وعزل الفلسطيني عن محيطه. أما المقال الثالث يناقش خلاله المفكر العربي مهدي عامل ما نظر له فرانز فانون من فكرٍ وممارسةٍ للتحرر الثوري ودور طبقات المجتمع المختلفة فيها.

*****

الاستيطان في الضفة الغربية: عن الضمّ كصيرورة مستمرة

في مقاله المنشور على حبر، يعيد باسل رزق الله سرد إحدى البديهيات المتعلقة بالاحتلال، ويذكّرنا أنّ واحدةً من أهمّ أهداف الاستعمار الصهيوني هو سلب الأرض من أصحابها، الذي ينتهج التوسّع وبسط اليد على أكبر مساحةٍ ممكنة منذ وطئت أقدام الصهاينة بلادنا، ولا يسعنا التفكير في نقيضٍ لها ما دام الاحتلال موجوداً.

وفي هذا السياق، لم يكن “مشروع الضمّ” خارجاً عن نهج الاستعمار، بل متّسقاً معه بشكلٍ نقيٍّ جداً وواضح، إذ من الغريب أن لا يسع بعضُنا رؤيته بهذه البداهة أو مجرّد التفكير في احتمالات تراجع الاحتلال ما وراء خطٍّ معيّنٍ يُحدّد بطريقةٍ ما، وإنّما يدعوهم بالشطحان ما وراء كلّ حدٍّ مرئيٍّ، وشطحانٌ يتبعه شطحان، وهو ما عبّر عنه “بن غوريون”: “ليست هناك أيّة حدودٍ مُطلقةٍ”، فهذا التوسّع عمليةٌ ثابتةٌ ومتلازمةٌ بالاستعمار، الذي نعتبره بُنيةً -وليس حدثاً وحسب- يحاول إحكام سيطرته على الدوام بشتى السّبل.

ويأخذنا رزق الله على موجةٍ من النقاشات والادّعاءات التي تبعت موجة إعلان الضمّ، وتسلّق بعض الأنظمة العربية، كالإمارات، فضلاً عن السلطة الفلسطينية على القرار، وتبرير إقدامها على الخيانة؛ على التطبيع وعلى التنسيق الأمني، بنيّتها “الطيبة” في إبطال مشروع الضمّ، وهو ما تمّ نفيه بالتوالي من حكومة “نتنياهو”، وهو المتوقّع والبديهيّ. بل على العكس، شكّلت عمليات السلام العربية والداخلية مع الاحتلال غطاءً لمزيدٍ ومزيدٍ من السيطرة على الأراضي وبناء الوحدات الاستيطانية، وأضحى الحديث عن العمل على تطوير شبكة الطرق وتحسين الخدمات في الضفة ثمناً لسكوت السلطة.

وعلى الطرف الآخر من عملية التوسّع الجغرافية والبناء، نفّذ الكيان الصهيونيّ حملاتٍ واسعةً من هدم المنشآت الفلسطينية مؤخّراً، بقيت على إثرها مئات العوائل الفلسطينية بلا مأوى، وما يزال هذا الخطر يهدّد أحياء بطن الهوى وحيّ الشيخ جرّاح والأغوار، وغيرها الكثير. وهكذا شهدت عملية السلام عملية مُقَولبةً تماماً لما رسمه أصحاب السلطة أو برّروا له، فشهدت بناءً وتوسّعاً لحساب الصهاينة، وهدماً لنا ومزيداً من التعدّي علينا.

إذن، بِضمّ أو بدون ضمّ، تشرع المخطّطات الصهيونية إلى التوسّع على الأرض، في الوقت الذي تتمسّك فيه السلطة بخطابٍ ظاهريٍّ برفض الضمّ، فقط لكونه يهدّد مشروع “حل الدولتين” المتخلخل الذي بنت السلطة عليه سياستها وكلّ وجودها، ولم يكن ما سبق بفضل ترامب كما يعتقد البعض، بل إنه صيرورةٌ بدهيةٌ للعملية الاستعمارية التي بدأت عام 1948 ومن ذي قبل، واستمرّت مع وجود الاحتلال.

ولعلّنا إذ نرجع إلى الماضي قليلاً، فقد كانت الخطوة الاستباقية للضمّ، في تقسيم الأراضي حسب ما جاء في اتفاقية أوسلو، وهكذا مهّدت لقراراتٍ لاحقةٍ يتمكّن الكيان الصهيوني على إثرها في ضمّ الأراضي -وأكثر ما تضمّ من الأراضي ذات المدّ الأخضر والخالي من الوجود الفلسطيني الثابت و”المُقونن”، وبهذا يحقّق الاحتلال هدفين، مزيداً من الأراضي، وإزاحةً كاملةً لأيّة ديموغرافية مُحتملة أو مؤقتة للوجود الفلسطينيّ في هذه الأراضي، وتظلّ هذه المشاريع، الوزن الأثقل الذي يرجح نتائج الانتخابات في دولة الكيان الصهيونيّ لمن يكون أشدّ جذريةً في أدائه تجاهها.

لقراءة النص، من هنا

*****

التواصل: ما بين تهمة المستعمِر والتحرّر الوطني 

في هذا النص المنشور على منصّة اتجاه، يكتب أمير مرشي عن حملة “متواصلون” الإلكترونية المُناهضة لحملة الاعتقالات التي نفذها جيش الاحتلال الصهيوني وطالت فلسطينيين في الضفة الغربية وفي الأراضي المحتلة عام 1948 بذريعة تواصلهم مع فلسطينيين آخرين وعرباً خارج التقسيمات الاستعمارية المفروضة. استهدفت هذه السياسة -أو خُيّل لها- ارتباط الفلسطينيّ ببقية أجزائه وانتماءاته الواسعة، والتي ترى في التواصل فعلاً سياسياً. وهو تماماً ما سعت له القوى الاستعمارية منذ أن وطأت بلادنا، وجعلته منهاجاً لها لتسهيل مهمّة السيطرة على البلاد. وفي ظلّ محافظة السلطة على ما قام به الاستعمار من تقسيم، سعى الفلسطينيون إلى تجاوز هذا التقسيم الاستعماري واستعادة هذا الامتداد الاجتماعي الطبيعي بالتواصل مع أصدقائهم وأقاربهم من فلسطينيين آخرين سواء في أقسام الوطن ذاته، أو في أقطارٍ أخرى، أو مع أصدقائهم العرب.

تعود أولى محاولات الشرذمة هذه إلى “جابوتنسكي”، إذ دعا ومنذ انطلاق الحركة الصهيونية إلى لزوم اتباع مبدأ الجدار الحديديّ الذي يتضمّن تكتيكاتٍ عدّة واستراتيجياتٍ تهدف إلى التقسيم لتسهيل التصدّي لمقاومة الفلسطينيين أصحاب الأرض إزاء استعمار بلادهم، وغياب شدّة الأزر التي كانت ستكون أكبر لولا هذه التقسيمات الملعونة. ومن هنا، يرى المستعمر في فعل التواصل أساساً وقاعدةً تُفضي إلى التحرّر والانفكاك من الاستعمار.

يأتي هذا الفصل الأليم على نطاقين؛ عزل الفلسطينيين عن بعضهم، وخلق التقسيمات على الأرض، وفصل الفلسطينيّ عن أرضه وانتزاعها منه. قامت نكبة عام 1948 ونكسة عام 1967 بالاثنتين، لكنّ الاستعمار لم يكتفِ بذلك، ولتحقيق مزيدٍ من الأولى، استخدم الجدار الحديديّ الذي تمظهر بعدّة أشكالٍ؛ الجدران الاسمنتية العالية وسلاسل المستوطنات العالية، والتي قام بها الاحتلال لتسهيل العملية الاستعمارية والسيطرة على المجتمعات التي تصبح أسهل بهذه التجزئة، وحسب التخمينات، ستكون المقاومة الناجمة عن هذه المجتمعات ذات حدودٍ جغرافيةٍ محدّدة وتسهل السيطرة عليها.

وهنا، يطرح الكاتب سؤال حياةٍ أو موتٍ: “لماذا نتواصل“؟

تنهال الإجابات من عقل القارئ من كلّ النواحي، وإن لم تُذكَر كلّها في المقال لبداهتها، ولكن يلخّصها لنا مرشي في عدّة أسبابٍ؛ إذ سعت هذه التحرّكات إلى توحيد العمل السياسيّ الفلسطينيّ، فكراً وفعلاً، وإعادة تذويب الحدود التي فرضها الاحتلال والتي أعادت وما تزال، لمّ شمل أوصال الشعب الفلسطيني في كلّ مكانٍ، وفتحت عليه إمكانيات العمل والتواصل مع محيطه الجغرافيّ العربي. تضمّن ذلك جهود الحركات الطلّابية الفلسطينية التي التزمت بمفاهيم العمل الوحودي بصرامة وجدّيةٍ، فضلاً عن الحراكات الأخيرة التي انتهجت نهجاً جديداً يضمن عملاً وطنياً جماعياً موحّداً يطال كلّ الفلسطينيين، انتشرت شعاراتها على جدران كلّ مدينةٍ وقريةٍ ومخيّمٍ فلسطينيٍّ، في الداخل والخارج.

وبهذا يكمُن تفكيك الاستعمار في تفكيك سياساته الساعية إلى إحكام السيطرة، فضلاً عن إعادة بناء الذات الفلسطينية وتعريفها آخذةً بعين الاعتبار علاقتها بكل الفلسطينيين والعرب في كلّ البقاع الجغرافية.

لقراءة النص، من هنا

*****

فكر فرانز فانون الثوري 

في هذه الدراسة المترجمة عن النص الأصلي لمهدي عامل، والتي نُشرت ترجمتها مؤخّراً في العدد الثاني من مجلة التقدمي، الصادرة عن مركز بيسان للبحوث والإنماء الفكري، يناقشنا عامل عن الفكر الثوري الذي نظّر به “فرانز فانون” ومارسه، ووضعها في إطارٍ يناقش ماهيّة العنف التحرّري، والذي يُنسَب أصْلُ وجوده أساساً إلى وجود الاستعمار في بلادنا، إذ قسّم الأخير الشعوب إلى قسمين: بشرٌ، ومن هم دون البشر، فكان الصراع الذي دارت رحاه في خضّم البنية الاستعمارية بين هذه الأطراف، وفي الوقت الذي كانت فئة “ما دون البشر” مُستبعَدةً من حسابات الاستعمار، قادت أكثر النضالات جذريةً، انطلاقاً من كون الاستعمار قائماً على ظهورها، وكونها أكثر الفئات تضرّراً، وهو ما لم يحصل لطبقة البرجوازية الوطنية مثلاً، التي وعلى العكس، قامت على ظهور الاستعمار، وحاولت استبقاءه في سبيل استبقاء ذاتها.

وهكذا، تبدأ شرارة الثورة دائماً، من الطبقة التي يحكمها البؤس، فتتصدّى له من كونه مصيراً محتوماً، وتتجاوزه إلى الفعل لتغيير الواقع، وهو ما شكّل تهديداً للاستعمار ووجوده الذي يسعى ليُهيمن على التاريخ ويحتكره.

يعرّج عامل على ما قام به “فانون” في فكره الثوري، من ربط ماضيَ الثورة بمستقبلها وواقعها “حاضرها الآني”، فالثورة تتجاوز كونها رومانسيةً صوفيّةً إلى كونها فعلاً حقيقياً تكون له تبعاته الجذرية على الأرض والفكر. وفي الوقت الذي يسعى فيه الاستعمار إلى التقسيم، يرفض “فانون” حتى التقسيم والفصل بين العقل والقلب، الذي لا يكون نفَسٌ ثوريٌ بلا أحدهما، ولا يكون فعلٌ إلا بفتيل فكرٍ ينتمي إلى الأرض، يرفده العقل والقلب في آنٍ معاً. ولكي يستمدّ هذا الفكر معناه، عليه أن يحتّكّ بواقعه وما فيه من إشكالياتٍ، ويتعرَض للنقد ونقد النقد، وإلا فلن يكون بنّاءً صلباً، مُنتمياً إلى بيئته. ولاحقاً، لن يستمدّ الفعل “العنف” المبنيّ على الفكر أيّ معنىً إلا إن قمنا بربطه بخلفيةٍ ضرورية، ليست وطنيةً وحسب، بل سياسيةً واجتماعيةً وواقعيةً أيضاً، وبزمنٍ يرمي بنا إلى المستقبل لا إلى الماضي.

وفي خضمّ حديثه عن الفعل، الذي يرمي في نهاية مطافه إلى القضاء على الاستعمار؛ فإنّ ذلك يتطلب عمليةً إحلاليةً عكسية كالتي فعلها الاستعمار لدى وصوله، ولا يكون ذلك إلا بالعنف الجذري والبسيط في آنٍ، تبدأ أولى مراحل الفعل من الخيال المانويّ ومكوّناته المتطرّفة على ناحيتين، شرٌّ مُطلَقٌ “استعمار” وخيرٌ مُطلَقٌ “مُستعمَرين”، تجعل إمكانية الاستمرار بهذين المتناقضين غير محتملٍ. وبإصرار الاستعمار على الوجود، لم يكن من خيارٍ إلا تجاوز الخيال الحالم بواقعٍ خالٍ من المستعمر، إلا الفعل العنيف وحمل السلاح، لحلّ هذا التناقض وهدم النظام الكولونيالي وتاريخه، حيث “لا يمكن أن تولد حياةٌ بالنسبة إلى المستعمَر إلا على جثّة المستعمِر المتحلّلة”!

يستدرك عامل حديثه، فقبل التوجّه إلى تفكيك النظام الكولونيالي بالطرق الجذرية، من المهمّ تكسير البنية الاستعمارية والعراقيل التي أفرزها المستعمِر أثناء دخوله ووجوده في البلاد، من مثل التمايزات بين طبقات المجتمع، فضلاً عن توحيد اتّجاهات نضالات الشعب ومعانيها. كما أنّ العنف يشكّل مرحلةً أولى لحظيةً يستلزم تشكيلها وربطها بلواحقها بما يتناسب مع بناء مجتمعٍ حرٍّ في مستقبله وتأطيره ضمن هذا الامتداد.

ولمزيدٍ من التفصيل حول طبقات المجتمع، فقد شكّل الاستعمار عدّة طبقاتٍ في المجتمع، الطبقة البرجوازية الوطنية التي تنسجم مصالحها في كثيرٍ من الأحيان مع وجود الاستعمار، وطبقة البروليتاريا التي اضطرت تبيع جهدها -أكثر ما تبيعه- إلى “المجتمع” الاستعماري، والمتضرّرة في موقعها في المدن، وطبقة الفلاحين الأصيلة، هذه الطبقة الأكثر تضرّراً من وجود الاستعمار، والتي تفوّقت على الآخرين بالعفوية الثورية، وشكّلت عائقاً أمام كلّ الطرق الملتوية، كالتفاوض والثورات السلمية، التي تمارسها البرجوازية الوطنية في شطحات خيالٍ تحدّثها أن ذلك سيخفّف من وطأة الاستعمار. أو نهجيةً؛ حيث يشكلّ الاستعمار قاعدتها، ولا تسعى لفقدانه وفقدان كلّ ما تملك من سلطة وثروة.

أما بالنسبة للفلاحين، فالقضية بسيطةٌ جداً: نضالٌ وطنيٌّ وانتفاضةٌ مسلّحة، في حين قد لا تمتلك البروليتاريا عفويةً ثوريةً كما الفلاحين، ولكنّها ترزخ تحت كمٍّ كبيرٍ من البؤس الذي سبّبه الاستعمار، ولمّا كان من الضروري الدفعُ بالانتفاضة والثورة نحو المدينة، كان من المهم إدماج البروليتاريا بالثورة التحرّرية، ولهذا، كان لابدّ من اتخاذ الثورة بُعداً أكثر تعقيداً من البساطة التي تدفع بها العفوية الثورية لدى الفلاحين، وتوحيد معنى النضال لكليهما، والتجاوز عن العنف الثوريّ العفوي إلى الوعي المُمارَس والمؤدلج؛ حيث ترجع قوة العنف ودورها في تكون التاريخ أساساً إلى معناها الأيديولوجيّ ووعيها بأهدافها. وفي هذا الصدد، يتّخذ “فانون” موقفاً أساسه التحليل الاجتماعي والتاريخي.

يختتم مهدي عامل بالحديث عن إشكاليات تشكيل الثقافة الوطنية وعلاقتها بالمستعمِر، ويطرح معضلات تحديد شكل ثقافة المجتمع ما بعد تحرّرية، فلا يمكن استرجاعها مثاليةً من الماضي ما قبل الاستعمار، وإنّما سيشكّل الاستعمار جزءاً مهمّاً منها؛ إذ أنّها وعت على هذه الهوية في خضمّ صراعها على المحافظة عليها أمام محاولات سلبها. وفي الوقت نفسه، تعترضها ضرورة فك ارتباط الذات والمجتمع بالاستلاب الجذري الذي سبّبه الاستعمار. ثمّ يخلُص إلى أنّنا لا نستطيع إلا اتّخاذ هويةٍ تناضل ضدّ استلابيْن: ضدّ استلابها الحاصل في الماضي، وضدّ استلابٍ طوعيٍّ تستجلبه الحداثة الغربية.

لقراءة النص، من هنا، من ص 35 – ص52