مقال مُترجم عن أثر القصف النووي على فن “الأنمي” و”المانغا”، وكيف ساهم في صنع سردية تُعيد بناء الأمل بعد الموت، وتُنتج من الهزيمة دروساً لبناءٍ اجتماعيّ واقتصاديّ أكثر قوةً أسّس “اليابان الجديدة”. ترجمها عبد الجواد عمر.

ترجمة: عبد الجواد عمر

توطئة:

نبع فن “الأنيمي” و”المانغا” من تجربة اليابان التاريخية وصعودها الاقتصادي، بدءاً بإصلاحات “المييجي” في منتصف القرن التاسع عشر ووصولاً إلى المواجهة الشاملة التي تحالفت فيها الإمبراطورية اليابانية مع ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت بهزيمة اليابان بعد الهجوم النوّوي الأمريكي على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، وقصف طوكيو بالقنابل الحارقة.

يساهم هذا المقال المُترَجم في فهم الاتجاهات الثقافية والفنيّة التي برزت في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. فقد شكّل الهجوم الأمريكي النووي على اليابان تغييراً فارقاً في الحياة والتجربة اليابانية، وتحوّلاً نفسياً وروحانياً في الشخصية اليابانية، ستنعكس فيه هذه اللحظة التاريخية على فن “الأنمي” و”المانغا”، وتساهم في صنع سرديةٍ تُعيد بناء الأمل بعد الموت، وتُنتج من الهزيمة دروساً لبناءٍ اجتماعيّ واقتصاديّ أكثر قوةً أسّس “اليابان الجديدة”. اليابان التي ستحاول استيعاب هزيمتها وتستعدّ لمواجهةٍ جديدةٍ مع جارتها الصاعدة على الشاطئ المقابل لبحر الصين الشرقي.
ومع ذلك، لا يتناول هذا المقال حقيقة الدور الأمريكيّ في إعادة صياغة الحياة السياسية والاقتصادية اليابانية، ومدى عمق الاستثمار الأمريكي في إعادة هيكلة يابان قادرةٍ على احتواء ومواجهة الصين الشيوعية والاتحاد السوفيتي في حينه. يختفي الأمريكي كعدوٍّ من سردية “الأنمي” بعد الحرب العالمية الثانية، ويُستبدل بأنماطٍ جديدةٍ من الأعداء كالتكنولوجيا، والأشرار دون الإفصاح عن هويّتهم، فضلاً عن الشرّ الكامن في الإنسان، كالجشع وطموحه في امتلاك السلطة.

نُشر المقال باللغة الإنجليزية، في موقع (The Conversation)، بتاريخ 6 آب 2015. للاطّلاع على المقال الأصلي من هنا.

*****

في نهاية فيلم “أنمي” الدستوبيا “أكيرا” (Akira)، للفنان “كاتشيرو أوتومو”، تبتلع كتلةٌ بيضاء طوكيو الجديدة. تجتاح رياحها العاتية المدينة في النهاية وتبتلع المدينة بالكامل تاركةً خلفها مدينةً تشبه هيكلاً عظمياً.

شكّل قصف اليابان بالقنابل النووية تجربةً مريرةً وأليمةً للشعب الياباني لا يُمكن نسيانها. إذن، ليس من المستغرب أن يظلّ هذا الدمار حاضراً في الضمير الياباني، وأن يستوجب الشفاء منه استرجاع صورٍ مختلفةٍ حوله في الأدب والفن والموسيقى.

وليست خاتمة فيلم “أكيرا” إلّا مثالاً على صور نهاية العالم في فن “الأنمي” و”المانغا”؛ إذ تكثر الإشارات إلى القنبلة النووية في الرسومات اليابانية، وتظهر بأشكالٍ متعدّدة تتراوح بين الرمزيّة والمباشرة. هذه التأثيرات المدمّرة لتبعات القنبلة النووية- الأطفال اليتامى والمرضى من الإشعاعات وفقدان الاستقلال الوطني وتدمير الطبيعة- ستؤثّر بدورها على فن “الأنمي” و”المانغا”، وستؤدّي إلى صعود أشكالٍ جديدةٍ وفريدةٍ من الرسوم المتحرّكة والقصص المصوّرة.

الجيل الأوّل من المخرجين والفنانين الذين شهدوا الدمار كان في طليعة هذه الحركة، ولكن لم يقتصر [هول التدمير ومدى عمق تأثيره الاجتماعي وانعكاسه على الحركة الفنية] عليهم فحسب. اليوم، وبعد مضيّ 75 عاماً على إلقاء القنابل النووية، تستمرّ الأجيال المتعاقبة من الفنانين في استكشاف هذا الموضوع في إنتاجاتهم.

مخرجٌ مبدع يُمهّد الطريق

بوسعنا مشاهدة الصور المكثّفة للقنابل الحارقة والنووية في أعمال الفنان والرسام “أوسامو تيزوكا” وخليفته “هاياو ميازاكي”. فكلاهما شهد آثار التدمير التي أحدثتها القنابل في نهايات الحرب [العالمية الثانية].

استحوذت القنبلة النوويّة [وتبعاتها]على أعمال “تيزوكا”، والتي تتناول موضوعاتٍ كالتأقلم مع الفقدان، وفكرة أنّه بكلّ ما في الطبيعة من جمال، يُمكنها التأثّر برغبة الإنسان في قهرها والسيطرة عليها. وكثيراً ما تتواجد في قصص”تيزوكا” شخصياتٌ يافعة ويتيمة عليها النجاة بمفردها،  كشخصية “وانسا الصغير”؛ جروٌ صغير يهرب من مالكه وتمضي الحكاية وهو يحاول البحث عن أمّه، و”صغير الدب” الذي يضيع في البريّة ويحاول العودة إلى عائلته.

إساءة استخدام التكنولوجيا

تظهر التوتّرات الناتجة عن التكنولوجيا في أعمال “تيزوكا” وخلفائه. ففي “الفتى آسترو” (Astro Boy)، يحاول أحد العلماء ملء الفراغ الذي خلّفه فقدان ابنه عبر بناء “روبوت” يُطلق عليه اسم “آسترو”، إلا أنّه سرعان ما يتخلّى عن ابتكاره الآلي بعدما يكتشف أنّه ليس باستطاعة التكنولوجيا أن تحلّ مكان ابنه. ينتقل “آسترو” إلى رعاية عالِمٍ آخر، ليجد بعد بحثٍ طويلٍ الغاية من حياته، ويُصبح بطلاً خارقاً.

ومثل “تيزوكا”، شهد “ميازاكي” في طفولته الغارات الأمريكية أيضاً، وكثيراً ما يُشير في أعماله الفنيّة إلى إساءة استخدام التكنولوجيا والدعوة إلى ضبط النفس البشرية. ففي فيلمه “ناوسيكا أميرة وادي الرياح” (Nausicaa of the Valley of the Wind)، يملأ “بحر الهلاك” الأرض. يصف الراوي في بداية الفيلم الحالة الغريبة التي آلت إليها الأرض، وذلك كنتيجةٍ مباشرةٍ لسوء استخدام الإنسان للتكنولوجيا النووية.

ستزدهر اليابان في سنوات ما بعد الحرب، لتصبح قوةً اقتصاديةً عظمى، وسيرافق هذا الازدهار انبهارٌ في التكنولوجيا ستُصبح اليابان على إثره رائدةً عالميّاً في تصنيع السيارات والإلكترونيات. غير أنّنا نرى بعض توتّرات العصر الحديث في بعض الأعمال، مثل شخصية “الفتى آسترو”، والتي تُعيد لتؤكد أنّه لا يُمكن للتكنولوجيا استبدال البشر، كما أنّ قدرات التكنولوجيا على مساعدة البشرية توازيها قدراتها على تدميرها.

أيتامٌ وقوى خارقة

لحق بالقصف النووي آثارٌ لا زلنا نلمسها إلى اليوم. تُرك الأطفال يتامى بدون أبوين، وتسبّب الإشعاع للبعض الآخر (حتّى الأجنّة) بإعاقاتٍ دائمة. ولهذه الأسباب، كثيراً ما يتكرّر في الأعمال اليابانية موضوع اليتيم الذي عليه أن ينجو بمفرده بدون دعمٍ.

وفي فيلمه الشهير “قبر اليراعات” (Grave of the Fireflies)، ينقل “أكايوكي نوساكا” تجربته الشخصيّة عندما كان طفلاً خلال الحرب، ليروي العمل قصة هروب فتىً وشقيقته الصغيرة من الغارات الجويّة والقنابل الحارقة، وسعيهم لالتقاط ما توفّر أمامهم من مؤن  في محاولة النجاة من الحرب.

ومن ناحيةٍ أخرى، غالباً ما نجد في أعمال “ميازاكي” شخصياتٍ نسائيّة قوية ومستقلّة، سواءً في أفلامٍ مثل “كيكي لخدمة التوصيل” (Kiki’s Delivery Service)، أو “قلعة هاول المتحرّكة” (Howl’s Moving Castle)، أو فيلم “قلعة في السماء” (Castle in the Sky).

وعلى نحوٍ مماثلٍ، وبالعودة إلى فيلم “أكيرا”، نجد الكبار هم من يتشاجرون دوماً، فيتنافسون على السلطة، وتتسبّب شهوتهم للسيطرة على التكنولوجيا الغريبة التي تتمتّع بها “أكيرا” بكارثةٍ شبيهةٍ بالقنبلة النووية في نهاية الفيلم. وفي مقابل ذلك، تُظهر الشخصيات اليافعة فطرةً سليمةً وحسّاً عقلانياً.

تتلخّص رسالة الفيلم بأنّه يُمكن للكبار أن يكونوا متهوّرين عندما تفوق رغبة الإنسان وطموحه للسلطة ما هو مهمٌ على الأرض حقاً. أمّا الأطفال، الذين ما زالوا غير ملوّثين بالرذائل التي تتغلّب على الإنسانية في مرحلة البلوغ، وبريئين بما فيه الكفاية إلى حدّ التفكير بعقلانية، فهم من ينتهي بهم المطاف باتّخاذ قراراتٍ عمليةٍ بشكلٍ عام.

تيتّمت الكثير من العائلات في اليابان بفعل الحرب، وسبّبت القنابل النووية وإشعاعاتها الكثير من الأضرار البدنية الجسيمة للكثير من أطفال اليابان. يُنظر في “الأنمي” و”المانغا” إلى هذه الأضرار وكأنّها طفراتٌ جينيةٌ ينجم عنها قوى خارقة أو ما وراء طبيعية. هذا بالإضافة إلى موضوع تحمّل الأطفال المسؤولية في سنٍ مبكّرة.

يتميّز عددٌ من أفلام “الأنمي” بشخصياتٍ تمتلك قدراتٍ وقوىً خارقة يكون سببها الرئيسي، في الغالب، التعرّض للإشعاعات. تتناول العديد من هذه الأفلام الحوادث أو التجارب غير الطبيعية التي تُسفر عن تمتّع شخصياتٍ شابةٍ بقدراتٍ خارقة، من بينها فيلم “أنازومان” (Inazuman) الذي يحمل اسم الشخصية الرئيسيّة، وشخصيّة “أليس” التي تظهر في فيلم “صياد الساحرة” (El Cazador de la Bruja).

وبالإضافة إلى ذلك، تسرد سلسلة “المانغا” اليابانية “جين الحافي” (Barefoot Gen) قصّة عائلةٍ قضى عليها القصف النووي ولم ينجُ منها سوى فتىً صغير وأمه. يستند المؤلف “كيغي ناكازاوا” في هذه الحكاية إلى حياته الخاصة إلى حدّ ما؛ فقد اضُطرّ لمشاهدة أخته تموت بعد عدّة أسابيع من ولادتها بسبب آثار الإشعاع، كما شهد تدهور صحة والدته بشكلٍ سريعٍ في السنوات القليلة التي تلت الحرب.

الموت، والانبعاث، والأمل في المستقبل

يعتبر “أوسامو تيزوكا” لحظة القصف الذريّ بمثابة مثالٍ على قدرة الإنسان المتأصّلة على التدمير. وبينما يشير في أعماله إلى الموت والحرب [وأثرهما في التجربة الإنسانية]، آمن “تيزوكا” بمثابرة البشرية وقدرتها على البدء من جديد.

وسواءً في تصوير اليابان التاريخية أو المستقبلية، عادةً ما يوظّف “تيزوكا” موضوعات الموت والولادة الجديدة في أعماله كحبكةٍ، مشيراً من خلالها إلى تجربة اليابان (وحياة العديد من اليابانيين) خلال وبعد انتهاء الحرب، بما في ذلك تبعات الدمار الذي لحق بها عقب إلقاء القنابل. كما كان طائر الفينيق (Phoenix) عنواناً لسلسلة “تيزوكا” الأكثر شعبية التي اعتبرها عمله المُميّز. يدور العمل حول بحث الإنسان عن الخلود، والذي لا يُمكن الوصول إليه إلّا بشرب دم طائر الفينيق. كما تظهر بعض الشخصيات عدّة مراتٍ في القصص نتيجة تناسخ الأرواح المستمدّ من التعاليم البوذية.

وقد أعاد صانعو أفلامٍ آخرون طرح هذا الموضوع. ففي فيلم “نسور الفضاء”، أو “سفينة الفضاء ياماتو” (Space Battleship Yamato)، يتمّ إعادة بناء سفينةٍ حربيةٍ يابانيةٍ قديمة وتحويلها إلى سفينة فضاءٍ قوية [تمثّل أمل البشرية الوحيد] ويتمّ إرسالها لإنقاذ الكوكب من التسمّم الإشعاعي [بعد أن دمّرته الحروب النووية التي أشعلها الإنسان].

في الختام، ومن حيث الجوهر، أثّرت القنبلة النووية على اليابان بشكلٍ كبير، وشكّلت أعمال “تيزوكا”، وأعمال الفنانين اللاحقين الذين ألهمهم، انعكاساً واضحاً لآثار القنبلة على العائلة والمجتمع والنفسية الوطنية اليابانية. ومثل دورة الحياة، أو طائر الفينيق في حالة “تيزوكا”، استطاعت اليابان “إعادة اختراع” نفسها، لتعود كلاعبٍ [اقتصاديّ وسياسيّ] مهمٍ [في الساحة العالمية] قادرٍ على البدء من جديد، ولكن بدرسٍ حول ضرورة التعلّم من الأخطاء وتجنّب تكرار التاريخ.