يقدّم لنا قسّام معدي لمحةً عن تاريخ لاهوت التحرير، والدور المحوريّ الذي لعبه في عملية التحوّل السياسي والاجتماعي في القارة اللاتينيّة، من خلال استدخال واقع الشعوب المستعمَرة في الفهم المسيحيّ واسترجاع الإيمان كأداةٍ للتحرّر. 

في أحد الأيام في أواخر العام 1978، وفي مكانٍ ما في جبال نيكاراجوا، كان طقسٌ دينيٌّ عمره  قرابة الألفي عام يتكرّر، [1] مثلما يتكرّر كلّ يومٍ في ملايين الكنائس والكاتدرائيّات حول العالم. حلقةٌ من الرجال والنساء يتجمّعون حول أكبرهم سنّاً، وهذا الأخير يرفع رغيفاً من الخبز باتجاه السماء، ويتلو الكلمات الطقسية: “خذوا كلوا من هذا كلكم، هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم”. بعد ذلك، يرفع كأساً من الخمر، ويتلو “خذوا واشربوا من هذه كلكم، هذه كأس دمّي. دمّ العهد الجديد والأبدي، الذي يُراق عنكم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا. افعلوا هذا لذكري“. بعد لحظاتٍ من التأمّل الصامت، يبدأ أفراد الحلقة بتمرير الرغيف والكأس من واحدٍ لآخر بعد التناول منهما.

لا شيء خارجٌ عن العادة، سوى أن المشاركين في هذا القدّاس، [2] بما فيهم الكاهن نفسه، يلبسون جميعاً الأخضر الزيتيّ، فيما تستريح أسلحتهم الرشّاشة على الصخور والشجيرات المُحيطة. جماعة المُصلّين هذه وحدةٌ قتاليةٌ تابعةٌ للجبهة الساندينية للتحرير الوطني، والتي كانت في الأشهر الأخيرة من كفاحها المسلّح ضدّ نظام “سوموزا” الديكتاتوري الوكيل للولايات المتحدة، وقوات الحرس الوطني التابعة له.

“فلي قد فعلتموه”

لا يكون “القدّاس الثوريّ” ثورياً إذا جرى مثل أيّ قدّاسٍ آخر، حتى وإنْ كان في الجبال. في هذا القدّاس، لا يشرح الكاهن الإنجيل، بينما يستمع المصلّون في هدوء. هنا، يُناقش الإنجيل، ويشارك الجميع في نقاشه. ويروي المقطع الإنجيلي الذي اختاره الكاهن عن المسيح شرحه ليوم الحساب، فيقول المسيح في هذا المقطع إنّه وفي اليوم الآخر، سيقف البشر جميعاً أمام الله، الذي سيفرزهم إلى فرقتين؛ فيقول للأولى، وهي الفرقة الناجية، أنْ تدخل في نعيمه “لأنّي كنتُ جائعاً فأطعمتموني. كنتُ عطشاناً فسقيتموني. كنتُ غريباً فآويتموني“. [3] وحين يسأل هؤلاء الإله متى رأوه يتألم فأسعفوه، يجيبهم “كلّما فعلتم شيئاً من ذلك لأحد هؤلاء الصغار، فلي قد فعلتموه“. ثمّ يقول للفرقة الهالكة أن تذهب إلى الجحيم “لأنّي كنتُ جائعاً فلم تطعموني. كنتُ عطشانًا فلم تسقوني. كنتُ غريباً فلم تأووني”، ويشرح لهم أنّه “كلّما لم تفعلوا شيئاً من ذلك لأحد هؤلاء الصغار، فلي لم تفعلوه“.

يعلّق أحد المقاتلين بأنّ الإنجيل يُقيم فصلاً واضحاً بين من يحتكرون كلّ شيء لأنفسهم ومن يتشاركون النعمة مع الفقراء، فيما يرى آخر أنّ الفصل يجري بين من يملكون ومن لا يملكون. ويرى مقاتلٌ آخر أنّ المسيح يُعرّف حضور الله في الشعب الجائع، فيختم الكاهن الدرس باعتبار أسلحة الثورة للمسيح، لأنّها تقاتل من أجل إعطاء الخبز والمأوى والتعليم والصحة لمن لا يملكون شيئاً، كما يُعلّم المسيح نفسه.

بعد أشهرٍ قليلةٍ، انتهت الحرب بفرار “سوموزا” من البلاد، ودخول القوات الساندينيّة إلى العاصمة منتصرةً. وبعدها بأسابيع، صار هذا الكاهن نفسه، “إرنيستو كاردينال”، وزيراً للثقافة في أوّل حكومةٍ ثوريّةٍ لنيكاراجوا. لكن حتى تلك اللحظة، لم يكن يخطر بباله، كالكثيرين من لاهوتيّي التحرير، أنّ مسيرته ستنتهي بغير الصليب، على مثال المعلّم الذي قرّروا أن يتبعوه حين اختاروا حياة الكهنوت. ففي نهاية الأمر، لم يكن جوّهر لاهوت التحرير يوماً سوى عيش الإنجيل في قلب الألم الإنسانيّ والصليب اليوميّ للبشر.

المسيحيّة في أمريكا اللاتينيّة: بين سيف الاستعمار وصلب شعوب القارّة

في أمريكا اللاتينيّة، يعود الارتباط بين المسيحيّة والسياسة بجذوره إلى وصول المسيحيّة إلى القارّة في نهاية القرن الخامس عشر، لكن بشكلٍ مختلفٍ، بل ومعاكسٍ تماماً. فتاريخيّاً، كانت الكنيسة جاهزةً لمباركة أسلحة السلطة، لا الثائرين عليها، وكانت راعياً أساسيّاً للاستعمار الأوروبيّ، وكلّ ما جرّ معه من استغلالٍ وإبادةٍ للشعوب الأصليّة. فبعد سنتين من نزول “كولومبوس” إلى ساحل جزيرة “جواناهاني” برفقة ضابطٍ إسبانيٍّ وكاهنٍ كاثوليكيٍّ، وتغيير الاستعمار اسمَ الجزيرة إلى “لا اسبانيولا”،  أيّ “الإسبانية”، تحت ظلّ السيف والصليب، قرّرت الكنيسة رعاية ومباركة اتفاق “تورديسيلياس” في عام 1494، [4] والذي تقاسمت بموجبه إسبانيا والبرتغال، المملكتان الكاثوليكيتان الأقوى في أوروبا، الأراضي المكتشفةَ فيما بينهما.

كانت للكنيسة الكاثوليكيّة مصلحةٌ كبرى في الاستثمار في العالم الجديد، إذ كانت بحاجةٍ ماسّةٍ إلى مساحاتٍ جديدةٍ للتبشير لتعزيز حضورها؛ فمع وجود حركة الإصلاح البروتستانتيّة في ألمانيا، وخروج بريطانيا على يد “هنري الثامن” من تحت عباءة روما، باتت الكاثوليكيّة محصورةً في العالم اللاتينيّ، المتأخّر اقتصاديّاً عن باقي أوروبا، بين جيران بروتستانت أقوياء وعالمٍ إسلاميٍّ لم يمضِ على خروجه من الأندلس إلا بضعة أشهرٍ. لكنّ تبشير السكان الأصليّين لم يمنع الإسبان والبرتغاليّين من إبادتهم واستعبادهم، بل والمحاججة بأنّهم لا يملكون أرواحاً آدميةً، ما يسمح ببيعهم وشرائهم.

غير أنّ نزول الكاثوليكيّة في أمريكا اللاتينيّة، وضربها لجذورٍ عميقةٍ في وسط مجتمعٍ مختلّطٍ، تبلورا في القواعد الشعبية الأكثر فقراً، ليبرز بذلك تميّزٌ مبكّرٌ عن المسيحيّة في أوروبا. ففي أمريكا اللاتينيّة، كانت الكنيسة الرسمية تعيش روحاً وعقلاً في أوروبا، فيما كان كهنتها الأكثر التزاماً وتفانياً يدخلون عميقاً في حياة شعبٍ يعيش في عالمٍ مختلفٍ تماماً. من بين هؤلاء كان الأسقف “بارتولومي دي لاس كاساس” في المكسيك، [5] الذي عمل لسنين في تبشير السكان الأصليين، متقاسماً ظروف حياتهم. كان “بارتولومي” أوّل من وقف ضدّ استعباد السكان الأصليّين، في محاججته الشهيرة في جامعة “بلد الوليد” في إسبانيا، حيث دافع عن كون السكان الأصليين بشراً يملكون أرواحاً، ولا يجوز استعبادهم.

من هؤلاء أيضاً “الآباء اليسوعيّون” الذين سعوا منذ عام 1604 لأنْ يسبقوا المستعمِرين الإسبان والبرتغاليّين إلى مناطق عيش شعب “الجواراني” الأصلي، في الباراغواي، ليؤسّسوا فيما بينهم إرسالياتٍ تبشريةً مسيحيةً، اتّخذت شكل مدنٍ صغيرةٍ مكتفيةٍ ذاتياً، ومبنيّةٍ على أساس الملكيّة الجماعيّة للأراضي الزراعيّة من قبل السكّان الأصليين، والمنتظمة حول الكنيسة. وفّرت تلك الإرساليّات حمايةً لسكان “الجواراني” من تجار العبيد، الذين راحوا يضغطون على الكنيسة حتى ترفع الحماية عن الإرساليات اليسوعيّة، حتى تحقّق مطلبهم بطرد اليسوعيّين من كافة الأراضي التابعة لإسبانيا على يد الملك “كارلوس الخامس” في عام 1767، ثمّ إلغاء الأخويّة اليسوعيّة بالكامل ومصادرة أملاكها على يد “البابا كليمنت الرابع عشر” في عام 1773، ما مهّد الطريق أمام جنود الممالك الإسبانيّة والبرتغاليّة وتجّار العبيد لاجتياح الإرساليّات والقضاء عليها بالدمّ والحديد. [6]

ظلّ هذا التناقض المبكّر، بين الكنيسة الرسميّة وكنيسةٍ قاعديّةٍ التحمت بحياة الشعوب، حقيقةً في أمريكا اللاتينية، تعبّر عن نفسها من وقتٍ لآخر، لكن دون أن تُفرز حالةً مستقلّةً ذات تأثيرٍ سياسيٍّ. وظلّ هذا الوضعَ القائمَ إلى أن جاء القرن العشرين؛ عصر التحوّلات الثوريّة في العالم الثالث. ففي أمريكا اللاتينية، شكّلت الثورة الكوبية منذ مطلع عام 1959 حجراً حرّك المياه الراكدة في القارة. حرّك حجرٌ ثانٍ المياه الراكدة في كنيسة أمريكا اللاتينية والحياة الدينيّة لشعوبها، وهذا الحجر كان لاهوت التحرير. لماذا؟ ببساطةٍ، لم يعنِ لاهوت التحرير صعود كنيسة الشعب إلى السطح، ولعبها دوراً في التحوّلات السياسية والاجتماعية في القارة، فحسب، بل لأنّه ولأول مرةٍ، عنى فهماً للمسيحيّة من قلب حياة شعوب القارّة، لا من أروقة الفاتيكان.

المسيح ثائراً ومعلّماً

لعلّ أهم محطتين مؤسّستين لحركة لاهوت التحرير كانتا مؤتمر أساقفة أمريكا اللاتينية في “ميديلين”، في كولومبيا، عام 1968، والذي أُقرّ فيه مبدأ “الخيار الانحيازيّ للكنيسة لصالح الفقراء”، ومصطلح لاهوت التحرير. أمّا المحطّة الأخرى فكانت في العام 1971، الذي صادف فيه الظهور المُتزامن لكتاب الكاهن البرازيلي “ليوناردو بوف”، “يسوع المسيح المحرِّر”، وكتاب الكاهن البيروفي “جوستافو جوتييرّيس”، “لاهوت التحرير”. قدّم الأول قراءةً تحرّريّةً لشخص يسوع المسيح، بينما قدّم الثاني مفهوماً تحرّرياً لرسالة المسيح، ومهمّة الكنيسة التبشيريّة، من خلال نقد اللاهوت التقليديّ.

قدّم كتاب “ليوناردو بوف” قراءةً لشخص المسيح، مركّزةً على بعده الإنسانيّ؛ المسيح التاريخي الذي سطّر حياته التبشيريّة من خلال مواجهةٍ مفتوحةٍ مع السلطات الدينية والسياسية لزمانه. فبحسب “بوف”، كانت رسالة المسيح التحريرية تمثّل تحدياً للسلطات الدينية اليهودية والسلطة السياسية الرومانية. فهذا المُبشِّر الشاب، ابن نجارٍ بسيطٍ من الجليل الفلسطينيّ، بدأ رسالته بصعوده منبر الكنيس اليهودي الصغير في الناصرة، حين دُعِيَ، ككلّ شابٍ بلغ سن الرشد، إلى قراءة التوراة. فاختار يومها، قصدًا، أن يقرأ من سفر إشعيا المقطع الذي يُنبئ بمجيء المسيح المُنتظر، مُقدِّماً إياه كمحرٍّرٍ: “روح الربّ عليّ، لأنّه أرسلني لأُشفي منكسري القلوب، وأُعيد للعُمي بصرهم، وأُعلن للأسرى إطلاق سبيلهم، وأُبشِّر المسحوقين بالحرية“، [7] ثم أعاد الكتاب إلى الكاهن، معلناً أمام الحضور: “هذه النبوءة تمّت اليوم على مسامعكم“.

ووفقاً لـ “بوف”، كانت رسالة المسيح منذ بدايتها رسالة تحريرٍ. فحين قدّم نفسه ابناً لله وملكاً، كان يتحدّى ملك ذلك الزمان، “يوليوس قيصر”، الذي جعل نفسه إلهاً ابن إلهٍ، كما فعل والده من قبله، “أغسطس قيصر”. كما تحدّى المسيح حينها طبقة رجال الدين اليهود، والذين شكّل غياب المسيح المُنتظر سببَ وجودهم كطبقةٍ، إضافةً إلى لعبهم دور الشرطي الذي يُبقي الشعب خاضعاً لروما بانتظار مجيء المحرّر.

وحسب “بوف”، أوضح المسيح جليّاً نوع المملكة التي أتى يُبشِّر بها، فوصفها بأنّها مملكةُ الله التي يصبح فيها “الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ”؛ [8] مملكةٌ يُرفع فيها المتواضعون، ويُنزّل فيها المتكبّرون عن كبريائهم. ملكوتٌ يرِثُه الفقراء، ويشبع فيه الجياع، ويفرح فيه الباكون. [9] ملكوتٌ لا يُعبد فيه سيدان: الله والمال، بل الله وحده، [10] جاعلًا المال نقيضاً لعبادة الله، مُعلناً أنّه “من الأسهل أن يدخل جملٌ من ثقب إبرةٍ من أن يدخل غنيٌّ إلى ملكوت الله”. [11] ملكوتٌ ليس من هذا العالم، راديكاليٌّ إلى حدٍّ لا يطيقه البشر في أسلوب حياتهم الأنانيّ. [12]

ويشرح “بوف” أنّ كون ملكوت المسيح من خارج العالم، ومن خارج التاريخ، فهذا يعني أنّ قدومه إلى العالم يتطلّب تغييراً جوهريّاً وجذريّاً لعالم البشر، أو ولادةً بشريّةً جديدةً مختلفةً تماماً. ويرى “بوف” أنّه وبحكم عدم إتمام المسيح لملكوته في حياته بسبب محاكمته وصلبه، فإنّ الملكوت الذي أتى به، والذي لا يمكن أن يُدفن أو يُزال بعد دخوله التاريخ، قد وُلد مجدداً بقيامة المسيح من الموت في اليوم الثالث. وبمعنىً آخر، فإن البشريّة الجديدة التي سعى لتأسيسها، ولم تتحقّق في حياته، قد انفجرت كالنبع من قبره الذي دُفن فيه، ووُلدت بقيامته إلى العالم، متجاوزةً التاريخ والزمان وقوانين الطبيعة.

يصفُ الإنجيل ظهور المسيح بالجسد الحيّ، بعد قيامته، في أكثر من مكانٍ في آنٍ واحدٍ، فيدخل الغرف المُغلقة دون فتح الأبواب، وغيرها من الإشارات التي رأى فيها “بوف” رموزاً للعالم الجديد الذي لا يُطيع قوانين العالم الحالي، لأنه ليس منه، بل نقيضٌ له، رغم أنّه زُرع كبذرةٍ فيه من خلال موت المسيح وقيامته. ومن هنا، يعتبر “بوف” أنّ رسالة المسيحيّين تكمن في متابعة عمل مُعلّمهم الأوّل، من خلال بناء العالم الجديد، امتدادًا لحضوره في العالم، والنضال من أجل تغيير العالم. [13]

أمّا “جوتييرّيس”، فيأخذ التحليل اللّاهوتيّ إلى واقع أمريكا اللاتينيّة الراهن في وقته؛ فيُقيم نقداً للّاهوت المسيحيّ التقليديّ الذي ظلّ رهينة المفاهيم المجرّدة لقرونٍ، دون أن يتعامل مع متطلّبات الحياة المسيحيّة اليوميّة، انطلاقاً من أنّ واقع أمريكا اللاتينيّة يتطلّب لاهوتاً يستجيب لمشاكل شعوبها.

ومن هنا، ينطلق “جوتييرّيس” في تحليل النظام السياسي والاجتماعي لبلدان القارّة، من وجهة نظرٍ لاهوتيّةٍ، يلتقي فيها مع تفسير “بوف” لرسالة المسيح، فيرى “جوتييرّيس” أنّ التناقض القائم بين كون المجتمعات اللاتينية مسيحيةً جداً، وكونها في الوقت نفسه غيرَ متساويةٍ ومنتجةً للفقر والظلم بشكلٍ مستمرٍ، تناقضٌ يعود إلى طبيعة اللاهوت المسيحيّ الذي علّمته الكنيسة الرسمية لقرونٍ في هذه البلدان، والذي لا يأخذ طبيعة هذه المجتمعات وقضاياها بعين الاعتبار.

يركّز “جوتييرّيس” على التعليم المسيحيّ التقليديّ حول مفهوم “الخطيئة”، والتي لطالما اعتبرتها الكنيسة في لاهوتها التقليديّ عملًا فردياً يستلزم توبةً فرديةً، مشيراً إلى أنّه أصبح ثمّة خطيئةٌ جماعيّةٌ، أو خطيئةٌ بنيويّةٌ، تستلزم توبةً جماعيةً في أمريكا اللاتينية، لكون الجميع شركاءَ في النظام الظالم، إما من خلال أسلوب حياتهم، أو من خلال سكوتهم عن الظلم.

وحسب “جوتييرّيس”، ليست التوبة الفردية حقيقيةً ما لم تؤدِّ إلى تحوّلٍ جماعيٍّ في المجتمع؛ أيّ إلى بناء مجتمعٍ أكثر عدلًا وإنسانيةً. ولأنّ الخطيئة الاجتماعيّة بنيويّةٌ، فإنّ التوبة عنها تعني إحداث تغييراتٍ بنيويّةٍ، سياسّيةٍ، واجتماعيّةٍ، أو بعبارةٍ أخرى، تتطلّب تغييراً ثورياً. ويختم “جوتييرّيس” باعتبار التبشير المسيحيّ غيرَ مُجدٍ ما لم يسعَ إلى إحداث هذه التغييرات الثوريّة في المجتمعات التي يُبشّر فيها، وأنّ هذا يجب أن يقوده بالضرورة إلى مواجهة النظام الرأسماليّ وكلّ توابعه، والسعي إلى استبداله بنظامٍ آخر قائمٍ على أسس العدل والمساواة. [14]

كانت لأفكار “بوف” و”جوتييرّيس”، وغيرهم من لاهوتيّي التحرير، أثرٌ واسعٌ في الأوساط الشابّة من قواعد الكنيسة، أدّى إلى انخراط الكثير من الشباب المسيحيّين في أمريكا اللاتينية، من رجال الدين وغيرهم، في الحركات التحرّرية لبلدانهم، طوال عقدي السبعينيّات والثمانينيّات. نتج عن ذلك ردّةُ فعلٍ عنيفةٌ من قبل الأنظمة الاستبدادية بدعمٍ من الولايات المتحدة. ففي السلفادور مثلًا، قتل النظام اليمينيّ آلاف الكهنة والراهبات في حربه الشعواء ضدّ كل ما اعتبره شيوعيّاً، خلال الحرب الأهلية التي امتدت إلى أواخر الثمانينيّات. وكان من أبرز ضحايا القمع اليمينيّ لكنيسة لاهوت التحرير أسقف السلفادور، “أوسكار روميرو”، الذي وإنْ لم يؤيد الثورة المسلّحة، إلا أنه لم يتوقف عن إدانة النظام وجرائمه، والدفاع عن حقّ الشعب في مقاومة حرب الإبادة التي قادتها الحكومة ضدّ الفلاحين، بدعمٍ مباشرٍ وعلنيٍّ من الولايات المتحدة.

وفي عام 1981، قُتل “روميرو” بثلاث طلقاتٍ ناريةٍ في صدره أثناء قدّاسٍ في كاتدرائية “سان سالفادور”، حين كان يرفع الخبز ويتلو كلمات التقديس. أمّا القاتل، فكان عضواً في إحدى فرق الموت المدرّبة من قبل وكالة الاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة، التي كانت تعتبر نفسها مدافعةً عن التقليد الكاثوليكي الصحيح، المُوالي للأغنياء. هكذا، وبدمهم، أعاد لاهوتيّو أمريكا اللاتينيّة كتابة فهمهم لإيمان شعوبهم.

كلمة أخيرة

إنّ قصّة لاهوت التحرير، في الأساس، قصة تجربةٍ رائدةٍ في التحرّر المعرفيّ الذي شكّل رافداً أساسيّاً لعملية التحرّر السياسي والاجتماعي؛ إذ استرجع لاهوتيّو التحرير عنصراً مهماً من ثقافة شعوبهم وهويتهم المعرفية؛ الإيمان المسيحيّ، وجعلوا منه أداةً لا للمقاومة فحسب، بل لتغيير مجرى تاريخ بلدانهم.

لكنّ الجانب الأبرز من تجربة لاهوت التحرير يُعزى إلى عدم سعيها يوماً إلى بناء نموذجٍ معيّنٍ لمجتمعٍ أو نظامٍ سياسيٍّ، على عكس كثيرٍ من الحركات الدينيّة التي تتعاطى السياسة. فلم يبلور لاهوتيّو التحرير رؤيةً لدولةٍ مسيحيّةٍ، ولم يسعوا لبناء واحدةٍ أصلًا. كما لم يكن ليخطر ببال أيٍّ منهم أنّ حلّ مشاكل بلدانهم يكمن في “تحكيم الإنجيل”. فكلّ ما بحثوا عنه كان فهماً للإيمان بما يمكّنهم من خوض معركة التحرّر في بلدانهم، إلى جانب أبناء شعبهم، من المسيحيّين وغير المسيحيين.

سعى لاهوتيّو التحرير إلى أن يكون لهم دورٌ، كمسيحيّين، في العملية التحرّرية لشعوبهم، دون فرضٍ لرؤيتهم المسيحيّة، بل من خلال النضال إلى جانب غيرهم. ولعلّ هذا الفهم ما فتح الأبواب أمام المسيحيّة لتكون جزءاً من تعريف الهوية التحرّرية الجديدة لتلك البلدان، دون أن يطلب المسيحيون التحرّريون ذلك. كما لعلّ جوهر الدرس الذي سطّره لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، يكمن في أنّ التحرّر المعرفيّ الدينيّ، لم يأتِ يوماً من خلال إسقاط أحكام ومفاهيم الدين على الواقع السياسي، بل من خلال إدخال الواقع الاجتماعي والسياسي الخاص بشعبٍ ما إلى عملية التفسير والفهم الدينيّ، وإعادة كتابة هذا الفهم انطلاقاً من الواقع، بلغةِ ولهجةِ وعيونِ الشعب الذي يعتنقه.

****

الهوامش: 

[1] “إرنيستو كاردينال” يترأس قدّاساً لمقاتلي الجبهة الساندينية عام 1978:  للمشاهدة من هنا
[2] القدّاس: الطقس الرئيسي في المسيحية، وهو عبارةٌ عن صلاةٍ جماعيّةٍ يترأسها الكاهن، وتتمحور حول اللحظة الأهم فيها؛ وهي تقديس الخبز والخمر بنفس كلمات المسيح في العشاء الأخير، ثمّ اقتسامها وتناولها بين المصلّين. يُعتبر القدّاس في التقليد المسيحيّ تجديداً للاتحاد بالمسيح من خلال المشاركة في عشائه الأخير عبر التاريخ، كرمزٍ لكون الكنيسة امتداداً لمجموعة تلاميذ المسيح الذين تناولوا الخبز والخمر عن يده. في التقليد الكاثوليكي والأرثوذوكسي، تُعتبر لحظة تقديس الخبز والخمر لحظة الحضور الفعلي للمسيح بالجوهر، ويُعتبر الخبز والخمر جسد ودم المسيح الحقيقيين، كتجديدٍ غير دمويٍّ لتضحيته الدمويّة على الصليب.
[3] إنجيل متى، الفصل 25: من 31 إلى 46
[4] معاهدة تورديسيلياس عام 1494 بين إسبانيا والبرتغال، للاطلاع من هنا
[5] يعتبر العديد من المؤرخين الكاهن “بارتولومي دي لاس كاساس” (1474-1566) أوّل إسبانيٍّ تصدّى لاستعمار بلاد السكان الأصليين، مدافعاً  بشراسةٍ عن الإرساليّات التبشيريّة الساعية لتبشير السكان الأصليين بالطرق السلمية، ومُديناً غزو أراضي السكان الأصليين والجرائم بحقهم، لاهوتياً وفلسفياً. أثمرت جهوده عن  منع استعباد السكان الأصليين في أمريكا الوسطى، ثمّ في باقي الأراضي التابعة للتاج الإسباني عبر سلسلةٍ من المراسيم الملكية التي صدرت بين 1501 و 1542، غير أنّ الغزاة الإسبان لم يمتثلوا لتلك المراسيم بالفعل، حيثُ كان السكان الأصليون يُختطفون في المناطق التابعة للسيطرة الإسبانية، ويُباعون علناً في الأراضي التابعة للبرتغال. نشر “بارتولومي” كتابه “قصة تدمير بلاد الهند” عام 1552 واصفاً فيه الوحشية الاستعمارية للإسبان في إبادة السكان الأصليين ونهب أراضيهم. كما له عددٌ من المؤلفات الأخرى؛ أبرزها “تاريخ الهنود” الذي يعرض فيه ما جمعه من تاريخ وثقافة السكان الأصليين.
[6] أسّس اليسوعيّون ما بين 30 و40 بلدةً مكتفيةً ذاتياً، قامت على الملكية الجماعية للأراضي ونظامٍ صارمٍ من توزيع الوقت بين العمل والتعليم والصلاة والأنشطة الإنتاجية والفنية الأخرى. تميّزت هذه الإرساليات بالجوقات الترنيميّة والموسيقية المُتميزة التي شكّلها سكان “الجواراني”، والتي ذاع صيتُها حتى في أوروبا. تعرّضت الإرساليات لغزواتٍ متتاليةٍ من تجاّر العبيد منذ منتصف القرن الثامن عشر، دفعت الآباء اليسوعيون و”الجواراني” إلى تنظيم ميليشياتٍ دفاعيةٍ وصل قوامها في قمّة قوّتها إلى 8000 عنصرٍ، خاضت معاركَ عديدةً مع تجّار العبيد الإسبان والبرتغاليين، ثمّ مع الجيش البرتغالي والإسباني، حتى تمّ القضاء عليها نهائيّاً في عام 1775. أطلق بعض المؤرّخين على هذه التجربة اسم “جمهورية الجواراني”، مثل “سليم آبو”، في كتابه المنشور عام 1997 بعنوان “جمهورية الجواراني اليسوعية 1609 – 1768”. للمزيد عن الكتاب، من هنا.
[7] إنجيل لوقا، الفصل 4: 18
[8] إنجيل متى، الفصل 19: 30
[9] إنجيل متى، الفصل 5: 3-12
[10] إنجيل متى الفصل 6 : 24
[11] إنجيل متى، الفصل 19: 24، إنجيل مرقس، الفصل 10: 25، إنجيل لوقا، الفصل 18: 25
[12] إنجيل يوحنا، الفصل 15: 19
[13] كتاب “يسوع المسيح المحرر”،  ليوناردو بوف، 1972 ، للاطلاع من هنا 
[14] كتاب “مدخل إلى لاهوت التحرير” ، جوستافو جوتييرّيس، للاطلاع من هنا