من مصر، يقدّم لنا مصطفى شلش قراءةً في كتاب “الأرض والفلاح والمستثمر- دراسةٌ في المسألة الزراعيّة والفلاحيّة في مصر”، باعتباره “سؤالاً” حول موقع الفلاحين داخل المنظومة الرأسماليّة الزراعيّة المعاصرة في ظلّ عصر العولمة النيبوليبراليّة.

مقدّمة

تضاءلت الدراسات الريفيّة خلال العقد الأخير بشكلٍ فادحٍ، لعلّ أزمة الغذاء العالميّة بين عامي 2007 و2008 حالت دون اضمحلالها كلّياً، بجانب نمو حركة طريق الفلاح، [1] ونمو ظاهرة الاستحواذ على الأراضي الزراعيّة حول العالم. في سياق ما سبق، يقدّم هذا النصّ قراءةً طويلةً، وبشيءٍ من التفصيل، لإحدى الدراسات الحديثة التي صدرت في العام 2017 للدكتور صقر عبد الصادق هلال النور، بعنوان “الأرض والفلاح والمُستثمر – دراسةٌ في المسألة الزراعيّة والفلاحيّة في مصر”، والمُكوّنة من خمسة فصولٍ، إضافةً إلى مقدمةٍ وخاتمةٍ.

يمكننا تقديم دراسة هلال النور، بعيْن توجّهه وطرحه، باعتبارها “سؤالاً” حول موقع الفلاحين داخل المنظومة الرأسماليّة الزراعيّة المعاصرة في ظلّ عصر العولمة النيوليبراليّة، مُستخدماً مفهوماً واسعاً في المسائل الزراعيّة والفلاحيّة للإجابة عليه، غير مُقتصرٍ على ديناميكيّات الزراعة الرأسماليّة وعواقبها على الفلاحين وحسب، بل يتعدّاها إلى نقاش التحوّلات المرتبطة بالنوع الاجتماعي والإفقار والاستحواذ على الأرض الزراعية والمُستصلحة، والعمل والنظام البيئيّ الزراعيّ، مُستعيناً بتحليلٍ مُتعدّد المستويات، آخذاً بعين الاعتبار الديناميكياّت والعلاقات المُركّبة على مستوى النظام العالميّ، وسياسات الدولة والديناميكيّات المحليّة، واستراتيجية المنتجين الزراعيين.

أُجريت هذه الدراسة تبعاً لمستويين؛ أولهما نظريٌّ تضمّن دراسة العديد من الكتب والوثائق والأرشيفات التاريخيّة، والآخر ميدانيٌّ؛ إذ زار الباحث عدّة مناطقَ زراعيةٍ تقليديةٍ في الوادي والدلتا ومناطق الاستصلاح الزراعيّ في الصحراء، تجنّباً منه لتفادي أيّ قصورٍ أو إغفالٍ لأبعاد الحِراك الاجتماعيّ والانتفاضيّ في الريف المصري، مُحاولاً بذلك إبراز العمق التاريخيّ للمسألة الزراعيّة المصريّة، سعياً منه إلى تقديم شيءٍ جديدٍ ودقيقٍ عمّا سبقوه من دارسي المسألة الزراعية، والتي بدأت دراستها في مصر بشكلٍ أساسيٍّ منذ خمسينيّات القرن العشرين.

جذور المسائل الزراعيّة والفلّاحيّة في مصر [2]

يأتي الفصل الأول من الكتاب بمثابة “حدّوتة”/حكايةٍ تبدأ من العام 1517، الذي خضعت مصر خلاله لحكم العثمانيين، مروراً بالحملة الفرنسيّة، فاعتلاء محمد علي باشا عرشَ مصر، ثم الاحتلال الإنجليزيّ مُنتهياً عام 1952، إبّان نظام “يوليو” وإقرار قوانين الإصلاح الزراعي وبناء السدّ العالي. يقسّم الباحث هذه الفترة إلى عدّة حِقبٍ، ليحلّلها الواحدة تلو الأخرى، ويستقصي حصيلة كلٍّ منها على المسألة الزراعيّة المصريّة، خصوصاً فيما يتعلق بمسألة ملكيّة الأراضي الزراعيّة. لكنّ هذه “الحدوتة” ليست مُسلّيةً على الإطلاق، بل مأساوية الطابع، لا سيّما تفاصيلها المرتبطة بنهضة “تاجر الدخان”، محمد علي باشا، في مجال الزراعة. [3]

في حقبة ما قبل محمد علي باشا، يمكننا ملاحظة اهتمام العثمانيين بالزراعة ومسح الأراضي وتصليح التِرَع الرئيسيّة وإلزام الفلاحين والملتزمين بإصلاح الترع الفرعيّة، وذلك كما ورد في دستور حكم مصر آنذاك، وهو ما عُرف بـ”قانون نامة”.

تأسيساً على ما سبق، يشرح الباحث التحوّل في إدارة المسألة الزراعيّة، أو بشكلٍ أبسط طُرق حيازة/ملكيّة الأراضي الزراعيّة، متمثّلةً في البداية بنظام الأمناء؛ بمعنى تقسيم الأرض إلى أماناتٍ، لكلٍّ منها أمينٌ مسؤولٌ عن جمع الضرائب وتسليمها للخزانة مقابل أجرٍ سنويٍّ. لاحقاً، حكَمَ نظامُ الالتزام حيازة الأراضي، والقاضي بطرح الأراضي الزراعيّة في مزادٍ علنيٍّ، ليديرها أفرادٌ يُطلَق عليهم “الملتزمون”، وهم المُلزمون بتسليم ضريبة هذه الأراضي للدولة عبر جمعها من الفلاحين مقابل حصولهم على “الفايظ – هامش ربح”، إضافةً لقطعة أرضٍ عُرفت باسم “أرض الوسية”، ودون دفع ضرائبَ خاصّةٍ بها.

حَفِظ نظام الالتزام، إلى حدٍّ ما، بعض حقوق الفلاحين؛ إذ سمح للفلاح بتوريث أرضه أو تكليفه شخصاً آخرَ بزراعتها عِوضاً عنه، واضعاً قيوداً تمنع بدورها الملتزم من طرد الفلاح من الأرض، وقاضياً كذلك بأنّ المحكمة الشرعيّة هي الحكم بين الفلاحين والملتزمين.

طوال هذه الحقبة، تحدَّد نظام الملكية بعلاقةٍ ثلاثيّةٍ بين السلطان العثمانيّ “المالك الأصليّ”، والملتزم “المالك بالإنابة”، والفلاح “صاحب الملكيّة الأثريّة” وغارس الأرض، إلى أنْ لغاه محمد علي باشا عام 1814، إذ سهّلت محاولة الفرنسيين إلغاءه تلك الخطوة، بجانب إعلانهم الملكيّة الفرديّة للفلاحين أو الملتزمين بصكوك ملكيةٍ عبر إعلان  “مينو” عام 1801، بهدف تحصيل أكبر قدرٍ من الضرائب وحيازة الأراضي الفلاحيّة لصالح الجمهورية الفرنسيّة، غير أنّ الخطّة مُنيت بالفشل، نظراً لضعف الحملة الفرنسية، فيما نجح في إتمامها محمد علي باشا.

في الفترات التي سبقت محمد علي باشا، كان الخلاف مُتمحوراً حول صور الملكية ومقدار الضرائب المدفوعة، لكن مع صعود “تاجر الدخان” إلى العرش، انقلبت أنماط استغلال الأراضي الزراعيّة وعلاقات الإنتاج، ووسائل الريّ في الريف المصريّ، لمصلحة السوق العالميّ. في ضوء ذلك، يثير هلال النور نقاطاً ثلاثاً رئيسيّةً لفهم تطوّرالمسألة الفلاحيّة في عهد محمد علي باشا، وهي: التحكُّم بالبشر عبر تنظيم العمل وتقنينه، والتحكُّم في الأرض والنيل (من النيل سيّداً إلى القطن سيّداً)، وفهم التصدُّع البيئيّ نتيجةَ ما سبق (ظهور دودة القطن وبعوضة الملاريا).

لكن مع هزيمة الباشا في سوريا عام 1840، انهار تقريباً كلّ مشروعه وضعُفت سلطته، وتعرّض نظامه لأزمةٍ ضريبيّةٍ حادّةٍ استدعت التحوّل لنظامٍ يشبه نظام “الالتزام” السائد في الحقبة العثمانية، عُرف باسم “العُهدة”، نسبةً إلى تعهُّد المقتدرين بالأرض وزراعتها، ودفع الضرائب للدولة، وتحصيل ما دفعوه من الفلاحين فيما بعد.

وفي ولاية الخديوي إسماعيل، أُلغي نظام “العُهدة”، فتحوّلت الأراضي إلى ملكيّته، مُعيداً توزيع بعضها لفئةٍ قليلةٍ من عائلته وكبار الموظفين ومشايخ البلد. ومع بزوغ عصر تملُّك الأراضي، تحوَّل الفلاحون المصريّون من أصحاب ملكيّةٍ أثريّةٍ (لا يمكن طردهم وتوريث أراضيهم)، إلى مجرّد عاملين بالزراعة بأجرٍ أو مُشارَكةٍ في المحصول، ليكون ذلك بمثابة انقلابٍ حقيقيٍّ حلَّ في القرية المصرية على جميع الأصعدة.

كما اندمجت مصر بشكلٍ أكبر في السوق العالميّة، وباتت الأراضي الزراعيّة المصدر الأول للثراء، ليسمح هذا الوضع بتدخُّل الأجانب عبر القروض التي بلغت 91 مليون جنيهٍ في نهاية عهد الخديوي إسماعيل. وفي محاولةٍ منه لتسديد الديون، أصدر الخديوي إسماعيل ما عُرف بـ”قانون المقابلة”، الذي يقدّم لمالك صكّ الملكيّة في حال دفعه ستةَ أضعاف الضريبة المفروضة على أرضه مرةً واحدةً، إعفاءً من نصف الضريبة بشكلٍ دائمٍ، لكن سرعان ما سقطت مصر في قبضة الدائنين، ليدخل الإنجليز مصر غازِين عام 1882.

في تلك الحِقبة، عمل الإنجليز على إعادة تنظيم ملكيّة الأراضي على النمط الأوروبيّ؛ فأصدروا قانوناً عام 1882 يقضي بالملكيّة التامة، لاغياً كلَّ ما سبق من أشكال الملكيّة التي عرفتها الأرض الزراعيّة في مصر. وبدأت تنمو تحت رعاية الاستعمار، إلى جانب الأسرة العلويّة، طبقةٌ من النخب التركيّة والأجنبيّة والبرجوازيّة المصريّة العليا، حيث مكّنتها الملكيّة الخاصّة من تحقيق تراكمٍ رأسماليٍّ، ليبدأ الانفصال عن الأرض الزراعية عبر تأجيرها والاستفادة من العوائد فحسب؛ إذ بلغت نسبة الأراضي المؤجّرة عام 1950 نحو 60% من مُجمل الأراضي. وعلى الجانب الآخر، تحوّل قطاعٌ كبيرٌ من الفلاحين المصريين إلى عمّال تراحيل، بوصفهم مزارعين تقلّصت أرضهم ولم تعُد تمنحهم ما يكفيهم للعيش، أو عمّال تملية- وهم مزارعون بلا أرضٍ- أو عمّالٍ في المدن.

في عام 1952، بدا النظام الملكيّ أكثر استقراراً بعد نصف قرنٍ من إقرار الملكيّة الخاصّة للأرض الزراعية وإلغاء كلّ أشكال الحِيازة الأخرى، لكنّ هذا الاستقرار كان استقرارَ ما قبل العاصفة؛ حيث ستشهد الملكيّات تحوّلاتٍ جديدةً في النصف الثاني من القرن العشرين.

الفلاحون والأرض والسلطة في النصف الثاني من القرن العشرين

ينطلق الفصل الثاني من الكتاب من ديناميكياتٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ حلّت في مصر في الفترة 1952-1997، شملت تغييراتٍ في هياكل الملكيّة للأرض الزراعيّة، كان ظنُّ بعضهم أنها قد حُسِمت بقوانين الملكية الفرديّة البريطانيّة عام 1882.

في ضوء ما سبق، يُشير المؤلّف إلى أنّ هياكل الملكيّة الفردية خُرقت عبر قانونيْ الإصلاح الزراعي الأول عام 1952، والإصلاح الزراعي الثاني عام 1961، ليُسنّ لاحقاً قانونٌ آخرُ عام 1966، والقاضي بمنح المستأجِر حقَّ التوريث، شرطَ أن يكون الوريث عاملاً بالزراعة، كما يشدّد القانون على تحديد القيمة الإيجاريّة لمنع المضاربات والقضاء على استغلال المُلّاك العقاريين، فارضاً تقسيماً متساوياً على التكاليف والانتفاع من المحاصيل بين المالك والمزارع.

ومع نهاية الحقبة الناصريّة، مثّل حكم محمد أنور السادات عصراً جديداً للزراعة المصريّة، ليس بدلالته الإيجابيّة، بل السلبيّة؛ إذ شكّل بامتيازٍ عصراً للإفقار والتمييز ضدّ الفلّاح المصريّ، فأصدر السادات عام 1971 قراراً قاضياً بتعويض الإقطاعيين عن الأراضي التي صُودِرت منهم عام 1952، ليبلغ التعويض نحو 70 مِثلاً لضريبة الأطيان الزراعية، بالإضافة للقيمة السوقيّة للمُنشآت والحدائق التي شُيِّدت سابقاً على تلك الأراضي المُصادرة، بجانب إلغاء الحراسة عن ممتلكات 1200 أُسرةٍ من عائلات مصر الغنيّة.

وفي عام 1975، أقرّ البرلمان المصريّ إمكانية طرد المُستأجر من الأرض الزراعية حال تأخُّره مدّة شهرين في دفع الإيجار. ثمّ شرَعَ عام 1976 بتفكيك البينة التعاونيّة التي أرساها جمال عبد الناصر؛ إذ أُصدِر قرار حلّ الاتحاد التعاونيّ الزراعيّ، ثمّ أوقِفت المؤسسة العامّة للائتمان الزراعيّ التعاونيّ، وأُلغِيت الهيئة العامّة للتعاون الزراعيّ، لحقه كذلك حلُّ اللجان المحلية لفضّ النزاعات حول الأراضي الزراعية، في حين أُحِيلت هذه النزاعات إلى القضاء العادي.

وعندما وصل حسني مبارك لسدّة الحكم، أطلق العنان لمزيدٍ من التحرير “المُشوّه” للاقتصاد المُتعلّق بالزراعة تحديداً؛ إذ توصّل مبارك لاتفاقٍ مع الهيئات المالية الدولية عام 1991 من أجل الإصلاح الاقتصاديّ والتثبيت الهيكليّ.

وبهذا، أُوكِل رسم سياسات مصر الزراعيّة والريفيّة إلى البنك الدوليّ والوكالة الأمريكيّة للتنمية، إذ رأت هذه المنظّمات، فيما رأت، بضرورة الحدّ من الحِيازات الصغيرة للأراضي الزراعية مقابل التوسُّع في التكنولوجيا الزراعيّة واستصلاح الأراضي الصحراويّة من أجل الزراعة الكثيفة التي ستصبُّ لاحقاً في سلّة التصدير. كما أوصت هذه المنظّمات الدولةَ بنفض يدها من العملية الزراعيّة تماماً، مقابل إطلاق يد السوق والقطاع الخاص للتحكُم في القطاع الزراعيّ، بالإضافة إلى تخلّي الدولة عن سياسة الاكتفاء الذاتيّ، والانتقال لسياسة الأمن الغذائيّ، التي تقضي باعتماد الدولة على زراعة المحاصيل ذات الميزة النسبيّة وتصديرها، ثمّ استيراد احتياجاتها من سلعٍ أخرى لا تتمتّع بنفس الميزة النسبيّة!

وفي إطار السياسة النقديّة النيوليبراليّة لعصر مبارك، أُعيدَت الهيكلة بين المالك والمستأجر للأرض الزراعية؛ إذ صدر قانونٌ آخر عام 1992 يقضي بتحرير القيمة الإيجاريّة للأرض الزراعيّة خلال خمس سنواتٍ من تاريخه، وعلى هذا الأساس طُرِدَ 904 ألف مُستأجرٍ من أراضيهم.

واقع الزراعة الفلاحيّة والفلّاحين في الوادي والدلتا

يقدّم الباحث، في الفصل الثالث من كتابه، واقع حياة الفلاح في الوادي والدلتا، وما طرأ عليها من تغيّراتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، مُنتِجةً إشكاليةً تمثّلت في توزيعٍ غير عادلٍ للغذاء في مصر، نتيجةً لاتخاذ سياسة الأمن الغذائيّ والحالة الكليّة لإنتاج الغذاء، وتقلّص حجم الفجوة الغذائيّة، إذ إنّ توفُّر الغذاء على المستوى القوميّ لا يعدُّ مؤشراً أو نظيراً لقدرة الأفراد على الحصول عليه، فرغم أنّ الأسواق كانت ملأى بالسلع، إلا إنّ المواطنين لم يكن بمقدورهم الحصول عليها نتيجة غلاء أسعارها.

على وقع ذلك، يلخّص الكتاب الواقع الاقتصاديّ – الاجتماعيّ للفلّاح المصريّ في ثلاثة عناصر، وهي:  مسألة الفقر الريفيّ، وأوضاع النساء والأطفال في القطاع الزراعيّ، والهجرة الانتحاريّة للفلاحين.

في سياقه هذا، يشير الكاتب إلى دور السياسات الناصريّة في تقليص الفقر الريفيّ في مصر من 50% إلى 24%. بقي هذا الحال على ما هو عليه إلى حين بروز النيوليبراليّة، وعودة معدلات اللامساواة والفقر أدراجها للارتفاع. تزامن ذلك مع عودة 65% من أهل الريف، ليصبحوا فلاحين مُعدَمين بلا أرضٍ، أو بأرضٍ مساحتها أقلّ من فدّانٍ واحدٍ، فيما شكّل شباب الريف 85% من شباب مصر الفقراء.

أنتجت الحقبة النيوليبراليّة مفهوماً قاصراً للفقر الريفيّ أدّى إلى خللٍ في سياسات الدولة، والتي عملت بالأساس على تحسين مستوى الإنفاق والاستهلاك في الريف، إلى جانب استهدافها فئاتٍ وقرىً بعينها لتلْقى الدعم، ليزيد ذلك من اتّساع الفجوة الاجتماعيّة واللامساواة بين طبقات المجتمع، خصوصاً بالنظر إلى مفهوم الفلاحين الخاصّ إزاءَ الفقر، الذي يتأتّى في ظلّ انعدام أو صعوبة الحصول على الموارد والخدمات والسكن والمكانة والاعتراف الاجتماعيين.

في تلك الحقبة أيضاً، ساءت أوضاع المرأة التي انحسرت ملكيّتها للأرض مقابل الرجال، وتردّى مستوى التعليم والخدمات المُقدّمة لها في المناطق الريفيّة، حيث إنّ 44% من الريفيّات العاملات أمّياتٌ، فضلاً عن انحدار وضع الأطفال في القطاع الزراعيّ؛ فبعد أن كانت عمالة الأطفال في طريقها للانحسار في الزراعة القرويّة، عادت بشكلٍ كبيرٍ وملحوظٍ في القطاع الزراعيّ الاستثماريّ الحديث.

من ناحيته، يعرّج الكتاب على إقدام تنظيم “داعش” في ليبيا عام 2015، على ذبح 21 مصريّاً “مسيحيّاً” يعملون هناك من أبناء الفلاحين في محافظة المنيا؛ إحدى أفقر محافظات مصر، مُلقياً الضوء على الحادثة من زاويةٍ مُغايرةٍ تماماً للبعد الأمني/الديني، متسائلاً: لماذا يذهب المصريون- خصوصاً الفلاحين- إلى هذا الجحيم؟ وهل هناك بدائلُ أخرى، أو بالأحرى هل تركت السلطة بدائلَ لهم؟

تكمُن الإجابة على هذه الأسئلة في تعريف العنف الهيكليّ الذي يشير إلى القرارات السياسيّة والاقتصاديّة والترتيبات الاجتماعيّة التي تموضع الأفراد في مواقع الضرر؛ الأمر الذي دأبت السياسات النيوليبراليّة على نهجه، لتعصِفَ بحياة الفلّاح المصريّ، وتضطّره لهجرِهِ أرضَه لعدم جدوى العمليّة الزراعيّة الصغيرة اقتصاديّاً، أو لتدبيره مالاً يمكّنه من إيجار أرضٍ زراعيّةٍ يعمل على زراعتها لبعض الوقت.

وبعد تردّي حال الفلاح وانهيار الأرض الزراعيّة، تحت محاولات التحديث وأدوات الثورة الخضراء، وعمليات التسميد والميْكَنة والارتفاعات الجنونيّة في الإيجارات، والتي تبعها سعيٌ جنونيٌّ إلى التراكم الماديّ للأرباح على حساب الاهتمام بالتوازن الضروريّ مع البيئة الزراعيّة والحفاظ على الأرض، حاولت الدولة المصرية الخروج من المشكلة عبر التوسّع في الصحراء، بما يضمن توسيعاً للحدود الأيكولوجيّة والرأسماليّة؛ الأمر الذي أنتج مزيداً من الخلل بين المجتمع والبيئة، أو ما يعرّفه  “جون فوسير” بـ”التصدُّع الأيكولوجيّ – الاجتماعيّ”.

سراب المستثمرين الأخضر

ينطلق الباحث، في الفصل الرابع من الكتاب، من الإشارة إلى تأسيس المشروع المصريّ الأمريكيّ للتحسين الريفيّ عام 1951، عبر اتفاقٍ بين الحكومة المصريّة والولايات المتحدّة الأمريكيّة، يقضي بالدعم الأمريكيّ لاستصلاح الأراضي الزراعيّة في مصر. وبعد تغيُّر النظام السياسيّ المصريّ في يوليو 1952، مُدِّد الاتفاق بين الولايات المتحدة ومصر على أساسٍ تعاونيٍّ يهدف لتنمية المجتمع المحليّ في المناطق المُستصلحة.

يعدّ مشروع مديريّة التحرير أول مشروع استصلاحٍ للأراضي الصحراويّة في زمن نظام يوليو 1952، إذ كان نموذجاً مُستلهَماً من “مزارع الاتحاد السوفيتي”، غير أنّه بعد انتهاء الحقبة الناصريّة في سبعينيّات القرن الماضي، تمّت المُباشَرة بتفكيك مزارع الدولة وتقسيم الأرض، لتُوزَّع 6500 قطعة أرضٍ على صغار الفلّاحين والخريجين.

في عصر السادات، جرى الحديث عن تِرعة السلام  وتعمير سيناء، بالإضافة إلى مشروعٍ استصلاحيٍّ في الصالحية. وفي أواخر السبعينيّات، رفع الرئيس الراحل أنور السادات شعار “غزو الصحراء”، لتبدأ شركة “المقاولون العرب” باستصلاح واستزراع أراضي الصالحية بواقع ثلاثة ملايين فدّان. غير أنّ الدراسة التقييمية الممّولة من هيئة المعونة الأمريكيّة ووزارة الزراعة المصريّة تشير إلى أنّ نحو 58% فقط من الأراضي المُستصلحة تمّت زراعتها بالفعل، فيما 24% منها اعتُبرتْ منتجةً على نحوٍ فعّالٍ.

سرعان ما عادت مسألة حيازة الأراضي للواجهة من جديد، فقبل شهرين من اغتيال السادات، أصدر الأخير قانون الأراضي الصحراويّة بتاريخ 30 أغسطس لعام 1981، لتصدُر لائحته التنفيذيّة في بداية عصر حسني مبارك، ويلغي القانون بدوره كلّ أشكال وضع اليد واستغلال الأراضي الصحراويّة، مقابل منح القوات المسلحّة وهيئة التعمير والتنمية الزراعيّة سلطاتٍ واسعةً على الأراضي الصحراويّة.

وفي أواخر الثمانينيّات، بدأت حكومة مبارك بتوزيع ما تبقّى من مزارع الدولة على صغار الفلاحين والمستثمرين، وتوسيع دور القطاع الخاص في استصلاح الأراضي، فضلاً عن إطلاقها عدّة مشروعاتٍ استصلاحيّةٍ عملاقةٍ، وهي: قناة السلام وتطوير سيناء بمجموع 620 ألف فدّانٍ، ومشروع تنمية جنوب الوادي توشكي – الوادي الجديد بإجمالي 3.3 مليون فدّانٍ، ومشروع شرق العوينات للتنمية بواقع 250 ألف فدّانٍ.

وعلى سبيل المثال لا التفصيل لكلّ مشروعٍ، كان المُستهدف من مشروع “توشكي” استصلاح 540000 فدّانٍ، ودعم الطاقة البشريّة عبر خلق 450000 وظيفةٍ سنوياً، إذ كان من المقرّر أن يستوعب المشروع في نهايته من أربعةٍ إلى ستة ملايين مواطنٍ خلال عشر سنواتٍ؛ أيّ بحلول نهاية عام 2017 . غير أن معطيات الواقع تشير إلى أنّ المخطّط كان طموحاً للغاية، ولم يستطع تلبية السقف الأدنى من تصوّراته وتطلّعاته المستقبليّة، إذ لم يتجاوز عدد الوظائف التي استطاع تأمينها للمصريين الـ750 وظيفةً حتى عام 2006، كما لم تتعدَّ الأراضي المنتجة الأربعة آلاف فدّانٍ!

أمّا عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، فإنّه يحمل مفارقةً لافتةً، فبينما يحاول دوماً تظهير دأبه السياسيّ في معالجة النتائج الكارثيّة الناجمة عن تخصيص الأراضي الزراعيّة لذاك الشكل من الاستثمار في عهد حسني مبارك، إلّا أنّه يشقّ الطريق ذاتها التي أودت لخساراتٍ فادحةٍ بحقّ الأرض والفلاح، وضخّمت جيب المستثمر وحده، إذ بدأت في عهده دورةٌ جديدةٌ من استصلاح الأراضي الصحراويّة، بما يُعرف بمشروع “المليون ونصف فدّانٍ” أو مشروع “الريف المصريّ الجديد”، إذ خصّصت الدولة مجدداً 75% من الأراضي لهذا الشكل من الاستثمار. تقودنا هذه المشهديّة المكرّرة إلى استشراف صورة الفلاحين والأراضي المصريّة بأكثر الأشكال طحناً لحاجاتهم وآمالهم، على نحوٍ يعيد إنتاج المرحلة السابقة، إذ شهدت حقبة مبارك بناءً وتسقيعاً للأراضي التي كان يُفترض استصلاحها، فشُيَّدت فوقها منتجعاتٌ وقرى سياحيّةٌ، فيما مياه الري التي كانت تُسحب من الوادي والدلتا، فباتت تروي ملاعب “الغولف”، بدلاً من ريّها حقولاً جديدةً!

إجمالاً، لا شكَّ أنّ عملية فصل المنتجين الزراعيين عن الأرض في الوادي والدلتا قد فشلت، على الرغم من كلّ المحاولات المستمرة لاستنساخ “نموذج كاليفورنيا” القائم على الملكيّات الكبيرة ونظام المزرعة والريّ الحديث، وإدارة المهندسين الزراعيين والفنيين المدجّجة بالمبيدات والأسمدة، وأقلّ عددٍ من الأيدي العاملة.

ومنذ عام 1952 حتى عام 2003، لم يتعدَّ المنتقلون من الوادي والدلتا إلى أراضي الصحراء الـ 65 ألف أسرةٍ، واذا افترضنا الاستقرار الكامل لهذه الأُسر في المناطق الجديدة، يمكننا الاستنتاج أنّنا أمام انتقال 400 إلى 500 ألف شخصٍ خلال خمسين عاماً؛ على اعتبار أنّ السكان بالمجمل لم ينتقلوا، بيْدَ أن الملكيّة من انتقلت من يد الدولة أو المجموعات المحليّة في الأراضي القريبة؛ من نطاقات حركة القبائل البدويّة والرعويّة إلى يد الرأسماليّة وبعض الفلّاحين الكبار.

نموذجٌ زراعيٌّ بديلٌ

في الفصل الخامس والأخير من الكتاب، يحاول الكاتب رسم خطوطٍ أوليّةٍ لمقترحاتٍ تعالج المسألة الزراعيّة المصريّة من جوانبها كافةً، إذ لم يتجاهل البيئة وضرورة صيانة مواردها، ولا الفلاح وحقّه في ظروفٍ آمنةٍ وحياةٍ تساعده على الإنتاجية بشكلٍ أكثر كفاءةً، ولا المستهلك وحقّه في الحصول على مُنتجٍ غذائيٍّ صحيٍّ وآمنٍ وكافٍ.

ينطلق الباحث، في مقترحاته تلك، من ضرورة المعالجة الهيكليّة للفقر والجوع وسوء التغذية في الريف المصريّ، وتطوير التكنولوجيا الزراعيّة عبر صيانة الأرض الزراعيّة، وتنقية مياه النيل وعودة الدولة للسيادة على سوق التقاوي والأسمدة، إضافةً إلى اتخاذ طريقٍ جديدةٍ للسيادة الغذائية قائمةٍ على أولوية حقوق الناس في إنتاج الغذاء، والغذاء أولاً، قبل الحقوق التجارية؛ فالغذاء حقٌّ، وليس سلعةً.

كما يبني الباحث آمالاً على الزراعة البيئّة، التي تتجاوز المفهوم العلمي نحو اشتمالها على مجموعةٍ من الممارسات الفلاحيّة، وممارسات الحركة الاجتماعيّة الشاملة، مشدّداً بدوره على دور كليات الزراعة في مصر لنشر فكرٍ زراعيٍّ بديلٍ وجديدٍ وأكثر فاعليّةً.

بناءً على ما تقدّم، يقترح هلال النور، وبشكلٍ من التفصيل العلميّ، نموذجاً زراعيّاً بديلاً قائماً بشكلٍ أساسيٍّ على التوازن بين الإنسان والبيئة، بحيث يتوفّر فيه الأساس العلميّ والمنهجيّ والتكنولوجيّ، ويتّسم في الوقت ذاته بالتنوّع البيولوجيّ، والمرونة البيئيّة والفاعليّة الاقتصاديّة، والعدالة الاجتماعيّة.

تعليقٌ ختاميٌّ

بدأتُ مُتثاقلاً في قراءة الكتاب، إلّا أنّني انتهيتُ منه في غضون أيامٍ قليلةٍ، مُعاوداً قراءة أكثر من فصلٍ عدّة مراتٍ، إذ كان من الصعب استعراض هذه الدراسة في مقالٍ واحدٍ؛ فكلُّ سطرٍ في الكتاب يحمل فكرةً ومعلومةً جديدتين، وأفقاً واسعاً. كما أنّه من العسير الكتابة عن كتابٍ لا تختلف معه ولا تشتبك وإيّاه؛ حيث اتفقتُ مع كلّ ما جاء في الكتاب جملةً وتفصيلاً، غير أنّ أهمية الكتاب ورغبتي في مشاركته مع القراء مثّلتا دافعي الأساسيّ لتقديم أبرز طروحاته، حيثُ مسألة الملكيّة للأراضي الزراعية وتطوّراتها، والتحول الرأسماليّ – النيوليبراليّ، وتأثيره على حياة الفلاحين الذين يبدون ضحايا أنظمةٍ سياسيّةٍ متعاقبةٍ تحمل رؤىً أيديولوجيّةً لصالح المنظومة الرأسماليّة.

إنّ المثير في هذا الكتاب، باعتقادي، طرحُه الذي يبدو عابراً للمكان، إذ إن تموضُع مصر كحالةٍ دراسيّةٍ في الكتاب لا يلغي صلاحية طرحه المُترجِم، باقتدارٍ، آلياتِ تغلغُل المنظومة الرأسماليّة في التحكُّم بمفاصل المسألة الزراعيّة والفلاّحيّة في مصر، في التعبير عن منطقٍ عامٍّ تستنسخه الرأسماليّة تجاه الأرض والفلاّح في مكانيّاتٍ مختلفةٍ غير مصر.

في نهاية المطاف، يمكنُني القول إنّ الحلول التي يطرحها الكتاب، وإن كانت تحتاج كثيراً من الجهد والحلم، إلّا أنّها مقبولةٌ للغاية؛ من حيثُ فكرة المحاولة في طرحها، والنداء بها لإنقاذ ما بقي من زراعةٍ وفلّاحٍ في مصر، قبل أن نخسر آخر ما تبقّى لنا، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أنّ مسألة المعرفة الزراعيّة التي يقترحها خبراء الزراعة الفلاحيّة البديلة لا تحوّلهم إلى خبراء جدُدٍ، في وقتٍ ينقصون فيه من دور الخبراء في التنمية الفلّاحية، خاصةً على صعيد الزراعة الأيكولوجيّة، علماً أنّ أيّ حلولٍ تأخذ من “التقنيّة” رافعةً أساسيّةً لها بمعزل عن السياسة، لا يمكن التعويل عليها.

******
الهوامش
[1] يُذكر أن حركة “طريق الفلاحين الدوليّة” تأسّست في العام 1993 من قبل منظمات المزارعين في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، وتدافع الحركة عن الزراعة المستدامة كوسيلةٍ لتعزيز العدالة الاجتماعية والكرامة، وتعارض بشدّةٍ الزراعة التي تقودها الشركات الاحتكارية والعابرة للدول التي تنتج المبيدات والأسمدة الكيماوية والأغذية المعدّلة وراثيّاً، التي تدمّر الناس والطبيعة؛ وهي حركةٌ مستقلّةٌ تناهض سياسات العولمة والرأسماليّة العالميّة واحتكارها للأسواق، وتناصر تثبيت السيادة على الغذاء كمفهومٍ سياسيٍّ يتطلّب السيادة على الأرض والموارد والمياه، وحقّ الدول والشعوب في استغلال مواردها.
[2] تحيلنا المسألة الزراعيّة إلى هيكل وديناميكيّة عملية الإنتاج، ومساهمة الزراعة في التنمية الرأسمالية ككل، فضلًا عن تتبّع التحوّل في السياسات الريفيّة، ومدى استجابة الفلاحين لهذه السياسات، من حيث التغيّر في أساليب الزراعة، وطرق حيازة الأراضي، ونمو رأس المال، إضافةً إلى الأثر البيئيّ على الأرض نتيجة هذه السياسات.
[3] تميّزت حقبة محمد علي بتشغيل الفلاحين المصريين بنظام السخرة، إذ كان يحشد كلّ عام حوالي 400 ألف فلّاحٍ من أجل أعمال الريّ. كما أن إنشاء التِرع التي ميّزت حقبته قامت على استعباد الفلّاحين، وكلّفتهم حياتهم أحياناً، إذ جنّد الباشا 300 ألف فلاحٍ مصريٍّ لحفر ترعة المحمودية، ليموت ثلثهم جرّاء البرد والجوع والأمراض. لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل بطش “الباشا” بالفلاحين حينما ثاروا على سياساته الجائرة إزاءهم، إذ قتل منهم حوالي 4 آلافٍ في العام 1822، ودكَّ قراهم بالمدافع عام 1823، وفرَضَ قوانينَ جديدةً تقضي بمزيدٍ من العقاب بحقّهم.ِ