تقدّم لنا آيات عفيفي ترجمةً تلخيصيةً لدراسةٍ تستعرض وقائع انتشار “الانفلونزا الإسبانية” في فلسطين وبلاد الشام، تزامناً مع انتشار جيوش الاستعمار البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، متتبّعةً تمدّدها وتأثيراتها على بلاد الشام عشيّة تنفيذ المشروع الصهيوني.

ترجمة: آيات عفيفي

توطئة

أثار تفشي جائحة “الكورونا” في العالم، بما في ذلك فلسطين، اهتماماتٍ بالسوابق التاريخية للأوبئة، وعلاقتها بالأحداث السياسية والأحوال الاجتماعية للبشر. كُتب القليل عن “الانفلونزا الإسبانية”، والتي كان لفلسطين وبلاد الشام نصيبٌ من آثارها الكارثية، لا سيّما مع تزامنها مع أحداث الحرب العالمية الأولى التي غيّرت وجه المنطقة، وقادت إلى رحيل الحكم العثماني واحتلال الاستعمار البريطاني والفرنسي لبلاد الشام، فضلاً عن تهيئة تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين. جرى كلّ هذا في ظرفٍ كانت فيه البلاد وأهلها على أقصى درجات الضعف والوهن بسبب نتائج الحرب والمجاعات والأوبئة المختلفة.

تقدّم لنا هذه الترجمة التلخيصية، لورقة بحثية [1] بعنوان “تأثير جائحة العام 1918 على سوريا الكبرى”، نظرةً على حال أهالي بلاد الشام وفلسطين خلال العام 1918. تتبّع الورقة  تأثير ما عُرف باسم “الانفلونزا الإسبانية” على القوات العسكريّة المتواجدة في المنطقة، فضلاً عن أثرها على مجريات الحرب، متابعةً تمدّد الوباء بالتزامن مع انتشار القوات البريطانية. كما تشكّل الوثائق الخاصة بهذا الوباء مادةً مهمة في معرفة وتتبّع الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، ليس فقط من ناحية تأثير الوباء على أهالي المنطقة، بل من خلال الإحاطة بشروط الحياة في تلك الفترة وظروفها.

****

مقدّمة

تزامن تفشّي وباء “الانفلونزا الإسبانية” مع نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي نجم عنها سقوط إمبراطورياتٍ عظمى، منها الإمبراطورية العثمانية. تتفاوت تقديرات الوفيات العالمية الناجمة عن الانفلونزا بشكلٍ كبير؛ بين 30-100 مليون إنسان، واعُتبرت “أسوأ كارثةٍ ديمغرافية في القرن العشرين”. لم تنشأ هذه الجائحة في إسبانيا، ولكنّها اكتسبت الاسم بسبب التفشّي واسع النطاق فيها، والذي قد يرجع لعدم مشاركة إسبانيا في الحرب وإعلانها عن الحالات المسجّلة، وظلّ الاسم عالقاً. يُعتقد أنّ الموجة الأولى ظهرت ما بين أواخر 1917 ومطلع 1918 في الولايات المتحدة الأمريكية، لتجتاح العالم خلال أربعة شهور. وفي نهاية شهر آب، ظهرت سلالةٌ جديدةٌ من الفيروس، ويُرجّح في فرنسا، لينطلق في موجةٍ ثانيةٍ أشدّ ضرواة، ثمّ جاءت في موجةٍ ثالثةٍ ورابعة حتى عام 1920.

حصدت الأمراض أرواحاً أكثر ممّا فعلت حروب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وذلك حتى مجيء الحرب العالمية الأولى التي تجاوزت أعداد الوفيات بسببها تلك الناجمة عن الأمراض. ومع ذلك، لا تتعلق الكوارث الديمغرافية بما تحصده من أرواحٍ فحسب، بل بمن نجا منها أيضاً، وتتخطّى الدراسات المعنية بالأمراض المُعدية حدود تاريخ الطب؛ فيُمكن للأوبئة أن تكون حدثاً تاريخياً مدمّراً، له آثاره الاجتماعية والاقتصادية والنفسية العميقة وبعيدة المدى على المجتمعات، وتشكّل دراستها مدخلاً لاكتمال فهم الماضي، فضلاً عن تقديمها درساً قيّماً للمستقبل.

وإلى جانب تعتيم الدول المشاركة في الحرب على عدد الضحايا، يعتبر الباحث الألماني “غويدو شتاينبرغ” أنّ غياب الانفلونزا عن المراجع التاريخية ينسجم مع حالة “فقدان الذاكرة” العالمية التي ضربت البشرية بعد ويلات الحرب العالمية الأولى. ويُرجع صمتها في بلاد الشام إلى أنّ الموت بفعل المجاعة والأمراض كان “أمراً روتينياً” في تلك الفترة، وغلبت عليها أهوال الحرب ومجموعة الأحداث الأخرى التي كانت تبدو أكثر أهمية في حينها. ويعزو “تيموثي ميتشل” هذا الصمت لـ “عدم ارتياح” علماء الاجتماع لدور العوامل غير البشرية في تغيير الأحداث التاريخية؛ “الروايات التاريخية لها عددٌ محدودٌ من الفاعلين”.

آخذين بعين الاعتبار هذا الأثر المدمّر، وانطلاقاً من ضرورة فهم دور الأوبئة في تشكيل التاريخ البشري، تنظر هذه الورقة إلى تأثير “الانفلونزا الإسبانية” على بلاد الشام، بالاستناد إلى التقارير العسكرية والمذكّرات الشخصية المتوفّرة كمراجع أساسيةٍ. ولهذه المراجع محدّداتها؛ تخضع هذه التقارير للرقابة العسكرية التي كانت تمنع بدورها نشر التفاصيل والأخبار السيئة، ولم تُعنَ التقارير الطبية الصادرة عن المؤسسة العسكرية البريطانية إلا بصحة مقاتليها، بينما يُمكن لليوميّات الشخصية أن تكون مضلّلة.

أظهرت المصادر العسكرية، دون شكٍ، ارتفاع معدلات الوفيات الناجمة عن الفيروس بين صفوف القوات العسكرية. في المقابل، تكشف المراجع التاريخية القليل من الأدلة حول تأثيرها على السكّان، وهو ما يجعل محاولة تحديد معدل الوفيات الناجمة عن الانفلونزا مهمّةً شبه مستحيلة. ولكن، يعطينا معدل الوفيات في حامية المدينة، والذي وصل 11.8%، وهي حالةٌ معزولةٌ [بفعل حصارها] وموثّقةٌ جيداً، فكرةً عن التأثير المدمّر للانفلونزا في بلاد الشام. وعلى الرغم من عدم وجود وثائق أو سجّلات مدوّنة بشأن الوباء، إلا أنّه ترك ندبةً، على الأقل، في الذاكرة الشعبية، والتي أطلقت على هذا العام اسم “سنة السَخنة”، في إشارة إلى الحمّى؛ أبرز أعراض الوباء.

انتشار الانفلونزا في بلاد الشام

منذ أيلول 1918، طرقت الموجة الثانية من الوباء كلّ زاويةٍ في العالم، ليبلغ ذروته في الأسبوع الأول من كانون الأول، قبل أن يبدأ بالانحسار. كانت الحركة الواسعة للقوات المسلّحة خلال الحرب العالمية الأولى عاملاً أساسياً في تفشّي “الانفلونزا الإسبانية”. يُرجّح أن هذا الوباء وصل إلى محيط البحر الأبيض المتوسط في أوائل شهر أيلول 1918، عبر سفينةٍ، بريطانية أو فرنسية، مُتّجهةٍ إلى ميناء سيناء في مصر. يمكن الاستنتاج أنّ الوباء وصل إلى مصر في أيلول، لتصبح قناة السويس فيما بعد نقطةً استراتيجيةً لتفشّيه شرقاً نحو الهند وبلاد الرافدين. ويُرجّح أنّ يافا كانت المحطّة الأولى لوصول الفيروس إلى بلاد الشام، وذلك عبر السفن والأساطيل البريطانية القادمة من مصر.

وبحلول تشرين الأوّل 1918، سهّلت حركة الجيش البريطاني وأساطيله (بين موانئ الإسكندرية وبورسعيد وحيفا وبيروت ويافا وطبريا) من نشر الوباء أكثر وأكثر. ومع احتلال مدينة حيفا، تباطأت العمليات العسكرية البريطانية لتوفّر المدينة خطّاً مباشراً لإجلاء المصابين إلى الإسكندرية مباشرةً، حيث أُنشئ إذ ذاك مستشفىً ميدانيّ. أدّى فتح خطوط جديدةٍ عبر المدن الساحلية إلى تسهيل العمليات اللوجستية والتعزيزات، كما تمّ تحسين الشبكات البرية بإنشاء سكّة حديدٍ امتدّت من سيناء، إلى رفح عبر غزة، ومنها إلى بئر السبع  واللد، وصولاً إلى القدس. إضافةً إلى سكّةٍ حديديةٍ أُخرى وصلت بين يافا ونابلس وحيفا.

لم تنجح هذه الدراسة في إيجاد دليلٍ نصّيٍ على تأثيرات الموجة الأولى من الانفلونزا الإسبانية، ولكنّها تفترض أنّ قوات “الحملة المصرية” (EEF) كانت مسؤولةً عن نشر هذا الفيروس في بلاد الشام. لا تستبعد الدراسة مساهمة القوات العثمانية، وحلفائها الألمان، في نشره. لكن، وبالنظر إلى التحرّكات العسكرية حينها واعتماداً على تقرير العقيد “غارنر” الطبي، تعتبر الدراسة قوات “الحملة المصرية” (EEF) الإنجليزية المسؤول الفعليّ عن تفشّي الموجة الثانية من الوباء في المنطقة. فقد أعاقت سكك الحديد العثمانية غيرُ مكتملة البناء (من مدن جنوب تركيا، مثل بوزانتي وجبال طوروس والعثمانية، وكذلك جبال الأمانوس) التنقل إلى بلاد الرافدين والشام، ممّا أجبر الجنود العثمانيين على التحرّك مشياً على الأقدام في رحلةٍ مُدّتها شهران. الأمر الذي أهلك جهود الجيش وأبطأ سير عملياته العسكرية في فلسطين وبلاد الرافدين حتى آخر أيام الحرب. وفي مقابل هذه الحركة البطيئة للقوات العثمانية، كان لدى القوات البريطانية بنية تحتية ولوجستية فعالة مكّنتها من فرض حصارٍ بحري على سواحل بلاد الشام لضمان قطع الإمدادات العثمانية.

الوباء و”الحلفاء” يجتاحان البلاد

بعد دخول “ألنبي” مدينة القدس في 11 كانون الأول 1917، وعلى إثر إلحاق الهزيمة بالقوات العثمانية جنوباً، تعيّن على قائد القوات الإنجليزية في مصر وفلسطين الانتظار حتى العام التالي لاستكمال حملته شمالاً. ومع استئنافها في 19 أيلول 1918، كانت الموجة الثانية من الانفلونزا قد اشتدّت وبدأت الانتشار بين صفوف قوات “التجريدة المصرية”. [2]

وصل عدد قوات “الحملة المصرية” (EEF) أكثر من مئة ألف جنديّ ومن خمسمئة ضابط بحلول تشرين الأول بفضل التعزيزات، وكانت قوات الحلفاء -والانفلونزا الإسبانية- قد احتلّت بلاد الشام بأسره مع نهاية الشهر. قدّرت الدراسة الوصول المتوقّع للوباء إلى مدن بلاد الشام بتزامنه مع تاريخ احتلالها. فقد وقعت حيفا في قبضة الحلفاء في الثالث والعشرين من أيلول 1918، وعمّان في الخامس والعشرين، ثم درعا في السابع والعشرين، انتقالاً إلى بيروت في الثامن من تشرين الأول، وطبريا في الثالث عشر من ذات الشهر، وحمص في السادس عشر، وحماة في العشرين، وحلب في الخامس والعشرين من تشرين الأول. وقعت دمشق تحت الاحتلال في 1 تشرين الأول، ووصلتها الانفلونزا في السادس من الشهر.

يقدّم رقيب أوّل في الكتيبة الثالثة للواء المشاة الأسترالي وصفاً لمشاركته في هجوم “ألنبي” على دمشق: “نَجت القوات من التدمير ومن ويلات القذائف والمدافع الرشاشة، لكنها لم تنجُ من الانفلونزا التي غزت صفوفهم المنتشرة في جميع أنحاء سوريا. سقط الرجال كالذباب”، إلى درجة أنّ عدد الأحصنة فاق عدد الجنود.

وحول التأثير الفتّاك لاختلاط الأمراض المعدِية في دمشق، يقول المؤرّخ العسكري الأسترالي والمراسل الحربي الرسميّ، “هنري غالت”، إنّ الانفلونزا كانت عنصراً أساسياً، وانتشرت في المدينة بسرعةٍ فائقة. فقد شلّت الانفلونزا، إضافةً إلى الملاريا، أكثر من نصف خيالة الفيلق الأسترالي والنيوزيلندي (ANZAC). وخلال أسبوعٍ فقط، تضاعف عدد المصابين في صفوف القوات نحو ثلاثة أضعاف. تواصلت العمليات العسكريّة بعد سقوط دمشق، وكان على كتيبة الفرسان الخامسة، بقيادة اللواء “ماكآندرو”، الزحف بدون دعمٍ إلى حلب (واحتلّتها في 25/10).

وكذلك الأمر في الجبهة الجنوبية، حيث فقد فيلق “الأنزاك”، بقيادة الجنرال “شايتر”، أكثر من 8 آلاف جنديّ إما بسبب الملاريا أو الانفلونزا الإسبانية خلال العمليات العسكرية في تشرين الأول والثاني، وذلك من أصل 13 ألفٍ، بينهم كتيبتا 38 و39 من الفيلق اليهودي المتطوّع في صفوف الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى. [3] وبعد شنّها غارةً من وادي الأردن على عمّان، انسحبت قوّة “شايتر” نحو القدس وبيت لحم.

وبعد إنهاء الكتيبة 38 في الفيلق اليهودي مهمتها في معركة مجدّو الحاسمة في 20 أيلول، حيث قتل أربعةٌ من جنودها في القتال، تمّ تكليفها بنقل أسرى الحرب إلى القدس، حيث مرض 80% من أفرادها، وفاق عدد الذين نال منهم المرض أولئك الذين سقطوا خلال القتال. وفي أوائل تشرين الأول، كُلّفت الكتيبة 39 بمهمةٍ مشابهة لنقل أسرى عثمانيين وألمان، وسقط الكثير من أفرادها بسبب الملاريا. وتدّعي المصادر الذي اطّلع عليها الباحث أنّ ما بين 3000-4000 أسير حرب من القوات العثمانية تُوفّي بسبب الانفلونزا.

لم يلتفت الصهاينة في كتابتهم عن تلك الفترة سوى لتعداد أيام الحرب وقرب انتهائها من أجل تطبيق وعد “بلفور”، ولم يُعيروا اهتماماً فيها لأكثر الكائنات غير المرئية فتكاً؛ الانفلونزا الإسبانية. وقد تكشف المذكرات المكتوبة بالعبرية للمهاجرين اليهود عن المزيد من الأدلة حول تأثير الوباء، إلا أنّها مهمَّةٌ تتجاوز قدرة الباحث.

كان شتاء 1917-1918 ومجاعة سنوات الحرب في بلاد الشام شديدين للغاية. تطرّق المؤرّخون العرب للمجاعة، ولكنّهم لم يأتوا على ذكر هذه الجائحة، وغلب الحديث عن الأحداث السياسية ومجاعة سنوات الحرب على كتاباتهم. حتى خليل السكاكيني، والتي تشكّل ملاحظاته مصدراً قيماً للمؤرّخين الاجتماعيّين العرب، لا يذكر الإنفلونزا، على الرغم من تزامن وجوده في مصر مع بدء الموجة الثانية من الوباء.

وُصف المشهد في بيروت بأنّه كان مفجعاً ومحطّماً للقلوب. خلت القرى من سكانها، وتجمّع أهالي القرى اللبنانية على جنبات الطريق بحثاً عن ملجأ أو طعام على طول مسار زحف قوات الحلفاء. قُدّر عدد الموتى بسبب المجاعة في حلب نحو 100 شخصٍ يومياً، معظمهم من اللاجئين الأرمن حسب تقديرات القنصلية الألمانية. وُصفت حالة دمشق بالـ “بائسة”، ولم تستقبل مشافي المدينة سوى الحالات بالغة الخطورة، وعانت الأجنحة المكتظة فيها نقصاً في الأطباء ومساعديهم وحتى المتدربين. وهناك بعض الأدلة الظرفية التي تؤكّد أن طبريا وصفد عانتا بشكلٍ خاص بعد احتلالهما في نهاية أيلول. احتدم الجوع والتيفوس وأوبئة أخرى بين السكان في تشرين الأول، وحُصدت أرواح الكثيرين من أهلها، وجاب الأطفال اليتامى والذين فُصِلوا عن أهلهم الشوارعَ جياعاً.

وُجد الدليل النصّي الأول للانفلونزا في مدينة القدس في الخامس عشر من أيلول 1918، حسب مذكّرات القنصل الإسباني في القدس “كوندي دي بالوبار”. استمرّ الوباء في حصد المزيد من الأرواح في المدينة حتى تشرين الثاني 1918، وكتب القنصل في يوميّاته في السادس من الشهر: “كثرت إصابات الالتهاب الرئوي مؤخراً؛ تتحوّل الانفلونزا الشهيرة إلى التهابٍ رئويٍّ، تُمهِل ضحيّتها ثلاثة أيامٍ فقط، قبل أن يغادرنا إلى العالم الآخر. كما سرق المرض السيدة “بانداكش”، والبارحة فتاةً في العشرين من عمرها. قيل إنّ درجات حرارة أجسادهم وصلت الـ43 درجةً مئويةً، لقد كانوا يحترقون فعلياً”.

أما في الجزيرة العربية، وبحسب مسؤولٍ طبي في قوة الحجاز الاستطلاعية، تفشّى الوباء فجأةً “بشكلٍ خبيث” في حامية المدينة بحلول كانون الأول، حيث كان يتحصّن فخري باشا، وتوفّي 850 مقاتل. وفي شهر كانون الثاني 1919، سقط 450 مقاتلاً، ونال المرض من فخري باشا. سجّل ضابطٌ تركيٌّ يُدعى “أمين بيه” 150 حالةً يومياً، وتوقّع فناء قوّة الحجاز الاستطلاعية خلال شهرين من الزمن. في 9 كانون الثاني 1919، وبعد ثباتٍ لأكثر من سنتين، استسلم القائد فخري باشا. لم تكُن الجيوش البشرية هي التي أجبرت الجيش العثماني على إلقاء أسلحته والاستسلام أمام قوات الحلفاء في المدينة المنورة، بل كانت الانفلونزا الإسبانية هي السبب.

إشكالية معدّل الوفيات 

انتشرت “الانفلونزا الإسبانية” خلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، بانتشار القوات العسكرية البريطانية في أرجاء بلاد الشام، ممّا جعل السيطرة عليها أمراً مستحيلاً. تُوفّي مئات الآلاف في بلاد الشام بسبب المجاعة أو الأمراض خلال النصف الثاني من الحرب العالمية الأولى، ويُقدّر أنّ الحصيلة وصلت إلى نصف المليون مع نهاية العام 1918، والتي تضمّنت عدداً كبيراً من ضحايا الانفلونزا. وقد تظلّ مسألة عدد الوفيات الناجمة عن جائحة الانفلونزا لغزاً، نظراً لعدم وجود أدلةٍ تشخيصية كافية، والخلط الروتيني بينها وبين أمراضٍ أخرى مثل الملاريا وحمّى الضنك أو الحمّى الصفراء أو الكوليرا أو السل أو التيفوئيد، بالإضافة إلى الكثير من التناقضات في البيانات المتوفّرة.

لم تتطرّق السجلات العسكرية لمصير أهالي المناطق المحتلّة في بلاد الشام، أو تأثير الوباء عليهم. وترجع الدراسة ذلك لضباب الحرب من جهةٍ، وانهماك القوات العسكرية بإنقاذ أفرادها من جهةٍ أخرى. ولكنّ غزو الانفلونزا الإسبانية لبلاد الشام كان كارثةً ديموغرافيةً مركّبة، حجبتها أهوال الحرب والطرد والمجاعات والأوبئة الأخرى مثل الملاريا. وبعكس غيرها من “الأمراض الاستعمارية” كالكوليرا، يجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ إخطار السلطات الطبية البريطانية بشأن حالات الانفلونزا لم يكُن إلزامياً بموجب القانون حتى شباط 1919.

أيضاً، كان لضعف المناعة دورٌ مهمٌ في تأثير الانفلونزا على بلاد الشام، فكانت مناعة من لم يسبق له التعرّض لفيروسات شبيهةٍ بها، بسبب البعد الجغرافي والعزلة، غير كفيلةٍ بمقاومة هذا المرض الغريب، وبالتالي أكثر عُرضةً للموت، ممّا أثر على معدّلات الوفيات بين المناطق المختلفة، وفقاً للباحث النرويجي “ميملوند”. يدعم استنتاج “شتاينبرغ” حول التأثير المدمّر على أهالي الجزيرة العربية ذلك. إذ يعزو الأضرار والإصابات الكثيرة فيها إلى ضعف المناعة تجاه المرض، وذلك بسبب العزلة الجغرافية النسبية وعدم التعرّض لوباء الانفلونزا العالميّ السابق. ووفقاً لـ “شتاينبرغ”، لم يتمتع سكّان الجزيرة العربية بعزلةٍ مثاليةٍ، لكنّهم كانوا أقلّ عرضةً للإصابة من سكان بلاد الشام، وذلك بحكم كون المنطقة راكدةً إقليمياً مقارنةً ببلاد الشام.

تنطوي إمكانية وجود درجاتٍ متفاوتةٍ من المناعة المكتسبة لجائحة العام 1918 على بعض الآثار المثيرة للاهتمام، على الرغم من كونها توقّعات. فمن منظورٍ عسكريٍّ، ربّما كانت الانفلونزا الإسبانية عاملاً مُساهِماً في هزيمة القوات العثمانية، خاصةً وأن المناعة المكتسبة للجنود العثمانيين كانت غالباً أضعف من نظرائهم الغربيّين.

خلاصة

حملت قوات “الحملة المصرية” (EEF)، التابعة للجيش البريطاني، الانفلونزا المميتة معها إلى بلاد الشام في أوائل أيلول 1918، ممّا أدّى إلى تفشي الوباء في المنطقة وبين طرفي الحرب في فترةٍ حاسمةٍ من التحوّل التاريخي. جادلت الورقة بأنّ صمت المراجع التاريخية حول هذا الجائحة في بلاد الشام لا يعني أنّها لم تكُن هامّة، بل لعلّها ساهمت في هزيمة القوات العثمانية.

سعت هذه الدراسة للنظر إلى أثر “الانفلونزا الإسبانية” على بلاد الشام في عام 1918، متتبّعةً الخسائر الفادحة التي ألحقتها بالقوات العسكرية المتواجدة في بلاد الشام خلال الحرب العالمية الأولى. من ناحيةٍ أخرى، ما تزال الأدلة المادية على تأثير الجائحة على السكّان المدنيّين ضئيلةً وغير حاسمة. لم تنجح الدراسة في تحديد معدل الوفيات بين السكّان، لكنها استنتجت أنها كانت كبيرة، بالاعتماد على مراجع مقارنة مع مناطق مجاورة، واستناداً إلى ارتفاع معدل الوفيات في صفوف الجيوش، فضلاً عن كون هذه الانفلونزا أشدّ فتكاً في مناطق الحرب والمجاعات والأوبئة المختلفة، خاصةً الملاريا. ويأمل الباحث أن تساهم دراسته في تحفيز المزيد من البحوث التي توسّع دائرة البحث من التركيز الملموس على الوفيّات خلال الموجة الثانية من الوباء، إلى البحث الأوسع حول الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سادت في تلك الفترة.

*****

الهوامش

[1]  رسالة ماجستير منشورة للباحث النرويجي (Kjell Lind)، جامعة لندن-“ساوس”/أيلول 2012.

[2] قوات “التجريدة المصرية” (EEF): إحدى التشكيلات العسكرية البريطانية، شُكّلت في العام 1916، وانطلقت من مصر. تواجدت على الجبهة المصرية- الفلسطينية خلال عمليات القتال في الحرب العالمية الأولى. كانت مكلّفةً في البداية بتأمين قناة السويس والدفاع عن مصر، ثمّ تطوّر دورها إلى غزو فلسطين، وتولّى “ألنبي” قيادتها في نهاية حزيران 1917. ضمّت هذه القوة في البداية قوات بريطانية ومصرية، وتمّ إرسال قواتٍ إضافية في أوائل العام 1918 من فيالق الجيوش الأسترالية والنيوزلندية والهندية، بالإضافة إلى الفيلق اليهودي.

[3]  الفيلق اليهودي: أحد التنظيمات العسكرية الصهيونية التي تلقّت تدريباتها في بريطانيا ومصر، وتكوّنت من تشكيلاتٍ عسكريةٍ من المتطوعين اليهود الذين حاربوا في صفوف القوات البريطانية والحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى. بدءاً من الكتيبة رقم “38” إلى الكتيبة رقم “42”. وضمّت هذه التشكيلات “بن جوريون” و”جابوتنسكي” و”ترومبلدور” و”بن تسفي”، وقُدّر عدد أفرادها بحوالي 7 آلاف جندي. كما تفيد يوميّات أحد مجنّدي الكتيبة 38 أنّ بعض أفراد الفيلق اليهودي أُصيبوا بالانفلونزا أثناء تواجدهم في أوروبا، خلال انتظارهم إرسالهم للمشاركة في الجبهة في فلسطين.