يناقش عبد الله سامي أبو لوز في هذه المقالة الإشكال الهوياتي لدى الفلسطينيين المقيمين في السعودية، تحديداً في ضوء قوانين النظام الأخيرة، وتداعياتها في إنتاج صياغاتٍ جديدةٍ من الهويّة والوعي بالنكبة الفلسطينيّة. 

مدخل
في تموز 2017، باشرتْ السعودية بتطبيق قانونٍ يُسمّى “المقابل المالي للمرافقين” على غير السعوديين المقيمين في البلاد. [1] ألقى القانون بظلاله العميقة على الفلسطينيين المقيمين هناك منذ فترةٍ طويلةٍ، ليكتُبَ فصلاً جديداً من فصول التغريبة الفلسطينيّة في مسلسل الهجرة والشتات الفلسطيني. جعلتْ هذه الأزمة العلاقةَ الإشكاليّة المركّبة التي تجمع الفلسطيني بالسعودية من جهةٍ، وبالوطن الأمّ من جهةٍ أخرى، أكثرَ مرئيّةً وتمثّلاً على صعيد إنتاج وعيٍ مُباشرٍ بمعاني النكبة الفلسطينّية المستمرّة، وهويّة اللجوء المتمخّضة عنها، ووهم الانفصال عنها.

تسعى هذه المقالة إلى الإضاءة على حدثٍ منسيٍّ ضمن تاريخ الشتات الفلسطيني في الخليج العربيّ، عبْر نقاش الاضطراب الهوياتي الذي تنازعَ الفلسطيني المُقيم في السعودية تحديداً، بعدما جدّدته أحداث السنوات الأخيرة. وإذ كان القانون الأخير كشفَ عمق أزمة انتماء الفلسطيني وتعريفه لذاته وإدراكها، خصوصاً على صعيد الجيل الجديد الناشئ هناك، فإنّ المقالة تهدف، بالدرجة الأولى، إلى موضعة هذه الأزمة ضمن سياقٍ تاريخيٍّ أكبر يبحث في مبنى الوجود الفلسطيني في السعودية، والعلاقة التي نظَمته الأخيرة إزاءه، ونتاجاتها التاريخيّة على صعيد الاتصال/ الانفكاك عن الوطن وحلم العودة.

مقدّمة تعريفيّة

يُعتبر المجتمع الفلسطيني في السعودية أحدَ أكبر جاليات الشتات في العالم، حيث يمثل رابع أكبر جاليةٍ بعد كلٍّ من الأردن وسورية ولبنان، بواقع 8.26 % من مجموع ما يزيد عن خمسة ملايين لاجئٍ فلسطينيٍّ، فيما يمثّل خامس أكبر الجاليات في المملكة بواقع 423 ألفَ فلسطينيٍّ. وفي حال أضفنا الفلسطينيين من حَمَلة الجوازات الأردنيّة المؤقتّة، فإنّ الرقم سيرتفع بشكلٍ ملحوظٍ (جميع هذه الأرقام قبل تطبيق قرار المقابل المالي).

بأخذ ما سبق في عين الاعتبار، ظلّت هذه الشريحة الهامة من المجتمع الفلسطيني شبه مجهولةٍ دون دراساتٍ أو أبحاثٍ، كحال الدراسات المجتمعيّة الخليجيّة الشحيحة التي تعالج الأوضاع في تلك البقعة الجغرافيّة أنثروبولوجيّاً. لذلك، تنبني هذه المقالة على بحثٍ إثنوغرافيٍّ أجريناه على شريحة مواليد الألفيّة المحوريّة، تحديداً ممّن تقع أعمارهم بين الثامنة عشر والخامسة والثلاثين؛ إذ تمثّل المقالة خلاصاتٍ مختصرةً من البحث الذي سننشره في مجلةٍ أخرى. 

هدِفَ البحث إلى الإضاءة على آثار ما بعد فاجعة قرار المقابل المالي التي أصابت الفلسطينيين في مقتلٍ، واضطرّت العديدَ منهم إلى مغادرة المملكة، والبحث عن مكانٍ جديدٍ للاستقرار، في صورةٍ تمثّل تاريخاً طويلاً من ديناميّات الهجرة والتنقّل، التي شكّلت الهويّة الفلسطينيّة، وأصبحت مكوّناً رئيساً من مكوّناتها. لكنّنا سنوسّع هنا نطاق البحث الذي أجريناه، فنضيف مزيداً من الملاحظات حول المجتمع الفلسطيني ككلٍّ، بتركيزٍ أكبر على شريحة الجيل الفلسطيني الناشئ في السعودية. كما يجدُر التنويه إلى أنّ البحث واعٍ لفروقات الجغرافيا السعوديّة في التعامل الاجتماعي مع الفلسطينيين من قِبل المجتمع المضيف، لكنّه بالمجمل يشخّص حالةً عامةً اتفق عليها معظم المبحوثين بخصوص طبيعة علاقتهم التاريخيّة بالسعوديّة، مع الإقرار بوجود استثناءاتٍ لذلك.

الآخر في المملكة

كشفتْ الباحثة “فرانسوا دي بيل إير”، في تقريرها عن “الديموغرافيا والهجرة وواقع القوى العاملة في السوق السعودي”، عن أهميّة الحالة التي يشكّلها غير السعوديين المواليد من الجيلَيْن الثاني والثالث في المملكة، حيث يعتبرهم النظام السياسي غرباء، وإنْ قضى أحدهم حياته كاملةً في المملكة، ولم يكن له أيُّ اتصالٍ مع بلده الأمّ، بشكلٍ أو بآخر، وضربتْ بالفلسطينيين مثالاً على هؤلاء. [2]

في الحقيقة، لا يعرّف النظام السعودي الفلسطينيين تحت مظلّة اللاجئين المعمول بها لدى المفوضّية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بل يعتبرهم جزءاً من آخر يعرّف من خلاله المجتمعُ السعودي ذاتَه؛ ذلك الآخر من المقيمين/الوافدين/الأجانب. [3] تعبّر ربا صالح وصوفي ريكتير-ديفرو عن هذه “الآخريّة” بالقول: “في الواقع، اعتُبرت مسألة وسم الفلسطينيين كـ[آخر] أمراً مفصليّاً في جلّ الدول القُطريّة العربيّة الناشئة التي استضافت الفلسطينيين، ليس باعتبار تشكل الهويّة الوطنيّة للبلد المضيف، بل أيضاً في تشكيل الهويّة القوميّة الفلسطينيّة نفسها”. [4] لذلك، فمهما كان نوع الوثيقة التي يحملها الفلسطيني، إنْ كانت جنسيّةً مؤقّتةً أو دائمةً أو وثيقةً مصريّةً/ لبنانيّةً/ سوريّةً، يبقى في نظر نظام وزارة العمل السعودي أجنبيّاً، حتى لو وُلد في الأراضي المحليّة، وسيستمر على هذه الحال مهما بقي على تراب المملكة.

لا يعيش معظم الفلسطينيين في السعودية، خلافاً لأوساطٍ أخرى، حالةَ لجوءٍ قسريّةً في البلاد، كحال اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات كلٍّ من الأردن ولبنان وسوريا على وجه التحديد. إنّما يمثّلون حالةً مركّبةً شكّل فيها انتقالهم إلى السعودية خياراً طوعيّاً بهدف العمل والاستقرار، لكنه بطبيعة الحال ناتجٌ في حالاتٍ كثيرةٍ عن منفىً قسريٍّ سابقٍ عليه بُعيد النكبة الفلسطينيّة.

وبينما لا تزال المخيمات الفلسطينيّة العنوانَ الأبرز لتمثيل قضية اللجوء والسعي الحثيث إلى العودة، في ظلّ سياساتٍ تفرض قيوداً هائلةً على الفلسطيني، تكبّل حقّه في العمل والعيش الكريم، تُفتقد هذه العلاقة الوثيقة مع الوطن الفلسطيني والتوق إلى العودة إليه في حالة الجيل الفلسطيني الناشئ في السعودية، على وجه الخصوص. إذ عاش الفلسطيني في السعودية كجزءٍ من الآخر غير السعودي، ولم تُفرض عليه أيُّ قيودٍ في ما يخصّ طبيعة العمل المسموح له بممارسته، عدا مؤخّراً في ضوء أحداث الربيع العربي، حيث اتّجهت الدول الخليجيّة عموماً إلى تقنين وتحديد الأعمال المسموحة للمغتربين، بهدف زيادة عدد الوظائف المتاحة للمواطنين. [5]

في السياق السعودي، بدأت سياسات التوطين من خلال برامج “نطاقات” عام 2011، والمبنيّة تحديداً على فرض سباقٍ بين الشركات نحو العمالة الوطنيّة السعوديّة؛ إذ كّلما ازدادت نسبة “السعودة” لدى الشركة، ازدادتْ ميزاتها، بينما تعاني الشركات المتخلفّة عن التطبيق عواقبَ وخيمةً تؤثّر على استمراريتها في السوق، وقدرتها على الحصول على مزيدٍ من الامتيازات. مؤخّراً أيضاً، فرضَ النظام سلسلة قراراتٍ يبدو أنّها ستستمر في تعسير فرص بقاء غير السعوديين في المملكة، أكثرها تأثيراً كان قرار حصر العمل في منافذ البيع في اثني عشر نشاطاً اقتصاديّاً على السعوديين فقط، بالإضافة إلى قرار فرض مقابلٍ شهريٍّ على شركات القطاع الخاص عن كلّ عاملٍ وافدٍ لديها. 

جديرٌ بالذكر أنّ الفلسطيني في الأوقات السابقة كان يعيش حالةً من وفرة الفرص المتاحة، وكانت أحلام الرخاء المادي تُرسم من خلال التعليم الجامعي خارج المملكة غالباً، والعودة لشقّ طريقٍ في السوق السعوديّة العامرة بفرص العمل، وغالباً ما قصد الفلسطينيون التخصّصات العلميّة من هندسةٍ وطبٍ، أو سلكوا طريق التجارة.

المواليد

يختلف فلسطينيو الخليج المواليد عن غيرهم بفقدان الصلة الفعليّة مع وطنهم، حيث تحضر صورةٌ بديلةٌ للوطن تتمثّل في بلد المنشأ. وعلى الرغم من الحضور المباشر لبلد المنشأ في مخيّلة الفلسطيني/السعودي، شكّل كثيرٌ من المواليد حالةً غريبةً من الانتماء الجزئي، تمثّل بشعورٍ مركّبٍ من المواطنة. شعر الفلسطينيون في المملكة بارتباطٍ حقيقيٍّ بالأرض نتيجةً لنشأتهم الطبيعيّة في هذه البلاد، لكنّهم بالمقابل فقدوا حقوق المواطنة التي تضمنها العديد من الدول الأخرى لمواليدها.

على إثر ذلك، تشكّلتْ أزمةٌ هوياتيّةٌ قوامُها العجزُ عن إيجاد تعريفٍ متكاملٍ للذات، حيث تبقى الأخيرة على الدوام هويّةً منقوصةً، يشعر من خلالها الفرد بأنّه فلسطينيٌّ ولا-فلسطينيٌّ، وسعوديٌّ ولا-سعوديٌّ، في الآن نفسه. جمانة التي وُلدتْ وعاشتْ طيلة حياتها في المملكة، واضطرّت مؤخّراً لمغادرتها لظروف عمل زوجها، تقول عن هذه الحالة الغريبة التي تشترك فيها مع جيلٍ كاملٍ من فلسطينيي الشتات: “عندما يسألنا أيُّ شخصٍ، نجيبه بأنّنا فلسطينيون، لكنّنا من مواليد السعودية، فيعلّق علينا: ولماذا لستم سعوديين؟! فنبدأ بسرد قصتنا الطويلة. أنا اعتبر هذه البلاد وطني، لا أعرف شيئاً عن فلسطين، لم أذهب هناك قطْ. وُلدتُ ونشأتُ هنا، كلّ عائلتي تعيش هنا. أنا أعرف أننّي فلسطينية، لكنّني لا أشعر بذلك”.

على كلّ حالٍ، لم يكن المجتمع الفلسطيني على علاقةٍ وطيدةٍ بالمجتمع السعودي المضيف، لكنه كان على علاقةٍ وطيدةٍ بالمكان والأرض. شهِدَ شباب جيل الألفية حالةً من الارتباط العضوي مع المجتمع المضيف في مراحل الطفولة، حيث شكّل العديد من أبناء هذا الجيل صداقاتٍ قويةً، واندمجوا مع أبناء المجتمع المضيف، حتى أتقنوا اللهجة السعوديّة، واستبطنوا ثقافة المجتمع السعودي وارتدوا لباسه. بيْدَ أنّ هذا الاندماج يبدأ بالانحسار والتلاشي تدريجيّاً مع التقدّم في العمر، حتى ينقطع تماماً مع نهاية المرحلة الثانويّة، وقتما يرحل أغلب الطلبة للدراسة خارج المملكة.

وحتى على صعيد الباقين داخل المملكة، تتشكّل حالةٌ من الانفصال بين المجتمعَيْن بفعل الفرص المتاحة لكلٍّ منهما، كفرص الدراسة والعمل. صديقي إبراهيم الذي وُلد وعاش طوال حياته في المملكة، ودرس في إحدى جامعاتها وعمل فيها أيضاً، بيْدَ أنه لم يستطع مغادرتها إلى الآن، مخطّطاً للخروج إلى أمريكا، يقول: “قد ما عاش الفلسطيني في السعودية، عمره ما بصير سعودي”. تجدُر الإشارة، هنا، إلى أنّ حالة الانفصال هذه عُزّزت بواسطة القوانين المفروضة على غير السعوديين بشكلٍ عامٍ.

بذا، كان ارتباط المجتمع الفلسطيني بمضيفه ذا علاقةٍ وظيفيّةٍ غالباً، كنوعٍ من محاولات الاندماج اللازم للبقاء وسط المجتمع المضيف؛ إذ أسّس العديد من الفلسطينيين شركاتٍ تجاريّةً تحت أسماء مُلاكٍ سعوديين، وعاشوا بواسطة نظام الكفالة الذي يسمح للسعودي الذي يملك سجلّاً تجاريّاً بتسجيل عمالةٍ غير سعوديةٍ تحت سجلّه التجاري، باعتبارهم موظفّين في الشركة، على أن يتحمّل هؤلاء جميع التكاليف المدفوعة للدولة، وأحياناً كان يحوز بعض السعوديين علاواتٍ لإبقاء هؤلاء تحت اسمه في البلاد.

لاحظتْ الباحثة “ستيفاني آنّا لودو” هذه العلاقة الوظيفيّة في بحثها الإثنوغرافي عن المجتمع الفلسطيني في بريطانيا؛ إذ وجدت تفريقاً في أنماط علاقات الاندماج الاجتماعي (socialization) لدى أفراد هذا المجتمع، حيث يفرّق الأخيرون بين العلاقات الاستراتيجيّة اللازمة للاندماج مع المجتمع المضيف، مقابل العلاقات مع المجتمعات العرقيّة الأخرى المقيمة في بلد المضيف. [6] تحكي جمانة عن العلاقة التي تجمع الفلسطيني بالمجتمع السعودي والمجتمعات الأخرى: “ما كان في بينا اختلاط كبير مع السعوديين، كان في فرق بيننا وبينهم، طباعهم وعاداتهم غير عنّا. بس ما كان في كره أو إشي زي هيك. أولادي اختلطوا أكتر بالسعوديين، ولهجتهم لهلأ متأثرة فيهم … مع هيك كان في صديقات سوريات ومصريين مقربات كتير منا .. بحس طبعهم أقرب إلنا، بحسهم زينا”.

لكن لم تمنع هذه العلاقات المجتمعَ الفلسطيني دوناً عن غيره من المجتمعات، من التأثّر بشكلٍ كبيرٍ بطريقة العيش السعودية، فتجد مثلاً أنّ المطبخ الفلسطيني يستلهم المطبخ السعودي، ويوظّفه في تطوير أكلاته ومشروباته الشعبيّة. باتت الكبسة طبقاً دائماً على موائد الفلسطينيين، فيما حلّت القهوة السعوديّة العربيّة مشروباً إجباريّاً في الضيافة. أمّا على صعيد اللباس، فارتدى كثيرٌ من الفلسطينيين الثوب السعودي خاصةً، والشماغ أو الحطّة بلونها الأحمر على استحياءٍ. هكذا، أصبح الفضاء السعودي وسطاً يعيش فيه المواليد طبيعيّاً دون عناء الشعور بالغربة والحنين لبلادٍ مسلوبةٍ، حيث يمكن لنا وصف طبيعة الارتباط الذي يجمع المواليد بمكان نشأتهم بالعضويّ، تصعب عليهم مفارقته.

الصدمة

أصاب قرار المقابل المالي المجتمعَ الفلسطيني في السعودية بصدمةٍ خانقةٍ، أعادت نكأ جروحٍ قديمةٍ دُفنت عميقاً تحت كومة الهموم المتراكمة. وبينما اعتبر كثيرٌ من أفراد هذا المجتمع المملكةَ وطناً أبديّاً، أزاح الحدث الأخير هذا الوهم، مُعيداً إلى الذاكرة أحداث التهجير الفارقة في تاريخ القضية الفلسطينيّة (النكبة والنكسة)، ومُرمّماً علاقةً مع الوطن الأمّ لطالما كان الجيل الجديد على مسافةٍ بعيدةٍ منها. تقول جمانة عن هذا الشعور: “حسيت بعد ما تنفذ القرار بأهلنا إلّي تهجروا زمان، حسيت إنّي أقرب لفلسطين من قبل، فهمت القهر إلّي حسّوا فيه. كثير بزعل لمّن أتذكر إنّي ممنوع أرجع أدخل البلد إلّي تربيت وعشت فيه طول عمري”.

أرهقَ المقابل المالي الناس، وكأنّ لسان حاله يقول: اُخرجوا، فلم نعد بحاجةٍ لكم، أحسّ الجميع بأنّ المملكة تريد التخلّص منهم. لم يأتِ القانون الجديد على حساب المقتدرين ماليّاً، بل على حساب ذوي الدخول المتوسطة، ومن هم أدنى، الذين قضوا حياتهم في المملكة كالمواطنين، حيث لم يدّخر أحدٌ منهم شيئاً، بالإضافة إلى العاجزين عن مغادرة المكان ككلٍّ (كأصحاب الوثائق).

أنتج الوضع مآسيَ حقيقيّةً، ليتكبّد كثيرٌ منهم خسائرَ ماديّةً من مدّخرات حياتهم، ويضطروا إلى ترحيل أولادهم إلى الأردن أو غزة أو الضفة الغربيّة، فيما توجّه بعض من يملك قدرةً ماليّةً إلى تركيا. في الواقع، أفلستْ فئةٌ ليست بالقليلة من فلسطينيي المملكة، حيث عاش كثيرٌ منهم على الكفاف في الأوضاع الطبيعيّة، ودفعوا قيمة الإقامة وملحقاتها، كالتأمين الإجباري.

لكن بإضافة المقابل المالي، وارتفاع تكلفة الحياة على جميع سكان المملكة، لم يعد هؤلاء قادرين على تكبّد تكاليف البقاء في المملكة، ولا تكاليف مغادرتها، فأصبحوا في حالةٍ من الضياع الكامل، فيما تتراكم عليهم رسوم المقابل المالي. أفضى هذا إلى اضطرار بعضهم  إلى إخراج أطفالهم من المدارس، وفقْدِ أحقيّتهم في التعامل مع أيّ جهةٍ حكوميّةٍ أو خاصةٍ في المملكة، تتطلّب معاملاتها إقامةً سارية المفعول.  يقول محمد عن هذه الحالة : “إذا بدي اروح عالمستشفي برمي حالي قدام الباب ويدبروا حالهم، خلص شو بدي أسوي يعني”.

الأزمة الاقتصاديّة والهوياتيّة لجيل الألفيّة

يعيش الآن أفراد جيل الألفيّة من الفلسطينيين الذين نشأوا في السعودية حالةً من الخوف والضياع؛ إذ فقدَ هؤلاء بقعة الأرض التي شكّلت لهم نقطة ارتكازٍِ للانطلاق والعمل في عالمٍ تتلاطمه الأزمات الاقتصاديّة من كلّ حدبٍ وصوبٍ. دخل معظمهم في مأزقٍ معيشيٍّ خطيرٍ، فمَن ترك المملكة، ذهب إلى بلادٍ لا تعرفه، ولا يعرفها، ويُعدّ فيها غريباً، حتى لو كان كانت تحمل قواعد القربى الدمويّة أو الوطنيّة.

يشبه الفلسطيني كلّ من يعيش خارج بلاده مغترباً، فلا يعتبره أهل بلده منهم، ولا يعتبره أهل البلد الذي يعيش فيه منهم، فهو في اغترابٍ أينما ذهب. لكنّ الفارق أنّ الفلسطيني لا يملك أرضاً ليعود إليها وتحتضنه، ولا قوانينَ تشدّ من عضده وتؤازرُه. يبدو الفلسطيني اللاجئ البعيد عن وطنه وكأنّه يعيش بين خيارين مرَّيْن يدفع عبْرهما ثمناً باهظاً، وهو إمّا أن يُخلق في دولة رفاهٍ يشهد عيشاً هنيئاً فيها، يكون ثمنه انتكاسة حلم العودة، وإمّا أن يُخلق في دولٍ ترى اللاجئ جسماً دخيلاً فيها يزاحم أهل البلد على لقمة العيش، حارمةً إياه من أبسط حقوقه الآدمية، لكنّه يظل يدور في المخيمات كمرحلةٍ انتقاليّةٍ تجعله دوماً مسكوناً بحلم العودة. لكن في المحصلة، وبعد أزمة قرارات المملكة الأخيرة، التي أعادت إنتاج الشتات الفلسطيني تحت غطاءٍ أكثر أناقةً وقانونيّةً، يبدو الفلسطيني وكأنّه يدفع الثمن على الجبهتَيْن.

تتضاعف وطأة هذه الحالة على الفلسطيني، خصوصاً جيل الألفيّة، بما يواجهه من مصاعبَ جمّةٍ في الأردن وسوريا ولبنان، باعتبار هذه البلاد وِجهةَ الفلسطيني الرئيسة. حيث يصطدم صاحب الجواز الأردني المؤّقت بجدارٍ قانونيٍّ واجتماعيٍّ بعد عودته، يمنعه من الحصول على فرص عملٍ مُجديةٍ في سوق العمل الأردني ذي الفرص شديدة الشّح. أمّا الحال في لبنان فُيرثى لها، حيث يُمنع الفلسطيني من العمل في أكثر من سبعين مهنةً، وما حراك المخيمات الأخير إلا شاهدٌ على بؤس حال الفلسطيني هناك. أمّا العائدون إلى الضفة الغربية، فلكَ أن تتخيل مقدار الغربة الذي سيعيشه هؤلاء مع مجتمعهم الجديد، وكلّ ما يكتنفه من صراعاتٍ يوميّةٍ مع الكيان المحتل، لم تكن حاضرةً يوماً في حياتهم.

واجهَ من قرّر البقاء في المملكة، أو غادرها للوجهات الآنف ذكرها، أزمة تأمين عملٍ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ شباب هذا الجيل إمّا طلابٌ جامعيون، ينتظرهم سوقُ عملٍ صعبٌ للغاية، أو في بداية مسارهم المهني.  صديقي خالد الذي وُلد وعاش وتعلّم وعمل في السعوديّة، ولم يتمكّن حتى اللحظة من مغادرتها، لكنّه يحاول بشتّى الطرق، يقول عن حالة سوق العمل في السعودية لغير السعوديين في الوقت الحالي :”الوضع الآن إلّي بطلع من شغله، عمره ما بلاقي شغل تاني أبدًا”، مُضيفاً : “راتبي منيح الحمد لله، بس حتى مع هيك ما عمري كنت حاسس بالخوف زي هسّه. زمان كان كل صحابي مرتاحين، وقد ما صرفت بعرف انو راتب الشهر القادم جاي، وإذا داقت الأمور بدقّ عفلان أو علنتان يسلكلي وضعي. بس الآن الوضع خطير جداً”.

من المهم، أيضاً، الإشارة إلى أنّ بعض شباب الألفيّة الفلسطينيين اختار البقاء في المملكة، والحفاظ على إقامته ساريةَ المفعول حتى إنْ خرج منها، أملاً بتحسّن الأوضاع في المستقبل، ما يشير مرّةً أخرى إلى قوة ارتباطه بأرض نشأته. بينما قرر بعضهم الحفاظ على مصدر دخله بإرسال أهله إلى بلدٍ آخر، والبقاء على رأس عمله عازباً، فيخفّف من وطأة الرسوم الماليّة، متحمّلاً تبعات غربةٍ من نوعٍ جديدٍ في بلدٍ نشأ وعاش فيه.

خاتمة

حافظ الفلسطينيون في المملكة على اتصال مُعيّنٍ بالقضية الفلسطينيّة، على الرغم من التأثير المكاني الذي شَوّشَ الهوية وأربكها. تمثّل الاتصال بدعمٍ ماديٍّ مستمرٍّ شكّل دعامةً أساسيّةً للمجتمعات الفلسطينيّة في الأردن وسوريا ولبنان والأراضي المحتلّة. كما اعتادتْ السفارة الفلسطينيّة هناك على إقامة فعالياتٍ فلكلوريّةٍ في ذكرى النكبة، كانت جامعةً لطيفٍ متنوّعٍ من الفلسطينيين في المملكة.

بجانب ذلك، لعبَ المنزل دوراً في تعزيز حضور القضية في وجدان الأطفال، حيث رسّخت الأغاني الشعبيّة والأناشيد الإسلاميّة التي تعلي من قيمة المقاومة، ثوابتَ هوياتيّةً أصيلةً لدى الجيل الفلسطيني الناشئ في المملكة. لكن يمكن القول إنّ هذا الاتصال ظلّ محصوراً في الحيّز الوجداني البعيد، دون أن يتجاوزه إلى حيّزاتٍ واقعيّةٍ يمثّل فيها الفلسطينيون المقيمون هناك صُلبَ خطابٍ سياسيٍّ يجمعه ببقيّة اللاجئين في منافيهم المتعدّدة حول مطمح العودة إلى أرض فلسطين.

وبفعل خروجهم الأخير على إثر القرارات الآنفة الذكر، أُصيب فلسطينيو المملكة بجرحٍ عميقٍ جديدٍ يُضاف إلى جراحهم الكثيرة. عرّى هذا الخروج الإشكال الهوياتي الذي يعانون منه، حيث يعيشون أنصاف هوياتٍ وانتماءاتٍ بين فلسطين والسعودية، لكنّه بالمقابل ساعدهم على ترتيب أوراقهم الهوياتيّة من جديد، على مبدأ رُبَّ ضارّةٍ نافعةٌ، مُنتِجاً إحساساً حديثاً باللجوء والنكبة والتطلّع إلى العودة. في حين سُحق بعضهم الآخر تحت وطأة هذه القرارات، حيث لا يدرون مآلات مصيرهم. ومن هؤلاء فلسطينيو مدينة الخرج من حملة الوثائق، الذين كانوا يعملون في مجال الزراعة، حيث تعرّض الأخير إلى موجة توطينٍ شرسةٍ، فاستحال بعضهم إلى ما دون خط الفقر بعدما كانوا كياناتٍ مُنتِجةً.

على الرغم من كلّ ما سبق، لا تزال المملكة حاضرةً بقوّةٍ في وجدان مواليد السعودية الفلسطينيين. سيبقى الحنين ظاهراً في اللهجة التي تقفز بين الكلمات، مهما حاولنا إخفاء أصلنا كمواليد. لن ينسى هذا الجيل الذكريات المكانيّة والإنسانيّة، ومألوفيّة نمط العيش، بما ينطوي عليه من لباسٍ وطعامٍ وشرابٍ. سنحفظ هذا البعد الثقافي الأساسي في شخصياتنا، ولن تُشفى جراحنا الغائرة. كان خروجنا بمثابة نكسةٍ جديدةٍ عانينا قسوتها بأنفسنا.

****

الهوامش:
[1] قرّرت السعودية فرض رسومٍ شهريّةٍ على المرافقين والمرافقات للعمالة الوافدة بنحو 100 ريالٍ عن كلّ مرافقٍ، تزداد تدريجيّاً سنويّاً لتصل إلى 400 رياٍل في 2020. بدأ في الأول من يوليو/تموز 2017 تحصيلُ تلك الرسوم. يمكنك الاطلاع على تفاصيل القانون من هنا.
[2] De Bel-Air, F. (2014). Demography, Migration and Labour Market in Saudi Arabia. Gulf Labour Markets and Migration. P 7.
[3] Canada: Immigration and Refugee Board of Canada. (2017). Palestine and Saudi Arabia: Residence status of stateless Palestinians, including access to employment, education, health care and other services, and the ability to travel in and out of the country; requirements and procedures to renew residence status, including whether stateless Palestinians whose permits have expired face deportation and detention (2015-November 2017). 
[4] Salih, R., & Richter-Devroe, S. (2014). Cultures of resistance in Palestine and beyond: On the politics of art, aesthetics, and affect. Arab Studies Journal, 22(1), 8-28.
[5] يتحدّث ملّفٌ أرشيفيٌّ سريٌّ قديمٌ أعدّته وكالة المخابرات المركزّية الأمريكيّة (CIA) في مستهلّ ثمانينيّات القرن المنصرم، وسُمح بنشره عام 2008، عن تخوّف حكومات الخليج من الوجود الفلسطيني، ما جعل دول مجلس التعاون الخليجي تتحرّك فرديّاً لتسنّ قوانينَ تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في دولها، وتقلّل من اعتمادها على العمالة الفلسطينية الماهرة. حيث رفضت العديد من تأشيرات الدخول لعائلات الفلسطينيين العاملين في تلك الدول، وزادت من معايير الانتقائيّة في استقدام وتجديد عقود الفلسطينيين، مُنهيةً بذلك عقود العديد منهم من أصحاب المهارات غير الأساسيّة، مقابل حصر انتقائيّتها فيمن يمتلك تعليماً عالياً. يمكن قراءة الملف من هنا.
[6] Loddo, S. A. (2017). Palestinian perceptions of home and belonging in Britain: negotiating between rootedness and mobility. Identities, 24(3), 275-294.