عندما كان رفع العلم الفلسطيني يُعلّم الفتية درساً حول الفرق بين الشجاعة والخوف، قرّر الشهيد ماهر عبد الجواد صالح وصديقه هشام حسن مصيطف خوض التجربة غضباً وتحدياً، متسللين بدفاترهم المدرسية بين أحياء مدينة البيرة إلى جامع العين حيث رفعوا العلم لأوّل مرةٍ.

ترجمة: رجاء الرنتيسي

عندما كان رفع العلم الفلسطيني يُعلّم الفتية درساً حول الفرق بين الشجاعة والخوف، بين التحدي والخنوع، قرّر الشهيد ماهر عبد الجواد صالح* وصديقه هشام حسن مصيطف خوض التجربة غضباً وتحدياً، متسللين بدفاترهم المدرسية بين أحياء مدينة البيرة المحتلّة إلى جامع العين حيث رفعوا العلم الفلسطيني لأوّل مرةٍ. تجربةٌ انضمّ بعدها ماهر إلى معسكرات الثورة في لبنان حيث ارتقى شهيداً، وبقيَ صديقه هشام يرويها بتفاصيلها.

****

 

 

على ظهر جامع العين، استلقيتُ وماهر إلى أن التصقتْ وجنتانا بالحجارة الباردة، تجمّدنا تماماً وكتمنا أنفاسنا، بينما تمرّ أسفلنا دورية مشاةٍ من جيش الاحتلال. الهدوء يعمّ الحيّ، لا همس في المكان، إلا أصوات أقدام جنودٍ وضجيج أسلحتهم المحشوّة، تحتكّ بملابسهم وببعضها. 

تدور في رأسي مجدداً أسماء الأسلحة التي يحملونها (عوزي، وإف إن فال)، وأتساءل أيّ بندقيةٍ منهم ستضع الحدّ لحياتي وماهر؟ فأيّ همسةٍ أو حركةٍ سيقابلها إطلاق الجنود الخائفين زخاتٍ من الرصاص، والذين باتوا الآن على الرصيف المقابل تماماً للجامع يواصلون سيرهم الثقيل. استعدنا قوّتنا مجدداً وتهامسنا: هل نكمل المهمّة؟.. لا خيار كان إلا أن نكمل المهمّة!

لحظاتٌ قليلةٌ توازي دهراً مرّت علينا قبل أن يتلاشى الجنود في عتمة الليل، ويختفوا من أسفل أعمدة الإنارة التي كانت تكشف لنا تحرّكاتهم. استعدنا أنفاسنا المقطوعة، وواصلنا التسلّق حتى وصلنا الباب الأول الذي يؤدي للمئذنة، ثمّ زحفنا بصمتٍ إلى أعلى المئذنة عبر الدرجات الحجرية للسلالم الدائرية. كان يدور في ذهني آنذاك المثل الشعبي “لمّا يطلع الحمار على المئذنة”، كان لا بدّ أن أشاركه مع ماهر، قلته فالتفتَ لي وضحكنا سويةً، وكاد ضحكنا أن يفضحنا، ثمّ بدأنا بالتنفيذ. 

باستخدام أجزاءٍ من جراب “نايلون” سرقته من شقيقتي، ثبّتنا العلم على أحد أطراف السارية، ثمّ خرجنا، وثبّتنا الطرف السفلي على الأعمدة الحجرية للشرفة، لنُكمل بذلك المهمّة، وبدأنا بعدها عملية الانسحاب. 

وعلى عكس ما خطّطنا، غادرنا على عجل، انزلقت أجسادنا على الدرج اللولبي وما هي إلا ثوانٍ لنجد أنفسنا أمام الباب الأرضي. ومن هناك انطلقنا نحو الدرجات القريبة من العين القديمة التابعة للجامع. اجتزنا الشارع الرئيس، وأطلقنا أقدامنا للريح مبتعدين بأقصى سرعتنا عن المكان. فيما يرافقنا صوت خفقان العلم على ظهر جامع العين وهو يعلو شيئاً فشيئاً معلناً نجاح المهمة. 

عدنا إلى منزل ماهر الذي غادرناه حاملين دفاترنا بحجّة مراجعة دروسنا، ومخبّئين العلم والسارية في معطفينا. إلا أننا الآن أمام مواجهة الوالدة الغاضبة من ماهر المتأخّر عن موعد عودته إلى البيت. ويا ويلتنا إذا اكتشفت الأم أننا عدنا من مهمتنا مباشرةً إلى البيت، والذي كان قد يترتب عليه اعتقال والد ماهر، عبد الجواد صالح، رئيس بلديتنا المحبوب آنذاك. 

جامع العين

البداية… 

بدايات عام 1973، دبّ الغضب في قلوب الجيل الشاب كما باقي الشعب الفلسطيني، تبدّد الخوف من المحتلّ وممارساته القمعية التي لم تعُد تشكّل رادعاً، بل سبباً متجدداً للثورة والانتفاض. فقررتُ وصديقي الشهيد ماهر عبد الجواد صالح الالتحاق بخلايا المقاومة الفلسطينية وبدأنا بالحصول على منشوراتٍ من قادتنا في الخلايا الذين كانوا يكبروننا سناً ويتبنون رؤيةً قوميةً متصلّبةً. 

كانت المنشورات رديئة الطباعة، إلا أنّها احتوت على رسائل مهمةٍ ترفض الاحتلال وتدعو لمقاومته بكل السبل الممكنة من بينها العصيان المدني، والتأكيد على الوحدة الوطنية. وكانت التعليمات ألّا تبقى هذه المنشورات بجيوبنا وبين دفاترنا، بل أن نوزعها على الطلبة في المدارس. ونجحنا في توزيع تلك المنشورات، إذ كنا نذهب باكراً إلى المدارس ونتسلّل إلى غرف الصفوف بعد أن نكون قد اخترنا الوقت الذي يكون فيه الأستاذ المناوب أستاذاً موثوقاً. 

كنا نوزّع نسختين من كلّ منشورٍ على كلّ مقعد، ونسخة أخرى على الطاولة المخصصة للأساتذة ونعود فرحين. لكن هذا العمل لم يكن يلبي طموحنا الوطني، فبدأنا بمطالبة قياداتنا بأعمال أكثر جرأةً.

تجاوبت القيادة مع مطالبنا، واقترحتْ علينا أن نقوم برفع العلم الفلسطيني، عندما كان العلم محظوراً من قبل الاحتلال. وتركت القيادة لنا خيار تحديد الوقت المناسب. وبعد أن حدّدنا جامع العين هدفاً لنا، زوَّدنا قائد خليّتنا بعلمٍ فلسطينيّ بطريقةٍ سريةٍ للغاية، وترك لنا رسم الخطة وتنفيذها. 

تنفيذ المهمة وإنجاحها كان تحدياً واختباراً شخصياً، خاصةً أنني كنتُ طالباً في الفرع العلمي، وكان ماهر طالباً في الفرع الصناعي؛ إذ كان علينا استغلال قدراتنا العلمية والتقنية وإبداع وسيلةٍ ذكيةٍ لإنجاز المهمة. 

وبالفعل تمكّنا من إيجاد حلٍ سريع، إذ وببساطة قمنا بفك “انتين” إحدى التلفزيونات من على سطح العمارة التي كنتُ أقطن فيها، وتعمّدنا ألا يكون لشقتي، بل اخترنا “انتين” شقة الجيران، وقام ماهر باختيار عددٍ من القضبان الحديدية المجوّفة ومطوية الأطراف ليسهل تجميعها والحصول على سارية علمٍ تتناسب مع حجم العلم الذي نمتلكه. وفعلاً أنجزنا المهمة في اليوم التالي. 

لحظاتٌ قصيرةٌ كانت، لكنها أضافت المعنى والهدف لحياتنا. اللحظات القصيرة التي عشتُها وماهر على المئذنة تقبع في ذاكرتي بوضوح لتعلّمني الفرق ما بين الخوف والشجاعة. رغم أن جنود الاحتلال اكتشفوا وجود العلم بعد ساعاتٍ واقتحموا المسجد فجراً، وأجبروا الإمام على إنزاله بعدما اعتدوا عليه بالضرب. 

وداعاً ماهر… 

ظِلُ ماهر الذي تشكّل على باب المئذنة، رائحة المدينة في تلك اللحظات، ورجفة جسدي عند هبوب رياح الفجر، صوت الخوف في أنفاسنا.. كلّ هذا سيفنى إلى الأبد. إلا أنني ويوماً ما سأكون مطمئناً أن ذكرى الشاب الجميل الذي وبالرغم من خوفه، وقف بشجاعةٍ ونبلٍ ليقاوم ويقاتل من أجل الإنسانية، ستبقى حيةً في مكانٍ ما، وبشكلٍ ما في هذا الكون.

افترقنا أنا وماهر بعد تخرّجنا من المدرسة، التحقتُ بوالدي وأخواتي في مدينة “شيكاغو” الأمريكية لإكمال دراستي. والتحق ماهر بوالده الذي كان مُبعداً عن الوطن واستقرّ في بيروت.

كثيراً ما أتأمل كيف تحوّل الفتى الصغير داخل ماهر إلى رجلٍ جادٍّ بنفسه للوطن، فأبى إلا أن يتقلّد وشاح الفروسية. بعد عامٍ من مهمتنا من على مئذنة جامع العين، وفي 15 تموز 1974، ألقى ماهر  بجسده الصغير على ذخيرةٍ حيةٍ كادت تودي بحياة رفاقه في السلاح في إحدى معسكرات الثورة في تل الزعتر، شمال شرقيّ بيروت، ليرتقي هو شهيداً، فاتحاً الدرب لرفاقه ليكملوا مسيرتهم! 

لقراءة النص الأصلي بالإنجليزية، والذي كان قد نُشر على مدونة الكاتب الشخصية بتاريخ 18 تموّز 2015، من هنا.

****

* الشهيد ماهر عبد الجواد صالح (1954 – 1974) من مدينة البيرة المحتلة. أحد قادة التنظيم الطلابي التابع للجبهة الوطنية الفلسطينية. اعتُقل عام 1968 ليقضي ثلاثة شهورٍ في سجون الاحتلال الصهيوني، بتهمة ضرب جنودٍ صهاينة.