ما هي حقيقة العلاقة بين عدد أو طبيعة الحروب التي خاضها ويخوضها أيّ جيش وبين الشعبيّة التي يتمتّع بها في مجتمعه؟ لا نعلم بعد، لكن يبدو أنّ حروب الجيش التركيّ منذ تأسيسه أو بالأحرى إعادة تشكيله عام 1920 لم تكن كافية لإحالتنا إليها عند الحديث في هذا الصدد، يعني أنّ الجيش التركيّ اتخذ لنفسه مهمة أساسية أخرى لاكتساب شعبيّته-شرعيتّه والحفاظ عليها.
“إن شاء الله، سأذهب إلى الجيش، وسأعود.. لأنه واجب وطنيّ.. لكي أدافع عن شرفنا كأمة.. جيشنا جميل، وأنا لا أثق لا برئيس الوزراء ولا بالرئيس نفسه كما أثق بالجيش” (طالب تركي، سنة سادسة طب-قيصريّة)
“عندما أفكّر في الخدمة العسكريّة، أتذكّر أكثر لحظات عمري أهميةً، أيام جميلة، وقد أنجزت فيها واجبي تجاه الأمة والدولة بشرف. أنا فخور حقاً بتلك الخدمة” (زيـا، مواطن تركي-إردين)
“لا نعطي ابنتنا ولا فرصة عمل لمن لم يؤدّ الخدمة العسكريّة” (مثل تركي شعبي)
مكانة الجيش في المجتمع التركيّ
ما هي حقيقة العلاقة بين عدد أو طبيعة الحروب التي خاضها ويخوضها أيّ جيش وبين الشعبيّة التي يتمتّع بها في مجتمعه؟ لا نعلم بعد، لكن يبدو أنّ حروب الجيش التركيّ منذ تأسيسه أو بالأحرى إعادة تشكيله عام 1920 لم تكن كافية لإحالتنا إليها عند الحديث في هذا الصدد، يعني أنّ الجيش التركيّ اتخذ لنفسه مهمة أساسية أخرى لاكتساب شعبيّته-شرعيتّه والحفاظ عليها.
تقول لنا الباحثة التركيّة سومبول كايا (Sümbül Kaya) صراحةً بأن مهمة الجيش الأساسية في تركيا هي بناء الهوية الوطنيّة، ولهذا فهو يتمتّع بشعبيّة ملحوظة عند الأتراك. وبكلمات أكثر نظريّة، يقوم الجيش باعتباره مؤسسة اجتماعية شاملة بخلق روح عسكريّة متجانسة بين جنوده تسمح فيما بعد بتفعيل الطابع الوطني العام[2] بما يتوافق والقيم الكماليّة التي تُعتبر روح الدولة التركية الحديثة، وتَعتبر مقولة “كلّ تركي يولد جنديًّا” (Her türk asker doğar) من أبرز ما تقوم عليه، كذلك مقولات بديهية أخرى كالعلمانية، المواطنة، الدولة-الأمة.
كي نفهم ما يعنيه ذلك بالضبط، علينا بداية أن نعلم بأن الجيش التركي هو جيش خدمة عسكريّة إلزامية (Askerlik Şubesi)، وبالرغم من تقلّص مدّة هذه الخدمة في الستين سنة الأخيرة الضعف تمامًا، إلا أنها ظلّت عند الأتراك ذلك الواجب المقدّس الذي لا يجوز تركه أو التخلّي عنه. وفيما يلي مختصر تطوّر الخدمّة العسكرية في تركيّا خلال السنوات الأخيرة:
بين 1963-1985، كانت مدة الخدمة العسكريّة 24 شهرًا “للمدرسييّن” ولغير المدرسييّن سواء، وكذلك لطلاب الدراسات العليا قبل تحصيل الشهادة، 18 شهرًا من 1985-1992، 15 شهرًا من 1992-1995، 18 شهرًا من جديد بين 1995-2003، ومنذ 2003 حتى الآن أعيدت إلى 15 شهرًا للمذكورين أعلاه، أما لخريجي الدراسات العليا، فالمدّة الحالية هي 12 شهرًا لضباط الاحتياط، و6 شهور للرتب الصغيرة.
الخدمة العسكريّة الإلزامية هي إذن حلقة وصل بين المجتمع والجيش في تركيا، أو هي حلقة وصل بين التركيّ في حالته الخام، وبين التركيّ “المواطن الجيّد، الوفيّ، القويّ-الرجل، الفاعل”، إلخ.
ولذلك، فالشعبيّة التي تتمتّع بها الخدمة الإجبارية في هذا البلد لا تضاهيها فيها أي بلد آخر حتى تلك التي تعيش في حالة حرب مستمرة. يقوم الجيش بهذا الدور الاجتماعي بعد العائلة والمدرسة من خلال عدّة آليات يعتمدها في ضبط الجنود الأتراك على طول مدة الخدمة، ومن الأمثلة على هذه الآليات التي يعتمدها الجيش في سبيل ربط الجنود روحًا وجسدًا بالوطن: “مساق تدريبي في حبّ الوطن” (Yurt Sevgisi Eğitim) أو التربية الوطنية (vatandaşlık eğitimi)، التدريب على الانضباط (yanasik duzen eğitim)، وسنتوسّع أكثر في فصل الحديث عن عملية صناعة الجندي التركيّ.
النصوص التي نعتمد عليها بشكل رئيسي في هذا المقال هي عمليًا لقاءات ميدانية جرت بين عاميّ 2005-2007 في محافظة قيصرية -الواقعة في العمق الأناضولي- مع أفراد عائدين من الخدمة العسكريّة، وأفراد يتحضّرون لها. تلخّص فيها الباحثة بالقول:
“أظهرت هذه اللقاءات الميدانية شعوراً إيجابياً جداً عند الأتراك ليس فقط للخدمة الإلزامية، بل وللمؤسسة العسكرية أيضاً. الجندي في هذه المنطقة غالباً ما يُنظر إليه بإعجاب، لا أحد يتردد في مساعدته أو إهدائه تخفيضا في السعر، إذا كان بصدد شراء شيء ما، تقديم وجبة طعام له، أو “توصيلة مجانية”. خروج الآباء مع ولدهم باللباس العسكري ليس أمراً نادراً ، في مشهد تاريخي وتأريخي لفكرة “أمة السلاح”، أو لفكرة “الأمة العسكرية”. عسكر ميليت (Askar millet) قيمة رفيعة جداً لدى المجتمع التركيّ. الأمثلة التاريخية من معارك الأمة الماضية كمعركة الدرنديل في الحرب العالمية الأولى ومعارك الاستقلال عام 1920 تعزز هذه الفكرة، وتعززها أيضاً مقولة مصطفى كمال أتاتورك الشهيرة “كل تركي يولد جنديا”. ويشير آيس جول آلتيناي إلى أنّ الأمة التركيّة تم اختراعها كأمة عسكرية، الخدمة والتعليم العسكري الإلزامي عززا من قيمة هذا الإختراع وحافظا عليه”.
الوطن أولاً
الخدمة العسكريّة الإلزامية واجبٌ مقدّس
يلعب الدين دورًا هامًا في منطقة قيصريّة، كما في شعبيّة الخدمة العسكريّة في تركيا، ففي المصادر الأوليّة، تظهر الخدمة في الجيش كواجب مقدّس لدى جميع الأتراك، ويقوم الدين بدور رئيسي في تصدير هذه الصورة. يتحدّث اليس ماسيكارد في “تنظيم العلاقات بين الدولة والدين في تركيا” عن الدين كأداة كماليّة (kemalist) للتأكيد على التماسك الوطني في البلاد، ومن يضطلع بهذه المهمة بالتحديد هو “مركز تنظيم الشؤون الدينية DIYANET. ونستطيع أن نقرأ في “الكتاب الديني للجنديّ” (Askar Din Kitabi) الذي أصدره هذا المركز:
“الخدمة الإلزامية هي ضريبة الدمّ والحياة. لهذا السبب هي واجبٌ مقدّس. أي فرد يحبّ الله ورسوله ووطنه ويدرك قيمة السمعة الطيبة والشرف، سيقوم بهذا الواجب بكل حبّ وإخلاص. عندما ينادينا الواجب، علينا أن نلبّي سريعًا وبسعادة، لأن الرسول قال ذلك: “عندما يناديك السلاح، اذهب سريعًا (شيء من قبيل “وإذا استنفرتم فانفروا”)”. تحقيق أوامر رسولنا هي دين علينا، والذين يحيدون عن هذا هم بذلك يعصون الله ورسوله”.
يبقى الحديث عن شعبيّة الجيش والخدمة الإجبارية في تركيا فرضيًا، ما لم يتم فحصه في الميدان، وهنا يمكن سؤال الأفراد صراحًة عند رؤيتهم، ويمكن أيضاً توثيق لحظات هذا الحدث، وهو ما اعتمدته سومبول في دراستها وأطلقت عليه مفهوم “طقوس المغادرة”.
طقوس المغادرة
يُظهر الدليل المدرسي للدورة الثانية (علوم المجتمع : يلدريم وآخرون، 2004) المغادرة إلى أداء واجب الخدمة العسكريّة كلحظات من الفرح والاحتفال، وهو بالضبط ما لاحظته سومبول في بحثها الميداني في منطقة قيصريّة.
الاحتفال بالمغادرة إلى الجيش طقس مترسخ في العادات والتقاليد التركيّة، ويكون فيه الجنديّ-المواطن شخصيّة رئيسية. في قيصريّة، يبدأ الأقارب والجيران والأصدقاء بزيارة الشابّ قبل شهر من مغادرته، يتلقى فيه “النقوط” والكثير الهدايا كقطع الذهب (الليرة). وبطبيعة الحال، تختلف حدّة الاحتفال من شخص لآخر، ففي العائلات الأكثر تمسكًا بالتقاليد، يتم تحضير وجبة طعام كبيرة بحضور إمام وتقام صلوات جماعيّة في سبيل الدعاء للشابّ بالتوفيق و”رفع الراس”. حتى لو لم يكن حضور الإمام ممكنا، تقام الصلوات أيضًا. وفي بعض الحالات، تضع العائلة الحناء على يد الشابّ قبل مغادرته، وهذا يشير إلى أنه يضحّي بنفسه في سبيل الأمة.
يوم المغادرة، يأتي الحدّاية وضاربو الطبل (davul zurna) للاحتفال بالجنديّ ووداعه. ولا تنتهي الطقوس هنا، يقوم بعد ذلك أقارب الشابّ بمرافقته حتى محطّة المواصلات المركزيّة، وعادة ما يتمّ رفعه على الأيدي وإلقاؤه في الهواء بالغناء: “أكبر جندي هو جنديّنا.. أكبر جندي هو جنديّنا”(En büyük asker bizim asker !) كما هو الحال في أعراسنا في قرى فلسطين. بعد ذلك، يصعد الجنديّ إلى الباص الذي يوقفه الأقارب وهم ينشدون النشيد الوطنيّ.
من البديهي أن نخلص بالقول، أن الطقوس في قيصريّة تُظهر لنا أنّ مغادرة الشابّ التركيّ بيته لأداء الخدمة الإلزامية في الجيش هي لحظات فرح، حدث احتفالي يشبه إلى حدّ ما دموع الفرح في عين أم ليلة عرس ابنتها. وهذا يثبت لنا على الطريقة الاثنوغرافية فرضية شعبيّة الجيش والخدمة الإلزامية في هذا البلد.
طقوس العبور: صناعة المواطن-الجندي
قلنا سابقًا أنّ الخدمة العسكريّة الإلزامية هي بمثابة حلقة الوصل بين الجيش والمجتمع في تركيّا، أو حلقة الوصل بين التركي الخامّ والتركي المواطن الجيد-الجنديّ، هذا الانتقال من حالة إلى أخرى أشار إليه الاثنولوجي الفرنسي فان غينيب بمفهوم “طقوس العبور”.
تعتمد المؤسسة العسكرية التركية على آليتين أساسيتين في عملية خلق المواطن-الجنديّ هما المعسكر والمعركة.
1. المعسكر:
المصطلح التركي الذي يستخدم لقول “الدخول في المعسكر” هو “teslim olmak”، ويمكن أن يُقصد به أيضًا “الخضوع”، في إشارة إلى أن الفرد هنا يخضع تمامًا لسلطة الجيش باعتباره مؤسسة اجتماعية شاملة، والمؤسسة الشاملة أحد مفاهيم عالم الاجتماع الأمريكي إيرفنج غوفمان الذي نحته في دراسته الأهمّ عن مستشفى للأمراض العقليّة وأراد به: “مكان إقامة أو عمل يوجد فيه عدد كبير من الأفراد، تحت نفس الظروف والشروط الموضوعة بعناية، منقطعين عن العالم الخارجي لمدة طويلة نسبيًا”[3].
من أجل بلوغ الغاية من المعسكر، وهي كما رأينا غاية اجتماعية تقوم على خلق روح عسكريّة متجانسة لدى الجنود الأتراك في سبيل تفعيل الحسّ الوطني العام بما يتوافق والمقولات الكماليّة التي تقوم عليها الدولة التركيّة منذ نشوئها. يعتمد الجيش في هذه الاستراتيجية على ثلاث أدوات تتخللها أداة رابعة هي: العزل، التوحيد (صهر الكلّ في الواحد = uniformisation)، التقريظ (mortification)، ونظام مراقبة صارم على طول مدة العسكرة.
بالدخول إلى الجيش، يتخلّى الجندي عن هويّته بالكامل، أدواره العائلية، الاجتماعية، إلخ. في اليوم الأول، يتم تفتيشه، مصادرة كلّ أغراضه الشخصيّة واستبدالها بالأغراض المناسبة لحياة المعسكر، وهي عبارة عن حقيبة تحتوي على أدوات الحمام، ملابس داخلية، مناشف، دفتر ملاحظات مع قلم رصاص، وأهم من ذلك كله، اللباس العسكري الصيفي أو الشتوي بحسب مكان وزمان الخدمة. ثمّ يُترك بعدها لترتيب هذه الأغراض في خزانته الخاصّة الممنوع إغلاقها بالمفتاح.
يُستدعى الجنديّ بعد ذلك عند الحلاق، ويقوم الأخير بقصّ شعر رأس الجنديّ “على الصفر”، وكذلك لكلّ الجنود. يتوقّع بعضهم هذه الخطوة من الجيش قبل ذهابه، فيقوم بقصّ شعره قبل المغادرة بيوم أو يومين كجزء من طقوس المغادرة، وبالرغم من ذلك، يجبرهم الجيش على قصّه مرة أخرى في المعسكر، ذلك لأن الهدف هنا أبعد بكثير من فكرة النظافة الشخصية. اللحى والشوارب ممنوعة رسمياً داخل الجيش، العلامات والإشارات التمييزيّة كحلق في الأذن، الأنف، وغيرها ممنوعة أيضًا.
بعد الانتهاء من عند الحلّاق، يخضع الجنود لفحوصات طبيّة ثانية ويشترط فيها أن يكون الجندي عاريًا تمامًا أمام زملائه، ويتمّ “تطعيمه” بحقنتين أو ثلاث. بعد الحقن بدقائق، يتوجّب على الجنود إعادة ارتداء ملابسهم العسكريّة، وكذلك “البساطير” التي وزعّها الجيش عليهم دون الاهتمام كثيرًا بالمقاس الحقيقي لكل جنديّ.
أظهرت لقاءات سومبول مع هؤلاء الجنود أنهم شعروا حينها بعدم التعرّف إلى أنفسهم في هذا اللباس وهذه “القَـصّة”، البعض أكّد على أنهم لاقوا صعوبة في التفريق بين الآخرين من زملائهم، “لأننا كنا جميعا نفس الشيء، كلّنا واحد”، وهذا بالتحديد هو هدف الجيش في هذه المرحلة الأولى، وهو بطبيعة الحال ما يعنيه “التوحيد” (صهر الكل في واحد).
أما مرحلة العزل، فقد بدأت حقًا منذ تخطّي الجنديّ عتبة المعسكر الأولى، فلا يملك الحقّ بعدها بالخروج طوال فترة الدروس الأولى التي يمكن أن تتراوح من شهر إلى أربعين يومًا. بعد الانتهاء من هذه المرحلة الأوليّة، للجندي الحقّ في 30 يومًا عطلة يمكنه فيها الذهاب إلى المنزل والعودة بعدها لاستكمال الخدمة، لكن، يفضّل أغلب الجنود البقاء للانتهاء من الخدمة العسكرية كلّها في أسرع وقت ممكن[4].
استخدام العنف الرمزي والجسدي أحيانًا هي الأداة الثالثة في يد الجيش لتحقيق الغاية المرجوّة من المعسكر. يستخدم المدربون غالبًا إهانات و”كلام شوارع” لإثبات موقعهم في هيكلية الجيش، و يمكن القول أيضًا لتعليم الجنود فكرة الهيكلية في الجيش ومعرفة موقعهم “بالإطاعة”. ولا يتردد بعض المدربين في التأكيد على طفولة جنوده ونعومة أظافرهم، فيأمر أحدهم على سبيل المثال بالزحف حتى شجرة ما وضرب التحية بعد ذلك. ترى سومبول أن هذا الأسلوب أقوى بكثير في استدخال القيم العسكرية وأهمها هنا الرجولة في عقل وجسد الجندي التركي من أسلوب الانضباط العام (garde-à-vous).
تعتمد المؤسسة العسكرية أيضًا نظام مراقبة رسمي وآخر غير رسمي، أما الرسمي فهو بديهي جدًا، بمجرّد وصول الجندي المعسكر، يتم اعطاؤه مهمة في مجموعة، ومكان في فريق مكوّن من 15 شخصا. يُعطى كذلك رقم خاصّ به “يموقعه” بين الآخرين في نفس الفريق، وهكذا تتحدد وظيفة ومكان هذا الجندي على طول فترة الخدمة. بالإضافة إلى ذلك، على الجندي أن يثبت حضوره كل صباح ومساء، ويتم النداء عليه برقمه ورقم المجموعة التي هو فيها، لا باسمه الخاصّ.
أما نظام المراقبة غير الرسمي، عادة ما يتمّ من خلال المدربين المشرفين مباشرة على الجنود، سواء عن طريق الملاحظات اليوميّة التي يتمّ تسجيلها، أو عن طريق “كبسيّات” فجائيّة تمامًا كما في سجون الإحتلال الصهيوني. أو من بين الجنود أنفسهم، يتمّ اختيار “عريف صفّ” في كل مجموعة ليقدّم تقارير، طلبات وهكذا.
2. المعركة:
إنّ ما تعتبره المؤسسة العسكريّة التركيّة أساسًا لجميع الجهود السابقة في بناء المواطن-الجندي هو التدرّب على القتال، كما لو كانت الأدوات السابقة معطيات لا تتحقق إلا بهذا الشرط. ويريد الجيش باعتماده لهذه الآلية الثانية أن يقول لأفراده بأن حياتهم مرتبطة بالوطن والجمهورية بشكل كامل ومباشر، روحاً وجسداً، وبأنهم لن يصبحوا مواطنين-جنوداً وطنيين إلا بالتضحية في سبيله.
كما في باقي جيوش العالم، يتدرّب الجنود الأتراك في هذه المرحلة على أساليب القتال المعتمدة لدى الجيش التركيّ، ويتمّ إرسال العديد منهم وهم في طور الخدمة إلى الجبهة الشماليّة الشرقيّة للبلاد، وهي جبهة المواجهة المفتوحة منذ عام 1984 مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، كان هناك وقف إطلاق نار وحيد عام 1999 بعد اعتقال قائد الحزب عبدالله اوكالان، إلا أنّ التدخّل التركي المضادّ في شمال العراق عام 2007 أعاد فتح الصراع مرة أخرى، ويبدو أنّ جزءاً لا بأس به من سبب الإبقاء على هذه الجبهة مفتوحة هي مصلحة عسكريّة-تركيّة خالصة لضمان استمرار جريان الدم في عروق الجيش.
الجيش التركي وانقلاب 2016
الدور السياسي الأبرز -ويكاد يكون الوحيد- الذي عرف به الجيش التركيّ هو “الانقلابات” التي قام بها في تاريخ الجمهوريّة للحفاظ على رأس ماله الرمزيّ المتمثل في “الوطنية الأتاتوركيّة”، وهو في نفس الوقت الدور الاجتماعي الذي اضطلعت هذه المؤسسة العسكرية للحفاظ على هويّة وطنيّة عابرة للخطاب الحزبي والفئوي في البلاد. لكن، هذا في حال لم تكن “الكماليّة” التي يستند عليها الجيش ويسعى للحفاظ عليها “آيديولوجيّة” بحدّ ذاتها، وفي الحقيقة، لم تحسم سومبول هذا السؤال في كلتا دراستيها، وتركتنا تارة أمام الكماليّة كآيديولوجيّة، وتارة أمام الكماليّة كهويّة (قيم) وطنيّة متجانسة يتفق عليها جميع أطياف المجتمع التركيّ. وهذا سؤال قد لا نملك الإجابة النهائيّة عليه دون دراسة اجتماعية مفصلّة نتركها للوقت أو للإخوة هناك.
أما الجديد والمهمّ في كون الكماليّة فعلاً آيديولوجيّة يعبّر عنها الجيش ويسعى دوماً للحفاظ على بقائها للحفاظ على بقائه، هو أنّ الكلمة المفتاح في فكرة ومفهوم الآيديولوجيّة هي سحب بساط الشرعيّة من تحت الآخر (شيطنة)، وبهذا نكون فعلاً أمام صراع حقيقي على السلطة عُبّر عنها صراحة في الانقلاب الأخير. لكن، كيف تسحب العدالة والتنمية (AKP) شرعيّة المؤسسة العسكرية وهي التي تحتّل هذه المكانة عند الأتراك كما رأينا في مكانة الخدمة العسكرية والجيش بينهم؟ هذا ببساطة ما فهمه أردوغان ونادى بالناس لأجله.
هل تُلغى الخدمة العسكرية في تركيّا؟ هذا ما يجب البحث فيه والحديث عنه، لكن مبدئيًا يمكن القول بأن الغالبيّة العظمى من الجنود الذين قابلتهم الباحثة في قيصريّة هم ضدّ هذا القرار، ويعتبرونها كما قلنا واجبًا مقدّسًا. وإن حصل فعلا – وهو تغيير كبير بلا شكّ سيحدّ كثيراً من سلطة الجيش لصالح السلطة السياسيّة، وسيقوّي أيضاً ورقة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كون الخدمة الإجباريّة أحد المعيقات – سنضيف إلى عوامل “تحويل الجنديّة إلى حرفة” الثلاثة التي تحدّثنا عنها في نصّ “الجنديّة كحرفة: عن التحولات في الحرب والثورة في الشؤون العسكريّة” عاملاً رابعاً نطلق عليه “الانتقام السياسي”.
****
الهوامش:
[1] تعتمد هذه المقالة بشكل رئيسي على دراستين نشرتا باللغة الفرنسية للباحثة التركيّة سومبول كايا، الأولى نشرت عام 2008 تحت عنوان “صناعة الجندي المواطن من خلال الخدمة الإلزامية في تركيا”، والثانية عام 2013 وحملت عنوان “الخدمة الإلزامية والحسّ الوطني: الحالة التركية”، والدراستين عبارة عن ملخص لبحث اثنوغرافي قامت به الباحثة بين عاميّ 2005-2007 في منطقة قيصريّة في تركيّا لنيل شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية في جامعة السوربون في باريس.
موقع الباحثة على الإنترنت، انظر هنا.
للرجوع إلى المصدرين، انظر: Kaya, Sumbil, Conscription et sentiment patritique : le cas de l’armée turque, critique internationale, n° 58, janvier-mars 2013. Kaya, Sumbil, La fabrique du «soldat-citoyen» à travers la conscription en Turquie, European Journal of Turkish Studies, November 2009.
[2] الطبع أو الهابيتوس مفهوم رئيسي قام بنحته عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو وأراد به: “نظام من الخطط الواعية وغير الواعية في التفكير والإدراك والاستعدادات التي تعمل كوسيط بين البنى الموضوعية الاجتماعية والممارسة. ويفسر الهابيتوس عملية إعادة انتاج الهيمنة الاجتماعية والثقافية، لأن الأفكار والأفعال التي يولدها تتواءم مع النظم الموضوعية أو النظم التي يمكن ملاحظتها امبريقيا في العالم الاجتماعي” (حسني إبراهيم عبد العظيم، الجسد والطبقة ورأس المال الثقافي: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو، إضافات، ع 15، 2011، ص: 61).
[3] Goffman, Erving, Asiles : études sur la condition sociale des malades mentaux, Paris, Les éditions de Minuit, 1968, p : 1.
[4] بعد ذلك، لا تختلف عمليّة صناعة الجندي التركيّ عن أي جيش آخر، أو على الأقل في الدور الأساسي للمجموعة والحركة، وللنظر في هذا، ستنشر دائرة سليمان الحلبي قريباً دراسة جديدة في صناعة الجندي الفرنسي يمكن الاستفادة منها لفهم الحالة التركيّة أيضاً.