وقد كان لنا نحن العرب مساهمة أساسية في هذا المجال. ولعل عمر بن إبراهيم الأوسي الأنصاري صاحب كتاب “تفريج الكروب في تدبير الحروب”، الذي وضعه في عهد السّلطان المملوكي فرج بن برقوق (1399-1411 م) كدليل في التحضير للحرب وكيفية القيام بها، هو أبرز وأهم ما كتب في هذه الحقبة التاريخية قبل أن “تنتقل” العلوم العربية إلى مناطق أخرى في العالم وتكون مرجعاً لن يذكر أبداً لجاك دو جيبيرت (1743-1790) الذي نظّر للجيوش الوطنية الكبرى وفكرة “الجندي-المواطن” في “مقالة عامة في التكتيك”.

“الحرب مسألة حياة أو موت، وهي بمثابة الطريق إلى بر الأمان، أو إلى الخراب، ولذا فهي موضوع يستحق البحث والتحري، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهله” (سن تزو : فن الحرب)

إنّ الحاجة لدراسة الحرب ليست وليدة هذا العصر، ولا الذي قبله، بل قديمة قدم الحرب ذاتها، تعود بنا على أقل تقدير إلى القرن الرابع قبل الميلاد، حيث بدأت أولى المدن تتشكل ومعها جيوشها في منطقة بلاد الرافدين، أو ما يعرف اليوم بالجيوش الأولى. [1]

منذ ذلك الوقت، كتب كثيرون عن الحرب وفيها، شرقًا وغربًا، بدءًا بالكاتب الصّيني سن تزو (544-496 ق.م) الذي عرض في ثلاثة عشر فصلاً من كتابه “فن الحرب” قضية الإستراتيجية العسكرية غير المباشرة، الخدعة والالتفاف على العدوّ.

وهي مواضيع عثر عليها بعد ذلك في مخطوطات “الآرثاشاسترا” باللغة السنسكريتية (l’Arthashâstra de Kautilya) التي تُعزى اليوم إلى شخص يدعى كوتيليا رئيس وزراء تشاندراغبت موريا حاكم الامبراطورية الماورية آنذاك، ثم عثر عليها كذلك في كتابات المؤرخ الإغريقي للحروب البيلونيسية ثيوكسيدس (460-399 ق.م)، والذي عدّ مرجعاً لكتابات الحاكم الروماني جول سيزار (100-44 ق.م) في الحرب.

يمكن تسمية هذه الأعمال الأولى في الحرب بكتابات الفوج الأول، والتي يغلب على معظمها طابع الوصف لنماذج حروب تاريخية وقعت، أكثر منها تحليلاً وتخطيطاً لهذه الحروب. أما كتابات الفوج الثاني إن صحّ التعبير، فقد وصلت إلينا مع تشكّل الجيوش الشّاملة وبروز منظرّي الاستراتيجية العسكرية الكلاسيكية[2] في الحرب على إثر ذلك.

وقد كان لنا نحن العرب مساهمة أساسية في هذا المجال. ولعل عمر بن إبراهيم الأوسي الأنصاري صاحب كتاب “تفريج الكروب في تدبير الحروب”، الذي وضعه في عهد السّلطان المملوكي فرج بن برقوق (1399-1411 م) كدليل في التحضير للحرب وكيفية القيام بها، هو أبرز وأهم ما كتب في هذه الحقبة التاريخية قبل أن “تنتقل” العلوم العربية إلى مناطق أخرى في العالم وتكون مرجعاً لن يذكر أبداً لجاك دو جيبيرت (1743-1790) الذي نظّر للجيوش الوطنية الكبرى وفكرة “الجندي-المواطن” في “مقالة عامة في التكتيك”.

ثم نابليون بونابرت (1769-1821) “إله الحرب” كما سماه منظر دراسات الحرب الأبرز كارل فون كلاوزوفيتز، والذي اشتغل بشكل كثيف على تطوير فن المناورة من أجل الانتصار على عدوّ أقوى بالتركيز على نقاط ضعفه. حتى أنطوان دو جوميني (1779-1869) الذي  أصرّ على أهمية تركيز القوى في النقاط الحاسمة واللوجستية في إطار تنظيره لما أطلق عليه في كتابه “موجز في فنّ الحرب” بـ”الحرب العقلانية”.

في الحقيقة، لا يمكن حصر من كتبوا عن وفي الحرب فقط في هؤلاء، والحال أنه إذا استمرينا على هذا النفَس، سنكون بصدد وضع خلفية تاريخية للعلوم العسكرية، وبشكل أخص للإستراتيجية العسكرية لا لدراسات أو علم الحرب. لكن، حتى اللحظة التي بدأت فيها قضية الحرب تُطرح في حقول متعددة، لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل هذه الأسماء عند الحديث عن وفي الحرب، خصوصاً وأنها صاحبة أصالة في هذا الموضوع، ولأن اعتبارها اليوم مرجعاً للعلوم العسكرية ليس إلا تصنيفاً بأثر رجعي.

حتى القرن التاسع عشر، كان كل ما لدينا عن وفي الحرب هو مجموعة من القصص والأفكار والشروحات الجزئية، والتي تشمل نقاطاً عامة أو نقاطاً عملياتية مباشرة. لم نظفر بأولى الأسس المنهجية في دراسة الحرب إلا في الكتاب الذي نشره البروسي كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831) عام 1832 تحت عنوان “في الحرب”. قدّم كلاوزفيتز في هذا الكتاب عدّة تعريفات للحرب انطلاقاً من إقراره بأن الحرب تتقاطع مع كثير من القطاعات الأخرى كالسياسة والتجارة، والبعد العسكري والبعد الاجتماعي، والعوامل النفسية، الخ. كل هذه الجوانب تحدث عنها كلاوزوفيتز بإسهاب في تعريفه للحرب، مع تأكيده على مركزية أن الحرب في النهاية هي “صراع إرادات قائم على العنف بالدرجة الأولى”، أو أن “الحرب عمل من أعمال القوة لإجبار العدوّ على تنفيذ مشيئتنا”.

في الحقيقة، هذا الكلام في غاية الأهمية، إذ أن الحرب كما يقول كلاوزوفيتز “شكلٌ من أشكال الوجود الاجتماعي”، له هذه الأبعاد/الجوانب المتعددة التي يمكن تعريف الحرب بها بشكل جماعي أو بشكل منفصل كل جانب على حدة، لكن دون إلغاء جوهر هذه الظاهرة وهو “العنف” أو “صراع الإرادات” أو “إركاع الخصم”. بمعنى، يمكن الحديث عن “الحرب كامتدادٍ للسياسة”، او عن “الحرب كاستراتيجيةٍ وتكتيك : دفاع وهجوم”، “حالة اقتصادية” و “اجتماعية” و “نفسية”، الخ. ويمكن سحب أحد هذه الجوانب أو إضافة آخر عند إعطاء تعريفٍ للحرب، لكن في خضمّ ذلك، لا يمكن إلغاء روح الحرب بكونها “عنف”، “صراع”، “قوة لإجبار العدوّ على تنفيذ مشيئتنا” من هذا الحديث وإلا يصبح ما نتحدث عنه شيء آخر غير الحرب.

للمرة الأولى في تاريخ ما كتب عن وفي الحرب يتمّ دراسة هذه الظاهرة من أكثر من جانب مع التأكيد في نفس الوقت على مركزية جوهر الحرب. من هنا تأتي مكانة كلاوزوفيتز التنظيرية، وبهذا تفوّق على كل من سبقوه في دراسة الحرب، وإلى حدّ ما، تفوّق أيضاً على كثيرين ممن لحقوا به في هذا المجال. لقد أنشأ منهجاً جديداً لدراسة الحرب دون أن يُدرَك هذا مباشرة آنذاك، وحتى اليوم يُساء فهم كلاوزوفيتز بوضعه على رفوف المكتبة العسكرية فقط. لكن عملياً، نستطيع القول، أن دراسات الحرب كحقل معرفي متخصص ومستقل بدأ من عند كلاوزفيتز. [3]

استمرت الكتابات بعد كلاوزوفيتز عن وفي الحرب بنفس طريقة الكتابات القديمة، وذلك على شكل جهود متفرقة في حقول مختلفة لا تجمعها منهجية واحدة مشتركة في التعاطي مع موضوع الحرب. وكان علينا أن ننتظر أربعينيات القرن الماضي لنرى دراسات أو علم الحرب (البوليمولوجيا) حقلاً متخصصاً ومستقلاً يجمع هذه المناهج كلها تحت سقف واحد على يد “عالم الاجتماع” الفرنسي غاستون بوتول (1896-1980).

في الجزء الثاني من هذه المقدمة، سنتطرق للظروف التي نشأ فيها هذا الحقل المعرفي الجديد، وسنتعرف بلمحة بسيطة على أفكاره الأساسية ومحصلة جهوده، ثم أبرز الانتقادات التي تعرض لها كتجربة وكتخصص.

*****

الهوامش:

[1] أنظر أيضاً:(Doyne Dawson, The First Armies : 2001) (Richard A. Gabriel and Karen S. Metz, A SHORT HISTORY OF WAR : The Evolution of Warfare and Weapons : 1991)
[2] يشير مصطلح الاستراتيجية العسكرية الكلاسيكية إلى فكرة “فنّ المناورة” في الحروب، وتقوم على استغلال نقاط ضعف العدوّ من خلال تركيز نقاط القوة عليها وإعطاء صفة الحركة، أبرز مثال عليها: عملية إنزال 1944 النورماندي لقوات الحلفاء في شمال غرب فرنسا، والتي يطلق عليها أيضاً عملية نبتون. والاستراتيجية الكلاسيكية غالبا ما يشار اليها ايضا كنقيض لحرب الموقع، أو استراتيجية الاستنزاف بين قوى متوازنة، مثل خنادق الحرب العالمية الأولى. أنظر:  (Bruno Tertrais, la guerre, Que sais-je ?, 2014 : 17).
[3] أنظر كتاب: في الحرب، كارل فون كلاوزوفيتز، ص: 75-77، 84، 93، 103، 140-147، 163.