ظهر مصطلح (البوليمولوجيا) لأوّل مرة في العام 1942، وكان ذلك على يد عالم الاجتماع الفرنسي (غاستون بوتول 1896-1980). وهي كلمة يونانية قديمة مكوّنة من مقطعين: بوليمو أو بوليموس، وتعني حرب أو صراع. ولوجيا تعني “علم”، وبهذا تصبح كلمة (بوليمولوجيا) علم الحرب أو دراسات الحرب. أراد بوتول بنحته لهذا المصطلح أن يكون خليفةً لـ “كلاوزفيتز” وأن يرفع رايته المنهجية في دراسة الحرب من خلال اقتراح تدشين حقل علمي جديد يُعنى بشكل خاص ومستقل بدراسة الحرب كظاهرة اجتماعية وتاريخية بطريقة منهجية.
س: لماذا يجبُ علينا أن ندرُسَ الحرب؟
ج: لاستبدال المقولة الرومانية القديمة القائلة: “إذا أردت السلام، فاستعدّ للحرب” بمقولة: “إذا أردت السلام، ادرس الحرب”. (غاستون بوتول 1971).
تحدّثنا في النص السابق بشكل موجز عن الجذور التاريخية لدراسات الحرب، وحاولنا من خلاله تتبع أبرز وأهم ما وصل إلينا في هذا المجال، حاولنا أن نزحف بموضوع الحرب وصولاً إلى أول محاولة منهجيّة في دراسة هذه الظاهرة على يد مُنظِّر الحرب الأبرز “كارل فون كلاوزوفيتز”، الذي أسّس في كتابه “في الحرب” نقطة انطلاق نظرية لما عُرف بعد ذلك بدراسات أو علم الحرب (البوليمولوجيا).
ظهر مصطلح (البوليمولوجيا) لأوّل مرة في العام 1942، وكان ذلك على يد عالم الاجتماع الفرنسي (غاستون بوتول 1896-1980). وهي كلمة يونانية قديمة مكوّنة من مقطعين: بوليمو أو بوليموس (πόλεμος) وتعني حرب أو صراع. و’لوجيا” كما اعتدنا في تسميات العلوم الأخرى، يُعنى بها علم، وبهذا تصبح كلمة (بوليمولوجيا) علم الحرب أو دراسات الحرب.
أراد “بوتول” بنحته لهذا المصطلح أن يكون خليفةً لـ “كلاوزفيتز” وأن يرفع رايته المنهجية في دراسة الحرب من خلال اقتراح تدشين حقل علمي جديد يُعنى أساساً، بشكل خاص ومستقل، بدراسة الحرب كظاهرة اجتماعية وتاريخية بطريقة منهجية (Interdisciplinary and historical approach)، انطلاقاً من فرضية أنّ الحرب هي “بلا منازع، الظاهرة المعاشة الأشدّ عنفاً بين كل الظواهر الاجتماعية”، كما يقول في كتابه “ظاهرة الحرب”.
ويرى “بوتول” أنّه إذا كانت السوسيولوجيا هي فهم للتاريخ من زاوية ما كما يقول “دوركهايم”، يمكن القول إن الحرب هي التي أنجبت التاريخ، لأن التاريخ بدأ بكونه حصراً تاريخ النزاعات المسلحة. ومنذ زمن بعيد والتدريس الكلاسيكي للتاريخ يتعرّض للانتقاد، كونه خضع دائماً لمسألة سرد وقائع الحروب والمعارك. ومن المستبعد أن يستطيع التاريخ، الكفّ كُلياً عن كونه “تاريخ الحروب” لأن الحروب تبقى بالنسبة لنا في آن معاً النقاط الأكثر أهمية في تسلسلية الأحداث، ومن ثم، بمعزل عن إرادتنا، الحدود التي ترسم المنعطفات الكبرى للأحداث.
لقد عرف الانتقال من حقبة إلى أخرى، فيما قبل التاريخ، فترات انتقالية نفترض وجودها دون معرفتها. لكن، ما إن نبلغ الحقبة التاريخية بمعناها الحصري، حتى تصبح الحرب غالباً هي ظاهرة الانتقال الرئيسة، والمحور الذي يربط مختلف أجزائها. وبفعل الحرب اندثرت كافة الحضارات المعروفة. لكن، وكما أن الوقائع الحربية الكبرى هي التي تحضر انقراض الحضارات المغلوب على أمرها، فهي تعزز من جهة أخرى انطلاقة العديد من الحضارات الجديدة ودخولها التاريخ، والحرب دائمًا تقريبًا، وهي التي تركز الأوليات التي تضع لفترة طويلة تقريباً نمطاً اجتماعياً معيَّناَ على رأس البشرية، من جهة أخرى.
إن الحرب هي في الوقت نفسه العامل الرئيس، بين عوامل التقليد الجماعية، التي تلعب دورًا على جانب كبير من الأهمية في التحوّلات الاجتماعية”[1].
في العام 1945، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، اقترض “بوتول” من صديقته الصحفية “لويس ويس” (1893-1983) شقّتها في شارع فندق الأنفاليد الوطني في باريس (Boulevard des Invalides, Paris) وافتتحا فيها سوياً “المركز الفرنسي للبوليمولوجيا” (Institut Français de Polémologie :1945-1993). بعد ستين عاماً فقط، كان هذا المركز بنشاطاته وإصداراته وأسماء مؤسّسيه والقائمين عليه في طور النسيان[2]، 17 عدداً من مجلة المعهد الدورية “حروب وسلام” (Guerres et Paix : 1966-1970)، 52 عدداً من مجلته اللاحقة “دراسات بوليمولوجية” (Études polémologiques) التي ظلّت تصدر بشكل منتظم حتى عام 1978، ثم استمرت في الصدور عشوائياً حتى العام 1986 بعد وفاة “بوتول” بستة أعوام، وقبل أن يتم دمجها في مجلة “استراتيجية” (Stratégie) التي أصبحت فيما بعد “ثقافات وصراعات” (Cultures et Conflits) تصدر حتى اليوم عن “مركز دراسات الصراعات” (Centre d’études des conflits) الذي يتبع اليوم “مؤسسة البحث الاستراتيجي” (Fondation pour la recherche stratégique) في فرنسا. بالإضافة إلى 26 مؤلفاً لـ”بوتول” في الحرب وموضوعات أخرى، ونشاطات عديدة قام بها المعهد في سبيل شقّ الطريق أمام هذا الحقل (التخصص العلمي) الجديد.
وبحلول تسعينيات القرن الماضي، اختفت هذه الجهود المضنية كأنها لم تكن، وتكلل مشروع “بوتول” وأصدقائه بالفشل الذريع في تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها. الملفت للنظر في هذه القصة – ولعله أحد المداخل المهمّة لدراسة المجتمع الفرنسيّ- هو نوعية الانتقادات التي وُجهت لهذه التجربة، أو الأسباب التي تُعزى اليوم لعدم استمرارها، إذ لا تعكس حقيقةً اهتماماً جديّاً بها كتجربة على الأقل، ولا فهمًا كافيًا لها كمنهج في دراسة ظاهرة الحرب.
يقول “فرانسواه برنارد ويج” في “حياة وموت تخصص: البوليمولوجيا” (Vie et mort d’une discipline : la polémologie) أحد أبرز النصوص التي كتبت في خضم هذا النقد، أو هذا التعليل: “التفسير المعتمد والأكثر شيوعًا لمعاناة هذا الحقل المعرفي يتعلق بمدى ارتباطه بهوية صاحبه، أي “بوتول”، المولود قبل القرن العشرين، وهو المحامي والديموغرافي وعالم الاقتصاد والمتخصص في موضوعة الحرب في آن واحد، لكنه يبقى مدنيًا، كان مستقلاً بدون منبر إعلامي يتحدّث من خلاله، وبدون سلطة يصل مداها إلى الأوساط العليا في الأكاديميا، حتى ولو كان مُدرِّسًا في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، لم يكن يمتلك مركزاً لصنع السياسات (think tank) يتداول فيه أفكاره، بدون أمير يناصحه، وأخيراً، بدون سبب أو خلفية سياسي/ة يستغل فيها هذه الـ (logy) من أجل إعطاء مبرر لهذا المذهب الجديد (ism)…” ثم يستطرد “ويج” قائلاً: “دخلنا عصر الصورة (الفيديو) ولم يغيّر من نوعية خطابه شيئاً، لم يكن رجل الصورة”، ويتساءل: “من رآه منكم على التلفاز؟ أو رأى واحدة من صوره النادرة جدًا؟ كما لم يكن أيضًا رجل النقاشات، والمستجدات، حتى في ذروة مجده، لم يُغرِ أحداً بإجراء مقابلة معه أو مع أحد تلامذته، سواء عن حرب فيتنام، أو عن التحرر الجنسي، أو عن المعارضة.. الخ. يبدو أن البوليمولوجيين خلقوا لأنفسهم نوعًا غريبًا من التعفف: لا تقدّم تحليلاً لمعركة لم تنته بعد، لا تتخذ عدم الموضوعية هاجسًا لك، أي لا تخشاها. لكنهم كانوا أكثر قربا وحديثا من/عن “الحروب القرطاجية” (Les Guerres Puniques)[3] مثل حرب الخليج (الأولى) على سبيل المثال.
بشكل عام، عانى التخصص من مشكلة حقيقية في كيفية تصنيفه، دوريتهم “دراسات بوليمولوجية” تحدثت مع علماء نفس، أنثروبولوجيين، علماء اقتصاد، ديموغرافيين، فلاسفة، قرأنا فيها الجنرال “بوارييه” (Poirier)، الفيلسوف “نيكولاي كوندراتيف” (Nikolaï Kondratiev).. الخ. لم يكونوا متصالحين مع التصنيفات الأكاديمية ولا الإعلامية، وكان لا بد تصنيف البوليمولوجيا لا محال، كان يجب وضعها في مكان ما، تحت مسمىً معيّن، لكن أين؟ في العلاقات الدولية؟ أم في العلوم السياسية؟ أو الفلسفة؟ أو علم الاجتماع؟ تحت أيٍّ من هذه البنود المعتمدة جامعياً/أكاديمياً (CNU) يمكن إدراجها؟ ثم كيف كان من الممكن الإشارة إليها في مجلة الإكسبريس (l’Express) أو غيرها عند الحديث عنها إعلاميا؟”[4]
وليس غريباً أن تتهم البوليمولوجيا فيما بعد بالتبرير للحرب بسبب اعتبارها لها إحدى ثوابت التاريخ المستمرة، أي المتكررة بشكل منتظم – نوعا مًا- ويمكن ملاحظته، وفي ظلّ تبلور حقل معرفي آخر في الجهة المقابلة يدعى “الإيرينولوجيا” (Irénologie)[5] أو ما يعرف بـ “دراسات السلام” والذي اقترح رؤية “سياسية أكثر صحة وصراحة” للحرب، من خلال النظر إليها باعتبارها “عنفاً بنيوياً: استغلال واغتراب” يمكن الشفاء منه بالنية/الإرادة الحسنة[6].
لم يقدّم “ويج” أو غيره سببًا جديًّا واحدًا يفسر عدم استمرار تجربة “بوتول”، بقدر ما رسموا جزءًا مُهمًا من ملامح المجتمع الفرنسي حينها، وهذا موضوع بحث آخر. الشقّ الأكبر من هذه الانتقادات شكليًا (بروتوكوليًا) لا قيمة معرفية له، بل ويدين ذاته بذاته، ثم إنّ المطلّع على أساسيات البوليمولوجيا (الفقرات الأولى) سيدرك بسرعة أن عدم القدرة على تصنيفها (الشقّ الآخر والأكثر جديّة من النقد/التعليل) لا يعكس إلّا فشلًا في قراءة التجربة وما تعنيه البوليمولوجيا حقيقة وما هو منهجها في دراسة الحرب.
بكل الأحوال، لسنا هنا بصدد الردّ على هذه الانتقادات لهذا الحقل المعرفي الجديد نسبياً، كما أننا لسنا نبغي العبر مما جرت عليه الأمور مع هذه التجربة والاستفادة منها في “دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي” -مع أهمية ذلك-، بقدر ما تهمنا البوليمولوجيا نفسها كحقل معرفي متخصص ومستقل، يهمّنا كثيراً أن نتعرّف عليه في سبيل خلق ثقافة عامة ومتخصصة بالحرب، إن لم يكن لأصالة هذه الظاهرة في التاريخ الإنساني ككل، فلارتباطها التاريخي المباشر بنا كعرب وفلسطينيين على وجه الخصوص.
وقد ارتأينا أن نجعل من هذه الظروف الخاصة التي نشأ فيها هذا الحقل خطوة ثانية في التعريف بالبوليمولوجيا أو دراسات الحرب، قبل أن نخوض في تفصيل موضوعاتها ومنهجها في دراسة ظاهرة الحرب، ومن ثم توضيح الفرق بينها وبين العلوم العسكرية؛ علم الاجتماع العسكري. وهو ما سيكون موضوع بحثنا الرئيسي في الجزء الثالث والأخير من هذه المُقدّمة.
تابع/ي القراءة: مقدمة في دراسات الحرب (3)
*****
الهوامش:
[1] غاستون بوتول، ظاهرة الحرب، ص 8.
[2] بلغ عدد مريدي المركز في العام 1968 ما يقارب 1216 طالب وحوالي 1000 مشترك في مجلة المعهد الدورية.
[3] قبل أن تؤخذ كنماذج للحرب، تعود هذه التسميات في الأساس الى أسماء المؤرخين القدماء، فالحروب الميديّة مرتبطة بهيرودوت مثلا، ثيوكسيدس للحروب البيلوبونيسية، وأخيراً بوليب للحروب القرطاجية.
[4] أنظر:François-Bernard Huyghe, vie et mort d’une discipline : la polémologie: 2006, pp. 86-88.
[5] مصطلح تم اقتراحه من عالم السياسة النرويجي جوهان جالتونغ (Johan Galtung : 1930-) على غرار مصطلح البوليمولوجيا لغاستون بوتول.
[6] مصدر سابق، ص 89.