هناك اتفاق جمّعي على أنّ أمة العرب تعيش حالةً من التردّي والتشظّي في عدّة مجالات، ولم تكُن الثقافة، بمفهومها الشامل لجميع حقول المعرفة والفنون، إلا جزءاً من هذه الحالة، دون إنكار وجود صحوةٍ تنمويّة ومعرفيّة وإبداعيّة تحاول بكلّ ما أوتيت من قوة، إيجاد موطئ قدمٍ لها بين هذا الركام العام. ورغم الوضع القائم، إلا أنّ ذلك لا يلغي قواعد أساسيّة عند الانخراط في العمل الثقافي، إنتاجاً وممارسة، وهي أنّ الثقافة إثراء معرفي وجمالي لا يجب تفريغه من المعاني والأحكام الأخلاقيّة، وجعل التصدّع المعرفيّ مدخلاً لمصافحة القتلة والمجرمين، بحق الإنسانية عموماً، والعرب خصوصاً، من الصهاينة المحتلّين لأراضينا العربية، وعلى رأسهم فلسطين، بحجّة أنّ تلك الخطوة تندرج ضمن المثاقفة، وأنّ الفنون والآداب شيء منفصل في دورها ودلالاتها عن السياسة.

وكما هو معلوم فإنّ السياسة ممزوجة في جميع ممارساتنا الحياتية، بل نحن ندور في فلك السياسة بشكلٍ ضمنيّ ومُعلن عبر حقولها المتعدّدة، والتي لم تكُن الثقافة يوماً بمعزلٍ عنها. إنّ الفن والأدب، على وجه التحديد، شكّلا منعطفاً أساسيّاً في نشر الأيديولوجيا ودعم وتأييد المواقف أثناء النزاعات الإقليمية والدولية؛ فهي كانت الأداة الناعمة الأكثر فعالية، دون غيرها في بعض الحالات؛ كونها الأقدر على التأثير وقلب المزاج الشعبي تجاه موقفٍ ما، وهذا بكلّ تأكيد ساهم في تزييف الحقائق وصنع سردياتٍ خاصّة تصبّ في مصلحة الطرف المنتج لهذه الثقافة، سواءً كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية.

إذن، المطالبة بفصل الثقافة عن السياسة، وادّعاء أنّ الفن والأدب حالة مستثناة من السياق، هو ليس فقط مغالطة دلالية، بل أيضاً هو قدح في أهمية هذه الوسيلة الإنسانية في العملية التواصلية. إنّ من يحمل هذا الرأي، عن حسن نية وليس من موقف نابعٍ من هوان سياسي، يجعل الإبداع حالةً هامشية الأثر وفارغة المعنى وهراء لا فائدة منه في أيّ حضارة. بينما قوالب الثقافة، في كلّ الأمم والعصور، هي المرآة التي تعكس الأحداث والقضايا والهموم لأيّ أمة، فمنها تستطيع معرفة كيف كان يعيش الناس وماذا يلبسون ويأكلون، ومن هو عدوهم ومن هو صديقهم، مع توثيقٍ ووصفٍ لما جرى في الحروب والملاحم، ومن هم القدوة والأبطال، مع سرد للأساطير والرموز التي تشكّل الذاكرة الجمعية.

إن الهزيمة الحضارية التي مُني بها بعض المثقفين العرب جعلتهم في حالة يأسٍ وتخبّط، فتكوّن لدينا مناخ ملوّث يستصغر خطوات التساهل عند تقييم الصراع مع العدو، فبات من الممكن أن تجد مثقفاً لا يرى أيّ حرجٍ من التواصل معهم، ليس من أجل الاعتراف بشرعيّتهم وحقهم في اغتصاب الأرض، ولكن – بحسب ما يزعم! – للاستفادة ممّا أنتجوه فنياً وأدبياً، وأنّ ذلك لا يتعارض مع رفض مشروعهم في المنطقة. هذا الصوت يضع مجموعة فرضياتٍ يجب تفنيدها.  أوّلها، أنّ الثقافة جزء لا يتجزأ من السياسة كما تمّ الإسهاب في الفقرة السابقة، وثانيها، على فرض أنّ الثقافة لا دخل لها في السياسة، فهل الثقافة منزوعة الأخلاق أيضاً؟ فلا يوجد سويّ إلا ويدرك حجم الممارسات العنصرية والاستعمارية التي يمارسها هذا الكيان، والقائمة الطويلة العريضة المستمرّة حتى اللحظة في رصد المذابح والجرائم والانتهاكات التي تُرتكب بحق المدنيين العزّل، أفلا يتطلّب ذلك موقفاً أخلاقياً من المثقف أم أنّ الثقافة لا تخلط بالسياسة ولكنّها شريك استراتيجيّ في  تزيين صور المجرمين؟

وثالثاً، هل لباس لبوس المثقفين يجعل من المرء في حالةٍ من عدم الإدراك والوعي لما يدور حوله وغير معنيّ به، واهتمامه منصبّ على التحليق في سماء الجماليّات والكينونة الغامضة، ثمّ بعد هذا يسأل متعجّباً من الآخرين، ومتصالحاً مع برجه العاجي: لماذا تراجع دور المثقف ولم يعُد له تأثير؟  وأخيراً، بعد السقوط في هذا الفخ الأخلاقي الذي يصنّف المثقف في خانة التطبيع مع الاحتلال، بكلّ ما لهذا المصطلح من معاني ودلالاتٍ سلبية، ذهنياً وعملياً، تُرى، كيف سيثق ويتفاعل الملتقي/ ـة لاحقاً مع هذا المثقف عندما يتطرّق في أيّ حديثٍ له ويعلن فيه موقفاً لرفض الظلم ومناهضة العنصرية، بينما هو لا يرى أيّ تناقضٍ بين مواقفه هذه والتواصّل الثقافي مع كيانٍ دمويّ يُدعى «إسرائيل»؟

وإنّي عندما أضع اسم هذا الكيان بين علامتي تنصيص، فإنّي أتعمد ذلك للإشارة بأنّ هذا الكيان طارئ وغير اعتيادي على السياق الإنساني وهو ليس منه في شيء، وأنّ المثقف عندما يجد نفسه مضطرّاً للإشارة إلى أمرٍ يرى فيه ضرورةً وحاجةً ماسّةً لنقلها منهم، مثلما وقع، مؤخراً، عندما تمّت ترجمة بعض الكتب من دور نشرٍ عربيّة لا نشكّ في صدق نواياها، إلا أنّه خانها التصرف بهذا الصدد، تجب الإشارة إلى أنّ ذلك النقل نابع من معرفة العدو وما يجري فيه ضمن نطاق الصراع لا خارجه، بالإضافة إلى التأكيد على السياق الاستعماري والعنصري الذي قام هذا الكيان على أساسه؛ لما لهذه النقطة من أهمية في تعزيز جهود المواجهة الثقافية والشعبية كعقبة أخيرة، لازالت، بحسب العدو، تقض مضاجعه!