إنّ إدانة هذا التوجه – للمشاركة في الانتخابات – وتجريمه وطنياً ودينياً ضروريٌّ، ولكنه غير كافٍ على المدى البعيد، وعلينا بموازاته أولاً، بلورة “خطاب وطني مقاوم” يعالج قضايا المقدسيين من خلال تقديم أجوبة مقنعة حول معضلة السياسي والحقوقي، ولا يركن إلى توصيفات عامة من مثل الصمود وعروبة المدينة والهوية الوطنية، وعدم إعطاء الشرعية للاحتلال.
في حِمى “بلدية القدس” في شارع يافا، عقد أعضاء قائمة “القدس لنا” مؤتمراً صحافياً للإعلان عن ترشحهم لانتخابات بلدية الاحتلال في القدس. لم يكدْ يُنهي عزيز أبو سارة رئيس القائمة جملته “بأن عشرات آلاف الفلسطينيين سيصوتون هذه المرة في الانتخابات”، حتى رشقه شبانٌ مقدسيّون بالبيض.
تأتي “رشقة البيض” هذه تعبيراً عن المزاج الشّعبيّ المقدسيّ الرافض بجملته المشاركة في انتخابات بلدية العدو، وصفعةً لشريحةٍ محدودةٍ بدأ يعلو صوتُها شيئاً فشيئاً تدعو للمشاركة في تلك الانتخابات. ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار حالةَ الفراغ السياسيّ الذي تعيشه مدينة القدس، وعجزَ ما تبقى من حركةٍ وطنيّةٍ مقدسيّةٍ عن تقديم إجاباتٍ سياسيّةٍ مُقنِعةٍ وعمليةٍ للتحديات التي يواجهها المقدسيون، فليس من المستبعد أن يزدادَ حضورُ وتأثير هذه الشريحة.
وهي بالمناسبة، شريحةٌ غير متجانسة تتكون من بعض المتصهينين فعلاً، ومن آخرين يرون في حالة الفراغ السياسيّ فرصةً مواتيةً للوصول إلى موقعٍ قياديٍّ من بوابة انتخابات البلدية، وآخرين ممن أوصلهم وعيهم الزائف إلى القناعة بجدوى المشاركة من باب تحصيل الحقوق.
أما همس الشارع، فلا يخلو هنا وهناك من نقاشاتٍ حول جدوى المشاركة لتحصيل بعض الحقوق مقابل ما يُدفع من ضرائب.
إنّ إدانة هذا التوجه – للمشاركة في الانتخابات – وتجريمه وطنياً ودينياً ضروريٌّ، ولكنه غير كافٍ على المدى البعيد، وعلينا بموازاته أولاً، بلورة “خطاب وطني مقاوم” يعالج قضايا المقدسيين من خلال تقديم أجوبةٍ مقنعةٍ حول معضلة السياسي والحقوقي، ولا يركن إلى توصيفاتٍ عامةٍ من مثل الصمود وعروبة المدينة والهوية الوطنية، وعدم إعطاء الشرعية للاحتلال.
وثانياً: التثقيف الوطني العلميّ بتقديم محاججةٍ تفصيليةٍ تُبيّن المغالطات في الربط ما بين المشاركة في الانتخابات وبين الحصول على “الحقوق”، وذلك بالاستناد إلى شرح آلية اتخاذ القرار في الميزانيات في البلدية، وحدود صلاحيات البلدية في إقرار المخططات الهيكلية للبناء، وغيرها من الأمور الإجرائية.
عادةً ما يترافق مع انطلاق الحملات الانتخابية، استخدام المقدسيين، أو محاولة استخدامهم، في الصراعات الداخلية ما بين التيارات الصهيونية؛ “فالقوى اليمينية” تخوّف الصهاينة من مشاركة المقدسيين وأثرها على هوية المدينة، وأما “اليسار” فيُشجع المقدسيين على المشاركة لمحاولة زيادة أعداد المصوتين له. من الضروري هنا أن نعي أننا مجرد أداةٍ لهذه “الصراعات” لا أكثر، وأن لا نسمح لأحدٍ بأن يستخدم هذه الصراعات حُجةً “لإقناعنا” للمشاركة في هذه اللعبة القذرة.
لعله من المفيد هنا ذكر قصةٍ تدلل على ما سبق، وهي قصة “يوسي حفيليو ” المستشار القضائي السابق لبلدية الاحتلال، الذي أقاله “نير بركات” من منصبه على إثر خلافٍ بينهما حول قرار هدم بنايةٍ للمستوطنين من 6 طبقاتٍ في سلوان. فقد انتقم “حافيليو” من “بركات ” من خلال رفع قضايا باسم المقدسيين ضد البلدية تتعلق بالخدمات التي يستحقها المقدسيُّون ولا تقدمها البلدية لهم، وحقق بعض “الإنجازات” في مجال الحدائق العامة.
بكلّ بساطةٍ، فإن الهامش الذي يسمح به القانون الاستعماري لتحصيل بعض “الحقوق الخدماتية” هو ذات الهامش داخل البلدية وخارجها دون الحاجة إلى دفع ثمنٍ سياسيٍّ باهظٍ. ومن يتابع أخبار المجالس المحلية الصهيونية ذاتها، يلاحظ كثافة الدعاوى القضائية من قبل الصهاينة أنفسهم ضدّ هذه المجالس للمطالبة “بحقوقهم”.
في الواقعة ما يُغري بالحديث عن تاريخ البيض في صراعنا مع العدو؛ فللبيض حكايته في هذا الصراع، بدءاً من التوترات الناشئة خلال بيع الفلاحين الفلسطينيين لبيضهم للمستوطنين في “الكوبنيّات”، مروراً برشقه على “المتسيبين” خلال الانتفاضة الأولى، ورشقه على زجاج سيارات المستوطنين ليتحوَّل بعد تشغيل المساحات ورشه بالماء إلى طبقة لزجة تمنع الرؤية، وعمليات تهريب البيض وإعادة دمغه بالختم الصهيوني المزوّر لبيعه في سوق العدو، وانتهاءً ببيضات شارع يافا العشرة، في وجه المرشحين العرب لبلدية القدس الصهيونية.