ربما من الضروري أيضاً البحث في “أثر الفراشة” الذي يمثّله التنسيق الأمني في الضفة الغربية، وتأثيره على “اقتصاد المقاومة” من جهة، وعلاقته بسوق تجارة السلاح في الأراضي المحتلة عام 1948، وانعكاسه على تفشي الجريمة فيها من جهة أخرى.
عقدتْ مؤخراً لجنة مكافحة العنف التابعة للجنة المتابعة العليا اجتماعاً أقرّت فيه خطةً لمواجهة العنف المتزايد والجرائم الأهلية في فلسطين المحتلة عام 1948. وقد تمحورت أولى النقاط التي ناقشتها اللجنةُ حول تحميل الشرطة الصهيونية المسؤولية عن تزايد العنف في المجتمع الفلسطيني، لتقاعسها – بحسب تلك اللجنة – عن سحب السلاح من أيدي أصحابه، وعدم توفير حالة من الردع للجرائم الحاصلة. جزئياً، يمكن اعتبار هذا التوجّه القائل بأن الشرطة الصهيونية جزءٌ من المشكلة لا الحلّ هو توجّهٌ صحيحٌ، ولكن لأسبابٍ مختلفةٍ تماماً.
عانى المجتمع الفلسطيني تاريخياً من “ندرة” السلاح في مواجهة الكيان الصهيوني، فكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية في هزيمة عام 1948. ولذلك يمكن اعتبار انتشار السلاح في فلسطين المحتلة عام 1948 عاملاً من المفترض أن يساهم في صمود المجتمع في حالة تعرضِهِ لما يُشبِهُ حدث النكبة، والذي من غير المستبعد أن يتكرر، حتى لو أخذنا بعين الاعتبار الدور الاستخباراتي الصهيوني المحتمل في تسهيل تجارة السلاح.
تكمن المشكلة الأساسية هنا لا في السلاح، بل في الوعي المرافق للسلاح، والذي نزع القدسية التي تطوّرت اجتماعياً حوله. وإذا كانت الدول قد طوّرت مؤسسات مختصة كالمؤسسة العسكرية، ومقولات من قبيل “شرف السلاح”، فإن الفلسطينيين في المقابل قد طوّروا “يا عربي يا ابن المقرودة، بيع أمك واشتري بارودة، والبارودة خير من أمك، يوم الثورة تفرج همّك”، إلى أغنية “طلّ سلاحي”، و”زغرد كاتم الصوت”.
لكن يتم اليوم تغييب هذا الوعي الاجتماعي، وبالتالي يُحال السلاح ليكون أداةً لحلّ الخلافات والخصومات المجتمعية، نتيجة تجريم وتغييب “ثقافة المواجهة” مع العدوّ، مع وجود بعض التجارب التي نبتت مؤخراً لتؤشر نحو البوصلة الحقيقية للصراع، كان آخرها الشهيد نشأت ملحم. وبكلمات غسان كنفاني “إن البارودة تُضْحِي، بتراكم التناقضات واحتدامها، الأداةَ التي تُحطِم ذلك السور العريق من الدعوة للاستكانة، وفجأة يصير بِوسْعِ هذه “البارودة” أن تصل إلى قلب المسألة..”.
وهذا يحيلنا إلى التساؤل عن جدوى باقي الإجراءات التي أقرّتها لجنة مكافحة العنف تلك، من “نشر التسامح والتربية الأخلاقية والقيمية”، و”التركيز على القيم الإنسانية وقدسية الحياة، وتعزيز التكافل والتضامن الاجتماعي”، وإذا ما كانت قادرة لوحدها على مواجهة العنف المتفشي. إذ لا بدّ من الشروع في بناء شخصية وطنية متكاملة، تُعيدُ تحديدَ العدوّ دون لَبْسٍ، وموضعة السياقات، وتُحيل الممارسات الاجتماعية الخاطئة إلى عمل منبوذ في العقل الجمعي الفلسطيني، على شاكلة التطور الحاصل في الضفة الغربية من نبذ “طخيخة الأعراس”، و”البارودة المخصية، المرقّمة، المدمية”، في مقابل نموذج الفدائي والمقاوم وسلاحه.
أي لا بدّ من تعزيز رواية أو حالة تُعلي من تاريخ السلاح ودوره الحقيقي في السياق الفلسطيني كوسيلة لتدعيم وتعزيز السلم الأهلي، وهنا نذكر أنه لطالما كان العدوّ “الخارجي” أحد المحرّكات في بلورة سياقات تطوّر المجتمعات ومنظومتها القيمية.
وفي موضع آخر، يجب التمعّن في المقولات التي استعارتها لجنة مكافحة العنف من علم الاجتماع الكلاسيكي، باعتبار العنف من عوارض الأزمات الاجتماعية والاقتصادية العميقة، مطالبةً دعم جهود القائمة العربية المشتركة في البرلمان الصهيوني للحدّ من ظاهرة البطالة والفقر.
تكمن في هذا الطرح إشكاليتان، الأولى، النظر إلى الحرب الديموغرافية المفتوحة والعنف البنيوي المنهجي على المجتمع الفلسطيني كعوامل تتسم بالموضوعية كما حال الدول الطبيعية وإفرازاتها، أي إغفال الكيانية الاستعمارية وممارساتها التي تتخذ شكل الدولة، والتي تؤدي إلى تصاعد هذه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية. والموضوع هنا لا يتعلق بإعادة توزيع الموارد بقدر ما هي الحرب على الموارد، وجعل تلك الحرب داخلية بين المجتمع الفلسطيني نفسه.
أما الإشكالية الثانية، فهي احتكار قنوات الفعل السياسي للمواجهة السياسية، وحصرها في المشاركة البرلمانية باعتبارها الحلّ، بدلاً من تفريغ العنف الموجّه للمجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948 من خلال المشاركة السياسية الجمعية الفاعلة والمتجاوزة لـ “صندوق الاقتراع”. أي يمكن النظر إلى المشاركة البرلمانية باعتبارها قناةً تُعيدُ توجيه العنف نحو الداخل بدلاً من تفريغه للخارج، كما حصل في أحداث كفر قاسم الأخيرة ومحاصرة مركز الشرطة الصهيونية فيها وحرق سياراتها.
أخيراً، ربما من الضروري أيضاً البحث في “أثر الفراشة” الذي يمثّله التنسيق الأمني في الضفة الغربية، وتأثيره على “اقتصاد المقاومة” من جهة، وعلاقته بسوق تجارة السلاح في الأراضي المحتلة عام 1948، وانعكاسه على تفشي الجريمة فيها من جهة أخرى. فملاحقة كلّ من السلطة الفلسطينية والقوات الصهيونية لتجارة السلاح العابرة “للخطّ الأخضر” بمسعى لتجفيف منابع المقاومة، أدّى بالضرورة إلى ارتفاع أسعار الأسلحة في الضفة الغربية، ليتم الاستعاضة عنها بتفعيل بنية تحتية “مدنية الأصل” لإنتاج سلاح الـ”كارلو”.
على الجهة الأخرى، جعلت هذه الملاحقة الأمنية من سوق السلاح في الأراضي المحتلة عام 1948 يتسع، وبالتالي تتسع استخداماته في توجيه العنف داخلياً، إلى المجتمع نفسه. وربما يجدر البحث في مؤشرات هذه العلاقة التبادلية – بين سوق السلاح في الضفة وسوقه في أراضي الـ1948- إبان الانتفاضة الثانية التي كانت فيها تجارة السلاح في أوجها، والوعي الوطني في ازدياد، والنظر فيما إذا كانت الجرائم الأهلية في أراضي الـ1948 قد ازدادت أو نقصت، بالإضافة إلى فترات المواجهة كحروب غزة، والبناء على البحث في هذه المؤشرات في محاولة للكشف والتفسير.
باختصار، لا زالت الأبحاث حول العنف والجريمة في فلسطين المحتلة عام 1948 قاصرةً منهجياً ونظرياً عن التعامل الجادّ مع الظاهرة. ويتحدد هذا القصور النظري بتغييب العامل الاستعماري كعامل أصيل في تَشَكُّلِ الظاهرة وديناميتها، وإن كانت بعض الكتابات هنا وهناك تشير إلى هذا العامل، ولكن من غير المفهوم أن تنتهي هذه التحليلات بتحميل المسؤولية للشرطة الصهيونية، ومطالبتها بالتدخل الجادّ لمحاربة الظاهرة وتفشيها. وأما القصور المنهجي، فواضحٌ من خلال غياب دراسات ميدانية لمجتمع الجريمة والعنف، تُصغي للظاهرة وتفهمها من داخلها.
مهما قيل عن ظاهرة العنف وانتشار السلاح في فلسطين المحتلة 1948، تبقى حقيقة عدم تحوّل ولو جزء يسير من هذا السلاح أداة للمقاومة وضدّ النظام الاستعماري مسألةً غير مفهومةٍ وتثير الكثير من الفضول لفهم ما يجري. ولعلّ المدخلَ لفهم المجتمع الفلسطيني في أراضي الـ 1948 يبدأ من فهم عالمه السفلي!