يقدّم عرفات الحاج في هذا المقال قراءةً في المواجهة الأخيرة مع المقاومة في غزة وتأثيراتها المحتمَلة، محاولاً الإصغاء لنبض المقاومة الحي الذي عبّر عنه شارعها، ومعتمداً الالتزام تجاه المقاومة كبوصلةٍ للكتابة، والثقة في قدرتها على تجاوز أيّ عثراتٍ أو كمائن.
عمد العدوّ إلى اغتيال القيادي في المقاومة الفلسطينية بهاء أبو العطا، ليفتتح بذلك جولة تصعيدٍ جديدةً مع فصائل المقاومة. وعلى نحوٍ لافتٍ، غابت كتائب القسام عن المشاركة في الردّ على جريمة العدو، وهو ما أثار علامات استفهامٍ متعددةً. كما انتهت المعركة الأخيرة بتهدئةٍ قوبلت برفضٍ جماهيريٍ، عبّرت عنه مطالباتٌ جماهيريةٌ باستئناف الردّ على جريمة الاغتيال. يحاول عرفات الحاج في هذا المقال قراءة المواجهة الأخيرة مع المقاومة في غزة وتأثيراتها المحتمَلة. لا يحاول هذا المقال تحليل واقع المقاومة، أو تقديم معلوماتٍ استثنائية حوله، بقدر المساهمة في الإصغاء لنبضها الحي الذي عبّر عنه شارعها. اعتمد المقال الالتزامَ تجاه المقاومة كبوصلةٍ للكتابة في هذه الأوقات الحرجة، والثقة في قدرتها على تجاوز أيّ عثراتٍ أو كمائن كما فعلت دوماً وبقيت صامدةً، تعبيراً عن إرادة القتال لدى هذا الشعب.
الفرز كمقدمةٍ للاغتيال.. كيف تُخلق شاةٌ قاصيةٌ؟
لا يمكن الحديث عن عودة العدوّ لسياسة الاغتيالات التي لم تنقطع، فما مثّله اغتيال القيادي في “سرايا القدس”، بهاء أبو العطا، هو تحريكٌ جديدٌ لحدود دائرة الموت التي تمثّلها هذه السياسة. وفي معادلة الصراع مع قوى المقاومة، كان الأمر جزءاً من سعيٍ “إسرائيليٍ” لخلق حيّز اغتيالاتٍ تستوعبه الفصائل.
عمل العدوّ على فرز الشهيد أبو العطا عن بقية المجموع الفلسطيني المقاوم من خلال ربطه بجملةٍ من التوصيفات؛ سواءً من جهة خطورته على أمن الكيان، أو ارتباط جهده العملياتي ضدّ الاحتلال بمتطلباتٍ إقليميةٍ خاصةٍ بعلاقات حركة الجهاد الإسلامي وموضعها ضمن محور المقاومة، أو اعتباره عنصر تفجيرٍ لأيّ تفاهماتٍ خاصةٍ بالتهدئة، أو الخارج عن الإجماع الفصائلي والساعي لإحراج حركة حماس.
هذا النوع من الفرز، تمهيداً للحصول على فرصة تصفيةٍ “مجانيةٍ” لبعض المقاومين، ليس جديداً على العدو، حتّى في حالات التهدئة. فقد تركّز في فترةٍ على استهداف مفاصل وقادة “سرايا القدس”، وفي مراحل أخرى على خلايا إطلاق الصواريخ، إلى جانب فترةٍ استهدف فيها الخلايا العسكريّة السلفيّة الجهاديّة، كجزءٍ من تكتيكات خلق مساحة استباحةٍ مقبولةٍ أو مسكوتٍ عنها فصائليّاً.
استثمارٌ في الجدل
استغلّ واستثمر العدوّ توقيت تنفيذ الاغتيال جيداً. فعلى الرغم من المبالغة في التأكيد على وحدة فصائل المقاومة وتكرار استخدام اسم غرفة العمليات المشتركة خلال اليومين الماضييْن، إلا أنّ ذلك لم يُخفِ وجود نوعٍ من الخلاف بينها تمحور في صيغته الحالية حول آلية وتوقيت الردّ على خروقات الاحتلال المستمرّة لتفاهمات “التهدئة”. لم يظهر هذا الخلاف في هذه الجولة فحسب، بل ارتبط ظهوره للسطح وتراجعه بعوامل كثيرةٍ معقدةٍ؛ أبرزها درجة الرضى العام والفصائليّ عمّا تُثمره شجرة التهدئة اليابسة، وهو ما يمرّ بإحدى أكثر مراحل تراجعه مع تصاعد معاناة أهالي القطاع في ظلّ الحصار وعجز تفاهمات التهدئة عن إحداث أيّ تخفيفٍ حقيقيٍ للحصار.
المعادلة التي يحاول العدوّ فرضها هي إبقاء الحصار كأداة استنزافٍ دائمٍ للمقاومة وحاضنتها في القطاع، مع توجيه ضرباتٍ مستمرّةٍ للمقاومة بهدف استنزاف قدراتها الموجودة، وحرمانها من مراكمة أيّ قدراتٍ جديدةٍ؛ بحيث تعمل التهدئة كأداةٍ لاستمرار الحرب من طرف الاحتلال، دون ردٍّ من طرف المقاومة. وفي حال ردّت المقاومة على خروقات الاحتلال للتهدئة، فإنّ المقابل هو توجيه ضرباتٍ لبناها التحتية وقدراتها. وهذا ما دفع بعض الفصائل لاعتبار أيّ ردود فعلٍ غير منسّقةٍ ومتفقٍ عليها تقدّم ذريعةً، وربما فرصةً، للاحتلال لمباغتة المقاومة وتوجيه ضرباتٍ تُلحق ضرراً بقدراتها في وقتٍ غير مواتٍ لها، وكذلك إلحاق دمارٍ كبيرٍ في البنى التحتية وأذىً أكبر يطال السكّان المدنيّين في القطاع، كما ظهر في العديد من المواجهات الأخيرة مع الاحتلال.
وبتنفيذ عملية الاغتيال، حاول العدوّ إضافة عنصرٍ جديدٍ لهذه المعادلة، وهو المبادرة بتصفية كوادر وقيادات المقاومة التي تعمل على تنفيذ الردود المباشرة على خروقاته، وهو ما يشكّل علامة خطرٍ حقيقيٍّ بمحاولة الاحتلال تقديم مداخلته الخاصة في هذا الجدل الفلسطيني والمقاوم، وقد مهّد لذلك بالضخّ الإعلاميّ الممنهج ضدّ الشهيد أبو العطا، وأتبع الاغتيال بمحاولة الاستثمار في مساحة التباين آنفة الذكر، وهو ما حظيَ بإصغاءٍ فلسطينيٍ كبيرٍ.
ليس فينا شاةٌ تُذبح ..
وعلى الرغم من الاستثمار الصهيوني لكلّ هذه المقدّمات والعوامل، فلقد أظهرت المقاومة سلامة إرادتها بقرار الردّ فوراً على هذه الجريمة. وخلال ما يقل عن 70 ساعةً، تلقّت المستوطنات الصهيونيّة صلياتٍ متواصلةً من المقذوفات الصاروخية المتعدّدة، في نطاقٍ تجاوز 80 كم من قطاع غزة، وبما يزيد عن 450 قذيفةً وصاروخاً على امتداد المواجهة، وعلى نحوٍ زاد عن مواجهاتٍ كبرى سابقةٍ، والذي عكس قدرةً معقولةً على مواجهة تحدٍّ مباغتٍ من هذا النوع.
ولعلّ العنصر الأكثر لفتاً للانتباه هو الثمن الكبير نسبياً على مستوى التضحيات التي قدّمتها المقاومة من كوادرها العسكرية خلال هذه المعركة، والارتفاع الحقيقي في الكلفة البشرية المباشرة لعمليات إطلاق الصواريخ قياساً بجولاتٍ سابقةٍ. وإذا اعتُبرت المقاومة أداةٌ أساسيةٌ لتعطيل سياسات العدوّ والحفاظ على إرادة القتال بالممارسة الفعليّة، والسعي لتوجيه ضرباتٍ تدفّعه ثمن احتلاله وسياساته العدوانيّة وتحرمه من أيّ شعورٍ أو تقديرٍ لإمكانية الإذعان له، فقد تمكّنت المقاومة من توضيح رفضها بالنار لسياسة الاغتيالات الصهيونية، على الرغم من أيّ ثمنٍ قد تقدمه في هذا السبيل.
والأهم أنّ الجمهور الفلسطيني، في قطاع غزة وخارجه، قد أظهر التفافاً واضحاً حول فكرة ضرورة الردّ على العدوان الصهيوني، بل وعبّر عن عدم رضاه عن طبيعة الردّ المنفّذ على هذا الاغتيال وحجمه. وإنْ كان هذا قد يمثّل نوعاً من النقد لأداء المقاومة، فقد مثّل بشكلٍ أكبر رفضاً لفكرة تفرّد العدوّ بأيّ فلسطينيٍ على الإطلاق، أو قبول أيّ إذعانٍ أمام هذا العدو أو خضوعٍ لسياساته.
وإذا كان ثمّة خللٌ أساسيٌّ أظهرته هذه الجولة من المواجهة فقد تمثّل في طريقة إدارة فصائل المقاومة لعلاقاتها البينية، وعلاقتها مع حواضنها وجماهيرها على مستوى الخطاب الموجّه إلى جمهور المقاومة. وعلى عظم قدراتها وجهدها وتضحياتها، ما تزال فصائل المقاومة تتهيّب من العمل على إحداث تحوّلٍ حقيقيٍّ في نمط الممارسة السياسية الفلسطينية يتيح لها تحويل إنجازاتها العسكريّة إلى منجزاتٍ سياسيةٍ. كما يتطلّب منها اليوم تحقيق الكثير من التحوّلات على مستوى الثقة في هذا الجمهور ووعيه الرافض للاحتلال وسياساته؛ هذه الثقة التي تُبنى على الحقائق والوضوح.
ومن أبسط هذه الحقائق هو أنّ الحصار يقوم بدوره كأداةٍ فتاكةٍ ضدّ هذه الحواضن، وهو ما يطرح تحدي الخروج من حالة المراوحة بين التهدئة والمواجهات الشاملة التي تمنح العدوّ فرصة الاستفادة من قدراته النارية الهائلة. كما يستدعي الوقوف عند الحاجة الماسّة لتوسيع مساحة الفعل المقاوم على امتداد فلسطين التاريخية وخارجها بما يسمح لروافع وحوامل جديدةٍ بالضغط على الاحتلال. فإذا كان للحصار المسلّط على قطاع غزة مفاعيله، فإنّ الحصار على الأفق السياسي لتطلّعات هذه المقاومة حول دورها له مفاعيلٌ لا تقلّ ضراوةً.
الكذبة التقنية التي لا تنتهي..
سارعت قيادات العدوّ العسكريّة والسياسيّة لنسب عملية الاغتيال والارتفاع النسبيّ في عدد الشهداء من عناصر المقاومة إلى تقدّمٍ في التقنيات المستخدمة لتتبّعهم واغتيالهم، إلا أنّ الشواهد الميدانية لم تقدّم ما يُثبت ذلك. وخلافاً لذلك، فإنّ التتبّع لحالات الشهداء يُشير لاستشهاد معظمهم خارج نطاق الاشتباك والحيّز القتالي؛ ضمن عمليات استهدافٍ لبيوتٍ مدنيةٍ أو لمقاومين برفقة عائلاتهم أو أمام منازلهم، وهو أمرٌ يرتبط بطبيعة العدوّ الإجرامية، لا بإظهاره قدرةً استثنائيةً في هذه المواجهة. وفي المقابل، تستحق هذه النقطة المراجعة والوقوف عندها طويلاً من قبل قيادة المقاومة، فليس المقاتل بالنهاية ملكاً لذاته، إنّما هو جزءٌ من منظومةٍ يتحتّم عليها العمل على إغلاق أيّ ثغرةٍ تؤدّي لخسائر يُمكن تجنبها.
حدود القدرة الصاروخية
تكمن أهم ميزات المقاومة، كنمطٍ قتاليٍّ وفلسفةٍ لمواجهة أعداءٍ أكثر قوةً وتسليحاً، في قدرتها على تجديد ذاتها وتوليد تحدياتٍ جديدةٍ للعدو، باستخدام الموارد المتاحة أمامها وبالاستناد إلى صلتها الفريدة مع حواضنها الجماهيرية التي تغذّيها باستمرارٍ على مستوى التجربة والفكر والتكتيكات. ولذلك يُمكن فهم المقاومة كحربٍ للفقراء والمجتمعات على المنظومات العسكرية المرسملة والمحترفة التي تستند، بالأساس، إلى برامج إنتاجيةٍ ضخمةٍ ومُكلفة.
العدد الكبير للصواريخ والقذائف التي أصابت مستوطنات الكيان الصهيوني لم يحقّق خسائرَ بشريةً لدى الكيان هذه المرّة، وهو ما ارتبط باستعدادٍ وتأهّبٍ مسبقَيْن للعدوّ المبادر إلى هذه المواجهة وتوقّعه ردّ المقاومة الناريّ، من ضمنه اللجوء إلى إجراءاتٍ غير معهودةٍ وصلت إلى ظهور “تل أبيب” خاليةً من سكّانها. ولكن لم يعفِ ذلك الاحتلال ممّا ألمّ بصورته الردعية، خاصةً أمام مجتمع المستوطنين الذي عاش أجواء حربٍ حقيقيةٍ على نحوٍ شبه دائمٍ، ومذ باتت القدرة الصاروخية للفصائل الفلسطينية فاعلةً في نقل جزءٍ من الحرب لقلب الكيان الصهيوني ومراكز مستوطناته.
وعلى الرغم من الأهمية البالغة للقدرة والكفاءة التي تظهرها منظومة تطوير وتشغيل الصواريخ، وما تقدّمه للقدرة القتالية الفلسطينية عموماً، فإنّ تطوير الاحتلال لاستعداديّته للاختباء، وتقبّله للخسارة في صورته الردعيّة مقابل تجنب الخسائر البشرية، وكذلك حجم استثماره الهائل في منظومات التصدّي لهذه الصواريخ، يضع على عاتق المقاومة ضرورة البحث في الآليات المثلى لتوظيف القدرات الصاروخية ضمن استراتيجيات عمل المقاومة. وما يلفت الانتباه في هذه الجولة، على نحوٍ خاصٍ، هو محدودية حضور العمل الميداني البرّي أو البحريّ للمقاومة، وربما غيابه عن هذه المواجهة، وهو ما أثار بدوره انتباه جمهور المقاومة ودقّ ناقوس ما لديه.
يستحثّ هذا على السعي الجاد نحو توليد أنماطٍ وبدائلَ جديدةٍ في الفعل العسكريّ، خاصةً في ضوء التحدّي الذي تشكّله هذه القدرات الصاروخية أمام منظومة العدوّ التي توظّف موارد ماليةً هائلةً وخطوط تطويرٍ وإنتاجٍ للتقنيات العسكرية الصهيونية، فضلاً عن برامج التدريب وخطط الطوارئ، للتصدّي لهذه القدرات. وهذا ما قدّمت المقاومة نماذج عديدةً حول تفوّقها في فعله سابقاً؛ من خلال نجاحها المتكرّر في مباغتة العدو بأدواتٍ وتكتيكات مبتكرةٍ، وفي مساحاتٍ جديدة، بما يُحيل استثمارات العدوّ العسكرية إلى محض استنزافٍ لا قيمة له إلا بالمدى المؤقت والمحدود.
خاتمة
إذا كان محور جهد منظومة القهر الاستعمارية هو التطويق ورسم الأحزمة والدوائر وصناعة القيود، فإنّ مهمة المنظومة المقاوِمة الأساسية تتمثّل في مدّ كلّ شعاعٍ وتكتيكٍ ونمط جديدٍ يولّده هذا الشعب بأدواتٍ وطاقاتٍ لكسر هذه الدوائر واختراقها.
أثبتت هذه المواجهة، بنتائجها وردود الفعل عليها، وعياً استثنائياً لدى الجمهور الفلسطيني وحواضن المقاومة، والتي قيّمت مظاهر التباين بين قوى المقاومة سلباً وتحمّلت مسؤولياتها في نقدها واستنهاضها لتنفيذ الردّ الملائم على جرائم الاحتلال، رغم الثمن الذي ستدفعه هذه الحواضن في سياق أيّ حالة اشتباكٍ مع العدوّ. وإنْ كان الأخير قد نجح في تسجيل نقاطٍ على مستوى الحرب النفسيّة، فإنّه قد خسر تماماً أيّ فرصةٍ لفرض الإذعان على المقاومة أو جمهورها.
ولعلّ أهم ما تلقيه هذه المواجهة من عبءٍ على عاتق المقاومة يتعلّق بضرورة تطوير بُناها المشتركة وقدرتها على حرمان العدوّ من الاستفادة من أيّ مساحة اختلافٍ في بيئتها، ذلك كجزءٍ من شروط البقاء والفعالية، وضرورة البحث المشترك عن آلياتٍ للفكاك من معادلات التهدئة المُميتة التي يستفيد منها الاحتلال في استنزاف المقاومة وحواضنها، إضافةً إلى ضرورة العمل على التحرّر من أيّ قوالب جاهزةٍ تفرض أنماطاً معينةً أو حيّزاً محدّداً لفعل المقاومة.