تسلّلت قوّةٌ صهيونيةٌ خاصّةٌ مُتخفّيةً في داخل سيارةٍ محليّةٍ، من نوع “فورد ترانزيت”، حسب بعض المصادر، إلى المنطقة الشرقيّة من مدينة خانيونس بعمق 3 كم، بالقرب من مسجد الشهيد إسماعيل أبو شنب. وأثناء عملية تقدُّمِها نحو هدفها، تمّ اكتشافها من قبل قوّةٍ أمنيّةٍ تابعةٍ للمقاومة، ومن ثمّ جرى الاشتباك مع الوحدة، فارتقى في لحظة الاشتباك الأولى الشهيد القائد نور الدين بركة والشهيد محمد الفرا.
واستمرّ الاشتباك مع الوحدة أثناء محاولتها الانسحاب نحو السياج الفاصل تحت غطاءٍ ناريٍّ كثيفٍ من المروحيّات القتاليّة وطائرات الاستطلاع، وارتقى كلٌّ من الشهداء علاء الدين فوزي فسيفس، ومحمود عطا الله مصبح، ومصطفى حسن أبو عودة، وعمر ناجي أبو خاطر، إضافةً إلى الشهيد المجاهد خالد محمد قويدر. فيما قصفت مروحيات العدوّ السيارة التي استخدمتها القوة عدّة مراتٍ بهدف تدميرها بما تحمله من مُعدّاتٍ وأسلحةٍ. وبحسب اعتراف العدو، فقد قُتل في الاشتباك ضابطٌ برتبة مقدّمٍ، وأُصيب آخرُ بجروحٍ متوسّطةٍ.
ومن الواضح أن العدوّ حاول استغلال الوصول إلى اتفاقية التهدئة وجوّ الانفراج السياسيّ، وما خمّنه من تراخي الإجراءات الأمنية للمقاومة، لتنفيذ عمليّةٍ نوعيّةٍ في العمق. وعلى الأغلب، كانت هذه العملية ذات طبيعةٍ استخباراتيّةٍ لجمع معلوماتٍ عن هدفٍ نوعيٍّ يُمكن التخمين أنّه يتعلّق بقدرات المقاومة العسكريّة (الأنفاق) أو حول الأسرى الصهاينة لدى المقاومة. أمّا عن وسيلة عملية جمع المعلومات هذه؛ فليس بالضرورة أن تكون من خلال زراعة أجهزة تنصُّتٍ أو استشعارٍ في الميدان كما توحي بذلك بقايا الأجهزة الإلكترونيّة التي تركتها وراءها الوحدة، وخاصّةً ألواح الطاقة الشمسية، بلّ يمكن أيضاً أن تكون من خلال اختطاف شخصيةٍ قياديةٍ ذات قيمةٍ استخباراتيّةٍ .
وعلى ما يبدو، بالاستناد إلى الشواهد الميدانيّة للعتاد والتسريبات الصهيونيّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، أنّ القوة تنتمي لوحدة “ماجلان” المختصّة بالعمليات الخاصّة الاستخباراتيّة خلف خطوط العدو، والتي قد تتطلّب البقاء خلف هذه الخطوط لفترةٍ طويلةٍ نسبياً. يعزّز هذا التشخيص القرار الصهيونيّ بحجب هويّة وصورة الضابط الصهيوني القتيل. وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى عبثيّة هذا الحجب الذي تفرضه الرقابة الصهيونيّة في زمن وسائل التواصل الاجتماعيّ. وأمّا بخصوص التسريبات بكونه المقدم (م) ينتمي لوحدة “سيرت ماتكال”، فمن المتعارف عليه في الدوائر الصهيونيّة أنّ قتلى الوحدات الخاصّة الذين لا يُراد الإعلان عن وحداتهم يتمّ نسبُهم إلى “سيرت ماتكال”.
وممّا يجدر ذكره، أنّ وحدة “ماجلان” تلقّت ضربةً قاسمةً خلال عملية “الجرف الصامد” في خانيوس تحديداً؛ بوقوعها في كمينٍ مُحكَمٍ في 30 تموز 2014، حيثُ قُتل ثلاثةٌ من ضبّاطها. وعلى الرغم من تأكيد الصهاينة أنّ مثل هذه العمليات خلف خطوط العدو يتمّ القيامُ بها بشكلٍ روتينيٍّ في غزة وعلى باقي الجبهات، إلا أنّ الحالة العامة للجيش الصهيوني تقول إنّ القرار بتنفيذ مثل هذه العمليات الخطرة ليس من السهل اتّخاذه. وإنّ هذا الادعاء (روتينيّة هذا النوع من العمليات) ما هو إلا محاولةٌ للاستفادة من الفشل العملياتيّ وتحويله إلى إنجازٍ على مستوى الحرب النفسيّة.
وفي مقابل نجاح المقاومة، وإن كان ثمنه فادحاً باستشهاد سبعة مقاومين، في إفشال مهمّة العدو، لا يجب أن نستخفَّ بنجاح العدو بالتسلّل لمسافة 3 كم داخل القطاع، ولا يمكن التقليل من شأنه؛ وخاصّةً أنّهم استخدموا سيارةً مدنيّةً محليّةً في هذه العملية. يطرح ذلك عدّة تساؤلات؛ هل تسلّلت القوة راجلةً ومن ثمّ استقلّت السيارة التي كانت بانتظارها؟ وهذا يعني دوراً مركزيّاً للعملاء، أمّ أنهم عبروا السياج الفاصل راكبين السيارة، وهذا يطرحُ سؤال القدرة على إخفاء حركة السيارة، أم أنّ القوة استولت على سيارةٍ محليّةٍ بعد رصدها؟ وكيف قطعت هذه القوة السياج؛ هل استغلت فعاليات الإرباك الليلي وانغمست بين المتظاهرين؟
وليس بالضرورة هنا أن نُحيل فشل العملية إلى فشلٍ استخباراتيٍّ، ومن ثمّ الوصول إلى النتيجة المنطقيّة بخلوّ المنطقة من العملاء. فمن الممكن، كما حصل في كثيرٍ من الحالات المشابهة، ارتكاب أحد أفراد القوة الصهيونية خطأً أدّى إلى كشف المجموعة، وقد يكون الخطأ ذا علاقةٍ بإتقان التخفّي وبالتحديد إتقان اللهجة المحلّيّة كما حدث في كثيرٍ من الحالات.
إن كان الفشل الصهيونيّ في هذه العملية فشلاً تكتيكيّاً، إلا أنّه يحمل أبعاداً استراتيجيّةً بالنظر إلى الرّهاب الصهيونيّ من العمليات القتاليّة البريّة عالية الخطورة، وخاصّةً الخوف من الوقوع في الأسر، وفي ظلّ الحديث المتكرر في الأوساط العسكرية عن محوريّة عمل الوحدات الخاصّة في البناء المستقبلي للجيش الصهيونيّ صغير الحجم سريع الحركة .
كلّ ذلك يأتي في وضعٍ تصرخ فيه “إسرائيل” بأعلى صوتها أنّها لا تريد لحرب الاستنزاف على حدود غزة أن تتزلقَ إلى مواجهةٍ شاملةٍ، وبعد أن وصلت إلى القناعة المخيفة: إن خرجت إلى الحرب، فإنها ستخرج إلى عمليّةٍ عسكريّةٍ بلا هدفٍ واضحٍ، وبالتالي العودة إلى نقطة الصفر.
لكنّ الأمر هذه المرة أكثر تعقيداً بالنسبة للقيادة العسكريّة الصهيونيّة، فلم يتبقَّ لرئيس الأركان الحالي “أيزنكوت” سوى ثلاثة أشهرٍ لترك منصبه، ومن المؤكّد أنّه لا يريد ترك هذا المنصب بعمليةٍ مُكلّفةٍ صهيونياً وبدون فائدةٍ. في وقتٍ بدأت تتآكل فيه قدرة القبّة الحديديّة على التصدّي الفعّال لصواريخ المقاومة، بالتالي، فإنّ أيّة مواجهةٍ مُقبلةٍ لا يمكنها الركون إلى قدرة القبّة الحديديّة في منع وقوع إصاباتٍ في الجبهة الداخلية، ومن ثمّ إعطاء سلاح الجوّ الفرصة الكافية لاستنزافٍ سريعٍ لقدرة المقاومة على الصمود والوصول إلى اتفاقٍ جديدٍ للتهدئة. والمُعضِلة الجديدة أنّ التهدئة، بعد انطلاق مسيرات العودة، لم تعُد تعني العودة إلى الحياة الطبيعيّة في مستوطنات “غلاف غزة”، وإنّما صارت التهدئة تعني “التعايش” مع بالونات وطائرات غزّة الحارقة.
أعطت العمليّة العسكريّة الفاشلة المزيد من الغطاء الشعبيّ للمقاومة للردّ، خاصّةً بعد المظاهرات الشعبيّة الأخيرة التي خرجت في شوارع غزة مُطالبةً بالانتقام لجريمة مقتل الأطفال الثلاثة شرقي دير البلح في 29 تشرين الأول من هذا العام. كما منحت العملية الفاشلة المقاومةَ فرصةً ذهبيّةً للخروج من الوضع “غير المريح” الذي وُضِعت فيه مُضطرّةً بقبول المنحة القطريّة للخروج من أزمتها. وتُعدّ المواجهة الحاليّة أيضاً فرصةً لإعادة الاعتبار للدور المصريّ في ملف التهدئة بعد الاستفادة من “الوسيط القطريّ” في تخفيف الأزمة الاقتصاديّة. ولعلّ بدء هذه الجولة من المواجهة باستهداف حافلةٍ صهيونيّةٍ بصاروخٍ مُضادٍّ للدروع (الكورنيت) يُدلّل على مستوى الثقة والوضع “المُريح” للمقاومة في هذه المواجهة المفروضة عليها منذ بدء الحصار.