مأساة رجل السلطة أن كل الأوهام والتوهيمات تنتهي على الحاجز. فعليه أن يذوق مرارة صاحب السلطة عند عدم الاعتراف بسلطته، وأن يكون صاحب السلطة عاجزاً عن ممارسة سلطته. في هذه اللحظة بالذات كل ما يتمناه أن تمرّ لحظات تبخر سلطته على الحاجز بسرعة وبأقل عدد ممكن من الشهود.
في “علم نفس الحاجز”
المسألة في حقيقتها مسألة نفسية، إذ يمكن فهمها بالرجوع إلى ما يمكن تسميته بـ”علم نفس الحاجز”. ولأجل استقراء ذلك، دعونا نبدأ من نظريات السيطرة والتحكم. تقول النظرية: إنّ أكثر أنظمة السيطرة والتحكم بالآخرين كفاءةً هي الأنظمة التي تنجح في الوصول إلى درجة قصوى من الإخضاع باستخدام الحدّ الأدنى من القوّة. ولكي تُحقق هذه المعادلة، عليك أن تبني مجموعة من المنافذ (المعابر) ما بين المستعمِرين والمستعمَرين تمارس فعل الإخضاع بكفاءة عالية، وباقتصاد شديد للقوّة.
والمقصود بالمعبر هنا، ليس نقطة عبور الأفراد للتنقل بين مكانين، بل معبر تعبر وتنفذ منه وفيه آليات السيطرة لمن يريد المستعمِر اضطهادَهم، هي نقطة تماس واشتباك نفسي. وبناءً على ذلك، يمكننا رؤية عمل الحاجز كجهاز إخضاع تمارس “إسرائيل” عَبْرَه وفيه سيطرتها، استناداً إلى مبدأ اقتصاد القوّة.
كلّ ذلك من شأنه أن يُنتِج توترات عدّة، انطلاقاً من أنّ الحاجز هو جهاز إخضاع نشط يعمل كخطّ إنتاج مكثف للمُخضَعين، موشومين بعقدة الحاجز. تلك العقدة يَخبرُها المستعمَر ويعيشها بأشكالٍ مختلفةٍ. فمثلاً، لا يمكن أن تمتلك مسألة الوقوف على الحاجز تفسيراً أحادياً نفسياً، ويُعزى ذلك إلى كيفية تعاطي مُتلقَي السيطرة مع الحالة، فثمّة من تحوّل الحاجز لديه إلى حاجز آخر من حواجز الحياة، من مثل حاجز سلطة الأب للخروج من البيت، أو الحاجز الطبقي بين عالمي المعدمين والمترفين. في المقابل، يتحوّل الحاجز إلى تجربة قاسية لصاحب سلطة متورمة. (التصريح يعدّ جزءاً أساسياً من ماكينة الحاجز، فالتصريح لا معنى له ولا وظيفة له بدون حاجز ).
رجل السلطة على الحاجز
منذ ولادتها الدمويّة، شكّلت “إسرائيل” امتحاناً عسيراً للرجل العربي، أشار إليه الشاعر المصري “أمل دنقل” في قوله:
“كيف تنظر في عينيّ امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غداً.. لوليد ينام
-كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟”
(أنت تعرف، والأكثر إحراجاً أنت تعرف أنها تعرف)
قامت الصهيونية بتحويل فلسطين إلى مصحة نفسيّة، يبرأُ فيها اليهودي الهزيل الجبان، يهودي الجيتو، من شخصيته المسحوقة، بممارسة العنف المنظم ضد أهل البلاد (ومن هنا تعريف الصهيونية بأنها اليهودية + عضلات). ويمكن قراءة العنف الصهيوني في فلسطين بصورة ما عبر المنظور الفانوني لفرانس فانون كعنف تطهري، دون أن تربك هذه القراءة وعينا بالسياق الإمبريالي للعنف الصهيوني كعنف استعماري.
وكجهاز للإخضاع الجماعي، يقوم الحاجز بوظيفة تصنيفية تبرز الهوية الذكورية لينقضّ عليها، فهناك مسلك “جفريم/ رجال” و”نشيم/ نساء”، وينادى على الفلسطيني من قبل مشغلي الحاجز “بجيفر” أي رجل أو ” زلمه”. تبقى الرجولة مصانة لدى العدوّ ما دامت خاضعة، ملتزمة بالتعليمات، تفك الحزام بكل أريحية. قال لي أحد أبناء بلدتنا عندما دخل الحاجز لأول مرة: “يوم خلوني أشلح القشاط قلت فرطت، ما ظلش فيها زلام ولا معنى للشوارب”. وعلى الحاجز أيضاً يتم تحديد سنّ “العجز” للذكر الفلسطيني، ما بين الأربعين والخمسين، الذي لم يعد يشكل خطراً أو فقد فاعليته بحيث يسمح له بالعبور أو البقاء في الحافلة.
بالمقابل، إذا تمرّد الفلسطيني، يخاطبه الجنود وهم يقمعونه: “بدك تسوي حالك زلمة (جيفر)، خُذ ….”.
(ويقال في محاولات فك الاشتباك في “الطوش”: “إذا إنتو أزلام، هي المحسوم، خلقة مجندة مسلقطة طولها شبر بتقطّكم زي الغنم”.
تزداد الأمور تعقيداً في حالة رجل السلطة، فهو يجمع بين سلطة الذكورة والسلطة السياسية، تورمت ذكورته بممارسة السلطة على آخرين، وصنعت “إسرائيل” سلطته من خلال منحه الفرصة ليكون ذكراً صاحب سلطة بعد أن قتلت ذكوراً رجالاً أبطالاً مقاتلين منافسين (قتلت وسجنت “إسرائيل” قبضاي الحارة وفتوتها)، وهو لم يكن يملك أي فرصة للمنافسة الاجتماعية في ظلّ وجودهم. أعطته تصريحاً لخاضع مميّز عن مخضعين عاديين.
ومأساة رجل السلطة أن كل الأوهام والتوهيمات تنتهي على الحاجز. فعليه أن يذوق مرارة صاحب السلطة عند عدم الاعتراف بسلطته، وأن يكون صاحب السلطة عاجزاً عن ممارسة سلطته. لنستعِد هنا حالة رئيس الوزراء؛ المنصب الثاني بعد الرئيس، فهي شخصية قوية ذات حضور ذكوري عنيف نفسياً ذات هيبة بين مرؤوسيها، لكنها تقف على الحاجز لتنال جرعتها من الإخضاع. لا شكّ أنّه موقف عصيب، ولا يمكن احتماله لمن بنى نفسيته المتجبّرة على حساب إخضاع الآخرين من أبناء جلدته. في هذه اللحظة بالذات كل ما يتمناه أن تمرّ لحظات تبخر سلطته على الحاجز بسرعة وبأقل عدد ممكن من الشهود من أبناء جلدته حيث المجال الحقيقي الوحيد لممارسة سلطته.
(طبعا، هنالك محنة مركبة لرئيس الوزراء، وهي الحاشية والسائق والمرافق التي تبالغ في مراسيم الخضوع والاحترام وهي تعرف، وهو يعرف أنها تعرف الحقيقة).
شلومو في مَصحة حاجز عناب
والحاجز هو فرصة ذهبية لجندي مسحوق ضعيف الشخصية في حيّه وربما في أسرته- لِنُسمِِّه “شلومو- “للعلاج النفسي”، عبر ممارسة سلطته على غيره، خاصةً على الذكور الأقوياء في مجتمع المستعمَرين، فيتحكّم فيهم ويثأر من إذلاله بإذلالهم وتفريغ كل التقريع الذي تعرّض له فيهم وعَبْرهم. لنتخيّل جحيم “رجل السلطة” على حاجز يقف عليه شلومو يوم الأحد، بعد علقة ساخنة في حفلة ليلة السبت أمام صديقته!
(كل ذلك، وصحفي دائم الابتسامة يصوّر بكل هدوء أعصاب وتلقائية المشهد من بعيد…).