إن موقع قناة السويس الجغرافي ودورها في تقليل كلفة نقل البضائع من الشرق إلى الغرب، وتشكيلها عنصرًا هامًا في المطامع الاستعمارية في المنطقة العربية، وترافق إغلاقها الثّاني مع الهزيمة العسكرية لمصر والعرب أمام الصهاينة، قد ترك أثرًا بالغًا في توجهات مصر السياسية. وقد أدت هذه الظروف إلى تحوّل مصر إلى إحدى أعمدة القوى المحافظة في العالم العربي، ما يعني تحييدها عن مجابهة مشاريع الاستعمار.
“من يحكم البحار يحكم التجارة، ومن يحكم التجارة العالمية يحكم ثروة العالم، وبناءً على ذلك يحكم العالم بأسره”، السيد والتر رايلغه، القرن السابع عشر.
للجغرافيا دورٌ فاعلٌ وأساسيٌّ في التأثير على الصّراعات السياسية، وفي تحديد طبيعة التنمية الاجتماعية والاقتصادية. لا يمكننا، على سبيل المثال، فهم حيادية دولة مثل سويسرا، دون ربط ذلك بجغرافيتها والحماية الطبيعية التي توفرها سلسلة جبال الألب.
كما لا يمكن لأيِّ مهتمٍ بمصر ودورها في العالم تجاهلُ نهر النيل وعلاقته بالتطور الاجتماعي في مصر، فالحياة الحضرية في مصر، رغم مساحتها التي تصل مليون كيلومتر مربع، لا تنتظم إلا في مساحة 35 ألف كم متر مربع، وهي المساحة المحيطة بنهر النيل من سد أسوان جنوبًا وحتى الإسكندرية شمالًا.
خرجت نظرياتٌ عدةٌ ترى في الجغرافيا والطرق التجارية التي تطرحها هذه الجغرافيا كإحدى المسببات الأساسية للصراعات السياسية في العالم. في سياق تلك النظريات، كان الصراع الدائر ما بين الفريد مكيندر (Alfred Mackinder) والكابتن في البحريّة الأمريكية الفريد ثاير ماهان (Alfred Thayer Mahan) محوريًا في خلق نظريات تناقش الدور الذي تلعبه الجغرافيا في الصراعات البشرية.
عزز “مكيندر” من أهمية الجغرافيا، خاصةً في منطقة أورو-آسيا، وتنبّأ أن من يسيطر على منطقة وسط آسيا ستكون له الأفضلية في الهيمنة على العالم. أما “ماهان” فقد طوّر أساسيات النظريات المختصة بالقوّة البحريّة واستخداماتها، وعَزا أهمية القوّة البحريّة إلى أهمية المحيطات، مع بدايات الاستكشافات والحملات الاستعمارية التي ارتبطت بها.
كتب “ماهان” أكثر من 18 كتابًا يختص بالقوّة البحريّة، ويُعتبر كتابه “تأثير القوّة البحريّة على التاريخ 1660- 1783” أهم وأوسع إصدارته وأكثرها انتشارًا وتأثيرًا، لما تتضمنه من تأريخ رصين للقوة البحريّة، ولما طرحه من أفكار مهدّت الظروف للبنية البحريّة العسكريّة الضخمة في الحرب العالمية الأولى.
وفي كتابه ذلك، يقول “ماهان”: “بما أنّ البحار هي الطرق السريعة العظيمة في العالم، فإن القوّة البحريّة – أيّ القدرة على حماية القوافل البحريّة- لطالما كانت العامل الحاسم في الصّراعات السياسية العالمية، خاصة أن التنقل من خلال المياه كان وما زال أقل تكلفة من التنقل من خلال البرّ”.
قناة السويس
تُعدُّ قناة السويس إحدى أهم الطرق البحريّة ذات التأثير في الصّراعات السياسية، فهي التي تفصل بين آسيا وإفريقيا، ويمكن من خلالها الوصول من الخليج العربي إلى أوروبا في 14 يومًا ملاحيًا، وتمر من خلالها ما يقارب 8% إلى 10% من التجارة العالمية. تنبع أهميتها من موقعها الاستراتيجي وقدرتها على اختصار طرق الملاحة والتجارة، فالطريق البديل لقناة السويس، أي الالتفاف عن رأس الرجاء الصالح لسفينة منطلقة من الخليج العربي تستغرق 16 يومًا إضافيًا، ما يعني إضافة 4200 ميل بحري للرحلة، وزيادة التكلفة الإجمالية للنقل بما يقارب 140 ألف دولار أمريكي.
ومن هنا، فإن لإغلاق قناة السويس تداعياتٍ كبرى على الحركة التجارية العالمية، خاصًة في نقل النفط العربي والإيراني إلى أوروبا، وفي اختصار طريق الملاحة ما بين شرقي آسيا وأوروبا. كما أن لإغلاق القناة تأثيراً على مصر ودورها في المنطقة، كما سنرى بعد قليل.
كما ارتبطت القناة ومكانتها الجغرافية كوصلة بحريّة بمطامع الاستعمار، فالقناة بُنيت بناءً على تنازل من الخديوي اسماعيل باشا لـ”فيردناند دي ليبسياس” (Ferdinand de Lesseps). وقد استغرق بناء القناة عشر سنوات، تخلل ذلك وفاة الآلاف من المصريين، لتُعمَّد القناةُ بدماء الفقراء الذين فُرضَ عليهم العمل فيها.
إغلاق قناة السويس
أُغلقت قناة السويس مرتين، إحدأهما إبان العدوّان الثلاثي (فرنسا، بريطانيا، العدوّ الصهيوني) عام 1956، بعد إعلان الرئيس المصريّ الراحل جمال عبد الناصر تأميم القناة وطرد القوى الاستعمارية منها، معلنًا انتهاء السيطرة البريطانية والفرنسية عليها. أما المرة الثانية، فكانت بعد حرب عام 1967، عندما احتل العدوّ الصهيوني سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة.
وكان إغلاق القناة في المرة الأولى لفترة 7 شهور، امتدت بين تشرين الثاني 1956 وبين أيار 1957. لكن ذلك الإغلاق ترك أثرًا كبيرًا على الاقتصاد، ومن ذلك الارتفاع الحادّ في أسعار الشاي، والذي شكّل ولا يزال إحدى العادات الاجتماعية الأساسية في بريطانيا، وهو الأمر الذي أثر سلبيًا على اقتصاد الهند تحديدًا.
وتعدّى تأثير إغلاق القناة قطاع زراعة الشاي، وشكّل هزةً على الصعيد الاجتماعي في الدول الاستعمارية، إذ ازدادت أعداد المهاجرين من المركز؛ أي من بريطانيا وأوروبا، إلى كندا ونيوزيلندا واستراليا، كنتاج طبيعي لارتفاع أسعار الوقود والنفط الخام ، والتي أعقبها إغلاق مصانع كثيرة وانحسار المنتج الصناعي الأوروبي.
ولربما كان الأثر الأكبر لإغلاق قناة السويس في العام 1956 هو الأثر على قطاع صناعات السفن الثقيلة والناقلات العملاقة، خاصةً تلك العاملة في مجال نقل النفط، إذ أدى هذا الإغلاق إلى ظهور ما تُسمى باقتصادات السعة[1]، والتي تمثّلت بنهمٍ أوروبيٍّ واسعٍ في الاستثمار ببناء الناقلات العملاقة كنوعٍ من التأقلم مع إغلاق القناة، ولاضطرار الشركات العالمية استخدام طرق ملاحة أكثر تعقيدًا للوصول إلى منابع النفط في الشّرق ونقله إلى الغرب.
وبذلك كان إغلاق قناة السويس الأول أحد أهم مسببات تسريع صعود الناقلات البحريّة كـ (VLCC) و(ULCC)، وهي القادرة على حمل ونقل كميات كبيرة من النفط لغرض الاستيراد والتصدير، ويمكن لها حمل ما يقارب الـ2 مليون برميل نفط.
إغلاق القناة بعد النكسة
في الخامس من حزيران لعام 1967، بدأت العمليات الجوّية الصّهيونية والتي استهدفت بالأساس القوّة الجويّة المصرية في محاولة لبسط السيطرة التامة على الجوّ، الأمر الذي مهّد لانتصار العدوّ على الجيوش العربية. في السادس من حزيران، أعلن الرئيس الراحل عبد الناصر إغلاق قناة السويس للمرة الثانية، وقد كتب برنارد لويس (Bernard Lewis) في حينها:
“في مايو من العام 1967 كانت فرص التوسع الجنوبيّ للاتحاد السوفييتي ممتازة. في الصومال، كان الاتحاد السوفييتي متوغلًا بالسياسة المحليةـ ويساند بل يؤجج الصومال في صراعاتها مع كينيا واثيوبيا. في جنوب الجزيرة العربية، بدأت المملكة المتحدة سحب قواتها، ولم يكن هنالك شكٌ بأن الأنظمة الصاعدة في تلك المنطقة سوف تتحالف مع مصر والاتحاد السوفييتي. فمصر كانت تسيطر على الساحل من الحديبية وصولاً لعدن…ومع سيطرتها على عدن وقناة السويس وقدرتها على التصرف بهما، كانت للبحريّة السوفييتية الأفضلية في التحكم والهيمنة على البحر الأحمر والقدرة على تحديد ولاءات الأنظمة على طرفي الساحل…”. إذ إنّ للسيطرة على البحر الأحمر وقناة السويس تاثيرًا على مصالح الدول التي تعتمد في بناها الاقتصادية والسياسية على النفط وتصديره، وعلى طريق البحر الأحمر وقناة السويس في تجارتها مع العالم.
ولكن بعد عدوان سلاح الجو الصّهيوني واندلاع الحرب ما بين دول المنطقة، توقف كل ذلك، يكمل برنارد لويس: “أدى إغلاق القناة إلى انحسار نشاط البحريّة السوفييتي شرقي السويس، ما فرض على مصر الانسحاب من اليمن، تاركين عدن وراءهم، استاء الصوماليون من تقاعس السوفييت عن مساندة العرب في الحرب، ليختاروا طريق السلام مع جيرانهم. في الخليج والجزيرة العربية تحالفت القوى المحافظة، وشكلت قوة مالية وسياسية ليتم احتواء مصر، والتي بدورها بدأت بالاعتماد عليهم ماليًا”.
استمر إغلاق القناة ثماني سنوات، وقعت خلالها حرب الاستنزاف وحرب عام 1973، بالإضافة إلى عملية تجريف هائلة للقناة، ومن ثم عادت القناة للعمل في العام 1975. تزامن افتتاح القناة مجددًا مع بدء التحرك الدبلوماسي لاتفاقيات “كامب دايفيد” (Camp David)، والتي خرجت إلى النور عام 1978، لتخرج مصر من حالة الحرب مع العدوّ، وهي التي كانت تعدّ المسمار الأخير في نعش إنهاء النفوذ الاستعماري في المنطقة العربية.
وكما يشير لويس، تزامن الإغلاق الثاني للقناة مع تصاعد القوى المحافظة في العالم العربي، ومحاولتها بسط السيطرة والهيمنة على المنظومة العربية وإيقاف زحف القومية العربية التي حاولت مصر بقيادة الرئيس الراحل عبد الناصر ترسيخها. وليس خافيًا على أحد أن تلك القوى لطالما سعت لتعميق تحالفاتها الزبائنية مع القوى الاستعمارية والإمبريالية على أسس تسهيل مصالح الأخيرة في المنطقة، مقابل الحماية العسكرية والدبلوماسية.
أدّى إغلاقُ القناة وافتقاد مصر لأهم عناصر قوّتها وتأثيرها أمام القوى المحافظة بالإضافة إلى هزيمتها العسكرية في النكسة، إلى تعاظم أهمية المال السياسي الذي توّفره القوى العربية المحافظة، لتبدأ عملية إخراج مصر من بعدها العروبي والعربي، واحتواء موقعها كقائد سياسي وعسكري في المنطقة.
إن توظيف القوى المحافظة للبترودولار في شراء ولاءات الدول وتوجهاتها السياسية يُعتبر أحد الأعمدة الأساسية لسياسات الدول الخليجية في المنطقة. وقد استغلت تلك الدول ضعف مصر، وانهيار حلفها مع الاتحاد السوفييتي، ورحيل جمال عبد الناصر، وإغلاق القناة التي كانت توفر لمصر تأثيرًا وقوة أمام القوى المصدرة للنفط، واستغلت كذلك حاجة مصر بعد الحرب إلى ممولين لتعويض الأسلحة الثقيلة التي فقدتها، وتعويض خسارة الريع الذي تدره القناة من عملة صعبة في الاقتصاد المصري؛ كل ذلك استغلته القوى المحافظة لصالح إخضاع مصر واحتوائها.
القناة اليوم
يمكن النظر إلى أهمية قناة السويس بأنها تشكل مع مضيقي هرمز وباب المندب ثلاثيًا هامًا ذا أبعاد استراتجية لكل طامع في المنطقة، ولكل قوة تريد فرض هيمنتها ونفوذها. ولا يمكن فصل الصراعات الدائرة في اليمن أو سيناء أو إمكانية إغلاق مضيق هرمز في أي حرب قادمة مع إيران أو حلفائها عن طبيعة البنية العسكرية الأميركية في المنطقة.
ولا يمكن، أيضًا، إغفال الجهد الذي يبذله الكيان الصّهيوني في تطوير قناة بحريّة بريّة بديلة تربط ما بين البحر المتوسط وخليج العقبة بدعم من الصين، والتي ستحاول منافسة قناة السويس، وتوفير خدمة نقل بديلة. ولا يمكن أيضًا إغفالُ الترابط ما بين ذلك وبين حروب غزة المتتابعة، والتي تحاول القيادات العسكرية الصّهيونية من خلالها توفير بيئة آمنة لهذه القناة البريّة البحريّة.
على الرغم من ذلك، لا تزال قناة السويس ذات أهمية كبرى في عالم البحار والقوافل التجارية، وتسمح القناة اليوم لتلك الناقلات العملاقة، التي صُنعت كمحاولة لتقليل الأضرار الناتجة عن إغلاقها الأول في سياق العدوّان الثلاثي، بالمرور من خلالها، ويتم نقل ما يقارب 108 مليون برميل نفط يوميًا من خلال القناة حسب معطيات عام 2011.
ولا تزال القناة تولّد مخاوف لدى الطبقة المتنفذة في مصر ولدى الأنظمة العربية، التي من مصلحتها إبقاء القناة فاعلةً، خاصّةً في ظلّ التوترات الاجتماعية والسياسية في مصر، والأزمة الراهنة في سيناء، والتي ولدت هواجسَ عدةً إثر تمكُّن المجموعات المسلحة من ضرب القناة وتعطيل الملاحة فيها، كما حصل في آب من العام 2013، عندما أقدمت خليّة مكوّنة من ثلاثة أفراد على ضرب سفينة، وهي في مسارها داخل القناة.
ولذلك أقدم الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي على استثمار جديد في القناة، في محاولةٍ لتعزيز حظوظ النظام الحالي من البقاء وبسط السيطرة الداخلية وتعزيز صورة النظام أمام العالم، خاصةً أن افتتاح المسلك الجديد في القناة أتى في ظلّ انتفاضات اجتماعية وسياسية هزت مصر ودول المنطقة منذ العام 2011. فالقناة هي أهم رقعة جيو-استراتجية تملكها مصر. وقد أتى افتتاح “القناة” الجديدة، وهي وصلة جديدة وظيفتها الأساسية تسريع عملية الإبحار وتقليل وقت الانتظار للسفن العابرة من 12 ساعة إلى ثلاث ساعات، كاستعراضٍ واضحٍ لقوة النظام المصري وإمكانياته في تنفيذ مشروع ذي أبعاد استراتيجية، وإن كانت مزعومة.
ويمكن تلخيص السابق بالقول إن موقع قناة السويس الجغرافي ودورها في تقليل كلفة نقل البضائع من الشرق إلى الغرب، وتشكيلها عنصرًا هامًا في المطامع الاستعمارية في المنطقة العربية، وترافق إغلاقها الثّاني مع الهزيمة العسكرية لمصر والعرب أمام الصهاينة، قد ترك أثرًا بالغًا في توجهات مصر السياسية. وقد أدت هذه الظروف إلى تحوّل مصر إلى إحدى أعمدة القوى المحافظة في العالم العربي، ما يعني تحييدها عن مجابهة مشاريع الاستعمار.
****
الهوامش:
[1] اقتصادات السعة: مفهوم اقتصادي يشير الى انخفاض مستوى التكلفة الكلي كلما زاد الانتاج. النقالات الكبيرة او Supertankers تستطيع احتواء ٢ مليون برميل نفط.
**يعتمد هذا المقال بالأساس على نص للبروفيسورة في جامعة ساوس (SOAS) لالا خليلي، بعنوان: كيف أدى إغلاق قناة السويس إلى تغيير العالم؟ How the Closure of the Suez Canal Changed the World