بعد 50 عاماً من احتلال “شرقي القدس”، بدا الحضور – من أبناء سن الخمسين والستين فما فوق- والذين اجتمعوا يوم الثلاثاء (13.12.2016) في ندوة نظّمها معهد أبحاث الأمن القومي الصهيوني في تل أبيب، بائسين يائسين بسبب ما آل إليه حال الإجابات المطروحة على ما يُسمى بـ”سؤال القدس” في الخطاب والبحث الصهيونيَين.
“شاؤول اريئيلي” الذي تفرّغ بعد خدمته في وحدة المظليين في شمال قطاع غزة للعمل من أجل “حلّ الصراع الإسرائيلي العربي” كما يقول في صفحته، قدّم بحماسةٍ بالغةٍ الخطةَ للانفصال عن الأحياء الفلسطينية في القدس، والتي ظهرت مطلع العام الحالي كردّ على تصاعد عمليات الطعن والدهس وإطلاق النار من قبل فلسطينيي القدس، وكمحاولةٍ لإعادة “الهدوء” إلى القدس.
تنصّ الخطّة التي طرحتها حركةٌ باسم “حركة إنقاذ القدس اليهودية”، على تسليم القرى والأحياء الفلسطينية التي تم ضمّها بعد احتلال عام 1967 إلى نفوذ بلدية الاحتلال، والتي لم تكن مسبقاً تحت نفوذ بلدية القدس الأردنية، وذلك يشمل بيت حنينا وجبل المكبر وصور باهر وشعفاط، وكل الأحياء والقرى التي لا تحيط بالبلدة القديمة إحاطة مباشرة. وتريد الخطّة أن يُبنى جدار جديد يفصل هذه الأحياء عن مركز مدينة القدس، فيما تبقى أحياء الشيخ جراح ووادي الجوز والبلدة القديمة وسلوان والثوري وجبل الزيتون جزءاً من “القدس اليهودية” التي يريدون.
إنّ الهدف المرجو من ذلك، بحسب الحركة اليهودية، هو عودة شعور الأمن للصهاينة في مدينة القدس، والتخلّص من الغلبة الديموغرافية التي قد تتفجر أمامهم من قبل الفلسطينيين يوماً ما، والتي من الممكن أن تؤدي في يوم من الأيام إلى أن يصبح رئيس بلدية الاحتلال فلسطينياً.
أما جدعون ساعر، والذي كان وزيراً سابقاً لوزارة الداخلية، فقد عرض في ذات الندوة ما أسماها “أفكاراً بديلة” لهذه الخطة، من أجل التغلب على عبء “مزراح يروشاليم”، أي شرقي القدس، والخطر الذي يشكله أهلها على الوجود الصهيوني في المدينة المحتلة. يرفض ساعر الاستغناء عن كل هذه الأحياء الفلسطينية، ويطرح أن ذلك غير ممكن جغرافياً، كونَ الكثير من هذه الأحياء تتداخل مع المستوطنات، ولا يمكن فعلياً فصلها عن بعضها البعض.
في المقابل، يطرح ساعر ما يبدو أنها سياسة “العصا والجزرة”، بحيث يتم تحسين ظروف حياة فلسطينيي القدس من أجل ترويضهم وضمان “عدم خروجهم عن المألوف”. وكسابقيه من مروّجي “سياسة العصا والجزرة”، تطرّق ساعر إلى موضوع بناء المدارس وإعطاء رخص البناء، وتسهيل حصول الفلسطينيين المقدسيين على الجنسية الإسرائيلية، وغيرها. أما في ما يتعلق بالأحياء المقدسية خلف الجدار؛ أي مخيم شعفاط وكفر عقب، فلا يرى ضيراً في نقل صلاحية إدارتها إلى “جسم بلدي” مستقل ومختلف عن بلدية الاحتلال، معتبراً أن ذلك لا يمس بالسيادة الصهيونية على القدس. هذه المسألةُ شبيهةٌ بفكرةٍ طرحها رئيس بلدية الاحتلال، نير بركات، قبل سنوات، تقضي بنقل صلاحية إدارة الأمور إلى الجيش في تلك المناطق.
أما المداخلة الأبرز، فقد كانت للقائد السابق لمنطقة القدس في شرطة الاحتلال الصهيوني آرييه عميت (ما بين 1994-1997)، فقد بدا في كلامه بائساً فاقداً لأي أمل في الخلاص من هؤلاء الفلسطينيين، أبناء القدس، الذين “أوجعوا رأس” الشرطة التي انتمى لها يوماً. ولذلك طرح وجهة نظره، مؤيداً لخطة الانفصال تلك ومشجعاً عليها.
وقد كان يحاول الظهور بشخصية صاحب الخبرة والناصح الأمين لواضعي السياسات والباحثين في المعهد، أبناء تل أبيب، ليضعهم في صورة الحالة في مدينة القدس المحتلة. وفي ابتذالٍ واضحٍ، كرّر عميت نفس الجمل التي يرددها من يسوقون أنفسهم على أنهم “خبراء شرقي القدس” من مثل “أنتم لا تعرفون ماذا يجري في أحياء شرقي القدس، الشرطة بصعوبة تستطيع الدخول هناك، الشرطة لا تدخل هناك، اذهبوا إلى صفوف المدارس واسمعوا ماذا يتعلم الطلاب..”، وغيرها من مقدمات التباكي. وقد بدا كما لو أن القدس قد “شيبت رأسه”، بالأخص عندما تحدّث عن فتح المسجد المرواني، إذ تم ذلك في الفترة التي كان فيها قائداً لشرطة القدس، وعندما أشار إلى دور الحركة الإسلامية بذلك والشيخ رائد صلاح، فعندما ذكره قال: “والشيخ الذي يكرهه قلبي..”.
كما بدت واضحةً من حديث عميت حالةٌ من اليأس من أن تنعم القدس بحالةٍ من الهدوء، في حال بقيت أحياؤها الفلسطينية تحت السيادة الصهيونية. تجلّى ذلك من خلال تأكيده أنه في كثيرٍ من الأحيان كان يتم الحفاظ على “الهدوء” – وخاصة في المسجد الأقصى – فقط بفضل ومساعدة من يعملون لصالح أجهزة الأمن الفلسطينية، في إشارةٍ إلى أن الأجهزة الصهيونية لا تستطيع فعل ذلك وحدها على المدى البعيد، وأن التحكم بالفلسطينيين في القدس مهمةٌ صعبةٌ يجب أن يتم التنازل عنها، وتسليمها إلى السلطة الفلسطينية، “ولماذا نوجع رأسنا فيهم؟”.
أما حاييم رامون، وهو عضو سابق في الكنيست ووزير سابق، وأحد أكبر المؤيدين لتنفيذ هذه الخطة، فقد تحدث بخطاب مليء بالعواطف والتباكي عن القدس التي لا أمن ولا أمان فيها، وعن أنها كانت أكثر المناطق مستهدفة في عمليات الطعن والدهس، وأن تلك الأحياء التي يجري الحديث عن الانفصال عنها لم تكن يوماً “جزءاً” من القدس، إذ إنه لا فائدة سياسية أو اقتصادية من الاستمرار في السيطرة عليها. بطبيعة الحال، أكد المتحدثون على أن الحديث عن هذه الخطة لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال “تقسيم القدس”.
تنضم هذه الندوة إلى سلسلةٍ طويلةٍ من النقاشات والرد والردّ المضاد التي شهدتها ساحة السياسة والصحافة ومراكز البحث الصهيونية منذ أواخر العام الماضي 2015، وخاصةً بعد خروج 3 من منفذي العمليات من جبل المكبر، ووضع سواتر إسمنتية ناصعة البياض على مدخل جبل المكبر المحاذي لمستوطنة “أرمون هنتسيف”.
تعكس هذه الخطة والنقاشات التي تحيطها حالة الأفق المسدود التي وصلت إليها المستويات المحلية الصهيونية، في ما يتعلق بالسيطرة التامة على القدس، والتعليقات التي شهدتها قاعة الندوة تشهد على ذلك، كما تعكس حالة التخبط والجهل بمنطق هذه المدينة ودينامكيتها.
وقد كانت جملة هذه التعليقات عاسكة لهذا التخبط، من مثل: “ألن يقف الفلسطينيون على تل الفول في بيت حنينا ويطلقوا من هناك صواريخ على بسجات زئيف بعد تسليم تلك المناطق؟”، “ألن نترك هذه المناطق لتسيطر عليها حماس وتتحول إلى مناطق مصدرة للإرهاب”، “ألن يحفر هؤلاء أنفاق تحت الأرض ليصلوا إلى القدس؟”، “ألن نتعلم من تجربة الانسحاب من غزة، وكيف أدى انسحابنا إلى كل ما يوجد هناك الآن”؟.
باختصار، ما يَهمنا من متابعة مثل هذه النقاشات الصهيونية هو أولاً: الوعي بالإشكاليات والتناقضات الملازمة للمشروع الصهيوني منذ بدايته، حيث يبدو كلّ نجاح وتقدم لهذا المشروع في فرض سيطرته بمثابة ورطة تستدعي المزيد من الورطات، والقرارات الصعبة، فقد دار الزمان وتحوّل تحقق حلم “توحيد القدس” إلى كابوس ديموغرافي أمني. وثانياً: تعزيز ثقتنا بقدرة المجتمع الفلسطيني- مع كل ما يعانيه من علل سياسية وفشل قيادي- على مقاومة هذا المشروع، ودفعه دائما سلطات الاحتلال إلى التفكير في خيار الانسحاب، بالتلازم مع بناء جدران وأبراج لحماية هذا الانسحاب.
وختاماً، من مَكر التاريخ، أن الجدران والأبراج (مستوطنات الجدار والبرج) والتي كانت علامة ووسيلة للتوسع الاستيطاني في بواكير المشروع الصهيوني، هي اليوم علامةٌ على إشكاليات هذا التوسع وتناقضاته عند الصهاينة.