يقدّم لكم فريق “باب الواد”، عبر هذه الزاوية الشهرية “رادار”، ست مقالاتٍ انتقاها من منصّاتٍ إعلاميةٍ ومعرفيةٍ متنوّعةٍ، كانت قد نُشرت جميعُها في شهر أيار الماضي. تتنوّع موضوعاتها بين استعادة القائد الشهيد عماد مغنية، وترسيخ معادلة الردع في غزة تيمّناً بتجربة بلفاست، والبحث في إرهاصات مسيرة العودة الكبرى وردود الفعل حولها، فضلاً عن فحص مفهوم التمكين لدى المجموعات اللانسوية، والحديث عن الوعي المبكّر بالاشتراكية عند ثورة القرامطة، وأخيراً سؤال فيصل درّاج المفتوح “ماذا لو زرت قبور الأقربين؟”.
انتصار الروح: هكذا أذلّهم عماد مغنية
يناقش سيف دعنا، في مقالته في صحيفة “الأخبار” اللبنانية، رؤية “فرانتز فانون” لنموذج الإنسان المقاوم الذي يرى في التحرر من الاستعمار نتيجةً حتميةً، والذي لا يسعى للتحرر من الاستعمار العسكري فحسب، بل إلى تحرر جسد وعقل وروح الأمة منه على حدٍّ سواء. ينطلق فانون من كون المستعمَر نتاجَ حالةٍ استعماريةٍ فريدةٍ، لم تنجح محاولات إبادتها بفعل المقاومة المستمرة لهذه المحاولات. وفق فانون، لا يكمُن التحدي الأكبر في تحرير الجغرافيا فقط، بل في تحرير الإنسان وخلق فكرة “الإنسان الجديد” الذي يسعى لتفكيك أدوات القهر والضبط وسيطرة الاستعمار الذي يرزح تحته، دون أن يضطرب يقينه حول زواله الحتمي. يبني دعنا مقالته هذه على نموذجين تمثّلت فيهما فكرة “الإنسان الجديد” ذي الإمكانيات الهائلة، وهما فونجوين جياب، قائد الجيش الشعبي الفيتنامي، وعماد مغنية.
انتصر الفيتناميون على القوات الفرنسية في الخمسينيات، واضعين حدّاً بذلك للحملةِ الاستعماريةِ الفرنسيةِ في آسيا. كما حاربوا لاحقاً اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، وتمكنوا فعلاً من هزيمة أعتى الإمبراطوريات وأقوى الجيوش. يتناول دعنا حنكة هوشي منه وجياب في التكتيكات العسكرية والنفسية، كما يناقش الدور الحاسم الذي لعبه “درب هوشي منه”، وهي شبكة بنى تحتية وُصفت بأنها أعظم إنجازات الهندسة العسكرية، في تجهيز وتنفيذ حملة «تيت» الهجومية التي شكلت بداية نهاية الوجود الأميركي في فيتنام. إنّها مقاومةٌ استراتيجيةٌ بدأت بأربعةٍ وثلاثين مقاوماً، اتخذت من نجاح العملية الميدانية والتخطيط أساساً، وتبعات الفعل النفسية وأثرها في روح الشعب والعدو ثانياً، وتوظيف الانتصارات العسكرية في عملية إعادة صهر روح وذاتية المستعمَر وخلق إنسانٍ حرٍّ لضمان استمرار المقاومة، ثالثاً. أفضى كلُّ ذلك إلى تجربةٍ ثوريةٍ مهمةٍ تلقّفتها شعوبُ الأرض المستعمَرة، كالجزائر ولبنان.
يفتح دعنا نافذته على تجربة المقاومة في لبنان، وتمكّنها من اغتيال موكب قائد قوات الاحتلال الصهيوني في جنوب لبنان، إيريز غيرشتاين. فعلى الرغم من تجربة وحنكة الصف الأول من القادة العسكريين لدى الكيان، واصلت عمليات حزب الله التصاعد كّمَاً ونوعاً، واضعةً هذا الصف أمام حقيقة أنه: “يواجه الجيل الأحدث والأخطر والأكثر حرفيةً وجديةً على الإطلاق من فئة المقاومين التي انتمى إليها ماو تسي تونغ في الصين، هوشي منه وجياب في فيتنام، تشي غيفارا في كوبا، وهواري بو مدين في الجزائر، ووديع حداد في فلسطين، والتي لم تعرف، ولم تقبل، إلا الانتصارَ الحاسمَ”.
انتهت المعركة التي استمرت 18 عاماً، والتي عايشها أهم جنرالات الكيان الصهيوني الطامحين بالقضاء على حزب الله، بانسحاب الجيش الصهيوني من لبنان في أيار 2000. تمكّن عماد مغنية، خلالها، من توظيف عناصر المفاجأة والسرعة والدقة، كما اهتمّ بالبعد العسكري الشامل وأثر المقاومة النفسية والمعنوية والثقافية، ما وضع العدو في حالة فوضى وتراجعٍ مستمرةٍ، إذ أدرك مغنية: “بشكل حدسي أن الظهور غير المتوقع للعنف الدقيق والفعال يضرب عصباً حسّاساً في الإنسان.. إنه بعض الخوف البدائي الذي يتفوق على كلِّ عنفٍ آخر”.
للقراءة، من هنا.
من بلفاست إلى غزة: كيف تردع عدوك
في مقالٍ نُشر، أيضاً، في صحيفة “الأخبار” اللبنانية، يتناول الكاتب أحمد حسن عامل “الردع” في الحروب، ويناقش تكتيكات حروب العصابات الإيرلندية في السبعينيات، وخلق معادلة “العين بالعين” أمام البريطانيين، إذ تمكَّن الجيش الجمهوري من اغتيال نائب مدير سجن “الميز”، لتُعتبر عملية الاغتيال هذه أكبرَ عمليات التضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام. تلا ذلك اغتيال “آيري نيف”، وزير إيرلندا المحافظ وحليف” ثاتشر”، والتي نجت بدورها، أيضاً، من محاولةِ اغتيالٍ أخرى.
اتبع الإيرلنديون العمليات النوعية وأسلوب تفخيخ السيارات، بأثره العسكري والنفسي. ولم يعوّلوا، رغم اختلافهم، على احتجاجهم، أو إضراب أسراهم، أو التضامن الشعبي والدولي فحسب، بل أدركوا ترابط معركة الأسر بخارجه. فبينما اُستشهد عشرةٌ من رفاقهم الشجعان، قَتَلَ المقاومون، بالمقابل، عشرةً من أعدائهم، في رسالةٍ جادّةٍ مفادُها: “العين بالعين”. بفعل هذه المعادلة، استحال كلُّ سياسيٍّ ساهم في معاناة الثوار الفردية والجمعية هدفاً مشروعاً، بل وسهلاً أيضاً. وبعد استشهاد “بوبي ساندز”، كثّف المقاومون الإيرلنديون عملياتهم العسكرية ضد الإنجليز التي استهدفت النواب والوزراء وقادة الجيش، لا انتقاماً لرفيقهم وحمايةً للمضربين فحسب، بل لإرسال تحذيرٍ واضحٍ: “العين بخمس عيون، وليست كلُّ الرؤوس سواءً”.
يطرح الكاتب مجموعة تساؤلاتٍ حول إقدام العدو على قتل أكثر من ستين فلسطينياً وإصابة الآلاف في غضون ساعتين في قطاع غزّة، كما يضعنا أمام ضرورة خلق معادلة الردع وإعادة رسم قواعد الاشتباك للحيلولة دون التجرؤ على دم المستعمَر. فبينما يوظف المستعمِر أدواتِه لـ”سحق روح المستعمَر وإعادة تشكيل ذاتيته وهزيمته”، يعيد العنفُ الثوريُّ تشكيلَ ذاتية المستعمِر، ويدفع العدوَّ للتفكير مرتين، لا بسبب رغبته بل رغماً عنه. ختاماً، يخلُص الكاتب إلى أنّ القتل يتوقف مع زوال الاستعمار ودفع ثمنٍ غالٍ جداً، بيد أنّ الردعَ عاملٌ هامٌّ في التقليل من الثمن، ليختتم مقالته باقتباسٍ للشهيد الإيرلندي “تيرانس ماك-سويني”: “ليس الذين يستطيعون إلحاق الأذى أكثر، بل الذين يستطيعون تحمّل الأذى أكثر هم الذين سينتصرون”.
للقراءة، من هنا.
مسيرة العودة الكبرى: الخلفيّات وردود الفعل
يكتب لنا أسامة حمّاد ومحمود أبو ندى، في مجلة “الآداب” اللبنانية، عن خلفيات وأسباب مسيرة العودة الكبرى التي انطلقت في غزة منذ آذار الماضي، كما يرصدان ردود الفعل حولها وأساليب المواجهة التي حضرت فيها. يقول الكاتبان إنّ “الهيئة القيادية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار” كانت قد ركّزت في دعواتها على “سلميّة” فعالياتها، فيما حثّت فصائل المقاومة بأذرعها السياسية والعسكرية والإعلامية على المشاركة في المسيرات، ليتصدّر العملُ الشعبيُّ المواجهَة مع العدو في قطاع غزة، لأول مرةٍ منذ 2005.
يبحث الكاتبان في فكرة المسيرة وموضع تنفيذها اليوم، وسط الظروف الميدانية والسياسية، وفشل مساعي المصالحة، وارتفاع وتيرة الكشف عن أنفاق المقاومة، والظرف الإنساني والاقتصادي والبيئي الصعب الذي لحق بالقطاع بسبب الحصار، فضلاً عن العقوبات التي فرضتها السلطة الفلسطينية وتضييق الخناق على سكان القطاع. كلّها ظروفٌ برهنت على أن انفجاراً وشيكاً يلوح في الأفق، كما أفضت إلى ضرورة تفعيل التعاون بين المقاومة المسلحة والشعبية على أرض غزة.
سخَّر الكيان، من جهته، أجهزته الإعلامية لترهيب المتظاهرين وحَشَدَ طاقتَه العسكريّة على حدود غزّة، وقَمَع المسيرة قبل انطلاقها، مرتكباً مجزرةًَ جديدةً تضاف إلى إرثه الطويل القائم على المذبحة. بالمقابل، أظهر المشاركون مرونةً عاليةً في أساليب التصدّي ومهارة التطوير والابتكار، وابتداع أساليبِ حمايةٍ وأساليبَ هجوميةٍ مبتكرةٍ. كما أثبتوا درجةً عاليةً من التنظيم الذاتي السلس والمرن، والذي بدوره يبرهن مجدداً على حسم الفلسطيني في غزة لخياره في مواجهة الاحتلال، كردةِ فعلٍ طبيعيةٍ أمام قتله وحصاره المستمر.
للقراءة، من هنا.
الحركة النسائية الفلسطينية وحماس: محاولة فهم تمكين المرأة خارج إطار نسوي
هل تستطيع المجموعات اللانسوية تمكين النساء؟ سؤالٌ تبحث عن إجابته “سارة عبابنة” في ورقتها البحثية المنشورة في “حبر” الشهر الماضي، متخذةً حركةَ “حماس” نموذجاً عبر حالتين دراسيتين، تتمحور الأولى حول تقلّد إسلامياتٍ منصبَ وزيرة شؤون المرأة، بعد فوز الحركة بانتخابات عام 2006، فيما تتمثّل الحالة الأخرى بفحص الدور الذي لعبته النساء في الكتلة الطلابية الإسلامية في جامعة بيرزيت. تتناسل من ذاك السؤال عدةُ أسئلةٍ هامةٍ تطرحها الباحثة باقتدارٍ، أهمّها هل التسليم بافتراضاتٍ نسويةٍ معدّةٍ سلفًا منوطٌ بنزع مفهوم التمكين وتبعاته عن المجموعات غير النسوية؛ مثل الحركة الإسلامية؟ وهل هذه المجموعات بالضرورة تعمل على استلاب حقوق النساء واضطهادهن، طالما لم تلتزم بتصوّرٍ ثابتٍ عن التمكين خلقته الحركة النسائية الفلسطينية تحديداً؟
على وقع هذه الأسئلة، تضع عبابنة كلَّ هذه الافتراضات المعلَّبة محلَ اختبارٍ، مؤمنةً بضرورة التحرّر من الخطاب المهيمن والانفتاح على خطاباتٍ أخرى قد نجد في ممارساتها نقيضَ تصوّر المهيمِن. كما تناقش السياق التاريخي والوظيفي الذي ارتفعت بموجبه الحركة النسائية الفلسطينية إلى مكانةٍ مُنحت من خلالها أهلية تمثيل وتمكين النساء، على اعتبار أن العلاقة المتوتّرة بين هذه الحركة ونظيرتها الإسلامية مردّها إلى النهج السياسي والمسألة الطبقية التي تتأتّى منها النساء، وليس صراعاً محورياً حول قضايا المرأة والجندر، وهو ما يفسّر تمكّن الوزيرتين المقربتين من حماس، اللتين تقلّتدا منصب وزيرة شؤون المرأة، من تغطية العجز الذي توفّرة النظرة الليبرالية للمرأة بصفتها فرداً، وإحلال بدلاً منها النظرة السياقية التي تتعاطى مع ما تواجهه المرأة باعتباره انعكاساً لموقعها من المحيط وعلاقتها به، الأمر الذي حدا بهما إلى تسييس قضية المرأة باعتبارها سجينةً ومقاتلةً وزوجةَ شهيدٍ، وطغيان هذه المسألة على قضايا العدالة من أجل النوع الاجتماعي والإصلاحات القانونية التي تندرج تحت هذه المظلة، والدفع نحو توسيع الطبقات والفئات المستهدفة من النساء.
تؤكّد عبابنة، من خلال تحليلها الموضوعي، أن ثمّة إمكانيةً لنسف أو ربما تقويم منطقٍ معياريٍّ قيس من خلاله مدى نيل المرأة لحقوقها؛ بمعنى كسر الاستبطان الضمني لتمكين النساء عبر الأيديولوجية العلمانية، مقابل استبطان التثبيط لذات القيمة بشكلٍ استباقي بمجرّد ذكر الإطار الإسلامي. تدلّل على ذلك بنموذج الكتلة الطلابية الإسلامية في جامعة بيرزيت، الشقّ النسائي، مُبرهنةً أن فكرة الفصل بين الجنسين، التي يعتبرها كثيرون قراءةً أبويةً للإسلام، لا تؤدّي بالضرورة إلى حرمان النساء من أيّ حريات أو امتيازات، على اعتبار أنه لطالما صُوّر حظرُ الاختلاط بقدرته على التنبؤ باللامساواة في الانفصال، غير أن نموذج الجامعة يبرهن عكس ذلك، حيث “ساعد ذلك الطالبات الآتيات من خلفياتٍ ريفية ومحافظة، إذ أتاح وجود مساحة منفصلة للجنسين للطالبات أن ينشطن سياسيًا دون المساس بسمعتهن أو عصيان آبائهنّ. فعليًا، مكّن الفصل بين الجنسين العديد من الطالباتِ من السكن في الحرم الجامعي.”
ختامًا، تخلص الباحثة إلى أنه من الصعب تحديد أيّ منظورٍ بإمكانه تمكين النساء أكثر، لكنها تشير إلى أن تركيز الوزيرتين صالح وصيام على المرأة في ظل الاحتلال، أتاح لهما اشتباكاً مجتمعياً حقيقياً مع النساء الفلسطينيات، معتبرةً أن أعمالهما لم تشكل بالمطلق تهديدًا لرفاه النساء الفلسطينيات، ومحذِّرةً في الآن نفسه من “الحكم على الآخر غير النسوي لمجرد اختلافه عن الفرضيات التي تتبناها النسوية”.
للقراءة، من هنا.
القرامطة سبقوا ماركس وأسسوا لنظام اشتراكي منتخب
تبقى بعض حكايا وتمردات الجموع الشعبية في التاريخ أسيرةَ سجلات التاريخ الخفيّ، إذ تنشأ الحراكات الاجتماعية في كلّ زمانٍ ومكانٍ كنتيجةٍ حتميةٍ لممارسات الدولة وسياساتها. تضيء منى يسرى، في مقالها الذي نشر في “حفريات”، على تجربة القرامطة، وهو حراكٌ اجتماعيٌّ نشأ في عهد الدولة العباسية، نسبةً إلى حمدان قرمط.
أتاح اختلالُ الدولة العباسية المجالَ أمام القرامطة لتنظيم أنفسهم وتحضيرها لمواجهة العباسيين. حاول قرمط نشر دعوته التي تسعى لبناء مجتمع ذي علاقات إنتاجٍ مغايرةٍ، حيث قاربت أفكاره اشتراكية ماركس، وسبقته بقرون. طوّر القرامطة آليات تمكّن المجتمع من التحرر من الأزمات الاقتصادية المتعاقبة وقبضة الدولة العباسية.
يصف حسين مروة الثورة القرمطية التي اندلعت في 264 هـ بأنها “ثورة الفلاحين بلا منازع”، حيث رسخت مبدأ الشراكة في المال، كأساس للقوة المالية والقدرة الاقتصادية للانتصار على سلطة الدولة، ووظفت مساهمات أتباعها في الإنفاق على المصالح العامة والفقراء والمحتاجين، لتصل إلى إعادة توزيع ثرواتها، طبقاً لمبدأ: “كلٌّ حسب طاقته لكلٍّ حسب حاجته”.
شكلت تجربة القرامطة، حسب الكاتبة، شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي المرتبط بتاريخ نشأته، وجاءت كنتاجٍ تاريخيٍّ، ضمن تحليلٍ طبقيٍّ يمثل تطلعات الطبقة المسحوقة وأهدافها. أو كما يصفها أدونيس: “حركةٌ تمثل طبقةً محددةً وتدافع عن مصالحها، وتضع من أجل ذلك برنامجاً اقتصادياً – سياسياً، وتبتعد عن كل التأويلات الدينية التي ادّعى العباسيون حربهم لأجلها”.
للقراءة، من هنا.
ماذا لو زرت قبور الأقربين؟ (3)
في مقالته المرهفة، المنشورة الشهر الماضي في مجلة “الفيصل”، ينكأ الكاتب فيصل درّاج جرحاً طويلاً من عُمر الفلسطيني الذي هزمه الموتُ المكتملُ، فلم يكن الموتُ الناقصُ حظوتَه؛ موتٌ كان التعويل فيه على “ذاكرة العائلة” استدراكاً للنقص. يتفوّق المكتمل بذلك على الناقص، حين يستبدّ الأخير بتوديع الراحلين الأقربين، وتصبح قبورهم خرائطَ متنقّلةً مليئةً بمفارقاتٍ لا يحظى القريب بتوسّدها ولو لهنيهةٍ.
يكتب دراج حكايته الشفيفة التي تصلح لقراءة الوعي الجمعي حول الوطن والمنفى وحياكة ذاكرة القبور. يستعيد وجعه الطفولي بترك قبر جدّه، بعد رحيله عن القرية، منازعاً للوحدة بلا أيدٍ تحنو على حجارته تؤنس وحشته. يمرّ بعدها شريطٌ طويلٌ من ذكريات المكان والإنسان، يتذّكر خالته التي ذاب رفاتها في تراب الجنوب اللبناني، ويزهد برهبة الخوف مع رحيل عمته في قرية جويزة السورية القريبة من شمال فلسطين. أحسّ حينها أن ثمّة أذرعاً مفتوحةً من الجهة الأخرى بإمكانها أن تلتقط الميت، وتغرسه في ترابها، حينما لم يكن “المنفى قد أوغل في اتساعه بعد”.
يقول دراج: “سأدرك لاحقًا «بداهة التبعثر»، وعادية غياب ما كان، وعرفت أن في زيارة القبور تحيةً للأقربين، لا احتفالًا بأكوام التراب، وأن ما يدعى بالذاكرة متواليات من الرفض والمعاناة، وتدريب على قراءة الوجود الفلسطيني”، متمّماً ذلك بحكاية الكهلة الفارعة التي جاءت من الغور الفلسطيني إلى بيروت لتمطئن إلى عظام ابنيها الشهيدين، وتحملها في كيسٍ على ظهرها لتستحيل العظام شابين يستقران في ترابٍ أنيسٍ لا تحيط به الصخور البركانية.
يختتم دراج مقالته بالبحث عن أسباب إحالة موت عمته إلى موتٍ كاملٍ، وهي لم تغادر الوطن. هذا النوع من الموت الذي ينطبق على فردٍ بعيدٍ من العائلة لن تزور قبره، فكيف بأقرب الأقربين أن يُكسر النقصُ في موته ويتحوّل إلى نسخةٍ كاملةٍ من الموت. يقول دراج “جاء الجواب سهلاً: ما ينطبق على غير الفلسطينيين لا ينطبق على الفلسطينيين، الذين يرون في زيارة القبور فعلاً يعبّر عن الوفاء، ومجابهة النسيان… ماذا لو زرت قبور الأقربين؟ السؤالُ مشروعٌ وإمكانية تحقيقه تحتاج إلى معجزة”
للقراءة، من هنا.