في رادار لشهر حزيران الفائت، انتقينا لكم قراءاتٍ تتناول أوّلها مشاكل المياه في العراق وتأثيرها على الثقافة العراقية، ثمّ للحديث في المقال الثاني عن التناقضات التي يعيشها الفلسطيني في ظل الاحتلال متمثّلة بأدب غسان كنفاني وإميل حبيبي، وأخيراً للحديث عن هشاشة الهوية في المقال الأخير وتوظيف الأيديولوجيا من قبل السلطة لخدمتها. قراءة طيبة
****
العراق والمنطقة العربية على حافة الهاوية
ينقل لنا أسامة حبر في مقاله المنشور على منصة “جدلية”، حيثيات حواره مع الباحث العراقي في شؤون البيئة خالد سليمان، فيما يتعلّق بالأخطار البيئية التي تواجه العراق من الارتفاع الكبير في درجات الحرارة إلى الجفاف، وعن تقاعس السلطة في العراق عن إيجاد برامج لمواجهة هذه الكوارث.
يميل الباحث سليمان إلى أسلوب وفلسفةٍ مختلفين في استقصاء المعلومات؛ إذ لا يعتمد على تلك المنشورة من جانب الحكومة، بل يعتمد على الرواية الصحفية التي دوماً ما تبحث عن مشتركٍ إنسانيٍّ، وفي حالتنا هذه، يمثّل الماء دور المشترك الإنسانيّ بين الجميع.
ويرى ضرورةً في إشراك المجتمعات المحلية في إيجاد حلولٍ لهذه الكوارث نظراً لخبرتها مع بيئتها، يتضمّن ذلك تبسيط اللغة التي يتحدّث بها الأكاديميون بخصوص المشاكل البيئية التي يعايشها السكان، وبهذا الصدد، يكمن جزءٌ من الحل في توظيف القصة الصحفية هنا؛ حيث السرد المعلوماتي واقتراح الحلول، فضلاً عن التفاعل مع تفاصيل ومُجرَيات القصة، بدلاً من التركيز على المعلومة بذاتها وحسب.
بالعودة إلى موضوع المياه كأهمّ ما يواجه العراق، فإنها تحتلّ مكانةً كبيرةً في الثقافة العراقية عموماً ويمكننا دراسة الأخيرة انطلاقاً من موضوع المياه أساساً، حيث نجدها كثيراً في الأساطير والمحادثات الشفوية وسرديات الطوفان، كما يمتدّ ذلك ليصل حضور الماء في ثقافة الغذاء وأنواع الحلوى.
وبهذا فإنّ أيّة مشاكل متعلقة بالمياه ستؤثر ضمناً على الإرث الفني في الذاكرة العراقية. كما أنّ ارتفاع درجات الحرارة سيكون له تأثيره أيضاً النباتات؛ حيث نشهد إزاحةً في المواسم الزراعية إلى غير الأشهر المعتادة. كما سيكون له تأثيراتٌ أخرى على الحيوانات والحشرات وعناصر أخرى في النظام البيئيّ.
أما الأمر الجلل، فهو خطر غرق البصرة واختفاؤها عن الخريطة كتحصيلٍ حاصلٍ لذوبان القطب الجنوبي، هذا التهديد الذي لم يتمّ أخذه إلى الآن على محمل الجد لكيفية مواجهته مستقبلاً ضمن برامج السلطة الحاكمة. ليس هذا وحسب، بل إنّ معظم مشاكل المياه وسرقتها بكمّياتٍ كبيرةٍ في العراق لصالح مصالح شخصية تشير بأصابع الاتهام إلى مسؤولين في السلطة الحاكمة دون حساب.
وفضلاً عن الفساد السياسي والاقتصادي المُعتاد منذ فترةٍ، يشكّل التغير المناخي والفساد البيئي، وعدم قدرة السلطة الحاكمة على إيجاد حلولٍ وبنىً تحتيةٍ تعجز عن مواجهة هطولٍ قليلٍ للأمطار، جزءاً من غضب العراقيين واحتجاجاتهم المستمرّة منذ تشرين الأول من العام الفائت.
بالعودة للحديث عن الأساطير حول المياه، تعكس هذه الأساطير وعياً قديماً بخطر انتهاك البيئة، ففي إحداها يقرر الإله “أنليل” معاقبة البشر بسبب تكاثرهم وصخبهم وضجيجهم وتخريبهم، ويهدّدهم بالطوفان والجفاف. يبدو أنّ السلطة الحاكمة لم تتنبّه للحكمة الواردة في هذه الأساطير!
للقراءة: من هنا
التراجيكوميديا في أدب النكسة: سرديات غسان كنفاني وإميل حبيبي أنموذجاً
في هذا النص المنشور على منصة “حبر”، تناقش وفيقة المصري أثار نكسة عام 1967 على الأدب العربي عامّةً وعلى الكتاب؛ إذ لا بد للأدب ليكون أدباً، أن يكون ابناً لزمنه ولغةً له، يتوغّل في الأحداث التاريخية التي يمرّ بها وليس مرآةً تعكسها وحسب.
تنأى المصري عن النصوص التي فعلت ذلك أو تصبّغت بالكآبة وسيطرت عليها الخيبة، في حين ركّزت على السرديات التي مثّلت الأدب المقاوم، فلم تعمّق شرخ الهزيمة بل شخّصتها، وفي هذا السياق، ترى المصري في إميل حبيبي وغسّان كنفاني نموذجاً ووجهين لقضيةٍ واحدةٍ، يمثّل أوّلهما الأديب الفلسطيني الذي ظلّ في الأراضي المحتلة عام 1948م، في حين يمثّل كنفاني الأديب في المهجر والذي يتوق للعودة إلى أرضه.
مفارقةٌ ساخرةٌ، ولكنّ ما يميّز كلاً منهما محاولتُهما إلى التركيز على الذات العربية والفلسطينية؛ حيث لم يعملا على تعميق شرخ الهزيمة. وتعرّج على أسلوب إميل حبيبي في مجموعته “سداسية الأيام الستة” التي تضع القارئ في مأزقٍ يحتار فيه بين السخرية والمأساة من جهةٍ، متحدّثاً بها على ألسنة الأطفال الذي يطلقون أسئلةً بريئةً تمثّل الهموم والمفاضلات التي تخطر في بال الكبار، كالمفاضلة بين عدم توغّل الجيش الصهيونيّ إلى أراضي 1967م، أو توغّلهم كي يلتمّ شمل العائلات المُمزَّقة. وبالتالي حيرةٌ بين الفرح والحزن من جهةٍ آخرى، هذا الفرح الذي يتمثّل بأشكالٍ غريبةٍ، يفرح على إثرها الأسير لأسره حيث لقاؤه مع أخيه المحكوم بالمؤبّد وجهاً لوجه دون وسائط أو وقتٍ محدّدٍ للقاء!
كما تعرّج الكاتبة على شعور الفلسطينيّ الباقي في أرضه وشعوره بالغربة فيها وكأنّه لاجئٌ فيها ومعايشته لتناقضات الحياة تحت وطأة الاحتلال؛ وهكذا يتراوح حلم الفلسطينيّ عامّةً بين عودةٍ حقيقيةٍ للذي هُجّروا من أراضيهم، وبين عودةٍ مجازيةٍ لمن بقي في أرضه؛ تتمثّل بعودة الأحوال إلى سالفها.
أما عند كنفاني، اتّخذ هذا الامتزاج المتناقض بين عناصر السخرية والمأساة شكلاً آخر بعد النكسة، حافظ فيها على توجّهاته الماركسية واختار أن يجعل للمرأة مكاناً بين الرجال وبنادقهم. في حين تبرز جلّ السخرية لدى كنفاني في جملة “خيمة عن خيمة بتفرق” أو جملة “الحبوس أنواع يا ابن العم” التي وردت كلاً منهما على لسان أم سعد، حيث تمثل الأولى فعل مقاومةٍ تتميّز فيها خيمةٌ ما من الفدائيين الذين ربّتهم صاحبة هذه الخيمة. في حين تراوح الثانية بين حبس الفلسطيني تحت سلطة الاحتلال في الداخل وبين الأمل غير المقيد الذي يسكن قلب فلسطينيي الشتات، لينتج في النهاية واقعاً متشائلاً.
كما يشترك كنفاني وحبيبي في استخدام عناوين فرعية يسود عليها الفعل المضارع، ترجّح الفعل العبثيّ على اللافعل والاستسلام، وتؤكّد على الفعل الثوري، وهذا ما يفعله المزج في شريعة كنفاني، حيث تنبئ عن تغيير توجهاته إلى مستقبل القضية والثورة؛ ويراوح في نصوصه بين استيعاب الواقع وبين النقد الذي يكشف ثغرات المرحلة الماضية التي آلت بنا إلى هنا.
للقراءة من هنا
الجنون الهوياتي: قراءة في هشاشة الهوية
يطرح هذا المقال المنشور على منصة “المحطة”، سؤال إمكانية الاستمرار في أن نكون الشيء نفسه طوال الوقت، وهو ما قد يكون ثغرةً تمنح السلطة فرصة فرض أيديولوجيتها على الأفراد وتمكينها فيهم، كما يحاجج.
يتعلّق السؤال أساساً بإشكالية الهوية بين الـ (أنا) والـ (نحن) والـ (هُم)، فضلاً عن هشاشة العلاقات وتفكّكها والتسليم بما آلت إليه دون اتخاذ موقفٍ ينأى عن موقف شهود العيان أو مُحلّلي الأحداث الناظرين عن بعدٍ. يُرجئ “ريكور” -مؤلف كتاب “الذاكرة، التاريخ، النسيان”- هذه الهشاشة إلى الإرث الذي يتعلق بسوء استخدام الذاكرة الجمعية واستغلال العنف المُشَرعّن الذي اكتسب شرعيته خلال حربٍ ما. بالطبع، ترتهن ماهية الذاكرة الجمعية إلى كونها حقّقت نصراً ومجداً أو هزائم وجروحاً لم تُمحَ.
ومن تداعيات هذه الهشاشة أن إنسان اليوم تحوّل في المجمل إلى كائنات غير شفّافةٍ، منكمشةٍ على ذاتها، يُشكل الآخر من وجهة نظرٍ خطراً يُشعرها بالتهديد فيما يتعلق بهويتها وحيّزها الشخصي، وبهذا يجد الإنسان دوماً وسائله الخاصة للاستمرار في حربٍ ما على أيّ مستوىً. قد يعني ما سلف أن يتكون مجتمعٌ ما من نسخٍ متطابقةٍ، وهو تحديداً ما تسعى كل سلطة أو نظامٍ إليه، لتجذّر من سطوتها على الجماعة. وبهذا التناغم يتحول الأفراد إلى آلاتٍ تعمل لصالحها أو أرقامٍ تُدرَج في حساب أصواتها في صناديق الاقتراع، في حين ستُوجّه تُهَم الهمجية على كلّ من يحاول أن يكون مختلفاً.
تُوصَف الـ (نحن) بأنّها الذاكرة الجمعية التي هي عبارةٌ عن مجموعة الـ (أنا). وتحضر الأيديولوجيا لتصل بينهما؛ فهي حارسة الهوية. يعرّف هذا المقال الأيديولوجيا على أنّها علم الأفكار، ويجد أنها غامضةٌ وغير شفافة، وتساعد على وضع الأسس الأخلاقية للفعل وتعمل على توجيهه نحو منحىً معينٍ يتبنّى فكره. أمّا الخطورة التي تشكّلها الأيديولوجيا فتكمن في أن تصبح أداةً بيد السلطة تضفي عليها الشرعية، مؤثّراً بذلك على كل عناصر المجتمع التي تتأثر تأثّراً مباشراً، أيّاً كانت طبيعة علاقتها بالسلطة.
وضمن هذا السياق، يخوض الأفراد صراعات السلطة ويدخلون في حروبها وينسون همومهم وحروبهم الشخصية، وتذوب أنا الفرد في الـ (هم).
يمكننا نقد هذا النص بالمبالغة في تبعية الإنسان وكأنّه رهن السلطة ولا يمكنه الحياد عمّا خطّطت له، بل ويجرّده من قدرته على اختياره الحرّ لقضيته، فضلاً عن ميل هذا النص لوصف الحال في المجتمعات التي يكون صراعها الأساسيّ مع السلطة، على عكس مجتمعنا الفلسطيني الذي يقف موقف الصراع ضدّ أكثر من طرفٍ يمثّل الاحتلال الصهيونيّ رأسهم، ويشكّل هويّته من هذا الصراع بالأساس، ولأفراده همٌّ جماعيٌّ يكمن بالتخلص من هذا الاحتلال.
للقراءة من هنا