أزمة فهم الأزمة: مقال في الديمقراطية العربيَّة

يحاول محمد زكي في مقاله ترتيب بعض المفاهيم لقراءة أزمات العالم العربي، تحديداً الديموقراطية العربية. ويطرح عدة أسئلة مهمة ويحاول صياغة محددّات للإجابة عنها.  إن انطلاق المعالجات الفكرية من فرضية (عدم وجود ديمقراطية) في الأنظمة العربية، وما يلي هذا الافتراض من المطالبة المستمرة بتطبيق الديمقراطية بكافة مركباتها (تداول السلطة، الفصل بين السلطات، الشفافية…).  تتعارض بشكل مباشر مع الدولة العربية التي تشكلت في مسيرتها نحو الرأسمالية العالمية. والمرجو هنا تكوين وعيٍ تاريخيٍ لظاهرة الاستبداد السياسي. والتي بدأت مع بداية الاستعمار. أي أن هنالك ضرورة منهجية للربط بين الوعي التاريخي بظاهرة استبداد أنظمة الحكم والوعي بتاريخ تكون ظاهرة التخلف الاجتماعي والاقتصادي..

ضرورة الوعي بخمسة أمور، العالم وحدة واحدة والنسيج العربي جزء منه. هذا العالم لم يبرز فجأة بل له تاريخ. الوعي بتكوّن هذا العالم عبر التراكم الأوّلي للرأسمال. لا يكون التكون التاريخي للتخلف اقتصادياً واجتماعياً فقط إنما يؤثر على باقي المركبات الثقافية والسياسية والمعرفية والحقوقية. يتحوّل هذا الكيان المتكوّن من عملية التخلف المتراكمة إلى اقتصاد تابع.

وأخيراً تطرح المقالة عدة تساؤلات أهمها:  هو “كيف تندمج المجتمعات العربية في المنظومة الرأسمالية العالمية؟” أم سؤال “إلى أي حد هي مندمجة؟ ومنذ متى؟” هذه الأسئلة وغيرها تعيدنا للتفكير في أسباب الأزمة، هل الأزمة بسبب فشلٍ بالاندماج بالرأسمالية؟ أم  هل الاندماج أو المحاولة هي بحد ذاتها سبب الأزمات؟ 

صورة من المقالة، لوحة من الحرب العالمية الأولى للفنان الروسي آريستاخ لنتولوف، «النمساويّون يسلّمون لفوف للروس مثل أرانب هزمتهم أسود» – ليثوغرافيا، 1914

عن العسكرة في الغرب

يتنقل عامر محسن في هذا المقال بين التاريخ والحاضر في محاولة لقراءة مستقبل عسكرة الغرب الحالية من منظور انحدار الامبراطوريات.

في فترة الانحدار لا تكون الدول في حالة خمود إنما تحاول الإصلاح وتدارك الأمور أي تكون في حالة تحرّك ولكنها لا تكون كافية لتدارك الانحدار وتأجيل النهاية. ويضرب محسن أمثلة بالعثمانيين والقيصرية الروسية والنمساويين على حركة الإصلاحات وإدراك الانحدار في لحظات النهاية. ويتساءل لماذا الظن أن أمريكا ستكون مختلفة عمن سبقها؟

 يكتب محسن عن العدائية الغربية تجاه كل ما هو روسي (موسيقى، ثقافة، تاريخ…) وإدخال الجميع في حرب للحفاظ على القيم الأوروبية، ويقارنها مع المطبعين العرب الغارقين في ذات القيم الأوروبية ويعيبون على قومهم العداء لكل ما هو “إسرائيلي وأمريكي”.

يتساءل أخيراً، لماذا تمول ألمانيا جيشها الآن مع أن هذا التمويل لن تظهر آثاره قبل خمس سنوات؟ ولماذا تعقد بولندا صفقات لمئات الدبابات والطائرات الحديثة؟ لن تغير العسكرة موازين القوى الآن خصوصاً في دول أوروبا المحمية من الناتو، لكنها توحي بمستقبل تتعدد فيه الدول الثرية المستعدة للغزو والتدخل في أي مكان بالعالم. هذه العسكرة الليبرالية تستبدل خطاب الانفتاح والعولمة وتستعد لفرض إرادتها بعدما شعرت بالانحدار. هذه الليبرالية التي تحمل قيماً أوروبية تريد فرضها ولا تقبل الاختلاف عنها أو الخروج عن هيمنتها.

 

وصايا الشهداء .. الواصلون باكرًا

في نص ساري عرابي “وصايا الشهداء .. الواصلون باكرًا” ورسومات آية الطويل “لوحات فنّيّة.. وصايا الشهداء.. الواصلون باكرًا“، حديث عن وصايا الشهداء، كلمات إبراهيم النابلسي الأخيرة لحظة حصاره ومعرفته بشهادته قبل وصول الرصاص. ووصية فادي أبو شخيدم الذي خاض طريقاً طويلاً يعد فيه ذاته إيمانياً وعسكرياً ويفك أغلال الدنيا عنه، خطبه لم تكن مجرد كلمات في زمن كثر فيه الكلام بل كانت مسيراً لطريق يخطه بطريقته. ليتحدث بعدها عن براء لحلوح مفسراً وصيته واختياره لآيات الجهاد وامتلاء كلماته بالنصح لمن هم بعده، لماذا نقاتل؟ من أجل من؟ وما الفائدة؟ ينبّه ويحذّر من كمائن العدو ويطلب إيقاعهم بالكمائن، يواسي أقاربه وأعز الناس على قلبه أنه حي عند الله. 

يحمل الشهداء الناس من بعدهم، كما يطلب الشهيد غيث يامن من الناس زيارته كل يوم وألا يبكوا بسببه. والشهيد قتيبة زهران يطلب السماح ممن عرفه ويواسيهم بأنه شفيع لهم وأن فعله ثأراً لدماء الشهداء. أو كما قالت الشهيدة رشا عويصي “لم أعد أحتمل ما أرى”، والشهيد مهند الحلبي “لا أظن أننا شعب يرضى بالذل”. كلمات تتكثف فيها الحياة والحكمة، وصايا الواصلين باكراً تجيب عن الأسئلة وتطرح أسئلة أخرى، تنير كلماتهم الطريق لمن بعدهم. 

نهر اليرموك وتشكيل المنطقة

يكتب فادي مسامرة ملف بحثي بعنوان “نهر اليرموك وتشكيل المنطقة” في أربعة أجزاء، الجزء الأول “كيف تحول اليرموك من جسم طبيعي إلى حاجز حدودي” عن تاريخ النهر والحياة الاجتماعية والاقتصادية حوله حيث لم يكن النهر منطقة حدودية يمنع الاقتراب منها بل كانت الحركة بين ضفافه ممارسة طبيعية ويظهر ذلك كثرة الجسور على النهر وأهمها جسر المجامع. ومن ثم بداية تحوّل النهر التدريجي “لحدود” بفعل الاستعمار واتفاقياته وخرائطه التي لا تعيد تشكيل العالم إنما تبنيه من الصفر على افتراض انعدام الحياة قبلهم، ومن ذلك طلب اليهود من البريطان ضم المنابع المائية لنهر الأردن ونهر الليطاني واليرموك لحدود فلسطين. اكتمل تحول اليرموك إلى جسر حدودي في عملية “ليلة الحدود” والتي دمر فيها البالماخ ١١ جسراً عام ١٩٤٦. أي أن إعلان دولة “إسرائيل” لم يكن إلا الحركة الختامية عام ١٩٤٨ هذه قصة نهر واحد فصله جسر اليرموك لنهرين، اليرموك والأردن، لتسيطر “إسرائيل” على الثاني ويصبح الأول محل نزاع لعقود.

في الجزء الثاني “انتزاع الأنهار من مجاريها: المياه والسياسة في المجاري الصهيو-أمريكية” يتحدث مسامرة عن المشاريع المائية التي شكّلت المنطقة، من مشروع “روتنبرغ” إلى خطة “كوتون” مروراً بمشروع “​​لودرميلك-هايز” وخطة “جونسون” (النسخة الأولى من ثم العربية وأخيراً الموحدة). نحو تثبيت الواقع السياسي ومزيد من التنازل، هكذا تكون المشاريع الاقتصادية البحتة، لا يتوقف الأمر على التلاعب بالأبعاد الاقتصادية والتنموية بفصلها عن بعدها السياسي. ولكن أيضاً التلاعب بالطبيعة بالتركيز على الجاذبية كمصدر طاقة لتحريك المياه وإغفال أساسيات العلم الهيدرولوجي (العلاقة ما بين المياه الجوفية والسطحية) وغيرها من الملاحظات الانتقائية في هذه المشاريع التنموية.

مساعدات من جهة وسلب من جهة أخرى، هذا ما ينعكس في توظيف شركات أمريكية للقيام بالمشاريع وتصميم قناة الغور الشرقية، حيث ضمن التصميم ألا تتسع القناة لأكثر من ١٢٣ مليون متر مكعب سنوياً. وتتغذى القناة من نهر اليرموك ومياه الأودية الجانبية. رغم أن خطة جونسون الموحدة حددت  حصة الأردن من مياه اليرموك ب٣٧٧ مليون متر مكعب سنوياً. إلا أنها حصلت على أقل من ثلث هذه الكمية بسبب التصميم الأمريكي للقناة. في ذات الوقت كانت أمريكا تصمم وتنشِئ “الناقل الوطني الإسرائيلي”. لتحويل المياه من نهر الأردن إلى النقب مروراً بالساحل “الإسرائيلي”، والذي يعتبر من أكبر المشاريع المائية على مستوى العالم. ردة الفعل العربية بتحويل مجاري الأنهار وبناء سد خالد بن الوليد على نهر اليرموك والذي دمرته “إسرائيل” في حرب حزيران ١٩٦٧، بجانب استهداف قناة الغور الشرقية. 

الجزء الثالث “عندما يكون السلام أشد وطأة من الحرب” من المشاريع والخطط إلى اتفاقية وادي عربة، حددت خطة جونسون حصة “إسرائيل” بـ٢٥ مليون متر مكعب ولكن يقدر ما كانت تحصل عليه بـ٧٠-١٠٠ أي ثلاثة إلى أربعة أضعاف الحصة المحددة. وبسيطرته على الجولان انتقلت سوريا إلى نهر اليرموك ليلبي حاجاتها من المياه. هذه الأسباب وغيرها من بناء سدود وحفر آبار وإنشاء مستوطنات وقنوات العائدة إلى “إسرائيل” جعلت منسوب مياه نهر اليرموك (هذه الملاحظة في منتصف السبعينات) ينخفض بنسبة ٤٥٪ مقارنة ببداية الستينات. 

السياسة استمرار للحرب، بعد انتهاء حرب حزيران تماطل “إسرائيل” برد الطلب الأردني لأسابيع، حيث طلب الأردن من أمريكا الوساطة لتنظيف مدخل قناة الغور الشرقية والذي تراكمت على مداخله مخلفات القصف المختلفة وأكياس الرمال (الحل الذي وضعه الأردن بديلاً عن سد العدسية الذي رفضت “إسرائيل” أن ينشأ بحجة وقوعه على خط الهدنة). وبعد الموافقة وتنظيف المدخل وترتيب أكياس الرمال، اشتكت “إسرائيل” من نقص حصتها مما دفعهم وبعد ثلاث أيام لاختطاف جنود أردنيين وإغلاق القناة الشرقية، وبعد الاحتشاد من الطرفين تدخل الوسيط الأمريكي لإعادة ترتيب أكياس الرمل. لنصل بعد ٣٨ من الحاجة الملحة لتشكيل سد تحويلي وموافقة “إسرائيل” على بناءه بعد بدء محادثات سرية وعلنية انتهت بتحويل عدم المساواة إلى اتفاقية باسم “وادي عربة”.

أما الجزء الرابع والأخير “سدّ الوحدة: السد الذي ليس له من اسمه نصيب” يتطرق إلى العلاقة الأردنية السورية في إدارة نهر اليرموك، حيث تضم سوريا ٧٥.٥ من مساحة النهر و٤ من أصل ٦ من الوديان التي تشكل روافده. كما يشير إلى تاريخ التفكير بسد الوحدة ١٩٥٣ وصولاً للبدء بتنفذيه ٢٠٠٣ والانتهاء منه عام ٢٠١٠. ويفصّل في ما كان متوقعاً منه وما يقدمه حالياً وتقسيم مياه وكهرباء سد الوحدة بين الأردن وسوريا واتفاقية ١٩٨٧. 

 

الإستراتيجية الأمنية الأمريكية: المفهوم والتيارات الفكرية

تتبدل الاستراتيجية الأمنية الأمريكية حتى قد تبدو أن لكل رئيس أمريكي جديد استراتيجيته ولكن يجمعها تحقيق الهيمنة على العالم وتسيير مصالحها ومصالحها فقط سواء بالتواجد العسكري على الأرض أو من خلال تحريك الحلفاء وأخيراً إجبار الحلفاء على دفع تكاليف الهيمنة الأمريكية. إن صنع هذه الاستراتيجية يتأثر بثلاث تيارات فكرية وهي التيار المثالي الذي يرى بتعدد الأطراف لإدارة المجتمع الدولي، والتيار الواقعي الذي يركز على المصلحة القومية في تسيير العلاقات وإن كان بالقوة العسكرية، وأخيراً الواقعية الجديدة والتي تنظر إلى الساحة الدولية بعد الحرب الباردة على أنها فرصة ملائمة للهيمنة الأمريكية.

في استفتاء للرأي العام الأمريكي سنة ١٩٩٢ اختار ثمانون بالمئة من العينة أن سياسة بلادهم خاطئة خلال الأحداث الماضية. لحق ذلك انتخاب كلينتون وهو ما أكد على هذا الخيار نظراً لصعوبة السيطرة على الأزمات الدولية، حيث يتمثل التوجه الجديد بالانعزالية والتركيز على المصالح الحيوية المباشرة. وهو ما أعطى فرصة لقوى عالمية كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبي. لكن بعد أحداث ١١ سبتمبر، تحولت هذه الاستراتيجية لتعتمد على الضربات الوقائية-الاستباقية وإعادة الانتشار والتواجد في المناطق الحيوية. هذه الاستراتيجية ركزت على الهيمنة العسكرية والفعلية على الأرض. ثم بداية من عام ٢٠٠٨ أي بصعود أوباما إلى الرئاسة الأمريكية بدأت صياغة استراتيجية نيوليبرالية تركز على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أكثر. وفي عام ٢٠١٥ شكلت مجموعة من الأفكار والمفاهيم ما سمي بوثيقة الأمن القومي الأمريكي والتي في مقدمتها تركز على تجديد التحالفات في آسيا وأوروبا ومواجهة “العدائية الروسية” وأن أمريكا مؤهلة لقيادة “عالم غير آمن” نحو المستقبل. طرحت الوثيقة فكرة اعتماد مجموعة من الأولويات المتنوعة والمتوازنة بدلاً من التركيز على إقليم أو تهديد واحد. 

ولأول مرة استخدم مصطلح “إعادة التوازن / re-balance” لمواجهة التحديات في منطقة آسيا – المحيط الهادئ كأولى أولوياتها. دمجت أمريكا بين التيارات الفكرية لمصلحتها أي أنها اعتمدت على الاستراتيجية النيوليبرالية باستخدام المؤسسات والأبعاد غير العسكرية ولكن لتحقيق المزيد من الهيمنة ولعب دور الموازن الرئيسي في كل منطقة حيوية.

في نهاية فترة أوباما تراجع الدور الأمريكي لعدم قدرته على الإيفاء بالتزاماته الأمنية والعسكرية مع الحلفاء. بسبب تعقيدات الواقع واستراتيجية الأولويات المتعددة، وكانت معالجته في فترة ترامب بالضغط على الحلفاء لدفع تكاليف هذه الأولويات.