في هذا العدد من رادار، نراجع آخر ما كتب عربياً حول فرانز فانون الطبيب النفسي الذي شارك ونظّر للثورة الجزائرية والتحرر من الاستعمار. من المعتاد أن يكون رادار مراجعة لما كتب في عناوين مختلفة لشهرٍ مضى، لهذا نخرج بشكل جديد لرادار مع استكمال الشكل القديم كما هو، في محاولة لمراجعة آخر ما كتب عربياً أو عالمياً حول فكرة/أفكار معينة.
يا عزيزي كلنا زنوج!
مقالة أحمد سليمان تحوي مراجعة لكتاب “فرانز فانون سيرة فكرية” لديفيد كوت وترجمة فوزي سيلسلي. فبعد التقديم عن حياة فانون يبدأ بملاحظة مهمة حول تناقضات الأوروبي، فمثلاً؛ أثناء عمله كطبيب نفسي في الجيش الفرنسي استشاره أحد الضباط بأنه مستمر في تعذيب العرب، لكنه لا يريد أن يتحول إلى شخص عنيف في تعامله مع الأوروبيين. كذلك رأى أن اليسار الفرنسي يدعو لسحق الثورة الجزائرية بينما يدعم الهند الصينية في استقلالها. ملاحظة هذا التناقض الأوروبي والرؤية من خلاله ساعدته في تمييز أكاذيب الاستعمار كقوله بأن جبهة التحرير تستهدف المدنيين الفرنسيين في الجزائر، وهو الادعاء الذي رد عليه فانون بقوله : “لا وجود لمدني فرنسي في الجزائر فالفلاح الفرنسي عندما يطأ أرض الجزائر تسقط عنه مدنيته ويصبح مستعمراً”. بل وكل الأوروبيين في الجزائر متواطئين مع الاستعمار إما لفائدة اقتصادية، وهو ذاته هدف الاستعمار الرئيسي بالتالي لا فرق بينهما، وإما لتقديمهم ودعمهم لحجج الاستعمار بتوفير حماية لرعاياه ضد “العنف العربي”. امتدت هذه التناقضات والأكاذيب لتساعد فانون على تجاوز التناقضات الأيديولوجية، فهو يساريٌ ولكنه كان يدعم جبهة التحرير والجهاد الإسلامي ضد الاستعمار وكان محرراً لجريدة “المجاهد” صوت الجبهة في تونس. كما يرفض “عصرنة” المرأة التي كان يدَّعيها الاستعمار رغم قناعة فانون بها، إلا أنه أدرك أنها مجرد أداة لإعادة تشكيل المجتمع وفق حاجة الاستعمار، حيث قال عن دعوة أرباب العمل الفرنسيين للجزائرين بأن يحضروا زوجاتهم للمناسبات بأنها اغتصاب معنوي، فالحرية لا تمنح ولا توهب إنما تنتزع بالكفاح.
لهذا رفض فانون طريقة غاندي وفلسفة اللاعنف، واتخذ طريق الكفاح “فالعنف وحده … هو الذي يجعل في إمكان الجماهير أن تفهم الحقائق الاجتماعيَّة ويعطيها مفتاح هذه الحقائق”، حيث احتاج الأوروبي إلى العنف ليصبح مستعمراً، لذا يحتاجُ غيرُه إلى العنف ليصبحوا أحراراً ويتخلصوا من عقدة الدونية التي تذكِّيها الحلول السلمية.
بين فانون وبن نبي… ما قبل الاستعمار وما بعده
استعرضت خيّرة مطاي الأفكار والتنظيرات التي ميّزت فكر فرانز فانون ومالك بن نبي، على اعتبار أن كلاً منهما تطرق بشكل أساسي إلى عملية التحرر وبناء المجتمع ما بعد تحرره. بالإضافة إلى التشابهات والاختلافات حول تصور فرانز فانون ومالك بن نبي عن كيفية تصفية الاستعمار ومناهضته، وتتبع أبعاد الاستعمار النفسية.
يرى فانون أنه يجب على المستعمَر استعادة الفضاء الثقافي الذي سبق أفعال واستراتيجيات العنف التي جاء بها الاستعمار، والتي قامت على العنصرية والفوقية، مقارنة بمالك بن نبي الذي فسّر أن وجود الاستعمار وممارساته ما كانت لتكون لولا العامل الذاتي المستجيب لممارسات الاستعمار من قبل المستعمر.
شغل فانون سؤالٌ جوهريٌ وهو حقيقة هويته محاولاً تفكيكها وتصفيتها من الأفكار التي نشرها الاستعمار حوله، ملصقاً إياها كصفات ثابتة ومتجذرة لا جدوى من تغييرها، ويجب – بحسب فانون – أن تتوازى المعارك الفكرية مع الكفاح المسلح، من أجل خرق وكسر سلطة الاستعمار المهيمنة على التخيلات الذاتية والمجتمعية، وهو ما يسميه “العنف المضاد” كرد فعلٍ طبيعيٍ يمارسه الشعب إثر ممارسات المستعمر ووحشيّته، وهو لا يتمثل فقط في عنف السلاح، بل في صوت الجماهير القوية وتنظيمها، فالعنف وفقا لفانون :”هو الباب الوحيد الّذي يستدرك منه المستعمَر إنسانيّته المفقودة المهانة”.
في حين اعتبر مالك بن نبي أن هذه الأفكار قد نُشرت من قبل المستعمِر بعد دراسته للتخبطات والأوضاع النفسية ومواطن الضعف لدى المجتمع المستعمَر، مستغِلا الأرض الصّلبة المتمثلة في الصراع الفكري التي تخبطت فيه المجتمعات، فالوهن الحضاري هو ظاهرةٌ عرضيةٌ لمرضٍ باطنيٍ ذاتي وهو كما سمّاه “القابلية للاستعمار” فيتخذ الفرد موقفاً ضعيفاً تجاه قضايا وطنه وأمته، فينصبُّ اهتمامه نحو تقليد الغرب نتيجة شعوره بالدونية، وهذه القابلية تشير إلى أعماق النفس والفكر، إضافةً إلى الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. يوجه مالك بن نبي مسؤولية التحرر من القابلية للاستعمار إلى طبقة المثقفين، حيث تقع مسؤوليتهم على نشر الوعي وطرد الأفكار المركبة لقابلية الاستعمار والإبقاء على الأفكار الأصيلة، بعد معرفة ودراسة الاستراتيجيات المتبعة من قبل الاستعمار، ومن أجل خلق الفاعلية نحو التحرر يجب الاعتماد على فكرة الدين كمركب للهوية الوطنية.
تلّخص الكاتبة إسهامات فرانز فانون ومالك بن نبي حول شرح استراتيجيات الاستعمار في المجال الثقافي والهوياتي وتركيزهم على خارطة ما بعد التحرر. حيث ركز فانون على جدلية الأبيض والأسود، وثنائية المستعمِر والمستعمَر، وغاص في جذور الممارسات النفسية والفكرية المعتمدة من قبل الاستعمار لفرض حكمه وسلطته، واعتبر فانون “أن الاستقلال الحقيقيّ، هو الاستقلال الفكريّ والنفسيّ من كلّ ما له صلة بالأداة الكولونياليّة”.، في حين تعمق مالك بن نبي في ثنائية الغرب والحضارة الإسلامية، أي الغوص في الجذور التاريخية لتخلف العالم الإسلامي والعربي من أجل النهوض حضارياً.
فرانز فانون من منظور نورمان أجاري
يترجم السعيد السخيري نصاً لنورمان أجاري وهو أستاذٌ في الفلسفة ومؤلفٌ كتاب “الكرامة أو الموت”. يقول أجاري أنه قرأ لفانون أثناء تبادل طلابي في البرازيل وأجهش بالبكاء. حيث انطبق تحليل فانون في فصل “الرجل الملون والمرأة البيضاء” عليه شخصياً حيث ربته أمه “البيضاء” بعد وفاة والده “الأسود”.
يتواجد الأسود في عالم حيث أوهام البيض لها صدى واقعي. حيث يُرى كوحش، مغتصب ويعامَل بناءً على ذلك. ولا يفلت من هذه اللعنة مهما فعل، يقول: “لقد انفجرت وها هو ذا من شظايا انفجاري، أنا آخر يتشكل” حيث تتشكل ذات المستعمَر أو الأسود بعيداً عنه، أو بعد التخلص منه تماماً ليصبح ملائماً للعيش في هذا العالم. في هذه المقدمة بسْط لصراع الذات في محيط مستعمَر أو حتى محيط ما بعد الاستعمار كالمجتمع الأفريقي-الأمريكي في أمريكا وهو السياق الذي يتحدث أجاري من داخله، ويحاول فهمه من خلال تحليلات فانون.
كان “مرضى” فانون يعودون في كل مرة بنفس الأعراض، رغم محاولات الأطباء والأخصائيين النفسيين إلا أن العلاج الفردي لا يمكنه حل أزمات السياق الاستعماري. لا يتوقف الأمر على الأثر غير المباشر أو غير المرئي، حيث أصبح يراه فانون أثراً مباشراً يجعل من “الجنون” حلاً منطقياً للتكيُّف. وذلك لأن الفرد يدرك أنه دون المستعمِر، وأقلَّ منه قدراً. ليس لنقصٍ فيه إنما لسلوك المحيط من حوله، حيث يمنعه الاستعمار من دخول مناطقَ معينة، ويوقفه على الحواجز ويقتله، ليظهر العصاب تفريغاً للقدرة على الفعل مع العجز عنه، أي ينقلب الفعل على الذات مسبباً اضطراباً أو عصاباً أو “جنون”. وهو في هذه اللحظة محاولةٌ لاستكمال الفعل أو بمعنى آخر؛ استرداد للحرية. يمنع الاستعمار حياة الناس ويسبب لهم صدمات بالقتل والتشويه والعنف عموماً فيحاولون استعادة عالمهم. أي أن الاضطرابات في واقع مضطرب أمر طبيعي، والأصل تغيير اضطراب الواقع “الاستعمار” حينها سيظهر السلوك طبيعياً.
أخيراً يخصص أجاري نهاية نصه عن الكرامة، وهي في تعريف الفلاسفة الغربيين خاصية إنسانية في ذات الوقت الذي كانوا يستعبدون الأفارقة فيه. فيما يبدو أن الكرامة للإنسان الأبيض خاصيةٌ أصيلة ولكنها للأسود مجهودٌ يبذل وتُكتَسب لدى باقي الشعوب بالمقاومة العنيفة. لهذا يفضل فانون الحديث عن كرامة الأرض فبدلاً من الحديث عن الكرامة كخاصية للإنسان المجرّد، تعيدنا كرامة الأرض إلى الواقع الذي سلب فيه الاستعمار الأرض، سرقها، خربها، نهبها. ربما لا حاجة لمقياس آخر ما دام الاستعمار جاثماً في البلاد.
قراءة فرانز فانون في زمن النيوليبرالية
دار مقال بشير أبو منّة حول ثلاث مواضيع أساسية وهي؛ العنف الثوري، البرجوازية الوطنية، رؤية فانون للتحرير. العنف الثوري لدى فانون هو رد فعل على ظاهرة عنيفة في جميع مستوياتها، حيث يقسّم الاستعمار الناس ويستغلهم ويشوه ثقافتهم ويحولهم إلى شعوب أدنى. كما يصفهم بالكسل والفقر والجهل. ولكن فعل الاستعمار المبني على القوة يولّد المقاومة ولا ينجح في تدجين الناس وإقناعهم بالدونية. في هذه اللحظة تظهر أهمية العنف كسبيل حتمي حيث يقول فانون “يجد الرجل المستعمَر حريته في العنف ومن خلاله” ويقول “فبالنسبة للمواطن الأصلي لا يمكن للحياة أن تنبثق مجدداً إلا من جثة المستوطن المتعفنة”.
يفهم تحليل فانون الاستعمار كمسبب رئيسي عن الأذى النفسي والاجتماعي، ويعتمد بذلك على البناء الاجتماعي للأفكار والمشاعر والتي تنشأ وتتطور داخل المنظومة الاستعمارية العنيفة. حيث يتأثر مجال علم النفس الفردي بالواقع المادي. يقول فانون في وصف تجربته كطبيب نفسي أثناء الحرب الجزائرية أن “الحرب الاستعمارية فريدة حتى في الأمراض التي تسببها” ويقول: “أن الحدث المسبب للمرض هو الحرب الشاملة”. هذا يعني أن إغفال مسببات المرض ومحاولة علاج الأعراض يحرف التشخيص عن جذور المشكلة ويوجهه نحو اتهام الذات وتذويت الدونية وفي هذا الانحراف تحقيق لإرادة الاستعمار في تشويه المستعمَر وتدجينه.
في حديثه عن ارتباط السياسي بالعسكري لدى فانون، يفصّل أبو منة دور مؤتمر الصومام الذي عقدته جبهة التحرير الوطني الجزائرية عام ١٩٥٦م بعد عامين من بدء الكفاح المسلح. حيث أنشأ هياكل مدنية لحكم الجيش وتنظيم الحياة اليومية كمنظومة مضادة للسلطة الفرنسية وقانونها. كما وضع المؤتمر قواعد حرب جديدة للمقاتلين.
ينتقد أبو منّة عدم الاهتمام بأطروحة فانون من منظورها الاشتراكي ويذكر مثلاً استعانة ادوارد سعيد بتحليل فرانز فانون حول البرجوازية الوطنية لتحليل البرجوازية الوطنية الفلسطينية، وينتقد عليه إهماله لتصور فانون حول الحل. أمّا فانون فيركز في نقده للبرجوازية الوطنية على أن خيانة البرجوازية هي خيانة اجتماعية وليست وطنية.
كما وينتقد فانون في مسألتين الأولى إقصاء البروليتاريا المدينية أو الجزء البرجوازي من الشعب المستعمَر (البرجوازية الصغيرة) حيث يرى فانون أنها غير قادرة على حمل الثورة وترتبط بالاستعمار بينما يذكر أبو منّة مثالاً حزب العمال الذي تشكّل في فرنسا تحت اسم نجم شمال إفريقيا والذي استقر في الجزائر لاحقاً. ويعزو هذا التشكّل إلى فشل الاقتصاد الاستعماري حيث لم يلبي الاحتياجات الأساسية لسكان المدن الذي تسبب بالهجرة وما تلاها من “التطرف السياسي”.
المسألة الثانية، رغم أن فانون حلل البرجوازية الوطنية ودورها في التبعية للاستعمار والاندماج في الرأسمالية بعد التحرر إلا أنه قبل بالأساطير حول البرجوازية الأوروبية “الثورية” ومقصد فانون هنا أن البرجوازية ساهمت في توجيه المجتمع نحو الصناعة والتحرر من النظم الإقطاعية ويقارن البرجوازية الوطنية في المستعمرات بمراحل شيخوختها، وليس مراحلها الأولى التي يغلب عليها «الاستكشاف والاختراع». حيث أن الإشكالية تكمن في أسطورة البرجوازية الثورية والتي ينتقدها أبو منة في النص.
ينتهي النص بخاتمة تحاول الإجابة على سؤال ما قيمة «معذّبو الأرض» اليوم بعد مرور ستين عامًا على نشره؟
فرانز فانون المثقّف المشتبك في الخطوط الأمامية
تقدم المقالة التالية تتبعاً لحياة المثقف والفيلسوف والطبيب المشتبك فرانز فانون وذلك عبر العودة واستحضار مسار حياته في المقاومة والانخراط مع جبه التحرير الجزائرية وإنتاج اسهاماته الثورية التي أصبحت اليوم دليل المقاومين ضد الظلم والاستعمار والاضطهاد في كل مكان في العالم، وذلك من خلال تعري وانكشاف الأنظمة الاستبدادية والرأسمالية على كل من الأصعدة المحلية/الوطنية والعالمية خلال فترة جائحة فايروس كورونا وصراع المغلوبين والمضطهدين مع المُستبدين والرأسماليين في الأنظمة وتوسع رقعة النضال لتصل روح نصوص فرانز فانون إلى قلب الدولة الإمبريالية العالمية – الولايات المتحدة الأمريكية-. إلا أن المقالة لا تتوقف فقط عند حدي العرض وتتبع زمني فقط لمسار فانون، وإنما توضح كيفية ممارسة فانون لنظريته عبر التطبيق في الميدان مع المضطهدين، واختيار طريقه كمشتبك في الخطوط الأمامية مع الشعوب في ثوراتها، لا من خلال التنظير عليها وعلى كيفية نضالها من فوق بطريقة هرمية عمودية، وإنما من تحت إلى أعلى لا العكس.
وتناقش المقالة مقولات فانون الأساسية في الوعي الثوري وحق المغلوبين في حمل السلاح والقتال ضد المستبدين بشكل صريح، دون التماهي مع خطاب اليسار الليبرالي المتماهي مع منظومة الاستبداد، ونقده لدور الأكاديمي والمثقف في الثورة وموقعه فيها، إذ يجب عليه الانخراط بها عضوياً من أجل تحقيق هدف النضال والعنف الثوري، وفق روح ومفهوم الثوار، من خلال نضالهم اليومي متجاوزاً بهذا الوجود القالب الغربي ونظامه في التنظير للثورة وأسسها. إضافةً إلى نقده دور البرجوازية الوطنية التي تستغل النضال من أجل الحرية باستخدامه كأداة من أجل تحقيق مصالحها والوصول إلى الحكم. ثم تذهب المقالة إلى مناقشة رفض فانون الاضطهاد كمبدأ، ودعوته إلى النضال المستمر ضده في كل مكان وزمان وعدم التوقف عند حد التحرر من الاستعمار المباشر فقط، ثم تحويل الحكم إلى حكم استبدادي بوجوه محلية، وإنما رفض العنصرية وافرازاتها كمبدأ متجذر وعدم تحويل التفكير أثناء النضال إلى التفكير وفق نمط المستعمِر، أو الضياع في خط واحد ضمن ثنائية السيد/العبد بشكل مسطح ومبسط فقط وإنما تجاوز كل هذه القوالب والأنماط الكلاسيكية الغربية من أجل حرية الإنسان كإنسان لحفظ كرامته وحقه في الحياة دون استبداد.