يقدّم لكم فريق “باب الواد” أربعَة مقالاتٍ حجزت مكانها على “رادار” لشهر تموز، أوّلها مقالٌ يناقشُ مفهوم الحقّ الفلسطينيّ الأصيل من خلال رواية “عائدٌ إلى حيفا”، انطلاقاً من أنَّ الحقّ الثوريّ لا يُستجدى ولا يُقدّم، بل يُنتَزع انتزاعاً، ولا يكون سداده إلا بالقتال. ثمّ نعرّجُ على علاقة المسجد الأقصى بالهبّات الشعبية وضرورة العودة لدراستها بتطوُّراتِها الدقيقة لإدراك صورة أيّةِ مُواجهةٍ مُستقبليةٍ مُتوقّعةٍ. وانتقالاً إلى الطبيب المتطوّع غسان أبو ستّة، يحدثنا عن تجربته الطبية في معاينة جرحى مسيرات العودة في غزة، والتي بلغت أعداداً كبيرةً احتاج معظمها إلى ترميمٍ وتجميلٍ، في حين اقتصرت الإمكانيات الطبية على تقديم الإسعافات الأولية ووقف النزيف. وأخيراً، نلقي نظرةً على منظّر الحرب البروسي كارل كلازوفيتز وقوانين الحرب التي تحتّم معرفة أرض المعركة، وأهمية العامل البشري والمعنوي في حسم الحروب والمعارك، فضلاً عن تشكُّل هويةٍ جماعيةٍ وإرادةٍ للمقاومة، وهو ما تفتقده المجتمعات “ما بعد البطولية”.
عائدٌ الى حيفا: الحق في المفهوم الثوري
ضمن ملفٍّ أعدّته مجلة “الآداب” اللبنانية، بمناسبة الذكرى السادسة والأربعين لاستشهاد غسان كنفاني، تُقدّمُ أميرة سلمي قراءةً في مفهوم “الحق” بمعناه الثوريِّ والأصيلِ في رواية كنفاني الخالدة “عائدٌ إلى حيفا”، بعيداً عن التأطير القانونيِّ الزائفِ. تتناول الروايةُ، وِفقاً لسلمي، قضيّة الحقِّ في أكثر صُورِها تعقيداً؛ الحقُّ الذي يحمله ويحقِّقُه الفلسطينيُّ، ويكون، وحدَهُ، مسؤولاً عنه. فالإنسانُ، كما نراه في رواية كنفاني، هو حالةٌ مستمرّةٌ من التحوُّل من خلال فعله، وما يُزرَع فيه يوماً بعد يومٍ.
ووفقاً للكاتبة، ليس الحقُّ لدى كنفاني نضالاً من أجل المُلكية، أو إرثاً، أو حتّى صراعاً نشبَ بين الحقِّ والباطل، بلّ لا يُمكنُ للحقِّ أن “يكون” بمعزلٍ عن إرادة القتال لأجله. ففي رواية “عائدٌ إلى حيفا”، أدرك بطل الرواية، سعيد س، هزليةَ ولاجدوى الجدلِ حول الأسباب الحقيقية للهزيمة والخسارة؛ فما يهمُّ في نهاية المطاف هو حقيقتهما. تُجادِلُ سلمي بأنّ الفكرة الأساسية وراءَ رواية “عائد إلى حيفا” هي كون الحقِّ لا يُقدّم ولا يُستجدى، بل يُنتَزعُ انتزاعاً في المعركة، وأنّ انتظار عطف المُستعمِر يعني أن يكون الإنسانُ غير قادرٍ أو غير راغبٍ بالقتال من أجلِ التحرير. فحين رفض العبدُ المتمرّدُ طاعة سيّدِه من أجل الحصول على حريته في مسرحية “سيزير”، عاصفة، تَساوى الحوارُ لدى الثائر مع الطاعة؛ كلاهُما لا يسلُكان طريق الحرية الذي يصبو للسيطرة الكاملة على المصير.
تخلُصُ الكاتبةُ في مقالها أنّه وفي حالة سعيد س، كان من الحتميِّ أن تُنْكِره مدينتُه حيفا، كما أنكره ابنُه دوف (خلدون سابقاً)، فعجْزُه عن القتال لا يبرِّر جريمةَ المستعمِر، كما لا يبرِّر التخاذل أو الانهزام، وتُنهي الكاتبة بالقول: “أن يكون المرءُ مهزوماً، أن يخسرَ حقَّه، فذلك، في رأي كنفاني، دَيْنٌ على الإنسان الحرِّ أن يسدِّدَه، إذا لم يُرِدْ أن يتحوّلَ إلى عبدٍ مذْنبٍ. وهذا السداد لا يكون إلّا بالقتال. دوف، الابنُ المفقودُ، هو عارُ الفلسطينيّ الذي فقد أرضَه. لكنّ خالد، المقاتلَ من أجل المستقبل، هو الشرفُ الباقي”.
للقراءة، من هنا.
على مرِّ العقودِ الثلاثةِ الماضية، كان المسجدُ الأقصى شرارةً تُفجّر هبّاتٍ شعبيةً مُمتدّةً، عُنوانها الرئيسي الدفاع عنه، بدءاً من عام 1990 إثر ارتكاب الاحتلال مجزرةً داخل باحات المسجد استشهد على إثرها 23 فلسطينياً وأُصيب العشرات، وصولاً إلى هبّة الأسباط عام 2017 والتي انطلقت رفضاً لسعي الاحتلال ومحاولتِه نصْبَ بواباتٍ إلكترونيةٍ على أبواب المسجد، وما توسَّط الهبّتين، من هبّاتٍ مُتتاليةٍ مُروراً بهبّة النفق عام 1996، إلى انتفاضة الأقصى عام 2000، وصولاً إلى انتفاضة السكاكين عام 2015.
ففي دراسةٍ جاءت تحت عنوان “المسجدُ الأقصى وآفاقُ المواجهة القادمة”، الصادرة عن مؤسّسة القدس الدولية في الذكرى الأولى لهبّة الأسباط، يستعرضُ الباحث زياد ابحيص علاقة المسجد الأقصى بالهبّات الشعبية؛ إذ كان المسجدُ الأقصى شرارةَ الانطلاق الأساسية لكلّ الهبّات الشعبية في الضفّة المُحتلة، ما يستدعي العودةَ لدراستها بتطوُّراتِها الدقيقة لإدراك صورة أيّةِ مُواجهةٍ مُستقبليةٍ مُتوقّعةٍ، والتي قد تأتي في ذات ظروف الهبّات الشعبية السابقة المُتمثّلة بتصعيد الاحتلال عُدوانَه على المسجد الأقصى وتصاعُد وتيرة الاستيطان، وما يُقابلُ ذلك من إفلاس المستوى الرسمي الفلسطيني وتراجُعِ الفصائل الفلسطينية عن أداء مسؤولياتها، وهو ما دفع الشارع الفلسطيني للبحث عن بديلٍ رادعٍ، تمثّل عام 2014 بردِّ المقاومة على حرق الشهيد أبو خضير، ثمّ هبّة السكاكين التي انطلقت عام 2015 رفضاً لتقسيم المسجد الأقصى.
فيما كانت المواجهة التي حملت إجابةً ناضحةً مُتكاملةً؛ هبّة باب الأسباط في تموز 2017، والتي تمكّنت من فرض تراجع الاحتلال تراجُعاً كاملاً عن مخطّطاته التي تضمّنت فرضَ البوابات الإلكترونية على أبواب المسجد الأقصى، وذلك لتكامل ثلاثة عوامل تمثّلت بالعمليات الفردية والاعتصام الجماهيريِّ والتفاعُل الخارجيِّ، لينتصرَ الفلسطينيونَ في معركتهم بعد أسبوعين من استمرارها.
كما أنّ الاعترافَ الأمريكيَّ بالقدس المحتلة عاصمةً لكيان الاحتلال شكّل أرضيةَ مواجهةٍ قادمةٍ قد تنطلقُ من الانتصار في هبّة باب الأسباط التي يُحاولُ الاحتلال انتزاعه مُجدّداً من خلال القرار الأمريكيِّ، فيما أكّدت تجربةُ بابِ الأسباط أنّ قوّة الاحتلال العسكرية لا يُمكنُ أن تنتزع مكانة القدس والمسجد الأقصى من صدور الفلسطينيين، ما يُنبِئُ بمعركةٍ جديدةٍ ستندلعُ في القدس للدفاع عن هويّة المسجد الأقصى التي يُحاول الاحتلال المساس فيها، فيما تشكّل مواصلة الاحتلال اعتداءاته بحقّ منطقة باب الرحمة بما فيها المقبرة، عنواناً لهبّةٍ شعبيةٍ جديدةٍ قد تُضاف لسلسلة الهبّات الشعبية التي تندلعُ للدّفاعِ عن هويّة المسجد الأقصى ومنع تهويده.
للقراءة، من هنا.
مسيرات العودة من خلال مبضع جرّاح
بين مئاتِ الجرحى في مشفى العودة، وجد الطبيبُ الجرّاح غسان أبو ستّة نفسه، وقد بات مطلوباً منه والطاقم الطبي تنفيذُ عملياتِ تجميلٍ وترميمٍ لما يُقارِب 500 جريحٍ، فيما بلغ عددُ الجرحى في المشفى 1200 جريحٍ من مُجملِ 9000 وُزِّعوا على باقي مشافي قطاع غزة، وذلك منذ 30 آذار حتى 10 أيار المُنصرِم. وقد تضاعفت أرقام المُصابين برصاص قوّات الاحتلال خلال قمعِها مسيرات العودة الكبرى، بصورةٍ سريعةٍ وكبيرةٍ، خلافاً لما كان مُتوَقّعاً وما تحضّرُ له الأطبّاء في مشافي غزّة. فيما أعادت أعمارُ المُصابين، التي تراوحت بين 15-25 عاماً، الأطباءَ إلى فترة الانتفاضة الأولى عام 1987، إذ كانت تقودُ هذه المرحلةُ العمريةُ المعركةَ، وتدفعُ الثمنَ بالرصاص والاعتقال.
غسّان أبو ستة روى تفاصيل تجرُبته التطوّعيةِ خلال مسيرات العودة، في ندوةٍ عقدتها مؤسّسةُ الدراسات الفلسطينية مع معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية بيروت، ونشرها الصحافيُّ اللبنانيُّ منير عطا الله في مجلة “الدراسات الفلسطينية”، مُسلِّطاً الضوء على يوميات طبيبٍ مُتطوّعٍ عاش التجربة في مشافٍ تُعاني أصلاً من تبعات الحصار الذي يفرضُه الاحتلال على غزة منذ 12 عاماً؛ فرغم إقامة مراكزَ صحّيةٍ ميدانيةٍ، إلا أنّ استخدام الاحتلال الرصاصَ بشكلٍ كثيفٍ، جعل عمل تلك المراكز مُقتصِراً على تقديم الإسعافات الأولية ووقفِ النزيفِ وعلاج حالات الاختناق والإغماء.
بذلك، كان 14 أيار من الأيام الصعبة التي عايشها الجراح غسّان في غرف العمليات وأروقة المشفى التي لم تتّسع للمُصابين، فنُصِبت خيمةٌ في موقف السيارة وحُوّلت القاعةُ المُخصّصةُ للمحاضرات مكاناً لاستقبال الجرحى المُصابين بالرصاص، ليُعلن مع انتهاء ذاك اليوم استشهاد 63 فلسطينياً، فيما كان 40 مصاباً في حالة الموت السريريِّ، ومنهم 44 عملية بتْر.
غازُ أعصابٍ ورصاصُ دمدمٍ وحيٍّ، هو ما استخدمه الاحتلال في قمع مسيرات العودة الكبرى، ما أدّى لحدوث تهتُّكٍ كبيرٍ لدى المُصابين في أطرافهم وصلت للأوردة الدموية والأنسجة الرّخوة، ما يُؤكّدُ أنّ قوّات الاحتلال لم تُطلقِ النار بهدف القمع فقط؛ بلّ لإلحاق أذىً دائمٍ في أجساد المُصابين، ليصبح معظمُهم يعانون من حالات إعاقةٍ دائمةٍ مع ارتفاع عمليات بتْر الأطراف السُّفليةِ للمُصابين بالرصاص المتفجّر.
للقراءة، من هنا.
كلاوزفيتز في جبل عامل
في مقالٍ مُقتضبٍ وشيّقٍ نُشر في صحيفة “الأخبار” اللبنانية، تحت عنوان “كلاوزفيتز في جبل عامل”، يتناولُ عامر محسن فلسفة منظّرَ الحرب الجنرال البروسي، كارل كلاوزفيتز (1780-1821)، والذي عاصر وشَهِد أهمَّ أحداثِ التاريخ ومعاركه. يشبّه كلاوزفيتز الحرب بالتّجارة: نشاطٌ بشريٌّ اجتماعيٌّ تتصادمُ فيه المصالحُ، له نتيجةٌ، وعُملتُه الدماء. فعلى الرغم من هوْلِ وكثرةِ ما كُتِب وقيل عن عِلم الحرب وقوانينها وحساباتها، إلا أنّه، ووفقاً لكلاوزفيتز: “كلُّ ما يُمكن أن تتعلّمه عن الحرب عبر القراءة والدراسة هو أن تعرف ما حصلَ في الماضي…وهذا لن يساعدك إلّا بقدرٍ محدودٍ في ميدان معركةٍ لم يتكوّن بعد”.
يرى المُنظّر البروسي أنّ الحرب كالفن، لا كالعلم، عليكَ فيها الابتداع والارتجال، ولا يُمكنُ أبداً الاعتماد على ما كُتِب على الورق؛ إذ ثمّة علاقةٌ جدليةٌ في الحرب، كما في كلِّ شيءٍ، بين النظرية والواقع، ولا يُمكنُ للمناورات والسياسة والتجهيز أن يُنتِجوا شيئاً بعيداً عن الميدان والاختبار التاريخيِّ الحقيقيِّ، أيّ المعركة، حيثُ يكونُ الثمن دماً، وتبقى الإرادة البشرية العاملَ الحاسمَ، ومن يتمكّنُ من كسب واستثمار الإرادة والتصميم والقُدرة على التضحية، هو من ينتصر.
وعلى وقْعِ كلام كلاوزفيتز، يتناول محسن حالة المجتمعات الغربية “ما بعد البطولية”، والتي انتقلت عَدواها إلى الكيان الصهيوني. ترفضُ هذه المجتمعات تقديم التضحية أو دفع الثمن مقابل الحرب، وترى في الحروب، والتي بمعظمها حروبٌ خارجيةٌ، “قطاعاً” يخدمُ فيه العسكريون “المحترفون”، تكون أولويّتُها تقليلَ الضحايا. فالنصر مُتوقّعٌ ولا مكان لسرديّات لتبرير الخسائر أو تزيّينها. بالمقابل، فإن العناصر المعنويّة كالرموز والعقائد والتقاليد، أساسُ تقريرِ مصيرِ المواجهة لدى كلاوزفيتز، هي كلُّ ما يملكه الضعيف المُقاوم، وعامل التفوق الوحيد في وجه عدوٍّ “ما بعد بطوليٍّ”، وهي ما تعطي الشعوب هويةً جماعيةً وإرادةً للمقاومة.
ومن وحي فلسفة كلاوزفيتز في العلاقة بين الحرب والسياسة والمجتمع، يختمُ محسن بالقول إن عقليّة “ما بعد البطولية” هذه هي ما هزم إسرائيل في حرب عام 2006، والتي قدّم فيها جنوب لبنان نموذجاً في التنظيم ومعرفة العدو وتفعيل الإرادة والاستعداد للتضحية. كما ويخلُص إلى أنّ حسابات صراعنا مع العدو الصهيوني ليست “تقنيةً”، أو متعلقةً بمعادلة عسكرية واضحة، ويضيف: “كما قال كلاوزفيتز، لا معنى لمناورةٍ إلّا إن كانت تُتوَّجُ بمعركةٍ، ولا معنى للمعركة إلّا إن كانت تخدمُ الهدف النهائي للحرب -وحربُ تمّوز لا معنى لها إلّا إن كانت فصلاً في قصّةٍ نكتُبها، هدفُها النهائيُّ، والوحيدُ، هو هزيمة الصهيونيّة وتحرير فلسطين.”
للقراءة، من هنا.