اجتهد الباحثون الصهاينة من أجل تأكيد الحق اليهودي في فلسطين من خلال أبحاثهم الأركيولوجية وعبر الحفر والتنقيب اللذين أجروهما في فلسطين وجوارها، ساعين إلى تأويل كل المعلومات المستجدة لمصلحة أفكارهم التوراتية.
يمكنكم قراءة الجزء الأول هنا.
في عشرينيات وثلاثينيات القرن الحالي، بدأ عود الصهيونية يشتد، خاصةً بعد تصريح بلفور وتقسيمات سايكس- بيكو والانتداب البريطاني على فلسطين، إذ استفادت الصهيونية من هذا التحول أيَما إفادة. شرع الباحثون الصهاينة، آنذاك، يجهدون لتأكيد الحق اليهودي في فلسطين من خلال أبحاثهم الأركيولوجية وعبر الحفر والتنقيب اللذين أجروهما في فلسطين وجوارها، ساعين إلى تأويل كل المعلومات المستجدة لمصلحة أفكارهم التوراتية.
كان من أبرز الباحثين في آثار فلسطين، من دعاة علم الآثار التوراتي، عالم الآثار الأمريكي وليام فوكسويل أولبرايت، الذي ترأس “المدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية” في القدس من عام 1919 حتى عام 1936. سُميّت المدرسة فيما بعد باسمه، وقد سار على نهجه بنيامين مازار، مؤسس الفرع الصهيوني لعلم الآثار التوراتي. أجرى كلاهما عمليات تنقيبٍ واسعةٍ في المدن الفلسطينية (مجدو)، و(عسقلان)، و(نابلس)، و(أريحا)، و(الخليل)، و(القدس)، و(بيسان).
التوراة في يد، والمجرفة في يد
اتضح لاحقاً أن أولبرايت، ومعاونيه وتلاميذه، تعاملوا تعسفياً مع كثير من الاكتشافات الأثرية على أساس أنها توراتية، دون بذل الكثير من الجهد لمعرفة حقيقة هذه الآثار وتاريخها. ولتأكيد تلك الحقوق التاريخية والدينية، نقّب الأثريون والباحثون كلَّ مكان ورد اسمه في التوراة ، لتكون”التوراة في يد والمجرفة في يد”.
تأسيساً على ما سبق، ظهرت إلى الوجود مدارسُ فكريةٌ واضحةُ المعالم تختص بدراسات آثار العهد القديم، وتنطلق من الافتراض بصحة العهد القديم، ومن ثم الاعتماد عليه مصدراً تاريخياً لتاريخ الأرض المقدسة (فلسطين)، وتاريخ وجود “دولة إسرائيلية” في تلك الأرض. بذلك، كان البحث التاريخي والأثري في بلادنا فلسطين “ليس مجرد إعادة بناء نزيه للماضي، ولكنه يتعلق بموضوع بالغ الأهمية يتصل بالهوية وميزان القوى المعاصرة”.[1]
تم إخضاع المكتشفات الأثرية في المشرق العربي، وبالتالي تاريخ بلادنا فلسطين لمصلحة الخطابين السياسي والكتابي، إذ يمكن اعتبار “أصول التنقيبات الآثارية الحديثة، منذ دخول نابليون إلى مصر، على أنها مكيدة دولية، استخدمت القوى الغربية، من خلالها، الماضي الكتابي، والكنوز الأثرية التي في المنطقة، من أجل سعيها لتحقيق المكاسب السياسية، ولإضفاء الشرعية على مصالحها الإمبريالية”.[2] كانت “العلوم كالتاريخ وعلم الآثار وغيرها ليست إلا أدوات في يد أصحاب القوى، ليبسطوا من خلالها هيمنتهم ويبرروا استعمارهم”.[3]
جرى استخدام علم الآثار بصورة فعّالة لإقصاء الفلسطينيين عن تاريخهم وانتحال تراثهم الثقافي. في هذا السياق، لعب علم الآثار التوراتي دوراً هاماً، وكان هدفه إيجاد علاقة بين “دولة إسرائيل” الحديثة والعصر الحديدي القديم. نتج عن ذلك أن الطبيعة التعددية لتاريخ فلسطين قد اختفت فعلياً من الوعي العام، واختفى معها أيضاً التاريخ والتراث الثقافي العربي القديم.
كما وجرى انتحال العديد من المواقع الأثرية والتاريخية والأماكن المقدّسة في فلسطين، التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من التراث الثقافي الفلسطيني، بصفتها “توراتية” أو “يهودية”. في هذه الأثناء، تواصل “إسرائيل” مساعيها لتهويد وتهجير الذاكرة الفلسطينية، ليتضح أن “الصراع حول الماضي إنما هو دائما صراع من أجل الهيمنة والسيطرة في الحاضر”.[4]
في هذا الصدد ، يقول الباحث دفدسن: “إن علم الآثار في فلسطين شدد على مواقع العهد القديم . إن العهد القديم، وبالتالي التاريخ اليهودي القديم في فلسطين، (كما هو مُصوَّر في التوراة)، هو الذي سعى اللاهوتيون إلى إثبات صحته. وحتى أولئك المسيحيون، الذين اعتبروا فلسطين وطناً ليسوع، كانوا سيجدون أنفسهم، جراء اتباعهم تغطية علم الآثار في فلسطين، أنه قد تمت إعادة توجيههم في فلسطين نحو الملكين داود وسليمان، وخلفائهم ما قبل المسيحية، رغم بقائها ذات أهمية دينية. ففيما سعي الصهاينة مادياً إلى تحويل فلسطين إلى وطن قومي يهودي، ساهم عمل علماء الآثار في تحويل فلسطين، على الصعيد النفسي، إلى أرض يهودية”.[5]
كان إنتاج تواريخ “إسرائيل” جزءاً مهماً من الدعاوى الإمبريالية في المنطقة، وذلك منذ القرن التاسع عشر، وصاعداً، إذ يوفر تسويغاً عقائدياً لجملة القيم الغربية. أصبح تطوير علم الآثار في فلسطين تعبيراً ذا أهمية عن المطامع الإقليمية للقوى الأوروبية، حيث لم يكن استكشاف المنطقة ورسم خرائطها، وتسجيل أوابدها القديمة، ووصف سكانها وممارساتهم، أعمالاً بحثيةً نزيهة، ومبرأة من الأغراض الخاصة، مع تشكيلها مساهمات مهمة على صعيد المعرفة العلمية. كما تجلّى موقف التفوق المتعالي، الذي طبع أسلوب كتابة التقارير، في العديد من تقارير مشاهير الرحالة الكثيرين.
لم يكن اهتمام هؤلاء بفلسطين صادراً عن اهتمامٍ بالمنطقة، نتيجةً لأهميتها الخاصة، بمقدار ما كان منصباً على حقيقة أنها كانت موقع الأحداث الكتابية. هنا بالذات كانوا يأملون في الاهتداء إلى جذورهم. ومن حيث الجوهر، كثيراً ما جرى إفراغ فلسطين، والتاريخ الفلسطيني من أي معنى حقيقي، إذ جرى “تجريدها” [فلسطين] من “الصفة التاريخية” كما يقول “ملمن”، أو “طمسها” [إسكاتها] كما أقول أنا [وايتلام] .[6]
إنّ الأوضاع الحالية، التى أدت إلى إنشاء الكيان الصهيوني المسخ، تشبه إلى حد بعيد الأوضاع في العصور القديمة، كما صورتها الدراسات التوراتية، إذ يبدو أن هذا العالم قد عكس المفاهيم الصهيونية الخاصة بفلسطين، والتي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر، والذي رفع شعار: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
إن ما تصوره الدراسات التوراتية، منذ بدايتها حتى اليوم ،هو تصوير فلسطين من دون سكان، أو على أكثر تقدير كأنّ سكانها كانوا مؤقتين، سريعي الزوال، ينتظرون قدوم ذلك الشعب الذي لا يملك الأرض. ونتيجةَ ذلك، كان هناك إنكار لأيّ استمرارية أو شرعية للتاريخ الفلسطيني، على قاعدة إنْ لم يكن هناك فلسطينيون في العصور القديمة، فلا يمكن أن يكون ثمّة تاريخ فلسطيني.
هيمنت تلك “الحقيقة” المزعومة على خطاب الدراسات التوراتية، خلال معظم القرن الحالي، وأتاحت مجالاً لتطوير كثير من فرضيات التراث التوراتي. أسهمت هذه “الحقيقة”، أكثر من أي شيء آخر، في إهمال وتحقير الشعب الفلسطيني وثقافته، مع إغفال التاريخ الذي بقي آلافاً من السنين لفلسطين؛ ذلك التاريخ الذي تعامى عنه علماء الآثار بالمعنى الحرفي للكلمة.
جردت الدراسات التوراتية لفظ “فلسطين” من أي معنى كامن فيه، ولم يعد من الممكن فهمه إلا إذا أُعيد تعريفه من خلال لفظ ديني أو لاهوتي آخر، كاللفظ المستعمل للدلالة على “الأرض المقدسة” أو “أرض إسرائيل”، ولكن ما يلفت النظر أكثر من ذلك، أنه في حين أن لفظ “فلسطين” قد يكون مستعملا بشكل واسع، على الرغم من تجريده من أي معنى لذاته، فإن لفظ “فلسطينيون”، باعتبارهم سكان هذه الأرض، هو استعمال نادر للغاية في الدراسات التوراتية، فإن كانت هناك أرض تدعى فلسطين، فلماذا لا يمكن تسمية سكانها بـ”الفلسطينيين”؟!
الآثار تدحض الرواية التوراتية
في السنوات العشرين الماضية أو ما يقاربها، أُلقيت ظلالٌ من الشك العميق على إمكانية كتابة تاريخ لـ”إسرائيل”، استناداً إلى روايات التوراة. ووصل ببعض المؤرخين إلى حد التشكيك، من حيث المبدأ، بإمكانية كتابة تاريخ من هذا النوع، إذ ما يزال البحث عن تاريخ “إسرائيل” غامضاً، كما كان دوماً. كما أنّ أي محاولة للتوفيق بين البيّنات التوراتية وغير التوراتية، إثباتاً لتاريخانية “الدولة”، سرعان ما دخلت مرحلة الانهيار، التي ما زالت متواصلة حتى اليوم.
منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين ومطلع ثمانينياته، بدأ جيل جديد من علماء الآثار استخدامَ وتطوير أسلوب مستحدث في التنقيب؛ وهو أسلوب المسح الميداني الكامل لمناطق جغرافية معينة (Regional Survey)، بدلاً من الحفر في مواقع متباعدة ومنعزلة عن بعضها. في هذا السياق، جهّزت جامعة “تل أبيب” فِرَق تنقيب متنوعة مزودة بعلماء من شتى الاختصاصات لمساعدة علم الآثار. مسح أفرادها كل متر من مناطق الهضاب الفلسطينية، سيراً على الأقدام.
عملت تلك الفرق، خلال العشرين سنة الماضية ،على جمع معلومات غزيرة أحدثت ثورةً في علم آثار فلسطين. وكلما كانت المعلومات الأركيولوجية تتراكم ويتم الربط بينها وتحليلها، تبين للمؤرخين والآثاريين صعوبة ملاءمة هذه المعلومات مع الرواية التوراتية عن أصول “إسرائيل” في كنعان/فلسطين، وعن نشوء ما يدعى بـ”المملكة الموحدة”، ومملكتي السامرة ويهوذا.
دفع ذلك واحداً من ألمع علماء الآثار في “إسرائيل”، وهو إسرائيل فنكلشتاين (Israel Finkelstien)، إلى الدعوة لتحرير علم الآثار الصهيوني من سطوة النص التوراتي. وفي ندوة عقدتها جامعة “بن غوريون” عام 1998، وموضوعها “أصول إسرائيل”، أكّد فنكلشتاين أنّ المصدر التوراتي الذي تحكّم بماضي البحث في أصول “إسرائيل” قد تراجعت أهميته في الوقت الحاضر، ولم يعد من المصادر الرئيسية المباشرة، إذ إن حمل أسفار التوراة، التي دُونت بعد وقت طويل من الأحداث التي تتصدى لروايتها، طابعاً لاهوتياً يجعلها منحازة، الأمر الذي يجعل من البحث عن بذور تاريخية في المرويات التوراتية عملية بالغة الصعوبة، هذا إذا كانت ممكنة من حيث الأصل. من هنا يرى فنكلشتاين ضرورة استقراء الوقائع الأركيولوجية استقراءً موضوعياً وحراً، بمعزل عن الرواية التوراتية.[7]
يُعدّ من أبرز رواد هذا الاتجاه البروفيسور طمسن، أستاذ علم الآثار في جامعة ماركويت في ميلووكي بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي حورب بسبب آرائه المعارضة للتوراتيين التقليديين، إذ طُرد من منصبه في العام 1992، لأنه دعا في كتابه الذي صدر في العام نفسه، وعنوانه “التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي” إلى “نقض تاريخية التوراة”؛ أي عدم الاعتماد على التوراة كتاباً لتاريخ المنطقة والحضارات، مقابل اعتماد الحفريات الأركيولوجية (الأثرية) وثروة الآثار الكتابية القديمة كمصادر لإعادة كتابة تاريخ المنطق، قائلاً: “إن أي محاولة لكتابة تاريخ فلسطين في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، أو بدايات الألف الأولى قبل الميلاد، على الضوء التام لمصادر الكتاب المقدس، لتبدو على الفور محاولةً فاشلةً وميئوساً منها، بل يمكن اعتبارها محاولة هزلية بالكامل، وتبعث على الضحك والفكاهة. إن قصص العهد القديم ما هي إلا مأثورات وحكايات كُتبت أثناء القرن الثاني قبل الميلاد. وإنه مضيعة للوقت أن يحاول أي إنسان أن يثبت مثل هذه الأحداث التوراتية من خلال علم الآثار القديمة، فالعهد القديم ليس له أي قيمة كمصدر تاريخي”. [8]
عَمَلَ العلاّمة كيث وايتلام، أستاذ العلوم الكتابية في قسم الدراسات اللاهوتية بجامعة سترلنغ بالمملكة المتحدة، على مراجعة المؤلفات التي تعاملت مع تاريخ فلسطين القديم، وأدرك في حينها مدى توغل الخطاب الاستشراقي في الكتابات عن تاريخ فلسطين. أشار وايتلام إلى أن هناك عملية طمس متعمد ومبرمج من قبل الحركة الصهيونية لكثير من الدلالات التاريخية للمكتشفات الأثرية في فلسطين، ومحاولة تفسيرها بطريقة مغلوطة في أغلب الأحيان، ليتوصل في كتابه ” تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني ” إلى “أن صورة ماضي إسرائيل، كما وردت في معظم فصول الكتاب العبري، ليست إلا قصة خيالية؛ أي تلفيق للتاريخ”. [9]
كانت الصفعة القاسية والضربة القاصمة، التي تلقاها الباحثون عن “إسرائيل القديمة” في فلسطين، هي تلك التي رماهم بها عالم الآثار الصهيوني، أستاذ قسم الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب البروفيسور، زئيف هرتسوغ في تقريره الموسوم بـ”التوراة: لا إثباتات على الأرض”، الذي نشرته جريدة “هآرتس” العبرية بتاريخ 18/11/1999. ورغم أننا لا نتفق مع كل المنطلقات النظرية للعالم الصهيوني، أو مع بعض استنتاجاته التي وصل إليها بخصوص بعض جوانب التاريخ الفلسطيني القديم، إلا أن ذلك لا يمنعنا من إدراك أهمية بحثه.
يذكر هرتسوغ أنه: “بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في أرض فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، لم يكن هناك شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط مصر، ولم نصعد من هناك، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان”. ويستطرد هرتسوغ قائلاً: “من المعتقد أن سكان العالم كله، لا مواطني إسرائيل وأبناء الشعب اليهودي وحدهم سيذهلون لسماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار الذين يتولون الحفريات في أرض إسرائيل [فلسطين] منذ مدة من الزمن”.
في العشرين سنة الأخيرة، حدث انقلاب حقيقي في نظر علماء الآثار الصهاينة إلى التوراة باعتبارها مصدراً تاريخياً، حتى أن أغلبية المنشغلين في النقاشات العلمية في مجال توراة آثار وتاريخ “شعب إسرائيل”، الذين كانوا يبحثون في الأرض عن البراهين والدلائل للحكايات الواردة في العهد القديم، يتفقون الآن على أنّ مراحل تكون “شعب إسرائيل” كانت مغايرة تماماً لما يوصف في التوراة.
يبدو أنه من الصعب قبول ذلك عند كثيرين، لكن من الواضح للعلماء والباحثين اليوم أن “شعب إسرائيل” لم يُقم في مصر، ولم يَتُه في الصحراء، ولم يحتل الأرض من خلال حملة عسكرية، ولم يستوطنها من خلال أسباطه الاثني عشر. والأصعب من ذلك أيضاً هو هضم الحقيقة التي تتضح، رويداً رويداً، بأنَّ مملكة داود وسليمان الموحدة التي وصفتها التوراة على أنها دولة عظمى إقليمية، كانت في أقصى الأحوال مملكة قبلية صغيرة. إضافةً إلى ذلك، يُتوقع عدم ارتياح كل من سيضطر إلى العيش مع المعلومة القائلة أنّ “يهوه إله إسرائيل كان متزوجاً، وأن الدين الإسرائيلي القديم تبنّى التوحيد فقط في أواخر عهد المملكة وليس على جبل سيناء”. [10]
في مقابلة مع إسرائيل فلنكشتاين، مدير كلية الآثار في تل أبيب، قال “إن الحفريات الأثرية سيطر عليها نص التوراة، الذي كان يعتبر مقدساً، وكان ينتظر أن تصدق الحفريات وتؤكد الروايات التوراتية. وحتى عام 1960 لم يكن أي عالم آثار يشك في التاريخية المقدسة لرحلات الآباء (أي أنبياء التكوين والخروج). وكان المهم العثور على موجودات أثرية تؤكد النص. لكن منذ ذلك الحين، تقبع الأثريات وسط معمعة. بعد ذلك، جرّب علم الآثار معرفة وفق أيّ مقاييس يتطابق الشاهدان: النص والأثر. درس معظم الباحثين تاريخ العبرانيين والإسرائيليين، استناداً إلى التواتر السردي للنص: مرحلة الآباء، والوصول الى مصر، ثم الخروج وغزو بلاد الكنعان؛ لا الأرض الموعودة، ثم الاستقرار وإنشاء مملكتي إسرائيل واليهودية”.
ويستطرد فلنكشتاين بالقول: “إننا اليوم نسير الطريق بالعكس؛ من الأكثر حداثةً حتى الأقدم. لقد جاهرنا لرؤية تاريخ قدماء العبريين يعيشون في إسرائيل، منطلقين من وجهة نظر هؤلاء، الذين كتبوا هذا التاريخ القديم في مرحلة متأخرة. لقد مكنتنا الحفريات من معرفة شروط حياة الناس في تلك العصور. انطلاقاً من ذلك، يمكننا أن نجرب فهم: لماذا وكيف كتبوا هذا القسم أو ذاك من النص التوراتي؟ لقد كُتب النص أولاً وتقريباً قرابة نهاية مملكة يهوذا، وتحت حكم يوشيا أي في القرن السابع ما قبل الميلاد، وأُكمل اثناء النفي في بابل والعودة الى إسرائيل تحت حكم الثوار، أي في القرن السادس. وبعدها، فإن قسماً كبيراً من التوراة كان أسطورياً دعائياً. وما كُتب أيام يوشيا كان لدعم توسع مملكته. وليس معنى عدم مطابقة الأثريات المحيطة في مصر وآشور مع نص التوراة، أن النص مبتدع كلياً؛ ذلك أن التاريخ دائماً ما ينفع في الأيديولوجيا. وكان على كاتب النص أن يستند الى أساطير مبنية حول أبطال سابقين انتقلت أخبارهم شفاهاً من جيل الى جيل”.
كما جاء في مقابلته: “لقد أراد يوشيا ان يمدّ مجال سيطرة اليهودية، حيث لم تكن مملكة إسرائيل موجودة، كما كان تأثير إمبراطورية الآشوريين في تراجع، ومصر في انشغال داخلي. لذلك أسند طموحه وأمنيته عبر تعظيم أمجاد داوود وسليمان، اللذين لم يكونا كما تصورهما النصوص، فالاكتشافات الأثرية الاخيرة تعلمنا أن داوود وسليمان كانا غالباً ملوكاً صغاراً على مدينة أورشيلم، التي كانت في حينه (القرن 9-10 قبل الميلاد) مدينة بائسة مشيدة على منحدر، محاطة بالقرى، والشعب كان قليلاً، وبالمجموع أمياً منعزلاً وغير مستقر”.
ويضيف فلنكشتاين: “إننا نعلم الآن أن الاستيلاء على بلاد الكنعان لم يكن بالوصف البطولي لنص التوراة، ولكن عبر هجرة طويلة متعبة لعشائر سامية، تمت خلال قرن لإنشاء ما يُعرف بأرض الميعاد. إن عظام الجمال التي عثر عليها الأثريون لا تتطابق مع وصف الجمال التي كانت مع قافلة إبراهيم، كما جاء في النص، بل هي تعود لجِمال استُخدمت بعد عدة قرون، أيام الآشوريين… إن الأوساط المتدنية تجهل علم الآثار، ولا يهمها البحث، بقدر تصديق ما هو أمامها في النص. وأبحاثنا صفعت بشدة مشايخ الصهيونية الذين أنشأوا إسرائيل والذين يريدوننا كما إيغال يادين أن نحمل لهم ما يؤكد النص لا العكس”.
أما فيكتور سيجلمان، وإن كان أكثر جرأة من فلنكشتاين، فإنه صهيوني بامتياز شديد. فكما حمّل الشعب الفلسطيني وزر التفسير الصهيوني الغربي للتوراة، يريد تحميله أيضاً وزر سقوط الوهم التوراتي وتجلياته في النفي والاقتلاع. يقول سيجلمان: “بالنسبة للفلسطيني، فإن شرعية وجود دولة إسرائيل هو المطروح، وليس فقط الأراضي التي احتلت عام 1967، فبعد المؤرخين الجدد، جاء دور الآثاريين الجدد في إسرائيل، الذين وضعوا النص التوراتي محل الشك، خصوصاً حول تاريخية الآباء والأنبياء وحول معبد سليمان. وعليه، فإن الأيديولوجيا الصهيونية التي أسس اليهود دولتهم على أرض الاجداد بناءً عليها لم تعد بالحسبان. إن علماء الآثار لم يعثروا على أي أثر لخراب معبد، ولا مملكة متألقة لسليمان ولا أي شيء آخر. والنص التوراتي الذي ليست له قاعدة مادية حقيقية، ليس سوى اختراع أدبي. لكن ذلك لا يبدّل أبداً ارتباط الشعب اليهودي بهذه البقعة المسماة أرض اسرائيل، وبالعربية فلسطين”.
ويضيف سيجلمان: “سواء كان الأجداد حقيقةً أم خيالاً، فإن قوة الأسطورة الوطنية ليست في حاجة إلى إثبات كي تنمّي ديناميكية الانبعاث الوطني للشعب. إن شرعية إسرائيل دولية من الأمم المتحدة، مثل شرعية دولة فلسطين المقبلة. فاستخدام علم الآثار لإثبات غياب الرابط التاريخي بين اليهود وبلاد أجدادهم، بهدف تلبية تطلعات الشعب الفلسطيني، مسألة لا طائل منها وخطيرة”. [11]
ما سبق حدا بأحد أساتذة جامعة “تل أبيب” لعلوم الآثار، البروفيسور نيل سبلرمن، وزميله البروفسور إسرائيل فلنكشتاين إلى إطلاق صرختهما الشهيرة في كتابهما الصادم “التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها”، وذلك بعد أن تبين لهما وجود تضارب عميق بين ما تسطره التوراة فيما يخص تفاصيل المواقع الجغرافية لأنبياء وممالك بني إسرائيل، وبين ما تشهد به الأرض بعد أن استنطقتها علوم الآثار.[12]
أما د. شلومو ساند، البروفيسور في جامعة تل أبيب، فإنه في كتابه “اختراع الشعب اليهودي”، الذي ضرب رقماً قياسياً في مبيعاته، يؤكد أن القومية اليهودية هي ميثولوجيا جرت فبركتها قبل مئة عام من أجل تبرير إقامة “الدولة الإسرائيلية”. ويؤكد ساند أن اليهود لم يُطردوا من الأراضي المقدسة، كما أن معظم يهود اليوم ليست لهم أي أصول عرقية في فلسطين التاريخية، وأن الحل الوحيد هو إلغاء “الدولة اليهودية إسرائيل”.
كما ينطلق ساند، في كتابه “اختراع الشعب اليهودي”، من أن الحركة الصهيونية قد اختلقت المصطلح الديني “أرض إسرائيل”، وحولته إلى مصطلح جيو- سياسي لا تعرف إلى الآن ما هي حدوده، ولا ما هي تطلعاته المستقبلية. ويسهب ساند في هذا الكتاب في شرح ظهور مصطلح “أرض إسرائيل” عبر التاريخ، وبدايات تغلغله في أوساط اليهود، مروراً باستغلاله من قبل الحركة الصهيونية، وانتهاءً بتحوله إلى مصطلح جيوسياسي يعبر عن مساحة معينة من الأرض تعترف بها الأمم المتحدة.[13]
اشتغل اليهود والتوراتيون على تلفيق تاريخ فلسطين، وحملت وسائل الإعلام المسيسة هذا التلفيق وغرسته في الوعي البشري حتى صار دارجاً على ألسنة العامة والمختصين. فمثلاً، كتب المؤرخ يوسفيوس فلافيوس، الذي عاش في أوائل القرن الثاني الميلادي في فلسطين، كتاباً باللغة اليونانية عنوانه “حروب يهوذا”، ويهوذا اسم كان يطلق على منطقة في فلسطين، فيما كان يطلق على سكان هذه المنطقة “يهوذيون”، وهو اسم ليس له أي دلالة عرقية أو دينية، تماماً كما نقول اليوم: نابلسيون، وخليليون. لكن أطلق المترجمون الغربيون على الكتاب اسم “الحروب اليهودية”، وعلى مؤرخ الكتاب “المؤرخ اليهودي فلافيوس”، مع أن فلافيوس نفسه لم يطلق على نفسه هذا اللقب، وكتب في مذكراته أنه من القدس ومن عائلة فريزية.[14]
في خضم كل ما سبق، يبدو الباحث غاربيني على حق عندما يتساءل: “أين النقوش العبرية من عصر الحديد؟ إن أياً من الملوك الأربعين، الذين تسلسلوا منذ شاول إلى صدقيا، لم يترك لنا أثراً يذكر فيه اسمه! أين وثائق العصر الفارسي؟ إن المدونات الكتابية والبقايا الأثرية بقيت في الحد الأدنى وصولاً إلى زمان لا بأس به من العصر الهيلينستي”.[15]
ونتساءل هنا: لماذا اندفع البريطانيون وأمريكا والغرب عموماً إلى تشجيع النشاط الأثري في فلسطين ونتائجه الخاطئة؟! يجيب على هذا التساؤل الباحث الأمريكي دفدسن بالقول: “ربما اندفع البريطانيون إلى تشجيع النشاط الأثري، لأنه من شأن النتائج أن تشيع القرائن الكتابية الرابطة للمنطقة بتراث الغرب اليهودي- المسيحي. فقد كانت فلسطين تُعتبر بلداً ذا علاقة دينية- صوفية- غيبية مع الغرب بوصفها مهد التراث اليهودي ـ المسيحي ـ ومسقط رأس يسوع و(الأرض الموعودة) للشعب اليهودي. وكان من شأن تأكيد ذلك، عن طريق علم الآثار الكتابي، أن يعني ترسيخ المزاعم الغربية القائمة على المطالبة بالمنطقة”.
ويؤكّد دفدسن أن “قيام نظام الانتداب الذي أخضع المنطقة للحكم البريطاني (أي المسيحي)، كما جعلها وطناً قومياً لليهود، كان يعني وضع تلك المزاعم والمطالب موضع التطبيق العملي. وبالتالي، فإنه من الممكن اعتبار علم الآثار الكتابي أداةً لعقلنة الإمبريالية”.
ويضيف: “أما بالنسبة للأمريكيين، فقد كان من شأن علم الآثار الكتابي أن يعيد إنعاش الانبهار القديم قدم الزمن بالأراضي المقدسة. فمنذ أيام بعيدة، تعود إلى زمن البيوريتانيين، دأب الأمريكيون على إيجاد نوع من الرابطة المفهومية بين “أرضهم الموعودة” وفلسطين الكتابية. وعلى امتداد القرن التاسع عشر، حرصت أمريكا البروتستانتية على رعاية العديد من البعثات التبشرية في الأراضي المقدسة، فإعادة فلسطين إلى السيطرة المسيحية اعتبرت خطوة على طريق إنقاذ الأرض وخلاصها، وبالتالي فقد صور الأمريكيون والأوروبيون فرض الاستعمار الغربي على فلسطين على أنه نور إيجابي يحظى بمباركة الرب. وبالفعل فقد أدّى ذلك إلى تأكيد عظمة المجتمع الغربي، الذي كان هو الآخر يُنظر إليه بوصفه مجتمعاً باركه الرب. وفي عملية بسط السيطرة على المنطقة، كان التسليم بضرورة تجاهل الشعب العربي المحلي وإذلاله أمراً في غاية البساطة. فقد سبق للأمريكيين أن عقلنوا مثل هذه الأمور من قبل. وكان من شأن علم الآثار الكتابي أن يضطلع بدور معين في هذه العملية أيضاً”.[16]
*كاتب وباحث فلسطيني في التاريخ القديم
________________________________________
[1] كيث وايتلام، تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني، ترجمة: ممدوح عدوان، ط2، دمشق، قدمس للنشر والتوزيع،2002، ص143.
[2] كيث وايتلام وآخرون، الجديد في تاريخ فلسطين القديمة، ترجمة: عدنان حسن وزياد مني، ط1، دمشق، قدمس للنشر والتوزيع، 2004. (انظر الفصل الأول، كيث وايتلام، إعادة اكتشاف فلسطين، ص 37).
[3] لمزيد من التفاصل يُراجع ادوراد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الانشاء، ترجمة: كمال ابو ديب، بيروت، 1981.
[4] وايتلام، تلفيق اسرئيل…، مرجع سبق ذكره، ص 130.
[5] دفدسن، الآثاريات الكتابية…، مرجع سبق ذكره، ص 125.
[6] وايتلام، إعادة اكتشاف فلسطين، مرجع سبق ذكره، ص 23.
[7] تومس طمسن ود. سلمى الخضراء الجيوسي، القدس أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ، ترجمة: فراس السواح، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003. (الفصل السادس، فراس السواح، أورشليم في عصر مملكة يهوذا، ص (168- 169).).
[8] تومس طمسن، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ترجمة: صالح على سوادح، بيروت، بيسان للنشر والتوزيع، 1995، ص 277 وما بعدها.
[9] وايتلام، تلفيق إسرائيل..، مرجع سبق ذكره، ص 49.
[10] زئيف هرتسوغ، التوراة: لا إثباتات على الأرض، جريدة هآرتس، (ــــــ)، 18/11/1999.
[11] فرج الله صالح ديب، علماء الآثار في إسرائيل بين تقويض الصهيونية ونفي وجود الأنبياء، جريدة النهار (لبنان)، 18 /8/ 2002
[12] د. إسرائيل فنكلشتاين ونيل اشر سيلبرمان، التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها، ترجمة: سعد رستم، دمشق، الأوائل للنشر والتوزيع، 2005.
[13] د. شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة: سعيد عياش، عمان، منشورات المكتبة الأهلية، 2010.
[14] د. شلومو ساند، اختراع أرض إسرائيل، ترجمة: أنطوان شلحت وأسعد زعبي، رام الله، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية ــ مدار، 2013.
[15] طمسن، القدس…، مرجع سبق ذكره. (الفصل العاشر، إتغريد هيلم، النزعة الاثينية لدي اليهود والسامريين في التاريخ والروايات التوراتية،ص 295).
[16] دفدسن، الآثاريات الكتابية، مرجع سبق ذكره، ص (104- 106).