مفتتح:
كلُّ معرفةٍ هي بشكلٍ ما معرفةٌ سياسيّةٌ، وكلُّ معرفةٍ تؤدّي وظيفةً اجتماعيةً، وسياسةُ ووظيفةُ المعرفة يحددهما، تأثيراً وتأثراً، السياقُ الاجتماعيُّ التاريخيُّ الذي تتم هذه المعرفة عَبْره. تصبح هذه المقولةُ أكثرَ صدقيّةً وجديّةً في حالة كون هذا السياق هو الصراع؛ عندها تصبح المعرفة استمراراً لهذا الصراع، ولكن بطرقٍ أخرى.
وعلى الرغم من أن الصراعات بين الجماعات الإنسانية عادةً ما تترافق مع الوعي “بآخَر الصراع” من خلال مجموعةٍ من الصور النمطيّة التي تشدّد على “شيطنته” في سبيل بناء هويةٍ مُحاربةٍ لمواجهته وإفنائه، إلّا أنّه وفي الوقت ذاته تتطلب المواجهةُ العمليةُ له معرفتَه بحدٍّ أدنى من “الموضوعية”.
تقدم هذه المقالة مجموعةً من الملاحظات حول دراسة “إسرائيل”، ضمن السياق الفلسطيني أساساً، وتاريخ هذه الدراسة وتحوّلاتها، والقضايا السياسية والمنهجية المتعلقة بهذه الدراسة، منحازةً لنموذج “معرفة العدو” كمنهجيةٍ بحثيةٍ في دراسة “إسرائيل” مقابل نموذج “الدراسات الإسرائيلية”.
موجزٌ تاريخيٌّ لدراسة “إسرائيل” عربياً
في صراعنا المديد مع المشروع الصهيوني في بلادنا فلسطين، دَرَسَ العربُ الغزاةَ المستوطنين، وبنوا تصوراتٍ حولهم، بالتعرّف على طبيعتهم وطريقة عملهم وأهدافهم. كانت البدايات الأولى لدراسة الصهاينة تتمثّل في مجموعةٍ من المشاهدات والانطباعات كوَّنها الفلاحون الفلسطينيون خلال صراعهم المباشر على الأرض مع المستوطنين الصهاينة في الفترة العثمانية، ومن ثمّ قدّم جيل الرواد من النخبة الوطنية الفلسطينية مساهمتَه في معرفة العدوّ. فعلى سبيل المثال، نشط نجيب نصار في الكتابة الصحافية عن المشروع الصهيوني، مُستعيناً باستطلاعاتٍ ميدانيةٍ، فيما قدّم روحي الخالدي تصوّراً أوّلياً عن طبيعة الصهيونية.
في العام 1966، افتُتح مركز الأبحاث الفلسطينية التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، ليشكّل التطوّر النوعيّ الأكثر نضوجاً في دراسة “إسرائيل” ما بعد النكبة، من ناحية الصرامة المنهجية البحثية، ومن حيث ارتباط المعرفي بالنضالي.
أمّا بعد نكسة حزيران 1967، فتظاهر طلاب جامعة القاهرة مُطالبين بتدريسهم عن “إسرائيل” التي سيذهبون لقتالها في حرب الاستنزاف، ليُنشَأ لاحقاً مركزُ الدراسات الفلسطينية والصهيونية التابع لمؤسسة الأهرام الصحافيّة، والذي سيتمّ تغيير اسمه لاحقاً ليصبح مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
توالت عملية إنشاء مراكز الأبحاث في حقل الدراسات “الإسرائيلية”، وحدثتْ طفرةٌ في مرحلة ما بعد أوسلو عربياً وفلسطينياً في برامج دراسة “إسرائيل”، والتي كانت في غالبها تُشدّدُ على هويتها العلميّة الموضوعيّة، وتبتعد بالمقابل عن دراسة “إسرائيل” “كمعرفةٍ للعدوّ”، كما تقول.
بالمقابل، بقيت بعض المراكز ترفع شعار معرفة “إسرائيل” لمحاربتها؛ وهي مراكزُ مقرّبةٌ من حركات المقاومة الفاعلة عسكرياً، كمركز أطلس للدراسات وغيره، والتي تكاد تساوي بين معرفة العدو والتحليل الاستراتيجي، وتحتلّ الترجمة من العبرية إلى العربية موقعَ الصدارة في إنتاجها المعرفي. وبالطبع هذا بالإضافة إلى ما لا يمكن إحصاؤه من كتابات الباحثين العرب الفردية، مثل عمل الباحث الموسوعي عبد الوهاب المسيري وغيره.
عبر هذا التاريخ الطويل للتعرف على العدوّ، مرّت عملية دراسته بتحولاتٍ لا يمكن فصلها عن الموقف السياسي من “إسرائيل”: مقاومةً، مقاطعةً، تصالحاً. وبقي هذا الإرث الطويل للتعرف على “إسرائيل” ودراستها دون بحثٍ وتحليلٍ، للنظر في موضوعاته وتحولاته وأطُره، وقضاياه المنهجية، ودراسة علاقة هذا الإنتاج مع الصراع مع العدو تأثيراً وتأثّراً.
راهن دراسة “إسرائيل”
كأيّ تخصصٍ معرفيٍّ، يُمكن إخضاع “دراسات إسرائيل” للبحث باستخدام مناهج ونظريات علم اجتماع المعرفة، من حيث التأريخ لهذا التخصص، والافتراضات التي تأسّس عليها، وموضوعات البحث وأجنداته، وعلاقة كل ذلك بالمجتمع المعرفي المكوّن من دارسي “إسرائيل”، وذلك بغية فحص أثر الخلفيات الاجتماعية والسياسية لهؤلاء الدارسين على طبيعة المعرفة المنتَجة حول “إسرائيل”.
كيف يعرّف هذا المجتمعُ المعرفيُّ دراسةَ “إسرائيل”؟ وما الهدف من هذه الدراسة المُعلنة؟ وإلى ماذا تؤدي هذه الدراسة فعلياً؟ وما النماذج التحليلية التي اُستخدمت لفهم طبيعة “المجتمع الإسرائيلي” (مثل نموذج الجماعة الوظيفية عند المسيري والاستعمار الاستيطاني)، وما هي التبعات السياسية لهذه الدراسة من ناحية الموقف من “إسرائيل” والمساهمة في الصراع معها؟ هذا بالإضافة إلى النظر في طبيعة “البيانات” التي تمّ تحليلها، والموضوعات التي تمّ ويتمّ التركيز عليها.
إذا استثمرنا مقولة “التحوّل في النموذج الإرشادي” لـلمفكر الأمريكي “توماس كون” في النظر إلى الانتقال من نموذج “معرفة العدو” إلى نموذج “الدراسات الإسرائيلية”، فيمكننا القول أن هذا التحول لم يمثّل تحوّلاً منهجيّاً ونظريّاً علميّاً أساساً؛ عنوانُه العريضُ التشديدُ على الموضوعية والرصانة العلمية عبر استخدام العلوم الاجتماعية ومناهجها في دراسة “إسرائيل”، وإنما هو تحوّلٌ سياسيٌّ في النظر إلى “إسرائيل” كحقيقةٍ واقعةٍ ونهائيةٍ؛ فمَنْ يهيمن اليوم على حقل “الدراسات الإسرائيلية” معرفياً وتمويلياً، هم مجموعة من الفاعلين السياسيين المؤطّرين حزبياً في جلّهم، والذين يرون أن “المواطنة في دولة إسرائيل” هدفٌ سياسيٌ وحلٌّ تاريخيٌّ للقضية الوطنية. وبالضرورة، فإن هذه الخلفية السياسية تؤدلج “الدراسات الإسرائيلية”؛ أي تعطيها وُجهةً سياسيةً محددةً، في ذات الوقت الذي تقضي فيه بضرورة نزع الأدلجة عن دراسة “إسرائيل”.
يَعتبِر هذا الاتجاه المُهيمن في “الدراسات الإسرائيلية” أنّ موقع “الفلسطيني الإسرائيلي” في النظام الاستعماري في فلسطين يمنحه “ميزةً معرفيةً”، فهو يعرفها من الداخل كما يعرف لغتها. وفي ذات الوقت فهو “ضحيّتها”، وموقعُه كضحيةٍ يُمَكِّنه من تقديم “رؤيةٍ نقديّةٍ” لا يقتصر أثرها على الفلسطينيين، وإنما تتجاوزها للإسرائيليين أنفسهم. نحن هنا أمام نشوء جماعةٍ من الخبراء بالشأن الإسرائيلي، نتيجةً لتحوّل معرفة “الشأن الإسرائيلي” إلى مهنةٍ وتخصصٍ لها اقتصادُها السياسيُّ، ووسيلةٍ للتحصّل على “رأسمالٍ اجتماعيٍّ” عربياً وفلسطينياً.
في المحصلة العامة، يمكننا القول بأن حقل “الدراسات الإسرائيلية” يعاني من أزمةٍ سياسيةٍ ومعرفيةٍ. تتجلّى أزمته المعرفية في فشل تحوله إلى مدرسةٍ للبحث في “إسرائيل” لها قواعدها وأصولها، وتحقق تراكماً معرفياً. فيما تتلخّص أزمته السياسية في تراوحه ما بين التواطؤ المعرفي مع “إسرائيل” والفشل في تقديم معرفةٍ ذات صلةٍ بالصراع مع العدو.
في ضرورة بناء فلسفة بحثية لدراسة “إسرائيل”
كنا قد افتتحنا هذه المقالة بالتذكير بعدم إمكانيّة فصل عملية الإنتاج المعرفي عن سياقها الاجتماعي تأثيراً وتأثراً؛ أيّ إنّ معرفة “إسرائيل” هي معرفةٌ مُسيّسةٌ ومنحازةٌ، بغض النظر عمّا تقوله غير ذلك. من هنا تأتي ضرورة وجود فلسفة للبحث في دراسة إسرائيل. تقدم هذه الفلسفة رؤيةً للدور السياسي لهذه المعرفة، كيف تكون “هذه المعرفة ذات معنى وأهميّةٍ في صراعنا مع المستعمرين؟“، وصولاً إلى معالجةٍ لقضايا البحث المنهجية: ماذا نبحث وكيف؟
نحن لا نشرع في العملية البحثية من درجة “الصفر المعرفي”، وإنما نبدأ بالبحث استناداً إلى مجموعة من الافتراضات الأولية الواعية وغير الواعية. وفي حالتنا الفلسطينية، لا يمكن فصل هذه الافتراضات عن آليات السيطرة الاستعمارية الصهيونية على الجسد والعقل والخيال الفلسطيني ومقاومتها. ومن هنا، تصبح عملية فحص هذه الافتراضات ضرورةً سياسيةً ومعرفيةً لوعي هذه المعرفة بذاتها ودورها؛ أيّ الوعي بموضوعيتها.
وهنا قد يقول قائلٌ: إنّ مساهمة المعرفة في السياسة منوطةٌ بالاستفادة منها وتوظيفها من قبل الفاعلين السياسيين، لا بكيفية إنتاج هذه المعرفة. وهذا قولٌ فيه بعضُ الوجاهة، ولكنه يغفل أثر الافتراضات الأولية في صياغة المعارف وإمكانية توظيفها سياسياً.
غاية القول، في مقابل شيوع المقولات والشعارات العامة حول دراسة “إسرائيل”، وضرورة معرفة العدو، أو ضرورة المنهج العلمي والابتعاد عن الأسطرة والأدلجة، يتحتّم على الفلسفة البحثيّة تقديم تصورٍ متماسكٍ لإنتاج معرفةٍ مقاوِمةٍ للمشروع الصهيوني، من حيث مبتدئها ووظيفتها، وتحويل ما تنتجه من معرفةٍ إلى معنىً يرتبط بأفقٍ نضاليٍ تحرريّ.
استدراك: معرفة “إسرائيل” والتطبيع
في حالة ما بعد أوسلو، تحوّلت مقولة معرفة “إسرائيل من الداخل” إلى مدخلٍ تطبيعيٍّ يستند إلى محاججةٍ منهجيةٍ عنوانُها: لا يمكن فهم “إسرائيل” علمياً إلّا من خلال التعرف عليها عن كثب، كحال قيام “وحدة الدراسات الإسرائيلية”، والتي أُسست بعد اتفاقية وادي عربة في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، بإرسال الطلبة المتميزين للدراسة في الجامعات الإسرائيلية لمعرفتها من داخلها، إلى أن جاءت الانتفاضة الثانية وتعثرت الوحدة في استقطاب طلبةٍ جددٍ. هذا فيما يتعلق بالتطبيع الصريح.
أما “التطبيع المعرفي”، فهو نتيجةٌ مباشرةٌ لغيابين: الفلسفة البحثية آنفة الذكر، والوعي بسياسات المعرفة. والمقصود بسياسات المعرفة ما الذي تقوله المعرفة سياسياً بوعي أم بغير وعي. فمثلاً، يمكننا رؤية الأبحاث النقدية لتيار “ما بعد الصهيونية”، كقولٍ سياسيٍّ مفاده: أنّ “إسرائيل” نضجت وقويت وأصبحت تثق بذاتها، وعلامة ذلك أنه جاء وقت التخفّف من الكتابة التاريخية التحشيدية التعبوية التي رافقت “بناء الدولة”. ولنأخذ أيضاً مقولة “معرفة إسرائيل من الداخل”، والتي تُرجمت فعلياً إلى التركيز على الصراعات الحزبية السياسية داخل “إسرائيل”، لتتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مركز الثقل في التحليل لفهم تصرفات “إسرائيل” وتوقّع سلوكها. ومن ثمّ صار يرى الفلسطيني فاعليته السياسية في أن يكون مؤثراً في هذا الصراع الذي يحدد مصيره، ولاحقاً أصبح الحقل السياسي الفلسطيني مشتقّاً من الحقل السياسي الصهيوني.
إنّ الانتقال إلى نموذج “الدراسات الإسرائيلية”، عبر التركيز على الهوية النقدية للمعرفة، خلق أرضيةً سياسيةً مشتركةً يقف عليها الفلسطيني الدارس “لإسرائيل” والصهيوني الناقد لها أيضاً. يأتي ذلك تعبيراً عن قناعةٍ مفادُها بأنّ مجرد تقديم معرفةٍ نقديةٍ جادّةٍ حول “إسرائيل” هو بحدّ ذاته فعلٌ سياسيٌّ تحرريٌّ، حتى للمجتمع “الإسرائيلي” ذاته، استمراراً لاستراتيجيةٍ عريقةٍ في المثقفية الفلسطينية ترى بأن من مهام المثقف الفلسطيني تحريرُ الصهيوني من أوهامه وسجونه الإدراكية. وهكذا أصبحت “المؤسسات الصهيونية النقدية” دفيئةً لتكاثر خطابٍ نقديٍّ فلسطيني جمهورُه الأساسي مكتئبو ما بعد الخدمة العسكرية.
“اعرف عدوّك”: كفلسفة بحثيّة في دراسة “إسرائيل”
قبل أكثر من ألفي عام، أطلق حكيم الحرب الصيني “صن تزو” شعار “اعرف عدوك”، معتبراً هذه المعرفة فيصلاً ما بين النصر والهزيمة، ويُستشف من استطراده حول معرفة العدو بأنّ هذه المعرفة إذا ما استخدمت بشكلٍ استراتيجيٍّ يمكنها حسم الصراع بدون معركةٍ وحربٍ. وبهذا لا تعدّ المعرفة بالعدو شرطاً للنصر فقط، وإنما أداة للصراع معه؛ فالمعرفة بالعدو هي دائماً معرفةٌ استراتيجيةٌ، لها دورٌ ووظيفةٌ، ودورها ووظيفتها بنفس أهمية دقتها وصحتها.
مع أن مقولة “معرفة العدو” تبدو بديهيةً وسهلة، إلّا أنّ وضعها في حيز التطبيق الجادّ يكشف عن صعوبةٍ، محفزاً مجموعةً من الأسئلة الجوهرية: كيف ندرس العدوّ، وماذا ندرس فيه؟ وكيف نكوِّن مقاربةً أو منظوراً تحليلياً لفهمه؟ وما دور هذه المعرفة وأثرها في الصراع معه؟ وكيف للعدائية ألّا تكون حاجباً لمعرفته الحقيقية؟ وفي الوقت ذاته، كيف للمعرفة به ألّا تتحول إلى وسيلةٍ للتصالح مع العدوّ؟
إن منهجية “معرفة العدو” تجمع ما بين صرامة المنهج العلمي، ووضوح الوظيفة النضالية لهذه المعرفة، ولذلك يمكننا الاشتغال عليها وتطويرها كفلسفةٍ بحثيةٍ لدراسة ” إسرائيل” كاختيارٍ واعٍ ومدروسٍ، لا كشعارٍ فضفاضٍ.
في البداية، أقدّم هذا التعريف الأوليّ لمعرفة العدو: إنتاجُ معرفةٍ حول العدو، ذات وظيفةٍ واعيّةٍ في الصراع معه، وقيمتُها المعرفيةُ مشتقةٌ من دقتها المبنية على المنهجية العلمية، ودورها الفعلي في المقاومة. وتترتب هذه المعرفة على ثلاثة مستويات: كليّة، جزئيّة، وعملياتية حساسة للزمن.
وتعتمد هذه المعرفة على بياناتٍ من مصادرَ أوليةٍ قدر الإمكان، يتم تقييمها( البيانات)، وتحويلها إلى توصيفاتٍ وتفسيراتٍ باستخدام مقاربةٍ تحليليةٍ يتم تطويرها بالاستفادة من ثلاثة مصادر: العلوم الاجتماعيّة، وخصوصية الحالة الاستعمارية في فلسطين، وإرث الوعي الشعبي الفلسطيني المعادي “لإسرائيل”.
تصورات معرفة العدوّ عند العرب
ثمّة عدّةُ تصوراتٍ لمعرفة العدو في الأدبيات العربية لدراسة “إسرائيل” يمكن توزيعها وفق الآتي:
الأول: اعتبار أنّ وظيفة هذه المعرفة هي التجييش والتحشيد من خلال إبراز الجانب الإجرامي للصهيونية “وإسرائيل”، وفضح ممارسات ومخططات العدو بالاستناد إلى مجموعة من التعميمات والتبسيطات حوله. ويقوم هذا التصور على الافتراضات التأسيسية التالية: “إسرائيل” كيانٌ توسعيٌّ إجراميٌّ، ووظيفيٌّ إمبرياليٌّ، وإلى زوال.
والثاني، اعتبار أنّ “معرفة العدو” مقولةٌ عتيقةٌ تنتمي إلى زمانٍ مضى، ولا تنتج معرفةً جادةً، لأنها تتعارض مع الموضوعية وفهم “إسرائيل” من داخلها- (لأنها معرفةٌ أداتيةٌ بهدف)- بشكلٍ عميقٍ باستخدام مناهج البحث الحديثة في العلوم الاجتماعية، والاستفادة من نموذج “الدراسات المناطقية” (Area studies).
والثالث، اعتبار أنّ هذه المقولةَ مناسبةٌ أكثر لعلم الاستخبارات والشؤون العسكرية، وهذا يحدّد موضوعاتها في مجال الأسلحة والمخططات العسكرية، وغيرها من تفاصيل الحروب وإدارتها.
حول معرفة العدو ومعرفة الذات
لم يذكر”صن تزو” معرفة العدو إلّا وذكر معها معرفة الذات، في علاقةٍ جدليةٍ تحدد نتيجتُها نتيجةَ الصراع. لا يكمن التحدي في الجمع ما بين المعرفتين فحسب، وإنما في الوعي بجدلية العلاقة ما بين معرفة الذات ومعرفة العدو. فإذا انطلقنا من الفرضية التي تقول بأنّ كلَّ تعرفٍ على “الآخر” هو في الوقت ذاته تعرّفٌ على الذات، وخاصةً بالنظر إلى طبيعة المشروع الصهيوني الاستعمارية المتغلغلة في جميع مستويات الوجود الاجتماعي والنفسي للفلسطيني؛ فإنّ الوعي بأثر هذه العملية يتكثّف في الفحص الدائم لما تصنعه معرفة “إسرائيل” منّا وفينا، وفي الاحتمالات المتعددة لهذه الصناعة: هل هذه المعرفة تسحقنا أمام “إسرائيل” التي نتابع كلَّ كبيرةٍ وصغيرٍة فيها، ونحن عاجزون عن مواجهتها؟ هل معرفتنا “بإسرائيل” هي تعبيرٌ عن رغبةٍ معذّبةٍ وشبقٍ نحو “إسرائيل”؟
صارت “إسرائيل” للكثير ممّن درسوها بهدف محاربتها صورةَ المثال الذي يريدون أن يكونوه لمواجهته، سمّاها يوماً صادق العظم “بالصهيونية الفلسطينية”. وصولاً إلى السؤال: هل كبرت “إسرائيل” وتضخّمت في أذهاننا المرهقة، ونحن إلى اليوم نصرخ أننا لم نكن نعرف “إسرائيل” على حقيقتها، كأنّ “إسرائيل” أحجيةٌ تستعصي على الفهم! ومن ثمّ هل البحث عن حقيقة “إسرائيل” يتطلب منّا الغوص في التاريخ القديم وفلسفة الحداثة والفكر الغربي ونشوء القوميات وغير ذلك من مسارب الفكر؟
تستلزم كلُّ عمليةِ بحثٍ وعياً بحدود موضوع البحث، “إسرائيل” في هذه الحالة كموضوعٍ للبحث، بمعنى “ترويضها” ضمن حدودٍ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ يحدّدها وعيُنا المتحررُ من هيمنتها، لكبح جماح نزوع المعرفة إلى التكاثر والترحال دون وجهةٍ أو غايةٍ. ويحيلنا حديث الحدود هذا إلى الإشكالية المتولدة من تركيز الانتباه على دراسة “إسرائيل” كمعرفةٍ للعدو، وإمكانية دراستها بمعزلٍ عن قوى التواطؤ المباشر والبنيوي في المجتمعات العربية. لقد كانت “إسرائيل” منذ ولادتها الدموية في بلادنا حدثاً داخل المجتمعات العربية بقدر ما كانت غزواً خارجياً.
أنسنة العدو: شرطٌ لمعرفته
“لكي تعرف عدوّك عليك أن تكون عدوّك”.
يستلزم التعرفُ على العدوّ وعياً بالبعد النفسي لهذه المعرفة، من حيث العلاقة بين هوية الباحث ونفسيته وموضوع الدراسة (عدوّه). وقد تبدو مقولة “أنسنة العدو” كشرطٍ لمعرفته مقولةً متناقضةً، إذ كيف تجتمع الأنسنة مع العداء، وخاصة إذا استأنسنا بمقولات مثل: “العدو هو شخصٌ لم تستمع لقصته” و”الإنسانُ عدوُّ ما يجهل”.
لنبدأ بالقول إنّ شيطنة العدو واختزال صورته بالإجرام والشرّ المطلق هي حالةٌ طبيعيةٌ وضروريةٌ في الصراعات، فالناس لا يقاتلون أعداءهم بدافع المعرفة العلمية بهم وبمخططاتهم، بقدر ما يقاتلونهم بدافع الصور النمطية التي تربّوا عليها، وتحولت إلى مكوّنٍ أساسيٍّ في هويتهم الوطنية.
إن أنسنة العدو المقصودة هنا هي بمعنى فهمه كظاهرةٍ إنسانيةٍ مركّبةٍ ومتحركةٍ، لا يمكن اختزالها كما كلّ البشر في تفسيرٍ أحاديٍّ ثابتٍ وعامٍ. وهي أيضاً ضرورةٌ للمواجهة عنوانُها الانتقالُ من العداء كموقفٍ إلى العداء كممارسةٍ سياسيةٍ عقلانيةٍ تبحث عن الثغرات والفرص. وبهذا فإن الأنسنة تُنَشّط العدائيةَ ولا تُخمدها. خاصةً في الحالة الاستعمارية في فلسطين، حيث العلاقة ما بين المستعمِر والمستعمَر هي علاقةٌ متداخلةٌ قد تصل إلى الحميمية بسبب التفاعل اليومي.
ليست الأنسنة تعبيراً عن موقفٍ من العدوّ، وإنما هي إجراءٌ منهجيٌّ لمعرفته. وهنا يمكننا الاستفادة من أدبيات الفلسفة المعرفية لعلم الاستخبارات المعاصرة، وخاصةً تلك التي تحاول الإجابة على سؤال: لماذا تفشل أجهزة الاستخبارات في التنبؤ بأفعال العدو؟
تُحيل جلّ هذه الأدبياتُ الفشلَ الاستخباراتيَّ إلى فشل محلل الاستخبارات في تطوير حالةٍ نفسيةٍ ضروريةٍ لفهم العدو على حقيقته، أو ما سُمِّيَ بـ”التعاطف الاستراتيجي” أو”التعاطف المعرفي” (strategic empathy)؛ أيّ تقمص شخصية العدو ورؤية العالم من موقعه، ومن ثمّ تطوير فرضياتٍ ورؤىً بديلةٍ لفهمه من هذا الموقع، ولعب دور”محامي الشيطان” كتمرينٍ أوليٍّ في خلق هذا التعاطف المعرفي.
المقاربة التحليلية: العالمي والمحلي في معرفة “إسرائيل”
تستند أيّ عمليةٍ لتفسير وفهم الظواهر إلى المشاهدات والبيانات، ويلزمنا دائماً الاستعانة بمنظورٍ تحليليٍّ ما لفهم ما تعنيه هذه المشاهدات والبيانات. صحيحٌ أنه لا يمكن فصل اختيار المنظور التحليلي عن قناعات الباحث الفكرية والسياسية، ولكن مسعى الوصول إلى الحقيقة يتطلب أيضاً اهتماماً بالحد الأدنى بالقدرة التفسيرية لهذا المنظور التحليلي.
إنّ معرفة العدو على حقيقته لا تعني عرضاً للبيانات والمعلومات فحسب، وإنما تطوير مقاربةٍ تحليليةٍ لفهمه أيضاً. ولعلّ تطوير هذه المقاربة يعدّ المهمة الأصعب في المعرفة، كما هو حال كلّ معرفة. ويأتي استخدام كلمة “تطوير مقاربة” هنا تأكيداً على أن القضية تتجاوز اختيار مقاربةٍ تحليليةٍ من النظريات والمقاربات المتداولة في حقل العلوم الاجتماعية إلى تركيب هذه المقاربة من مصادرَ متعددةٍ نظريةٍ، ومن التجربة الحيّة للمواجهة.
إنّ طبيعة “إسرائيل” الاستعمارية الاستيطانية لا تكفي لدراستها من المنظور الأحادي للاستعمار الاستيطاني، إذ يقدم هذا المنظور إطاراً تحليلياً ضرورياً، إلّا أنه ليس كافياً. ثمّة مشتركاتٌ ما بين “إسرائيل، كحالةٍ استعماريةٍ استيطانيةٍ، مع غيرها من الحالات الاستيطانية، إلا أنها تمتلك خصوصيتها التاريخية. وبقدر ما كانت فعلاً استعمارياً، فهي- أيّ “إسرائيل”- ردةُ فعلٍ على مقاومتنا إرادتَها الاستعماريةَ أيضاً. وبالتالي، يتحتّم على المقاربة التحليلية ملاحظة هذه الخصوصية من خلال الاستقراء التاريخي لمئة عام من الصراع مع العدو الصهيوني. كما أنّ إنتاج معرفةٍ رصينةٍ حول العدو تتطلب بناء مقارباتٍ تحليليةٍ على مستوى الموضوعات لكل موضوع أو ثيمة بحثية، وليس الركون إلى نموذج نظري شمولي كلي.
الكلي والجزئي والعملياتي في معرفة العدو
ثمة نزعةٌ سائدةٌ في معرفة “إسرائيل” تحاول دائماً تقديم صورةٍ عامةٍ حول”إسرائيل” وطبيعتها، وإلى أين تتجه بكليّتها، وذلك على حساب البحث التفصيلي. لا يعني هذا أن المعرفةَ بالصورة العامة غيرُ مطلوبةٍ، وإنما الإشكالُ المعرفيٌّ مصدرُه الوصولُ لهذه الصورة العامة كمحصلةٍ لمعرفة بالأبعاد (الجزئيات) التي تكوّن بمجملها الصورة العامة للعدو، والتي تتكون من تفاعل الأبعاد المختلفة للوجود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأيديولوجي. على أنّ النباهة المعرفية قد تلتقط ظاهرةً ما أو مؤسسةً أو حدثاً يمتاز بقدرةٍ تكثيفيةٍ عاليةٍ، وبالتالي بحثها كمؤشرٍ على الحالة العامة للعدو.
هذا بالنسبة للكلي والجزئي، وأما بالنسبة للمعرفة العملياتية فهي معرفة تردف الفعل النضالي، بشكلٍ مباشرٍ وفي الوقت الحقيقي، وتشتغل على قراءة أثر هذا الفعل النضالي وممكناته عند العدو. وهي بذلك تعبّر عن أقصى حالات ارتباط معرفة العدو بوظيفتها.
الدخول إلى الحقل: المصادر والبيانات
تعتمد الكتابات حول العدو الصهيوني في غالبيتها العظمى على مصادرَ ثانويٍة، هي بالأساس الكتابات الصهيونية، وتكاد تكون الدراساتُ التي تعتمد على مصادرَ أوليّةٍ معدومةً. وتشمل المصادر الأولية: الإحصائيات والمشاهدات الميدانية والمقابلات وغيرها. ومن المؤكد أن الوصول إلى المصادر الأولية الصهيونية ليس بالأمر اليسير ولكنه قطعاً ليس مستحيلاً، إذ إنّ عدمَ الاشتغال عليها مردُّهُ الكسلُ المعرفيُّ أساساً.
توفر لنا مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت إمكانيةً، لم تُستغل إلى الآن، للحصول على بياناتٍ من مصادرَ أوليةٍ. ويمكننا الاستفادة من الكتابات المنهجية المتعلقة بالمصادر المفتوحة (Open Source)، والتي يتمّ الاعتماد عليها بشكلٍ كبيرٍ في عالم الاستخبارات والأعمال للحصول على بيانات موثوقة ومتاحة للجميع.
وأمّا المصادر الثانوية، وهي ما كتبه الصهاينة حول أنفسهم، فعادةً ما يكون المعيار الأساسي لترجمتها للعربية والاحتفاء بها عربياً وفلسطينياً هو المنحى “النقدي” للتاريخ الصهيوني وتضامنها مع الفلسطينيين. إضافةً إلى حقيقة كون هذه الكتابات “النقدية” نخبويةً ولا تمثل غالبية المجتمع الصهيوني، وبالتالي تعزز التبعية المعرفيّة للبحث الفلسطيني لما ينتجه الصهاينة ولو كان “نقدياً”.
إجمالاً، علينا التعامل مع الأدبيات الصهيونية بغض النظر عن هويتها السياسية “كوثائقَ استعماريةٍ”، وتفصيل ذلك، أولا:ً هذه الأدبيات تتحدد قيمتها أساساً بما تحويه من بياناتٍ لا في التحليل والفهم، إلا إذا كان التحليل والفهم ذاته موضوعاً للبحث والدراسة، وثانياً: باعتبار هذه الكتابات موقعاً محتملاً تظهر فيه التناقضات في المجتمع الصهيوني، والتعامل معها يكون هنا بما يشبه “التحليل النفسي”؛ ما تشي به هذه الكتابات من عُقدٍ وأزماتٍ عند العدو.
إنتاج المعرفة ونشرها
في حالة الاشتباك الشعبي مع العدو كما في الحالة الفلسطينية، لا تقتصر مهمة منتجي المعرفة حول العدو على حدود البحث والدراسة، وإنما يتعدى دورها لتشمل نشرها شعبياً، وجعلها جزءاً من مكونات الثقافة العامة الوطنية.
ففي الحالة الفلسطينية، فمن غير المنطقي تقليدُ عمل ودور مراكز الأبحاث الاستراتيجية (Think Tanks)، والتي توفر معرفةً إرشاديةً لصانع القرار الرسمي، والذي لا يرى بدوره في “إسرائيل” عدواً، وتكاد تكون غايته الوحيدة من معرفة العدو هي معرفةُ ما يريد العدوُّ منه أن يكون، وإمّا أنه عاجزٌ عن تفعيل المعرفة في الصراع مع العدو.
خاتمة: نحو برنامج بحثي في معرفة “إسرائيل”
إن أولى درجات الوعي في معرفة العدو هي الوعي بالمهمة والدور الذي تكثفه فلسفة البحث، ومن ثمّ تحوّله إلى “برنامجٍ بحثيٍّ”؛ يُحدد مواضيع البحث العامة والمُفصّلة. ليس المقصود هنا الشكل الرسمي للبرنامج، وإنما خلقُ تيارٍ للبحث ودراسة العدو ينتج المعرفة، ويحوّلها إلى فكرٍ للمواجهة، وينشرها مستعيناّ بالمنصات والمنابر ذات القدرة على التواصل الجماهيري، بحيث تنطلق هذه المعرفة من مقاومة المشروع الصهيوني وتعبّر عنها، وتساهم في حرب الأفكار الدائرة مع العدو والمتواطئين معه.
ولأن صراعنا مع المشروع الصهيوني هو صراعٌ على الأمل، فلا معنى لمعرفة عدوٍّ لا أملَ في الانتصار عليه. وبالتالي، إنّ من مهام معرفة العدو النفسية إدامةُ الأمل في إمكانية الانتصار، ولهذا تنطلق كلُّ معرفةٍ بالعدو من ثنائية القوة-الضعف لديه، فلم تعرف البشرية إلى الآن جماعةً بشريةً لا ضعفَ فيها، فلكلِّ قوةٍ ضعفٌ مهما اجتهدت هذه القوة في بناء صورةٍ للقوة المطلقة. هذا ما يخبرنا به التاريخ العام للإنسان، وهذا ما يثقّفنا به تاريخُنا الخاصُّ المتشكلُ من مقاومتنا لهذا العدو، إذ إنّ معرفة نقاط الضعف تحتاج إلى منظورٍ ومقاربةٍ تحليليةٍ قادرةٍ على التقاط نقاط ضعفه ومواقع تشكل أزماته.