توطئة المترجم

نقدّم لكم ترجمةً للمداخلة التي قدّمها «دافيد بن غوريون» خلال اجتماع اللجنة الأمنيّة الصهيونية، بتاريخ 3 شباط 1948، حول طبيعة وأهداف الحرب التي تشنّها القوّات والميليشيات الصهيونيّة في أعقاب قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947. يؤسّس «بن غوريون» في مداخلته لمفهومي «الحرب» و«الدفاع» لدى المؤسسة الصهيونية، مجادلاً أنّه لن يكون بوسع مجتمع الاستيطان الصهيونيّ البقاء والحفاظ على شروط إنتاج ديمومته في فلسطين إلّا عبر الحرب الدائمة مع الفلسطينيين العرب، [1] اعتبر فيها منطقة النقب بمثابة الامتحان القومي للحركة الصهيونية، من ناحية قدرتها على الاستيطان وفرض سيادتها. 

يعكس هذا النص السياسيّ – العسكريّ جانباً من العقلية التي ساهمت في تحديد ملامح العقيدة الصهيونيّة الأمنيّة، والتي ترتّب عليها تحديد استراتيجيّة المشروع الصهيوني لتحقيق أهدافه التاريخيّة؛ فرض السيادة اليهوديّة (الأوروبيّة) على الأراضي الفلسطينيّة الممتدّة من قضاء صفد شمالاً حتى قضاء بئر السبع والصحراء جنوباً، ومن نهر الأردن شرقاً حتّى البحر الأبيض المتوسّط غرباً، في سبيل إحلال المستوطنين اليهود والأوروبيين وطرد و/ أو إبادة الشعب العربيّ الفلسطينيّ. 

يركّز «بن غوريون» في مداخلته على الأهميّة الاستراتيجيّة للنقب، خصوصاً في تلك المرحلة التي لم يكُن المشروع الصهيونيّ قد حقّق دولته بعد، ولم يكُن معروفاً إلى أيّ مدى ستصل حدودها، مشدّداً على ضرورة فرض السيادة الصهيونية عسكريّاً على صحراء فلسطين (ديار بئر السبع أو النقب). هذا الاهتمام الذي أفرده «بن غوريون» للنقب سيظلّ حاضراً في تصريحاته اللاحقة أيضاً؛ «للنقب أهمية لا تقتصر على مستوى الاستيطان الزراعي فقط؛ بل أيضاً على المستوى السياسي والاقتصادي والاستراتيجي من الدرجة الأولى، فها هو خليج إيلات والأرض التي وراءه هي وادي عربة». [2] 

يتطرّق «بن غوريون» في مداخلته هذه إلى الخلاف الصهيوني الذي نشأ حول طبيعة الحرب وأهدافها وكيفية فرض السيادة الصهيونية على جنوبيّ فلسطين، خاصةً في ضوء إبداء أحد أعضاء اللجنة الأمنيّة، «دافيد ريمز»، اعتراضه على الصياغة الهجوميّة لأهداف الحرب وتقديمه صياغةً دفاعيةً بديلة: «نحن نقاتل للدفاع عن قرار الأمم المتحدة»، وهدف الحرب يكمن في «الحفاظ على القائم والقرارات الدوليّة التي تعطينا الحقّ في ذلك». [3] 

يجدر الانتباه أيضاً إلى الأهداف الاستعمارية التي تحدّث عنها «بن غوريون» خلال اجتماع اللجنة الأمنيّة الذي عقد بتاريخ 28 تشرين الأول 1947: «دور قوّات الأمن هو الحفاظ على سلامة «الييشوف»، وإذا اندلعت الأزمة (أيّ الحرب) فستكون شديدة. سيكون القتال بالنسبة للعدوّ من أجل الحياة أو الموت، وعلينا الدفاع … مناقشتنا اليوم هي نتيجة وهم أنّه من المستحيل أن نُهزم، ولكنّ الهزيمة ممكنة». 

كما حدّد «بن غوريون» في الاجتماع ذاته أهداف الحركة العماليّة الصهيونيّة، وهي: مشاركة المستوطنين بمختلف تيّارتهم في مسؤولية المجهود الحربي؛ وإنشاء تحالفٍ وطنيّ لمدة عشر سنوات يتأسّس على مبادئ الصهيونيّة؛ نظام ديمقراطي قائم على الحرية الفرديّة والحرية وحكم الأغلبية؛ بالإضافة إلى الصداقة اليهودية العربية (والمقصود الصداقة التي تتلو هزيمة العرب العسكريّة وسلب الأراضي وطرد أكبر عدد مُمكن منهم).

من هو «دافيد بن غوريون»؟

باختصار، برز «بن غوريون» كزعيمٍ للصهيونيّة في مساراتها المختلفة بين عشرينيّات إلى ستينيّات القرن الماضي. استوطن في فلسطين عام 1906، حيث عمل في الزراعة وتفرّغ للعمل السياسيّ ضمن إطار حزب «بوعالي تسيون» (عمّال صهيون)، وانضمّ أيضاً إلى منظمّة «ها حالوتس» (الطلائعيّ)، كما تطوّع في الكتائب الصهيونيّة التي أنشئت في المرحلة الأخيرة من الحرب العالميّة الأولى ضمن إطارٍ بريطانيّ. اعتُبر انتخابه الأمين العام لمنظمّة «هستدروت» الخطوة الأهمّ في مساره، حيث جعل من المنظّمة أكبر مركز قوّة في المجتمع الاستيطانيّ، وهو ما منحه قوةً هائلة وتأثيراً سياسياً كبيراً ليصبحَ من أهم الشخصيّات في مركز القرار عند مجتمع الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين.

حافظ «بن غوريون» على علاقةٍ جيّدة مع البريطانيّين مدركاً أهميّة دور الإمبراطوريّة في إنشاء الدولة اليهوديّة، فقدّم لها المساندة الإعلامية والسياسية والعسكرية خلال الثورة الفلسطينيّة الكبرى، والتي كادت أن تفكّك مشروع الصهيونيّة والهيمنة البريطانيّة. قدّم دعمه للإمبراطوريّة خلال الحرب العالميّة الثانية أيضاً، وشُكّلت في سبيل ذلك كتائب صهيونيّة داخل جيش الانتداب البريطانيّ، ممّا ساهم في تدريب المستوطنين عسكرياً وتطوير الصناعة العسكريّة لدى «الييشوف».

****

عمّ ندافع؟
(על מה אנו מגינים)

يقال هنا إنّه يجب الحفاظ على الموجود، وعدم تبذير القوى في غزو الصحراء التي ليست في أيدينا. ويقولون أيضاً: النقب لن يفرّ، إنمّا «الييشوف» القائم في خطر [إشارة إلى كل المستوطنات في فلسطين] وبالتالي – حشد كلّ القوى للدفاع عن القائم.

أنا لا أتفق مع هذا النهج وأرفض، بشكلٍ مطلق ودون تحفّظ، فكرة الحفاظ على القائم والراهن. صحيح أنّنا ندافع، نعم الآن، في كلّ بؤرةٍ استيطانية، لكنّ اتجاهنا هذه المرة ليس دفاعيّاً. وليست هذه حجّة نظرية. إنّ تحديد مسار حربنا يعتمد، في رأيي، على كلّ شيء: الجُهد الذي سيبذل والنتائج التي سيتمّ تحقيقها.

يجب أن نرى بوضوحٍ كامل ما هو هدف العدو.

هذه المرة، نحنُ لا نواجه صدامات في منطقةٍ أو أخرى، أو في عددٍ من الكيبوتسات والمستوطنات، أو حتى في «الييشوف» بأكمله. إنّما يسعى العدوّ هذه المرّة لاقتلاع «الخطر الصهيوني» المتوقّع على فلسطين كجزءٍ من الأراضي العربية، وهو من وجهة نظره يرى ذلك على أنّه «الموجود». لذا، لحربنا هدف واحد فقط: حرب من أجل تحقيق الصهيونية، إن لم تكُن كاملة، فعلى الأقل من أجل الشروط التاريخية التي تضمن تحقيقها، وليس فقط حماية الوجود الاستيطانيّ. هذا هو اتجاه حربنا، على الرغم من أنّ أساليبها ستتغيّر من حين لآخر. لا أدري إن كنتُ أُعبّر عن رأي المؤسسات، لكن إذا كان هناك هذا الاتجاه- فالرجل الذي يتحدث عنكم لم يجلس في تلك المؤسسات ولا في هذه اللجنة.

إن حربنا ليست دفاعاً عن الموجود؛ لأنّه في رأيي لا يوجد «موجود» في البلاد، بالمعنى التاريخي للكلمة. إن الموجود كمثل بيتٍ موجود في حديقة، تعصف بهِ الرياح بسيطةً كانت أم شديدة، فيتناثر كما لو بُنيَ من ورق. لا أستطيع أن أحتمل نصيحة عدم الدفاع عن الصحراء، كما يجب الدفاع عن «تل أبيب». إذا لم تصمد الصحراء فلن تصمد «تل أبيب». ربما تكون مهمّة السيطرة على النقب أكثر عمليّة وضروريّة من سيطرتنا على «تل أبيب».

يخبرنا الدليل التاريخي أنه لن يوجد شيء يهودي في الدولة إذا لم نضمن انتصار الصهيونية. إزالة اثني عشر مليون دونم من الصحراء من الحساب، هذا حساب غير صهيونيّ. والمُدافعون يدافعون عن الصهيونيّة لا أقلّ ولا أكثر. من الخطأ الافتراض أنّ النقب «لن يهرب»، وأنّه يجب علينا الآن تنفيذ ما نستطيع تنفيذه، كما يعتقد البعض، ومنهم جالسين هنا.

إذا لم نأخذ الصحراء الآن، لن «يفلت» منّا النقب فحسب، بل لستُ متأكداً ممّا إذا كان بإمكاننا إبقاء «تل أبيب» بين أيدينا. والسؤال هنا ليس هل «سيهرب» النقب أم لا، إنّما هل سنذهب إلى النقب أم لا؟ نحن لسنا في النقب بعد. النقاط القليلة التي لدينا في الجنوب لا تمثّل النقب بأكمله، وإذا لم نرسل قوّات كافية إلى النقب، هذا يعني أننا نتركه. إذا لم نكُن هناك، سيرى [العرب] أنّ النقب تحت سيادتهم كأمرٍ مسلّمٍ به، أما أنّهم سوف يتركونه لنا، فذلك ليس سوى وهم فارغ.

لا يوجد فرق في هذا الصدد بين «مؤسسة الدفاع» وبين مشروعنا الاستيطاني في البلاد ككلّ. كلّ من هاجر إلى إسرائيل لم يهاجر لينعم بما هو موجود. الموجود ليس كافياً حتى الآن، بالتأكيد لم يكُن كافياً قبل 30 عاماً، وقبل 40 عاماً، وقبل 70 عاماً. كل جيلي الذي جاء إلى “إسرائيل” لم يأتِ للاستمتاع بـ «تل أبيب»؛ لأنّ «تل أبيب» لم تكُن موجودةً إلا في المخيّلة. لم يأتِ «ستامبر» و«سالومون»، [4] للاستمتاع في «بتاح تكفا» لأنّها لم تكُن موجودة أيضاً إلّا في خيالهما. 

وهذا «الوجود الخيّالي» -وليس الموجود في الواقع- كان دافع جميع الطلائعيّين (ها حلوتسيم). إنه أيضاً الدافع لجميع المدافعين عنّا. الرجال الذين يقفون ليلة بعد ليلة للدفاع عن حيّ «هتكفا»، ليسوا هم الذين أسّسوا الحي ولم يبنوه، وهم يُدافعون عن الأمل، أكثر ممّا يدافعون عن حي «هتكفا». وأيضاً، فإنّ أهميّة وتاريخيّة النقب أكثر عمقاً من «تل أبيب». [5]

يقال هنا إنّه يتعيّن على الخبراء تحديد طرق الحرب. بالطبع، نحن بحاجة إلى خبراء في مشروعنا الاستيطانيّ بأكمله. نحتاجهم في الزراعة والصناعة والتعليم وكذلك في الحرب. ولكن لن يقرر أيّ خبير ما الذي سنقاتل أو لا نقاتل من أجله، وأقول أيضاً وبدون تأتأة: لن يُحدّد أي خبير مسبقاً ما هي قدرتنا الحربيّة. هذه ليست قدرةً معيّنة ومحدّدة مسبقاً. هذه القدرة محدودة بلا شكّ، لكنّها زادت بشكلٍ كبير اعتماداً على الغرض من الحرب. ما نناضل من أجله هو ما يحدّد أبعاد القدرة. الهدف المحدود- يقلّل من قُدرتنا، الهدف الممتدّ- يتوسّع. من هو الخبير الذي سيخبرنا إلى أيّ مدى يرغب الشعب اليهودي في الدفاع عن مستقبله القومي؟

إذا أردنا نقل المياه إلى النقب، سيخبرنا الخبير عن كيفية القيام بذلك، لكنّنا لن نسأله عمّا إذا كان من المفيد نقل المياه هناك أم لا. ولستُ على استعدادٍ لسؤال أيّ خبيرٍ عمّا إذا كان الأمر يستحقّ أن نقاتل من أجل النقب. أنا متأكد من أنّه لدينا القوة لحماية كلّ فلسطين، وأعرف مصدر قوتنا. إذا كان الخبير يعرف مدى قوتنا، فسيكون قادراً على تقديم المشورة لكيفيّة استخدامها بشكلٍ أكثر فاعلية. وإذا كان يعرف ما هو هدفنا وما هي الوسائل المتاحة أمامنا، فقد نصحَ بالطريقة الأكثر عملية لتحقيق الهدف. الهدف نفسه سوف تحدّده إرادتنا الصهيونية، وحجم الإرادة يعتمد على حجم القوة.