نضع بين أيديكم هذا المقال المترجم، ضمن قسم عابرون، يعرّفنا بإطارٍ صهيونيّ انطلق مع تحولات المشروع الصهيوني التي صاحبت موجة الهجرة الثانية، وهو صندوق المرضى «كوبات حوليم»، الذي كان مسؤولاً عن تقديم الرعاية الصحيّة للعمّال في التجمعات الاستيطانية وشكّل نواة صندوق الضمان الصحي، ليخدمَ كعامل جذبٍ للاستيطان الصهيوني في فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى. تتوسّع المقالة في الخلفية الاقتصاديّة والسياسيّة والأيدولوجية لتأسيس الصندوق، بما في ذلك دوره كأداةٍ تنظيميّةٍ عملت على تعزيز منظومة القيم التي سعت الحركة الصهيونية لتعميمها، فضلاً عن الدور الاقتصادي والاجتماعي الذي لعبه الصندوق وأتاح له أن يكون فاعلاً مركزياً، في السياسة والمجتمع، ومنه لمجمل النظام الاقتصادي والاجتماعي الصهيوني لاحقاً.

نُشر هذا المقال،  للباحثة الصهيونية «شيفرا شوارتز»، في العدد الرابع من مجلة تاريخ الطب والعلوم المساندة في عام 1995، وتمّت ترجمته بتصرف يسير.  

 ****

 في عام 1911، أنشأ مجموعة من العمّال اليهود في فلسطين منظمة الرعاية الصحية مسبقة الدفع،  وأطلقوا عليها اسم «كوبات حوليم» للعمّال (صندوق المرضى)، بهدف تقديم خدمات صحية عادلة لجميع العمال، دون أن يقلق أيّ منهم من الطرد من على أبواب مؤسّسات الرعاية الصحية لعدم قدرته على الدفع. يبدو اليوم أن «كوبات حوليم»، والتي يمتدّ تاريخها لأكثر من [مئة] عام، تمتلك أهدافاً تتشابك مع اثنتين من كبرى المؤسسات الإسرائيلية، «الدولة» نفسها وحزب العمّال الذي يمتلك «كوبات حوليم» بشكلٍ كليّ [وذلك حتى تحرير الصناديق من سيطرة الهستدروت]، وهو تقديم الحد الأدنى المناسب من الخدمات الصحية العلاجية إلى جميع من في حاجتها.

ومن هنا جاءت هذه الورقة لتصف الأيديولوجيا والواقع اللذين أدّيا إلى تأسيس صندوق العمال المرضى في في بداية القرن العشرين، وتعالج تاريخه منذ بدايته (1911) حتى توحيد جميع الصناديق (1921) والتي شكلت المرحلة النهائية من إعادة تنظيمه. جديرٌ بالذكر أن هذه الورقة ليست تقييمية، إنّما تحاول تقديم صورة تاريخية-اجتماعية، في محاولة للوصول إلى فهم أفضل للعملية التي آلت بصندوق تمويل المرضى ليصبح فاعلاً رئيسياً في النظام الصحي الإسرائيلي.

«كوبات حوليم» للعمّال – نقطة البداية

في كانون الثاني 1903، وصلت المجموعة الأولى من الطلائع اليهودية إلى ميناء يافا في فلسطين، والتي كانت تحت الحكم العثماني، لتفتتح الموجة الثانية من الهجرة اليهودية إلى «إسرائيل». هذه الموجة، والتي حملت حوالي 35 ألف مهاجر، استمرّت حتى عام 1914. كان عدد الصهاينة في فلسطين عام 1903 حوالي 50 ألف صهيوني. أقامت الغالبية العظمى منهم في القدس، بينما أقام بعضهم في مدن طبريا ويافا والخليل، وحوالي 6500 صهيوني أقاموا في المستعمرات الزراعية التي أوجدها وموّلها البارون روتشيلد ما بين 1882-1900.

 استوطن معظم مهاجري الموجة الثانية في المدن، ومجموعة صغيرة فقط (ما بين 1500-2000) من الطلائعيين الشباب، معظمهم من ذوي الميول الاشتراكية، أصبحوا مزارعين في المستعمرات المقامة. قدِم معظم هؤلاء الطلائعيين إلى فلسطين بسبب إدراكهم للأزمة. كانوا منعزلين، بدون منظمة مركزية تدعمهم أو توجُّه واضح وفكرة رائدة، أتوا بأفكار اشتراكية ممزوجة بالصهيونية وحلم بالقيامة الوطنية في «إريتس إسرائيل» (أرض إسرائيل). معظمهم قدموا من طبقات اجتماعية واقتصادية متدنية من مناطق نائية في جنوب روسيا. ومعظمهم (65 بالمئة) كانوا عزّاباً في العشرينيات، بلا أي تدريب احترافي أو أساس مالي، وكانوا علمانيين في عقيدتهم. بينما حصل 30 بالمئة منهم على تعليم ثانوي، أما البقية فلم يحصلوا إلا على التعليم اليهودي التقليدي. كان متوسط المستوى التعليمي للنساء أعلى منه للرجال، لكنّ المعرفة باللغة العبرية كانت أفضل وأكثر شيوعاً بين الرجال.

 وبعد فترة قصيرة من وصولهم إلى فلسطين، اكتشف هؤلاء أن هناك فجوة كبيرة ما بين أفكارهم وأفكار [المستوطنين] القدامى –المزارعين الذين قدموا خلال الهجرة الأولى (1882-1903). «عادة، يميل أولئك الذين يستعدون للسفر إلى فلسطين إلى التفكير في فلسطين الجميلة الرومانسية والتفكير في مستقبلها، وذكريات ماضيها العريق وآثارها الساحرة، متجاهلين فلسطين الحقيقية، بحياتها اليومية البسيطة». هكذا وصف الشاب «دافيد بن غوريون»، في واحدة من رسائله الأولى إلى والده من فلسطين، حيث أن الفجوة ما بين توقعات المهاجرين الصهاينة والواقع الذي واجهه فيها، جعلت من الصعب عليهم الاندماج كمزارعين في المستعمرات.

 بالإضافة إلى ذلك، كان هناك بونٌ شاسع بين خلفيات طلائع الهجرة الثانية وتطلعاتهم مقارنةً بأسلافهم المهاجرين في الموجة الأولى؛ فمعظم القدامى عاشوا نمط حياة ديني، تلقوا دعماً مالياً ثابتاً من المتبرعين اليهود في الخارج للبقاء (مثل البارون روتشيلد من فرنسا أو البارون هيرش من ألمانيا)، تكلموا اليديش أو الفرنسية أوالروسية أو الألمانية، إلى جانب العبرية، وشغّلوا العمال العرب. كان الهدف الرئيسي للمزارعين أن يحصلوا على الأرض وأن يُوجدوا المستعمرات. حيث شكلّ ذلك بالنسبة لهم الجزء الأكبر من الفكرة الصهيونية القومية. في حين أن الأفكار الاشتراكية التي حملها طلائع الهجرة الثانية، كانت غريبة على المزارعين القدامى ونبّهت مقاومتهم.

وهكذا فصل المزارعون أنفسهم عن نمط الحياة العلماني المتحرّر الذي مارسه القادمون الجدد، وعن مطلبهم بأن يتكلموا العبرية فقط، وعن فكرة «الغزو العمّالي»، والتي كانت تعني الإلغاء الكامل للعمالة العربية الرخيصة في المستعمرات والتشغيل الحصري للعمال اليهود، وكان أكثر ما أثار حفيظتهم، النقد الذي تمّ توجيهه إليهم بأنهم أصبحوا أغنياء بفضل البارون روتشيلد. كانت الحجج المضادة للمستوطنين المزارعين بأنّ الحاجة المالية أجبرتهم على توظيف العمال العرب وأنّ رفض العامل العربي وتحويله إلى عدو ليس أمراً مُربحاً أو عادلاً. سرعان ما سبّب ذلك العديد من المشاجرات، وقاد إلى كسر العلاقات بين المجموعتين، وسبّب عزلة اجتماعية لعمّال الموجة الثانية في المستعمرات، وكان سبباً رئيسياً لعدم تشغيلهم.

زاد تأزّم الأمور بحلول العام 1906، فأعلن مجلس مستعمرة «بتاح تكفا» مقاطعة العمّال، مشيراً إلى أنه يجب على المستوطنين التوقف عن تشغيلهم وتأجيرهم الشقق، فضلاً عن العديد من الصعوبات الأخرى التي واجهوها، كالتغيّر المناخي وظروف الحياة البدائية والعمل الصعب والتغذية غير الكافية، كلها أثّرت على صحة هؤلاء الشبان. أصيب الكثير منهم بالمرض وماتوا من الإهمال بسبب نقص الرعاية الصحية المناسبة في الزمان والمكان المناسبين، ولم ينجح إلّا القليل منهم بالوصول إلى أحد المستشفيات اليهودية بالقدس. كانت هذه المستشفيات تقدّم الرعاية الصحية إلى الجميع، ولكنّ البعد وتكلفة المواصلات والأمراض، كانت تمنع معظم العاملين من الحصول على خدماتها.

 في المستعمرات الكبيرة، كـ «ريشون لتسيون» و«بتاح تكفا» و«ريحوفوت»، كانت تُقدّم رعاية صحية جزئية إلى العمال ولكنّها كانت تعتمد على العطف والنية الحسنة لمجلس المستعمرة. أربكت هذه الاعتمادية أيديولوجيا العمال كثيراً، إذ آثروا البقاء مستقلين، وقد اعتبروا أن تلقي رعاية طبية خيرية مخالفٌ لمبادئهم الإشتراكية. فضلاً عن ذلك، لم تكُن مجالس المستعمرات ترى أن من واجبها تقديم رعاية طبية للعامل المريض. مثلاً، احتوى النظام الأساسي لمجلس «بتاح تكفا» على فقرةٍ تنصّ على أن من يحتاج طبيباً عليه أن يدفع له، وإن كان عاجزاً عن الدفع فإنه يُحرم من الرعاية الصحية. وقد زاد الصراع الاجتماعي بين مستوطني الموجة الثانية ومشغّليهم من حدّة الموقف، وخلال المقاطعة منع مجلس المستعمرة الطبيب المحلي «د.ستين» من رعاية زوجات العمال عند ولادتهن. حفّز هذا النقص في الرعاية الصحية العمالَ على تنظيم أنفسهم بأنفسهم ورعاية المرضى بينهم، خاصّةً العمال الوحيدين الذين ليس لديهم من يرعاهم عند المرض.

المحاولات الأولى لتنظيم الخدمات الصحية للمستوطنين العمّال

  لمعالجة مسألة العناية بالمستوطنين العمّال المرضى، تبنّى عمّال «بتاح تكفا» العادة اليهودية التقليدية «لينات تسيديك» (المراقبة الليلية للمريض)، والتي عرفوها من قرى الشتات اليهودي. وهكذا، تمّ توزيع المناوبات بين العمّال الأصحاء للبقاء مع زملائهم المرضى، وفي حالات المرض الشديد كانوا يبقون إلى جانبهم حتى خلال الليل. «وهكذا بدأنا بإحياء هذه العادة في الشتات، وعندما يكون أحد زملائنا مريضاً، فكنا -أيّ المتطوعين للتعامل مع مشاكل العمال- نجهّز الوضع للمرضى الذين سيتم زيارتهم ورعايتهم، حتى قبل معرفة العلاج بالأدوية أو الأطباء أو اعتباره».

كانت استعارة المعدّات الطبية (موازين الحرارة، كؤوس الحجامة، الخ) من مجلس المستعمرة متاحةً للعمال مقابل ضمانٍ ما -أداة يدوية، على سبيل المثال- وبعد الانتظار لفترة طويلة في الطابور، بما أنهم كانوا يُعتبرون «غرباء». في «ريهوفوت»، أوجد العمّال جمعية للمعونة المتبادلة «لينا» تقوم على نفس المبدأ، بهدف رئيسي وهو زيارة أعضائها المرضى في منازلهم ومساعدتهم. تركّزت مساهمتها العلاجية في تقديم الدعم بشكل أساسي، كمساعدة المرضى منهم جسدياً في الاستحمام، وتحضير الطعام، وغسيل الملابس، والإشراف العام. في عام 1907، عندما انتقل العديد من المستوطنين العمّال إلى منطقة الجليل، أُنشِئت هيئة «بيكور حوليم» (زيارة ومساعدة المرضى) هناك أيضاً.

 تحدّى مهاجرو الموجة الثانية الواقع دون تراجع عن مبادئهم وتفرُّدهم باستخدام التنظيم الجماعي لتوفير احتياجاتهم الوظيفية. كما ذُكر مسبقاً، لم يكونوا جاهزين للاندماج داخل الأطر الموجودة، وفصلوا أنفسهم عن مزارعي المستعمرات – مُشَغليهم – ورفضوا قبول أيّ مساعدةٍ منهم على شكل صدقة. حافظوا على استقلاليتهم بأيّ ثمن؛ وأنتجوا لأنفسهم أدوات تنظيمية لمواجهة مشاكلهم الملحّة: العزلة الاجتماعية، والطعام، والعمل، وأماكن المعيشة. هذا التنظيم، والذي بدأ على مستوى محلي، توسع بشكلٍ عفويٍّ وحازمٍ بمرور الوقت ليصبح هيئةً على مستوى المنطقة، وأوجدت القيادة والتنظيم السياسي، والتي عبّرت عن نفسها في تأسيس حزبين عماليين، وهما: «هابويل هاتزير» و «بوالي صهيون». وعلى الرغم من اختلاف نظرتهما السياسية، فإنّ موقفهما فيما يتعلق بتنظيم خدمات الرعاية الطبية كان متطابقاً؛ أي أنهم آمنوا بوجوب إنشاء إطار طبي ثابت مناسب لتوفير الرعاية الطبية للعمال.

كانت المحاولة الأولى لإيجاد إطارٍ طبيّ احترافيّ للعناية بالعمال [الصهاينة] من صنع الطبيب «د.هيليل يافي» في مستعمرات شومرون (زيخرون يعقوب وحاديرة). أما «د.يافي»، وبعد أن أتمّ دراسته في كليات الطب في جنيف وباريس، هاجر إلى فلسطين في 1891 وعمل كمديرٍ للمستشفى الذي أوجده البارون روتشيلد في «زيخرون يعقوب». ثمّ توجه في عام 1901 لإدارة مستشفى «شعار صهيون» المجتمعي في يافا، وبدأت اتصالاته مع مهاجري الموجة الثانية عند استلامه للإدارة (1901-1904). وقد خصّص نصف وقته للزيارات في مستعمرات منطقة يهودا لعلاج العمال المرضى وتقديم النصح لهم فيما يتعلّق بإرشادات المحافظة على صحتهم وكيفية تجنّب التقاط الملاريا. ولأجل تحقيق هذا الغرض، نشر كتيّب «الحفاظ على الصحة في فلسطين» عام 1904، واستمرّ بهذا العمل عندما عاد لإدارة مستشفى «زيخرون يعقوب» عام 1904. 

فضلاً عن ذلك، تولى «د.يافي» طواعيةً العناية بصحة العمال في منطقة السامرة، وقام بتجديد مطبخ مستشفى «زيخرون يعقوب» ليكون بمثابة مطعمٍ وعيادةٍ للعمّال، وسمح لهم بالاستفادة من خدمات المستشفى، وقدّم لهم إقامة مناسبة في البنايات الفارغة في المستعمرات وأعطاهم ألواح نوم خشبية –والتي كانت مكلفة في ذلك الوقت-. كما حفّزه النقص في طواقم الرعاية الطبية بين العمّال على إنشاء مرافق تدريبٍ محليّةٍ لتوفير مثل هذه الرعاية. كما وظّف شابات الهجرة الثانية في مستشفى «زيخرون يعقوب» ودرّبهن على تقديم العلاج الطبي والإسعاف الأولي، ممّا مكنهنّ من العمل لاحقاً في المستعمرات الجديدة ضمن مجموعات العمّال.

 كان واحداً من أهم أعمال «د.يافي» مبادرته إلى إنشاء أول تنسيق طبي مؤسَّسي مع عمال «حاديرة» عام 1909، حيث اقترح أن يستفيدوا من خدمات مستشفى «زيخرون يعقوب» مقابل قسط سنوي شامل. وبذلك ضَمِن أن تقدّم الرعاية الطبية إلى العمال كحقّ، وليس كصدقة، وأتاح لجميع عمال «حاديرة» -حتى العاطلين عن العمل منهم- أن يحصلوا على الخدمات الصحية الضرورية. في الوقت ذاته، بدأ بإنشاء «صندوق المساعدة الوبائية التعاونية»، والذي كان بمثابة الخطوة الأولى لتأسيس صندوق العمال المرضى على أساس المعونة المتبادلة.

(مستوطنون من جيل الهجرة الثانية، ممّن شاركوا في تأسيس صندوق المرضى الصهيوني، 1914. الصورة من أرشيف معهد لافون لأبحاث الحركة العمّالية )

الأحزاب العمّالية ومنظمة الرعاية الطبية

 على الرغم من أنّ مشكلة الرعاية الطبية كانت على أجندة العمّال طوال تلك السنوات، لكنّ محاولات قليلة –معظمها فشلت- سعت لحلّ مشكلة نقص الرعاية الطبية للعمال أو تكلفتها العالية. ففي آب 1906، ذكرت مسودّة برنامج حزب «هابويل هاتزير» المشكلات الصحية الجادّة للعمّال واقترحت تأسيس «صناديق رعاية للمرضى والعاطلين عن العمل». وكذلك بروتوكولات مجلس الحزب في حزيران 1906 التي ذكرت الحاجة إلى إنشاء صندوق إقراض وآخر للمرضى، حيث أفادت: «لقد جمعنا للأول 500 فرنك ومبلغاً نقدياً للآخر، ونحن قادرون عملياً على تحقيقهم». بعد سنة، وفي مؤتمر الحزب في حزيران 1909، نوقشت مجدّداً قضايا البطالة والجوع والمرض التي عانى منها العمال بشدة… ». في حين أنّه من المعتاد في كل مكان في العالم أن يتمّ منح الرعاية الطبية حتى لنزيل السجن المحكوم بالسجن المؤبد، يتمّ التعامل مع العمّال اليهود بقسوة لا تضاهى». أيضاً، أعلن حزب «بوالي صهيون» في مؤتمره السادس في تشرين الأول 1910، أنه من الضروري أن يتم توفير الرعاية الطبية للعمّال بشكل منهجي ومرتب.

وعلى الرغم من اعتراف جميع العمّال بأهمية وجود مؤسّسةٍ تقدم الرعاية الطبية لهم، لم يؤدّ ذلك إلى تأسيسها بشكل فوري، بل كان هناك من عارض الفكرة. حيث كان بعضهم متخوّفاً من أن وجود مؤسسة تقدم الرعاية الطبية حصراً للعمال سيسبب شرخاً في المجتمع اليهودي؛ لأنّ الجميع بحاجة إلى هذه الرعاية، ولا ينبغي التمييز بين المرضى. أكثر المتحمسين لتأسيس معهد صحي للمجتمع العمالي وتفعيله الفوري كانوا العمال «غير المُسيّسين»، [1] الذين لم يكونوا ملزمين باعتبارات سياسية أو غيرها.

 استاء عمّال الموجة الثانية من المنافسة بين الحزبين ومن صراعاتهم الداخلية، وبحثوا عن مساحات يمكن لهم أن يكونوا ناشطين فيها والتي من شأنها أن تصبّ بشكل أساسي في تحسين الحياة وتوفير الرفاهية للعمال الزراعيين. بناءً على هذه الخلفية، أُنشئت منظّمات العمال المزراعين في يهودا والجليل عام 1911، وكانت لديهم أربعة أهدافٍ رئيسة: تحسين ظروف العمال في التجمّعات الزراعية (كينيريت، بن شيمين، حلدا)، ودمجهم في المستعمرات في مجموعات نشطة، فضلاً عن تعزيز المشاركة الفعالة في «النشاط الاستيطاني» للمؤسسات المحلية والمؤسسات المؤسّسة القائمة على المعونة المتبادلة مثل المطابخ والمغاسل وصناديق المرضى. لقد كانت هذه المنظمات ناجحة للغاية وخدمت حوالي 500 عامل، وكانت أساس التنظيم العام الذي وُجد بعد الحرب العالمية الأولى.

تأسيس صندوق المرضى لمنظمة المزارعين في «منطقة يهودا»

 في أيار 1911، وقبل فترة وجيزة من تأسيس «منظمة عمّال منطقة يهودا» في حزيران 1911، وقع حادث قُطعت فيه يد عامل كان يعمل على محرك بئر في بستان يقع ضمن مستوطنة «بتاح تكفا». أبدى هذا الحادث للعمال جدّية المشكلة الصحية وحسم الأمر بالنسبة لكل من تردّدوا أو استخفوا حتى الآن بالحاجة إلى تنظيم الرعاية الطبية وضمان إعاشة العامل أثناء مرضه.

أثّر شيوع خبر الحادث على العمال المزارعين في «منطقة يهودا» والذين تمّ جمعهم في مؤتمرهم الأول في «عين جانم» بشهر حزيران 1911 لتأسيس «منظمة عمّال يهودا»، حيث ناقشوا الحادث بشكلٍ موسّع وقرروا السعي لإيجاد حلٍّ شاملٍ لمشكلة الرعاية الطبية للعمّال كما هو محدد في أهداف المنظمة المخطط لها. أفاد البند الرابع –والأخير- على أجندة المؤتمر «بضرورة مناقشة تأمين إعاشة العامل الذي يصاب في العمل، وتقرّر تكليف لجنة المنظمة –التي ستُنتخب- بمعالجة هذه المشكلة». عملياً، وافق مستشفى «شعار صهيون» على إدخال أي عامل يمرض دون تأخير، بينما تتكفّل لجنة المنظّمة بدفع تكاليف العلاج لجميع العمال. وبناء على الاتفاقية، تمّ حجز سريرين على الدوام للعمال المرضى، كما أنشئت غرفة من أربعة أسرّة للنقاهة.

سبّبت قرارات المؤتمر الأول صراعاتٍ بين أعضاء اللجنة بشأن تفعيل وتمويل صندوق المرضى الخاص بالعاملين، وتقرّر تأجيل القرار النهائي فيها إلى المؤتمر الثاني والذي سيعقد في «بتاح تكفا» في كانون الأول 1911. كان بين المنظمين للمؤتمر الثاني «بيرل كاتزنيلسون»، أحد قيادات مهاجري الموجة الثانية وأحد قيادات العمال غير المنظمين. دعم «كاتزنيلسون» فكرة صندوق مرضى للعمال فقط، وكان مقتنعاً أنه يجب على منظّمات العمال أن توجدها. كان يعتقد أنه يجب على منظمة عمّال يهودا أن توسّع أنشطتها بين العمّال لتشمل مساحاتٍ خارج نطاق اختصاص النقابات المهنية، مثل الثقافة والتعليم والإعلام وتنظيم المعونة المتبادلة بين العمال، فضلاً عن إنشاء صندوق للمرضى.

وفي عيد «الحانوكاه» لذلك العام، 18 كانون الأول 1911، وضمن قرارات المؤتمر الثاني لمنظمة عمال يهودا في «بتاح تكفا»، وبفضل ضغط «بيرل كاتزنيلسون» الهائل الذي دفع القضية، رأى «المؤتمر أنه من الضروري إنشاء صندوق مرضى قائم على رسوم العضوية للعمّال في فلسطين». وبناء على مقترح «كاتزنيلسون»، سيتمّ تمويل الصندوق من مدّخرات الأعضاء على أساس الضمان المتبادل والمساعدة. بالتالي، وبناءً على تمثيل أماكن العمل، انتُخبت لجنة صندوق المرضى المستقلّة عن أي حزب سياسيّ. وبعد المناقشة العامة التي بدأت بعد تقارير اللجنة، أكد «بيرل كاتزنيلسون» على ضرورة  «إيلاء مزيد من الاهتمام لظروف حياة العامل. فالمعونة المتبادلة ضرورية، ويجب ألا تؤجل». وعلى الرغم من أن معظم المندوبين في المؤتمر الثاني وافقوا على إنشاء صندوق مرضى خاص بالعمال، إلا أنه لم يكُن هناك جسم يتحمّل مسؤولية تنفيذ القرار، وهكذا بقيَ قراراً على الورق.

 تمّ قبول القرارات -التي تشبه إنشاء منظّمة عمال يهودا صندوقاً للمرضى- في اجتماع مندوبي عمال الجليل (13-14 كانون الثاني 1912) وفي اجتماع «عمّال السامرة» (تموز 1912). ففي «السامرة»، انتُخبت لجنة من خمسة أعضاء لصندوق المرضى، تكمن وظيفتها في تنظيم مبيت المرضى إلى جانب إدارة الصندوق. قوبل قرار إنشاء صندوق للعمال المرضى بردود فعل مختلفة لدى مجتمع المستوطنين العمال. حيث أشارت صحيفة «أشدوت» إلى أن العمّال في بعض المناطق كانوا متحمّسين للقرار وبدأوا مباشرةً بتسجيل الأعضاء وجمع الرسوم. بينما لم يقُم العمّال في مناطق أخرى بأيّ شي، حيث جادلوا بأنّ إنشاء الصندوق لن يساعد؛ لأن العديد من الأعضاء سيرفضون مساعدة زملائهم لهم لاعتقادهم بأنها نوع من الصدقة، الأمر الذي يرفضه جميع العمال.

تنظيم صندوق المرضى للعمّال 

 إذا كان تولي إنشاء صندوق للمرضى أمراً صعباً، فقد كانت الترتيبات العملية المناسبة أكثر صعوبة. ففي تعميمٍ أرسلته لجنة «عمال يهودا» (حزيران 1912) أقرّت بموجبه تحصيل رسوم العضوية في صندوق المرضى بمقدار نصف «بشليك» (10 ميل) شهرياً، والذي كان يعادل في حنيها ربع أو ثلث الأجر اليوميّ للعامل اليهودي. وعلى اعتبار أن معظم العمال لم يكن لديهم عمل أسبوعي ثابت، لم يكُن هذا المبلغ ضئيلاً. 

اختُتم المرسوم بمناشدة العمال للمشاركة في توفير المساعدة للمرضى، على أن يتمّ جمع جميع الأموال اللازمة خلال سنة والبدء في تقديم الرعاية الصحية لهم. كان هذا المبلغ بمثابة رأس مالٍ أساسيّ لعمل الصندوق. بعد أسبوعين، وخلال جلسة عامة لأعضاء لجنة منظمة عمال يهودا عُقدت في «ريحيفوت»، اقترح «بيرل كاتزنيلسون» النظام الأساسي لصندوق المرضى في ثلاث نقاط رئيسية:

  1. قبول عضوية العمّال والحرفيين الذين يعملون بشكل مستقل.
  2. يدفع كل عضو فرانك واحد كرسوم تسجيل، ونصف «بشليك» كل شهر.
  3. يلزم كل عضو بالمشاركة في المبيت مع المرضى بنفسه أو إرسال عضو آخر مكانه.

تصف مراجعة نُشرت في صحيفة «أشدوت»، تحت عنوان «حول صندوق المرضى»، الوضع في ذلك الحين (صيف 1912)، وبعد نصف سنة من اتخاذ القرار بإنشاء صندوق للمرضى:

 «يوجد في مزرعة «بن شيمين» 35 عضواً في صندوق المرضى وعلاقتهم به إيجابية، وقد تم جمع 46.5 فرانكاً. وجمع 40 فرانكاً في «بتاح تكفا»، وفي «ريحيفوت» لم يتخذ أيّ إجراء، حيث أن معظم العمال كانوا حراساً في الكروم وبالتالي فإن النشاط سيبدأ فقط في نهاية الموسم. وفي «ريشون لتسيون» و«بئر يعقوب» حيث يتغيّر العمال طوال الوقت وبالتالي لم يتم عمل أي شيء. وفي «حلدا» -حيث العمال غير مكترثين عادة حيال جميع المؤسسات- اكتُشف أن هنالك موقف إيجابي تجاه هذه المؤسسة. أما موقف عمال يافا فلم يكن واضحاً. وحسب تقارير مندوبي المستعمرات، يمكن أن نرى أن موقف العمال بشكل عام كان إيجابياً وتمّ جمع 40 بالمئة من الأموال اللازمة. وبالتالي يمكن لنا أن نتأمل تطوّراً جيداً لهذه المؤسسة في المستقبل».

 بعيداً عن الملاحظة العاطفية للمقال وغالبية الوصف الإيجابي لموقف العمّال تجاه تأسيس صندوق المرضى، لم تُجمع الموارد اللازمة بالسرعة اللازمة وتأخّر تفعيل صندوق المرضى. حفزت هجرة العمال الجُدد والحاجة إلى توسيع خدمات الرعاية الطبية المبادرين والداعمين لصندوق المرضى –أعضاء منظمة عمال يهودا- إلى تنظيم اجتماع في يافا لمناقشة طرق تغيير وضع صندوق المرضى مع مندوبين من مستوطنات «ريحوفوت» و«ريشون لتسيون» و«بئر يعقوب» و«بن شيمين» و«بتاح تكفا»، ونادي العمال في يافا.

(أول بطاقة عضويّة في «كوبات حوليم». الصورة من أرشيف الباحثة الصهيونية شيفرا شوارتز)

المؤتمر التأسيسي لمنظمة عمال يهودا – «كوبات حوليم»

 في آب 1912، تّم عقد مؤتمر إنشاء صندوق المرضى لمنظمة عمال يهودا في يافا، وكان سؤال جدول الأعمال الرئيسي كيف ننظم الصندوق؟ وكيف نسدّ النقص في الموارد؟ فاقتُرح أن يُنظم «يوم صندوق المرضى»، يتبرع خلاله العمّال بأجورهم لتلبية احتياجات الصندوق. أيقظ هذا المقترح الخلاف بين المندوبين، وجادل المعترضون بأنّه لا يُمكن للعامل اليهودي التبرع بأجرة يومٍ كامل بسبب المصاعب المالية. اقترح آخرون الاكتفاء برسوم العضوية أو جمع الأموال اللازمة من إيرادات الأحزاب واليانصيب والتبرعات، لكنّ هذا الاقتراح عورض أيضاً، وذلك لاعتقادهم بأنّ هذه الكلفة يجب أن تقع على عاتق العمّال أنفسهم وعليهم تمويلها من مصادرهم الخاصة.  أما فيما يتعلق بـ «يوم صندوق المرضى»، فقد اعتُبر أنّه سيجمع الأعضاء وسيعبّر عن ارتباطهم بالصندوق. 

تقرّر في النهاية بأغلبية الأصوات جمع مبلغ 600 فرانك قبل عيد «الحانوكاه»، فضلاً عن تنظيم يوم كـ «يوم صندوق المرضى» يتبرع فيه العمّال بأجورهم للصندوق.

بحث المؤتمر في مسودة النظام الأساسي لـ«كوبات حوليم» التي صاغها «بيرل كاتزنيلسون»، والتي تمّت الموافقة عليها مؤقتاً وسيتم مناقشتها مجدداً في المؤتمر القادم بعد أخذ آراء العمال، وانتُخب ثلاثة أعضاء من «بتاح تكفا» وعضوان من يافا للجنة «كوبات حوليم». 

التحدّيات الأولى

 حتى بعد المؤتمر الأول لـ «كوبات حوليم» لعمال يهودا، لم يُلحظ أي تقدم نحو تفعيل الصندوق. ففي تقرير أعدّه «دافيد بوشس» –والذي عيّنه المؤتمر الأول لتنظيم عمل مكتب «كوبات حوليم»- ذكر فيه أن هناك إهمالاً ولا-مبالاة تامة من معظم اللجان المحلية في جمع الموارد، وأنّ قرار إقامة يوم «كوبات حوليم» لم يُنفّذ بالكامل. على الرغم من أن بعض وثائق العمال تفيد بأنّ الاستجابة في بعض الأماكن كانت كاملة وأن معظم العمال تبرّعوا بأجورهم منذ ذلك اليوم لـ «كوبات حوليم».

 في المؤتمر الثالث للعمّال يهودا في مزرعة «بن شيمين» في كانون الأول 1912، نوقشت مجدداً مسألة «كوبات حوليم» وانتُخبت لجنة أخرى، والتي نشرت نداءً عاماً وجمعت أكثر من 700 فرانك. في أول تعميم وزّعه مكتب منظّمة العمّال اليهود بشأن «كوبات حوليم» بعد المؤتمر الثالث، ذُكر فيه ضرورة «توجيه كل جهودنا القوية نحو إنشاء «كوبات حوليم»، فمن يتحمّل أعباء أمراض البلد إن لم يكن العامل الجديد على وجه الخصوص، حتى ينهار الجميع تحت هذا العبء، لذلك سيكون «كوبات حوليم» هو البداية الأولى لحماية أنفسنا من هذه المحن …».

وفي نيسان 1913، خطّطت لجنة «كوبات حوليم» المنتخبة حديثاً لعقد مؤتمرٍ آخر لأعضائها في «بتاح تكفا» لمناقشة صياغة النظام الأساسي لـ «كوبات حوليم» -بناءً على مسودة «بيرل كاتزنيلسون» التي أُرسلت من قبل إلى الفروع لمناقشتها، بالإضافة إلى التخطيط لنشاط الصندوق وانتخاب مندوبٍ عن كل 15 عضواً.

عُقِد المؤتمر في نهاية المطاف في حزيران 1913 في يافا وليس في «بتاح تكفا». وبالإضافة إلى المندوبين من المستعمرات والمزارع، شارك أعضاء المكتب المؤقت لـ «كوبات حوليم» ومندوبي اللجنة المركزية لعمال يهودا، وكذلك مندوبو نادي العمال في يافا ود. «شيرمان» مندوباً عن المنظمة الطبية العبرية، والتي أنشئت في يافا في كانون الثاني 1912. وهكذا، كان «كوبات حوليم» المؤسسة الأولى التي ضمّت العمّال اليهود من البلدات والمستعمرات. في المؤتمر، وضع برنامج العمل للمستقبل القريب، وحسمت الأسئلة التنظيمية المختلفة، ونوقشت مصادر الدخل، وثبتت أخيراً قرارات «كوبات حوليم» ولوائحه التفصيلية. وفي الأنظمة التي نشرت في 1913 في يافا، تمّ إقرار أساسيات التمويل ومتطلبات العضوية. كما تكشف هذه القرارات واللوائح هدف مؤسسي «كوبات حوليم» فيما يتعلق بشكل المعونة المتبادلة وطبيعتها. 

قوانين «كوبات حوليم» برعاية منظمة المزارعين في منطقة يهودا

 فيما يلي القوانين والقرارات الأساسية لصندوق «كوبات حوليم»، والتي تمّ إقرارها في المؤتمر الثاني لمندوبي الصندوق في يافا عام 1913:

  1. أُنشئ الصندوق على أساس المعونة المتبادلة بين الأعضاء ويعمل وفق هذا الأساس.
  2. تُقبل عضوية العمّال والحرفيين العاملين لحسابهم الخاص.
  3. يُلزم كل عضو بالمشاركة في المبيت مع المرضى أو بإرسال بديل عنه.
  4. يحقّ للعضو المنتسب المريض الحصول على طبيب ودواء ومرافق ليلي وسرير مستشفى عند الضرورة.
  5. بخصوص عائلة العامل المنتسب، يتمتع جميع أفرادها بكامل حقوق الأعضاء.
  6. يحصل العمال الجُدد الوافدين إلى البلاد، وقبل انتسابهم كأعضاء في الصندوق، على نفس الرعاية التي يحصل عليها الأعضاء خلال أوّل شهرين لهم في فلسطين. وبعد شهرين، لا يتمتّع العمّال الذين لم يوفوا بالتزاماتهم تجاه الصندوق بحقوقه، وقد يقوم الصندوق بمساعدتهم في حالاتٍ خاصة.

عبّرت أنظمة «كوبات حوليم عمّال يهودا» بوضوح عن فكرة المعونة المتبادلة، والتي كانت واحدة من المبادئ الأساسية لعمّال الهجرة الثانية. كانت هناك أهميّة خاصة للبند الذي يتعامل مع واجب الأعضاء بالمشاركة في «المراقبة الليلية» للمرضى؛ لما لها من أهمية معنوية كبيرة بين العمال المرضى، فهي تقوّيهم وتشجّعهم في وحدتهم. أثبتت عادة «لينات تسيديك» (المراقبة الليلية للمرضى) نفسها بالفعل في السنوات السابقة لـ «كوبات حوليم» كواحدة من أنجع الأدوات في مساعدة العامل الوحيد خلال مرضه. وللمفارقة، يمكن القول إنّه من خلال فرض واجب «المراقبة الليلية» في إطار اللائحة التي وضعها العمال، منح العمّال شرعية أيديولوجية لأحد مبادئ تقاليد الشتات اليهودي التي أرادوا التخلص منها حالما أتوا إلى فلسطين.

لم تتضمّن لوائح «كوبات حوليم» الأولى خططاً عملية لإنشاء مؤسّسات للصندوق (كغرف للمرضى أو عيادات) وتعاملت بشكل أساسي مع تأسيس صندوق للتأمين الصحي التعاوني، كما لم تتضمّن البنود المتعلّقة بالمزايا المرضية ومدفوعات النقاهة، ولكن حتى ذلك الحين تمّ تحديد مدفوعات المساعدات لعائلات الأعضاء وللعمّال الوافدين.

 وعلى الرغم من أن المستوطنين المزارعين هم من بدأوا بفكرة «كوبات حوليم»، لكنّ لوائح الصندوق وقراراته لم تفرّق بين عمّال المدينة والمستوطنات الزراعية. إذ تمثّل هدف مؤسّسي «كوبات حوليم» بإقامة مشروعٍ مشتركٍ لمعسكر العمّال بأكمله، وليس فقط للمزارعين. كان الشرط الوحيد للقبول بانتساب العضو في الصندوق هو أن يكون عاملاً. وقد تمّت مناقشة سؤال (من يملك الحق في أن يُحسب كعضو) عدّة مرات في المستقبل، وشكّل خلافاً رئيسياً في تاريخ «كوبات حوليم». وقد استمرّت لوائح «كوبات حوليم» – والتي كانت تُقرّ وفقاً لاحتياجات العمّال الفورية- على مرّ السنين، وشكّلت الأساس التنظيمي للصندوق والأساس الأيديولوجي الذي نما عليه حتى وصوله ليصبح منظّمةً عملاقة.

(الفرع الأول لخدمات «كوبات حوليم» نٌصب في «عين جانم» بالقرب من «بتاح تكفا»، عام 1914. الصورة من أرشيف معهد لافون لأبحاث الحركة العمالية)

برنامج العمل الأول

  جاء المؤتمر الذي عقد في يافا سنة 1913 ليؤكّد على القوانين وليحدّد برنامج العمل في «كوبات حوليم» في المستقبل القريب. وقد أسفر المؤتمر عن القرارات التالية:

  1. تنظيم لجان في مدينتي القدس ويافا (بواسطة منظمات العمّال المختلفة)، والتي بدورها ستكون مسؤولة عن المحافظة على تواصل وثيق مع مكتب «كوبات حوليم»، والمساعدة في تسجيل العمّال المرضى، والتفاوض مع مدراء المستشفيات، وكذلك التفاوض وتوقيع العقود مع الأطباء والمستشفيات.
  2. التناقش مع الأطباء واللجان في القرى حول المساعدات الطبية.
  3. ربط الترتيبات في كلّ موقع مع الظروف المحلية له.
  4.  استئجار غرف خاصّة للمرضى في القرى، بحيث تكون هذه الغرف فيها عدد كبير من الموظفين التابعين لـ «كوبات حوليم»، خاصةً في الأوقات التي ينتشر فيها المرض. إضافةً إلى توظيف ممرض أو مساعد ممرض ثابت أو مؤقت لعلاج المرضى تبعاً للاحتياجات المحلية الآنية.
  5. التواصل مع مكتب فلسطين ومع ممثلي الجمعيات الاستيطانية لتحديد التزامات المزارع والجمعيات فيما يخص المساعدات الطبية لموظفيهم.
  6. محاولة الانضمام إلى جميع فعاليات صناديق المرضى الموجودة للعاملين في القطاع الخاص

وعلى خلاف مسودّة القوانين الأولى، شمل برنامج العمل الموسّع هذا تأسيس لجان في المدن، وافتتاح غرف خاصة للمرضى، وكذلك بدء التواصل مع الأطباء ومع المستوطنات فيما يتعلق بالمساعدات الطبية، فضلاً عن عقد الشراكات مع المستشفيات، وعمل تنظيماتٍ لعمال المستوطنات الزارعية، ونشر المعلومات والتدريبات الطبية.

أما بالنسبة للمسائل التنظيمية، فقد كان من المقرّر جمع إيرادات الصندوق من المصادر التالية: رسوم شهرية من الأعضاء، أو من تبرّعات مؤقتة وغير مخطط لها من الأعضاء، وتنظيم محاضرات ومهرجانات للعمّال، وكذلك مدخولات يوم «كوبات حوليم». وهكذا، تأتي كامل إيرادات الصندوق من مصدر واحد، ألا وهو العمّال. لم يقبل معظم العمال استلام «كوبات حوليم» تبرّعاتٍ أو ميزانيّة من مكتب المنظّمة الصهيونية العالميّة في فلسطين، لاعتقادهم بأنّه من شأن ذلك التقليل من احترام العمّال لأنفسهم، فالمفترض بهم العناية بزملائهم، واعتُبر هذا الدعم المالي عملاً خيرياً. استمرّ ذلك حتى العام 1921، ليصبح بعدها العاتق (المالي والأخلاقي) على مسؤولي الموظفين والمؤسسات الاستيطانية.

(أولى عيادات «كوبات حوليم» في مستوطنة «بتاح تكفا» 1915)

تنظيم الفروع و إيجاد صناديق أخرى للعمال المرضى

  تزامناً مع تثبيت مصادر التمويل، تمّ إنجاز الحدث الأول لافتتاح أولى فروع «كوبات حوليم»، تلك الفروع المحلية التي تمّ افتتاحها لمعالجة أعضاء الصندوق في أماكن تواجدهم. وقد اتُّخذ قرار بالإجماع على أن الفروع يجب أن تُدار بواسطة لجنة مختارة تمثّل لجنة العمّال المحليين (ممثل عام)، أما إدارة «كوبات حوليم»، فيتمّ تحديدها من خلال المؤتمر العام. وكلّ ممثل عن منظمة عمّال يهودا يجب أن يأخذ دوراً في الإدارة، وكل فرع من فروع «كوبات حوليم» يجب أن يرسل تقريراً شهرياً مفصّلاً عن فعالياته ونفقاته وإيراداته، ويجب أن يكون مع التقرير 75 بالمئة من الأموال التي تم جمعها بالفرع نفسه، في حين تبقى 25 بالمئة من الأموال تحت تصرّف الفرع. أمّا فيما يتعلق بالمصاريف الاستثنائية، يعوّض الفرع من المكتب الرئيسي مع دعم ثابت أو مؤقت. باختصارٍ، لم تكن هناك ميزانية عامة. كانت الإدارة المالية بيد المكتب الرئيسي وتم تكن تُمنح أية مساعدة إضافية لأي فرع من الفروع إلا بموافقته.

ثمّة ثلاث حقائق بارزة في تشكيلة المنظمة. أولاً، وجود ممثل عن العمال المرضى -الذين يستفيدون من الخدمات- يشارك في إدارة الفرع المحلي للصندوق، والذي يقوم بدوره بجلب طلبات العمال قبل توجيه الأموال. وثانياً، ممثل عن منظمة العمال يشارك في إدارة المكتب الرئيسي لـ «كوبات حوليم» وفروعه. هذه المشاركة تعكس الرابط القوي بين «كوبات حوليم» ومنظمة العمّال وتمنح منظمة المزارعين موقعاً من القوة والتأثير في «كوبات حوليم»، وكذلك في العمّال من خلال الصندوق.

أما ثالثاً، والأكثر أهميةً، فهو عدم وجود الأخصائيين الطبيّين (من أطباء وممرضين وصيادلة.. إلخ) في مواقع الإدارة والتأثير في المكتب الرئيسي أو في فروع «كوبات حوليم». حيث لم يكُن للمنظمة الطبية، والتي تمّ تأسيسها في ذلك الوقت، أي دور في بلورة أو إدارة «كوبات حوليم»، بينما شارك رئيس المنظمة الطبية، الطبيب «شيرمان»، في المؤتمر التأسيسي لـ «كوبات حوليم» كمستشار وحسب، دون أن تكون له أيّة سلطة عمليّة أو القدرة على التأثير في تنظيم الصندوق.

 وبالتالي، كانت  «كوبات حوليم»، ومنذ يومها الأول، منظمة عمّالية يديرها العمّال فقط. أيضاً، عندما دخل الأطباء في خدمات «كوبات حوليم» في نهاية الحرب العالمية الأولى، لم يتمتّعوا بامتيازات خاصة، بل كانت أجورهم مساوية لمعظم العاملين في الصندوق، ودامت هذه الحالة حتى قيام دولة [الاحتلال].

باختصار، لم تبدأ أول «كوبات حوليم» بالعمل إلا في عام 1913، أيّ بعد سنة ونصف من قرار تأسيسها في كانون الأول عام، ولم يكن لها سوى 7 فروع وفيها 150 عضواً، معظمهم من العمال المزارعين. أما «كوبات حوليم» لعمّال الجليل، والتي شُرّعت في مؤتمر العمّال الزراعي في الجليل في كانون الثاني في 1912، فقد بدأت بالعمل في نهاية سنة 1915. وحتى ذلك الوقت، كان عمّال الجليل يستعينون بخدمات «كوبات حوليم» لعمّال منطقة يهودا للمساعدات الطبية. في حين بدأت «كوبات حوليم» لعمّال «شومرون» بالعمل في سنة 1916، بدايةً بالتعاون مع «كوبات حوليم» لعمّال يهودا، وبعد ذلك كمؤسّسة مستقلة بذاتها.

نظام العمل الأوّلي في «كوبات حوليم» 1913-1914

   في نهاية عام 1913، تمّ افتتاح أول مكتب لـ «كوبات حوليم» في «عين جانم» بالقرب من «تل أبيب» بقيادة الأمين العام للصندوق «إسحق إسكويتز» الذي كان يعمل في وظيفته نهاراً ويتطوّع للقيام بالأعمال المكتبية لـ «كوبات حوليم» ليلاً. تضمّنت هذه الأعمال القيام بالمراسلات الخارجية وزيارات الأفرع، حيث يضمّ كلّ فرع منها لجنة منتخبة يقع على عاتقها إدارة الأعمال المالية الخاصة به، وعلى الأمين العام للصندوق زيارة هذه الأفرع وجمع الأموال بواسطة «الأجر اليومي» الذي يمثّل مساهمة العمّال في تمويل «كوبات حوليم». اقتصر دور الأمين العام على تقديم «التخفيض» الذي بدوره يمكّن العامل المريض من الحصول على وصفة الدواء أو زيارة الطبيب بتسعيرة مخفَّضة. يُقدّم هذا «التخفيض« بقرار الأمين العام وحده عقب طلب العامل المريض.

كما مكّنت زيارات الأمين العام المنتظمة للأفرع العمالَ المرضى من الحصول على تحويلة طبية لتلقي العلاج من مكان سكنهم أو عملهم وبالتالي جنّبتهم خسارة يوم عمل، حيث كان يتطلب من العامل في السابق زيارة المكتب في «عين جانم» لتعبئة الطلب شخصياً، وهكذا تمّ تسهيل الأمر على العامل، فيتم إيصال التحويلة إليه بدلاً من العكس. أما في حالة تأخُّر زيارة الأمين العام للفرع، يمكن تحصيل التخفيض من مرسال أو زميل للعامل عند قدومه إلى «عين جانم»، أو بواسطة تقديم طلبٍ مكتوبٍ للأمين العام «إسكويتز» نفسه الذي كان يسهّل حصول العامل على التخفيض.

   كان العمل الأول الذي قامت به «كوبات حوليم» هو الدخول في عقد اجتماعي مع الجمعية الطبية العبرية في يافا وتعيين «د.شيرمان» رئيس الجمعية، مستشاراً خاصاً لها. نصّ العقد على أن العاملين المرضى الذين يتوجهون لأطباء ينتمون للجمعية يسدّدون نصف الرسوم فقط، حيث ستغطي «كوبات حوليم» النصف الآخر. كما تمّ الاتفاق على عقد شبيه مع الصيدليات في القدس ويافا. ووفقا لـ «إسكويتز»: «تم اعتماد عضوية الجميع في «كوبات حوليم» سواءً قاموا بدفع الرسوم المستحقة أم لا، وحسب القوانين المتّبعة، يتمّ التعامل مع مصاريف مكوث العاملين في المشافي كقرضٍ يجب عليهم سداده للجمعية، ولكننا لم نتعامل مع الموضوع بتشديد كبير، فمّن يتمكن من الدفع له ذلك ومن لم يتمكن فلا بأس».

   أشار «إسكويتز» إلى أن حيوية «كوبات حوليم» ونشاطها في العمل اعتمدت على قدرة الأمين العام على جمع الرسوم وتسليمها للأطباء بناءً على التخفيضات التي تمّ الاتفاق عليها. كان عدم الالتزام بتسديد الرسوم للأطباء كفيلاً بتوقّفٍ فوريٍّ لتقديم الخدمة الطبية. يشير أحد أوائل أعضاء «كوبات حوليم»، «جاكوب يوري»، إلى أن عدم امتلاك العامل المال الكافي لزيارة الطبيب بسبب ضآلة دخله، كانت تنقذ الأمين العام من موقفه الصعب. ولكن في الحقيقة، كان حتى امتلاك المال للوصول إلى الطبيب يقع غالباً على عاتق الأمين العام نفسه

  وعلى الرغم من البداية الواعدة لأنشطة «كوبات حوليم»، واجه «إسكويتز» الكثير من العقبات المتمثلة بزيادة عدد الأعضاء وعملية جمع الرسوم. أحد أهم هذه العقبات تمثلت بالأزمة المالية للعمّال أنفسهم، والصراع بين الأحزاب الذي ساد الرأي العام وحلّ محل قضية «كوبات حوليم»، واللبس الإيديولوجي (التمويل والدعم) الذي أحاط بطبيعة عمل «كوبات حوليم« والخدمات التي تقدّمها. وفي تعميم أصدره «إسكويتز» إلى أفرع «كوبات حوليم» بعد عقد مؤتمرٍ لها في يونيو 1913، دعا فيه العمّال إلى تجاوز الاختلافات بينهم والعمل نحو تقوية «هذا الإنجاز العزيز والمهم لنا».

وعقب بداية عام 1914، ظهر «إسكويتز» في مؤتمرٍ صحفيّ، ومرّةً أخرى بشكلٍ شخصيّ في الأفرع، ليجدّد دعوته إلى العمال لتجاوز الخلافات والاختلافات بينهم  والتركيز على تيسير أعمال «كوبات حوليم». كان سبب الخلاف بشكل رئيسي يرجع لاعتقاد العمال بأنّ صندوق المرضى كان بمثابة عمل خيري أو إغاثة اجتماعية؛ إذ نظر كلّ من العمال المساهمون والعمال الذين يقع على عاتقهم مسؤولية جمع الرسوم إلى الأمر برمّته كجمعٍ وتوزيعٍ للخدمات الخيرية على المحتاجين، حيث أنّ معظم المرضى ممّن تلقوا الخدمات الطبية من بعض الأفرع لم «يكونوا أعضاء مشتركين فيها، ما يفسّر النظر لها كعملٍ خيريّ».

 وفي بداية السنة ذاتها، ازداد عدد المهاجرين الجُدد إلى فلسطين بشكل كبير، واشترك العديد منهم بالجمعية العبرية التابعة لـ «كوبات حوليم» وظهرت بوادر تحسّن في وضع الصندوق، ولكن لم يكُن ذلك كافياً. تحسّن الوضع القائم بعد المؤتمر الرابع للجمعية العبرية خلال فترة الأعياد في عام 1914، وصدر قرارٌ آنذاك باشتراط الانتساب لـ «كوبات حوليم» على جميع أعضاء الجمعية العبرية. ولكن في الحقيقة، لم يتم تطبيق قرار فرض الانتساب لـ «كوبات حوليم»؛ حيث لم يكن هناك من يفرضه على العمّال، فضلاً عن أنّ الأحزاب التي ينتمي إليها الأعضاء لم تكن تملك قوائم منظّمة للأعضاء المنتسبين لها.

تنظيم العمل الطبي

   بعد فترة وجيزة عقب المؤتمر الرابع للجمعية العمّالية العبرية عام 1914، جدّدت «كوبات حوليم» سعيها في استقطاب أعضاء جدد. وأقيمت عيادة لاستقبال المرضى في «بتاح تكفا» بالقرب من مقر العمّال، بالإضافة إلى تدشين مقر إغاثة طبية تكفّل بمهمة معالجة وإطعام المرضى إلى حين تماثلهم للشفاء، أما المرضى الذين احتاجوا عنايةٍ طبيّة متخصّصة، فكان يتمّ تحويلهم إلى مشفى جمعية «شعار زيون» في يافا بتنسيقٍ مُسبقٍ مع «كوبات حوليم« لدفع التكاليف السنوية للعلاج. وبالمثل كأي فرع من فروع «كوبات حوليم»، كان يتمّ تعيين الممرّضين وإدماجهم في مكتب المنظمة الصهيونية العالمية في البلاد.

كانت لعملية إقامة عيادات طبيّة محليّة لاستقبال العمّال المرضى وتطبيبهم أفضليةٌ على النظام القديم المتمثل بتحويل المرضى إلى الأطباء، وبذلك ظهرت المحاولة الأولى لتكييف الخدمة الطبية بناءً على طبيعة الأمراض التي كانت تصيب العمّال في المستوطنات كالمالاريا والتيفوئيد والاضطرابات المعوية؛ إذ تحتاج هذه الأمراض إلى رقابةٍ شديدةٍ ونظام غذائي دقيق، الأمرين اللذين لم يتمكّن العامل المريض من توفيرهما. وقد ساهم بعد المسافة وارتفاع كلفة المواصلات وشحّ طرق الوصول إلى المشافي في يافا، في زيادة صعوبة توفير أسرة في المشافي، وبالتالي قادت التحوّل إلى هذا النمط من تقديم الخدمة الطبية.

  انسجم قرار التحوّل لنمط الغرف الطبية مع الرؤية التي تبنّاها «إسكويتز»، أول من شغل منصب الأمين العام لـ «كوبات حوليم»، والمتمثلة بأنه على خدمات «كوبات حوليم» القدوم إلى العامل المريض وليس العكس، وأنّ عليها تقديم الخدمة الطبية لا العمل كضمانٍ اجتماعيّ وحسب. مكّنت إقامة هذه الغرف الطبية في «بتاح تكفا» ولاحقاً في أماكن أخرى من ضمان وصول الخدمة الطبية لأكبر عدد ممكن من العمال. هذا يعني بأنّ مسؤولية تقديم العلاج للعمّال المرضى أصبحت رسمياً على عاتق «كوبات حوليم« التي تكّفلت بإنشاء العيادات الطبيّة وتسديد رسومها بمساعدة المكتب الفلسطيني وتعيين طاقم طبي لتشغيلها. ساهم كل هذا في تغيير المبدأ الذي قام على أساسه «كوبات حوليم»، والذي كان ينصّ على أنّ الصندوق يعمل كطرفٍ يضمن تلقّي العامل للخدمة الطبية، في حين يقع على عاتق العامل نفسه مسؤولية طلب هذه المساعدة الطبية. ومن هنا، أصبح إنشاء الغرف الطبية وجلب الاستشارة الطبية إلى مكان إقامة العامل شرطاً مسبقاً لتقديم خدمات «كوبات حوليم».

   أكّدت فكرة إنشاء الغرف الطبية للمزارعين في أماكن إقامتهم أو عملهم على الفرق الجوهري بين نموذج مراكز الرعاية الصحية التي تم إنشاؤها حول العالم عقب الثورة الصناعية في مراكز عمل العمال المدنيين والقريبة من المشافي وبين نموذج «كوبات حوليم» في فلسطين الذي تمّ إنشاؤه في قلب الريف. ظلت القرية تمثّل مركز تقديم الرعاية الصحية لـ «كوبات حوليم» وللعيادات الصغيرة المتواجدة في المستوطنات الزراعية وأحياء العمال التي مكّنت جميع العمال من الوصول إلى أقرب مركز في مكان سكنهم. صُمّم هذا النظام خصيصاً للتخفيف عن المرضى وإعفائهم من مشقة التنقل لمسافات طويلة والانتظار في طوابير، بالإضافة لتقوية أواصر العلاقة بين المريض وطبيبه.

 وبالتزامن مع إنشاء الغرف الصحية في «بتاح تيكفا«، تمّ افتتاح مكتب تابع لـ «كوبات حوليم« في يافا لخدمة عمال القطاع المدني على يد «جاكوب أفتر«، أحد الأعضاء الإداريين لحزب «هابيل هتزير«. في السنوات اللاحقة، أدار كل من «إسكويتز» و «أفتر» أعمال «كوبات حوليم» وأصبحوا وجهة ضمان الرعاية الصحية للعمّال في «الدولة». وفي شهر آب 1914، حين بدا أن «كوبات حوليم» نجحت في شقّ طريقها، انفجرت الحرب العالمية الأولى، وكانت هذه الحرب والأوضاع القاسية التي فرضتها سبباً في وضع «كوبات حوليم» في أصعب امتحاناتها ألا وهو تسويغ وجودها باعتبارها الجسم الوحيد المؤهّل لتقديم الرعاية الصحية للعمال.

الجذور الأيديولوجية لـ «كوبات حوليم»

   قامت صناديق المرضى الطبية التي بلورتها موجة الهجرة اليهودية الثانية على ثلاثة عناصر: فكرة الصندوق الواحد الذي يمثّل الإطار العام، ومبدأ الدعم المتبادل الذي يمدّ الصندوق بالأرضية الأخلاقية لتشغيله، ومبدأ الضمان الصحي الذي يمثّل القيم الاجتماعية لموجة الهجرة اليهودية الثانية. شكّل التناسق الكامل بين هذه العناصر الثلاث أساساً لوجود صناديق المرضى الطبية. فما أصل فكرة مؤسسات الرعاية الصحية؟ هل كانت فكرةً فريدةً من نوعها تشكّلت وتبلورت على يد موجة الهجرة اليهودية الثانية لتجاوز صعوبة ظروف الحياة في فلسطين؟ أم كانت خطوة تأسيس «كوبات حوليم» جزءاً طبيعياً من عملية تطور نظام الضمان الصحي للعاملين حول العالم التي بدأت في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر؟

   ما أصل الدعم المتبادل الذي شكّل أساس عمل «كوبات حوليم» ورافقها طوال السنين؟ هل كان التقليد اليهودي القديم الذي جمع اليهود حول العالم أم مبدأ الدعم المهني الذي نشأ في أحضان النقابات في أوروبا نهاية العصور الوسطى؟

اقرأ/ي أيضاً على باب الواد:

تجربة الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية لإنشاء خدمات للرعاية الصحية في فلسطين 1918-1923

«كوبات حوليم» والمعونة المتبادلة في التقليد اليهودي

   ظهرت كلمة «صندوق» بمعنى «صندوق خيري» كمصدر للإغاثة المالية لأول مرة عام 200 قبل الميلاد في سفر «مشناه» 7:8 في التلمود: «من يملك المال، لا يجب عليه الأخذ من الصندوق (كوبا)». يبدو أن أصل كلمة «كوبا« يرجع إلى الجذر اللاتيني «كوبا» بمعنى الصندوق أو السلّة. أشار الفيلسوف اليهودي «موسى بن ميمون« إلى أن مصطلح «الصدقة-كوبا» يشير إلى وسيلةٍ كان يتمّ من خلالها جمع الأموال من السكان ليتمّ توزيعها لإطعام الفقراء مساء كلّ سبت. لسنين طويلة، شكلت فكرة «كوبا« حجر الأساس لنظام الإعالة الاجتماعية في المجتمع اليهودي. حافظت الجماعات اليهودية على صناديق إعالة الفقراء وتيسير مصاريف الزواج وإعالة الأيتام وطلاب اليشيفا وصناديق دعم المستوطنين في فلسطين وتطبيب المرضى.

   ظهرت الرعاية الصحية القائمة على المعونة المتبادلة لأول مرة في فلسطين في القرن الأول قبل الميلاد بين طائفة الأسينيون التي أقامت في عين جدي قرب البحر الميت. أشار كل من «صاموئيل كوتيك» و«حاييم هارباز» في أعمالهما إلى أن طائفة الأسينيون كانت تتكفل بدفع تكاليف علاج المرضى من أبنائها، بالإضافة إلى عناية حثيثة تم إيعازها لكبار السن، حيث كان يتمّ دفع رسوم الأطباء والأدوية من أبناء الطائفة نفسها، وأنّه «إذا مرض أحدهم كانت رسوم علاجه تُغطّى من قبل صندوق الإعالة مع تقديم العناية اللازمة له حتى تماثله للشفاء».

   يشير «جوشوا ليبوتز» إلى أن الحرص على سلامة السكان هي إحدى الوصايا التي أكدت عليها الشريعة اليهودية منذ نشأتها، كانت تمثّل عيادة المرضى والاطمئنان عليهم إحدى تجليات «الإحسان» التي تمّ التأكيد عليها والتي تتضمّن علاجاً وإطعاماً، فضلاً عن غسل المرضى وزيارتهم من قبل الجميع. يمكن التكهّن بأن هذه الوصية كانت تحل محل المشفى كجمعية أهلية، وهو ما تم تأكيده مسبقاً من قبل «موسى بن ميمون« و«موسى بن نحمان». وهكذا كانت كل من جماعة «بيكور حوليم» التي عُنيت بزيارة المرضى وجماعة «لينات تسيدك» التي تبيت إلى جانب المريض، تمثيلاً لركنين مهمين عند المجتمع اليهودي منذ القرون الوسطى.

في القرن الخامس عشر حسب «ماركوس»، أخذت مجموعات من الشبان اليهود المتطوعين على عاتقها مهمّة تقديم الرعاية الصحيّة وتأمين الأدوية وخدمات الدفن للأعضاء، معظم هؤلاء الأعضاء كانوا من العزّاب ولم تكُن تقبل عضوية المتزوجين إلا بشروطٍ خاصة. كما يُشير «معير بالابان» إلى وجود صندوق مرضى عام 1595، عمل تحت إشراف جماعة «كراكوف« اليهودية. في حين وصف «ليبوتز» و«كوتيك» أشكالاً من الخدمات الطبيّة تحاكي فكرة صندوق المرضى بين اليهود في القرن السابع عشر في وسط أوروبا. أما «فيليبسبورن»، فيصف تجربةً شبيهةً كانت تقدّم الخدمات الطبية للمجتمع اليهودي في برلين تمّ إنشائها في عام 1709.

بشكلٍ عامّ، تمّ إنشاء صناديق الرعاية اليهودية في شرق أوروبا عام 1912، على يد (ESA) -مؤسسة رعاية اليهود، وكانت تعمل على أساس يهودي قوميّ وليس على مستوىً شعبيّ محلي.  كان منظّمو هذه المؤسسة يؤمنون بأنّ هناك أولويات رعايةٍ صحيّةٍ تخصّ أفراد كلّ طائفة عرقية. وفي عام 1922، أسست «ي.س.أ» إلى جانب (TAZ)؛ وهو مركز رعايةٍ صحيّةٍ كان يقدّم خدماته للمجتمع اليهودي في بولندا، وهو جزء من منظمة عالمية لرعاية اليهود. انتشرت خدمات «ي.س.أ-ت.أ.ز» حول أرجاء أوروبا تحديداً في رومانيا وليتوانيا وبولندا، وكذلك في ألمانيا وفرنسا في الفترة ما بين الحربين العالميتين. عمل صندوق مرضى آخر تابع لحركة «بوند» في روسيا في نفس الفترة.

 ومع تزايد أعداد المهاجرين اليهود من شرق أوروبا إلى غرب أوروبا والولايات المتحدة نهاية القرن التاسع عشر، تمّ تدشين صناديق المرضى اليهودية على أساس «أرض الجذور». كان تنظيم العمل على هذا الأساس مألوفاً بين الجماعات اليهودية المهاجرة لأسباب تتعلق عموما باللغة والثقافة، والتعاون المتبادل وأنماط الحياة المتشابهة. وفي بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، عقب الاستفاقة من الكساد الكبير الذي حصل في 1929، أسّست الجمعيات اليهودية المهنية في الولايات المتحدة صناديق مرضى لأعضائها المنتسبين. وبالمثل، تم إنشاء صناديق أخرى في بريطانيا وهولندا.

فكرة التأمين الصحي في العصور الحديثة

   تم استحداث أنظمة التأمين الصحي الإجبارية في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر على يد المستشار الألماني «بيسمارك» الذي أسّس، ولدواعٍ سياسية تهدف إلى إضعاف المد الاشتراكي الديموقراطي، نظاماً صحياً وطنياً ونظام تقاعد للعمال عام 1883 بالاعتماد على مبدأ «الضريبة التصاعدية». بعد فترة وجيزة، أُنشئت أنظمة شبيهة في النمسا عام 1888، وفي السويد عام 1891، وفي جميع الدول الأوروبية بحلول عام 1912. اعتمدت الخدمات التي قدمتها هذه الأنظمة في أغلب الأوقات على الدعم المجتمعي المتبادل الذي كان قائماً قبل مجيئها. وقد تمّت إدارة هذه الأنظمة ومؤسّساتها داخل إطار عملٍ منظّمٍ معترفٍ به من قبل الحكومة وتحت إشرافها وبدعمٍ وإعانةٍ ماليّةٍ لتسيير أعمالها وتوسيع رقعتها.

شغلت معظم صناديق المرضى التي كانت فعالة آنذاك وظيفة شركات التأمين ولم تكُن تقدّم الخدمات الطبية بذاتها، وإنّما تم التعاقد مع أطباء عملوا لديهم بشكلٍ مستقل -أيّ دون اعتبارهم موظفين- ودفع أجورهم بناءً على عدد المرضى الذين يستقبلونهم، مع العلم أن للأعضاء حرية اختيار أطبائهم. ممّا يجدر الإشارة إليه هنا أنّ أول صندوقٍ للمرضى تمّ تنظيمه بواسطة قانون «بيسمارك» قوبل بمعارضة سياسيّةٍ شرسةٍ من قبل العمال أنفسهم، وذلك بسبب ظنّهم أن «بيسمارك» بواسطة إصلاحاته الاجتماعية المزعومة، كان يهدف إلى استقطابهم لخدمة أغراضه السياسية. كما تمّت الإشارة إليه مسبقاً، سعى «بيسمارك» مستخدما قانونه إلى محاربة الحركة الاشتراكية، ولكنّ الحركة العمالية لم تتنبأ بمساعيه الاجتماعية التي كانت جزءاً متأصّلاً من النظام الصحي الإجباري.

العمال اليهود وفكرة «كوبات حوليم»

   نستنتج مما سبق أنّه قبل تأسيس صندوق المرضى في فلسطين كان هناك شكلين من الخدمات الطبية، الأول هو التوجّه اليهودي التقليدي المأخوذ من الريف الشرق-الأوروبي المتمثّل في أن العناية بالمرضى تعدّ مسؤوليةً مجتمعيّةً عن طريق جماعة «بيكور حوليم» التي عُنيت بزيارة المرضى، وجماعة «لينات تسيدك» التي كانت تبيت إلى جانب المرضى. في خين يتمثّل الثاني بالتوجّه الأوروبي في التأمين الصحي الإجباريّ بناءً على الطبقة العماليّة تحت إشراف الحكومة، يحمل تصوّرَ قانون «بيسمارك» لصناديق المرضى التي انتشرت حول أوروبا في بدايات القرن العشرين.

فأيٌّ من هذين النموذجين تمّ تبنيه من قبل عمّال موجة الهجرة الثانية؟ كان المؤمنون بالاشتراكية الأوروبية على علمٍ بطبيعة تشغيل منظّمات الرعاية الصحية في مختلف الدول، وتبنّوا هذا النموذج على إثر ذلك. عملت صحافة العمّال [المستوطنين] في فلسطين على توثيق الأحداث الجارية في الحركات العمالية ومنظمات الرعاية الصحية حول العالم كما في صحيفة «أخدود»، حيث أشارت بالتفصيل إلى وضع صناديق المرضى لحركة «بوند« اليهودية في روسيا، بينما تحدّثت جماعة «هابيل هتزير» عن وضع «صناديق المرضى للعمال اليهود» في أمريكا وبريطانيا مشيرةً إلى أن «هذه الصناديق لم تستلم أيّ دعمٍ حكوميٍّ ولم يكُن مسموحاً لأيّ جهة التدخل في عملها».

 يتناول تقرير مفصّل، نُشر في صحيفة «هابيل هتزير» عام 1919، مجلس التعاون الطبي للعمال اليهود «هاتمادا» في هولندا، وجاء فيه:

«تحتوي الجمعية على صيدليتين اثنتين، وعلى عيادة شاملة مجهّزة بمعدّاتٍ طبيّة حديثة ومختبر يُدار من قبل أخصائي كيمياء، وفيها طاقم طبي متخصص؛ ممرضون وأطباء وقسم متخصص بتزويد الأعضاء بالأدوية الموصوفة من قبل الطبيب. لا يمكن تخيّل جمعية أكثر تنظيماً من ذلك.. تقدّم خدماتها لـ 40 ألف منزل.. كلّ عضو من أعضاء الجمعية يحصل على الخدمات الطبية مُطالبٌ بدفع 4 بنسات أسبوعياً. الأسرة المكونة من أطفال تحت سن الـ 18 عاماً عليها دفع 8 بنسات أسبوعياً.. ويتمّ جمع هذه الرسوم من طاقم مكوّن من 16 فرداً يقومون بزيارة كل بيت في وقت محدد».

   كما أشار التقرير إلى الإجازات المرضية والرعاية الطبية غير المحدودة المقدمة للأعضاء وإدخال المريض إلى مشفىً تابع للجمعية إن لزم الأمر. اعتمد عمل منظمة «هاتمادا» لصناديق المرضى على مبدأ الدعم المتبادل الذي انتشر في أوروبا.

 وعلى الرغم من معرفتها المُسبقة بنظام التأمين الصحي الأوروبي، تبنّت جماعة موجة الهجرة الثانية في فلسطين لـ«لينات تسيدك»، التقليد اليهودي المصمّم لعيادة المرضى المحتاجين في المجتمع، والذي يلائم الطبيعة الصغيرة لحجم الجماعة التي سكنت وقتها. إلا أنه لاحقاً عندما وجدوا أن هذه الطريقة لم تعُد كافيةً وأصبحوا بحاجةٍ لطواقم طبية متخصصة، بدأوا البحث عن طرق وأفكار جديدة لحل هذه الأزمة الطبية، وانتهى بهم المطاف إلى تطبيق فكرة صناديق المرضى التي تبلورت في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر ولكن دون التخلي عن جماعة «لينات تسيدك» التي أًصبحت جزءاً أساسياً ومتجذّراً من «كوبات حوليم».

  وعلى الرغم من تعبير «كوبات حوليم» في فلسطين عن مبادئ النظام الطبي الأوروبي، إلا أن الصندوق كان فريداً من نوعه إلى حدّ ما. في أوروبا، كانت عملية تنظيم إطارٍ مدنيّ مصمّم لاستيعاب أعداد هائلة (الآلاف من الأعضاء) عملية مهنية أو سياسية، حيث كان العمل التنظيمي يقابَل بالدعم الحكومي وتحت إطار قانوني. ظهر ذلك بسبب النمو الصناعي للدول الأوروبية وزيادة أعداد العمال. بينما في فلسطين، كانت تتمّ المبادرة من قبل المزارعين في القرى وبأعداد قليلة نسبياً. تم تنظيم الخدمات في فلسطين بناء على النمو المتصاعد لأعداد اليهود دون تدخلٍ مباشرٍ من قبل السلطات الحاكمة (العثمانيين). وبذلك يمكن القول إنّ عملية تنظيم «كوبات حوليم» بين المزارعين بداية القرن العشرين كانت فريدةً من نوعها في ذلك الوقت بالمقارنة مع نماذج التأمين الصحي التي نشأت في أوروبا.

   تجدر الإشارة إلى أن المبدأ الذي قامت عليه خدمات «كوبات حوليم» هو معالجة المرضى ولم تقُم بتقديم خدمات الوقاية من الأمراض أو التطعيم أو التدريب الطبي. انضمّت هذه القطاعات لخدمات «كوبات حوليم» لاحقاً بعد إقامة دولة [الكيان الصهيوني].

صندوق المرضى خلال الحرب العالمية الأولى: من صندوقٍ محلي إلى صندوق شامل

في أوائل آب عام 1914، أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا واندلعت على إثر ذلك الحرب العالمية الأولى. على الرغم من أنّ الإمبراطورية العثمانية لم تكُن قد انضمّت إلى أي من الأطراف المتناحرة إلا أنّه سرعان ما ظهرت تداعيات الحرب على اليهود [المستوطنين في فلسطين]. 

انقطعت المساعدات الإغاثية التي كان يقدمها المجتمع اليهودي الأوروبي عن المجتمع اليهودي في فلسطين، ممّا سبب أزمة اقتصادية خانقة. وممّا زاد الوضع سوءاً صدور مرسوم عن السلطات العثمانية يقضي بتجميد المساعدات المالية ممّا وضع اليهود في مأزق حقيقي. عانى القطاع الطبي كثيراً منذ بدء هذه الأزمة؛ حيث تمّ إغلاق جميع المشافي في الدولة بعدما انقطعت خدمات البريد ولم يعُد بالإمكان الحصول على مساعدات من الخارج. تمّ تحويل الأطباء الرجال إلى الخدمة العسكرية الإجبارية ووقع على إثر ذلك عبء كبير على مجموعة صغيرة من الطبيبات النساء اللواتي لم يتّهجن للخدمات العسكرية. وعندما قرّر العثمانيون دخول الحرب رسمياً، تمت مصادرة الأدوية والمعدات الطبية والمشافي التي كانت بحوزة (فرنسا، وإنجلترا وروسيا).

  «المجلس الخاص»

 ألقت أزمة الحرب العالمية الأولى بظلالها على العمّال اليهود في «كوبات حوليم» منذ بدايتها والتي كانت آنذاك صندوق المرضى الوحيد الفعّال. حيث تمّ تقليص رواتب العمال ومرّت فترات رفض فيها الأطباء معالجة مرضى «كوبات حوليم» خشية عدم دفع أجورهم. كان الوضع المنذر بحال العمال دون الرعاية الطبية مثيراً للقلق. كانت وجهة نظر لجنة «كوبات حوليم» أنه خلال الحرب، وعلى ضوء ارتفاع معدّل الأمراض في فلسطين، بأنّه يقع على عاتقها الاعتناء بجميع العمال [اليهود] من ضمنهم العمال غير الأعضاء الذين لم يقوموا بدفع أية مستحقات سابقاً. كان لوجهة النظر هذه الأثر الكبير في ذلك الوقت ولاحقاً في المستقبل.

 في 22 آب عام 1914، دعا مجلس «كوبات حوليم« إلى عقد اجتماع خاص بمشاركة ممثلين عن الأحزاب [الصهيونية] العمّالية وممثلين عن الأطباء، وكذلك ممثلين عن مشفى «شعار زيون» في يافا وممثل عن المنظمة الصهيونية العالمية. سعى الاجتماع إلى ترتيب الحصول على المعدّات والدعم الطبي خلال الحرب. قبِل المجلس دعوة ممثلي «كوبات حوليم» بأنّه «يجب تأمين الرعاية الصحية لجميع العمال [الصهاينة] خلال الأزمة». ولتحقيق هذا الهدف صدر قرار بموافقة الأحزاب العمالية يوعِز إلى المستوطنات والكمبيونات تأمين جزء من إيراداتها لصالح «كوبات حوليم». دعا المجلس جميع الأحزاب إلى أن تقوم بتمويل صندوق المرضى طالما أنّ الحرب قائمة، على أن يقوم الصندوق بسدّ هذه الديون المتراكمة نهاية الحرب. وبذلك، أخذت المنظمة الصهيونية العمالية على عاتقها ضمان «كوبات حوليم«. كما ودعا المجلس أيضاً الأطباء إلى تمديد دعمهم للعمال المرضى عن طريق الدفع بالضمان (دفع عن طريق القرض) وتقليل الرسوم مقابل وعد الصندوق بتسديدها عقب انتهاء الحرب. وافق المجلس الطبي اليهودي على اقتراحات الصندوق المذكورة.

 وفي اجتماع عقد بعد يومين في 24 آب، قرّر المجلس الطبي أن يقدّم الأطباء للمرضى الخدمة الطبية على سبيل الإقراض واستلام نصف الرسوم فقط عقب كل زيارة للطبيب، وسيتمّ تقديم العلاج فقط مقابل تحويلةٍ من «كوبات حوليم«. كما عُقدت تفاهمات مالية شبيهة للعمال مع الصيدليات بواسطة «كوبات حوليم«. وكان ذلك بشرط رسالة موقّعة من «كوبات حوليم» تخوّل العامل من الاستفادة من الرعاية الطبية، ساهم ذلك في زيادة أعداد الأعضاء المنضمين إلى صندوق المرضى.

قدّم كلّ من المعلمين والحرفيين، وليس فقط أصحاب الأعمال اليدوية، طلباً بالانضمام إلى «كوبات حوليم« للحصول على الرعاية الطبية خلال الأزمة. عقب طلبات عدّة، قررت «كوبات حوليم« توسيع مدى العضوية والسماح بقبول عضوية العمال ممّن ليسوا من أصحاب الأعمال اليدوية ولكنهم حرفيون مستقلون أو لا يوظفون أكثر من ثلاثة عمال. أدّت الحرب واتفاقيات الرعاية الطبية التي تمّ إبرامها مؤخراً إلى توسيع نوعية الأعضاء المنتسبين لـ «كوبات حوليم» وتوسيع رقعة خدماتها المقدمة. كما وافق مندوب المنظمة الصهيونية العالميّة (مكتب فلسطين) على طلب «كوبات حوليم» بتخصيص 900 فرانك لها، وعندما نفذ هذا المبلغ حصلت «كوبات حوليم» على تمويل إضافي من الإغاثة الأمريكية التي وصلت إلى فلسطين بعدما انخرط العثمانيون في الحرب العالمية. كانت هذه هي الخطوات الأولى نحو تأمين رعاية صحية لكل المجتمع اليهودي في فلسطين خلال الحرب.

خلال السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى عام 1915، قدّم 700 عامل طلباً للحصول على الرعاية الطبية من «كوبات حوليم« بمعدل 60 عامل شهرياً، وأورد مشفى «شعار زيون» أنه شهد 1000 يوم إقامة في المشفى لمرضى «كوبات حوليم» خلال الأشهر الأربعة الأولى من الحرب. ساهمت البطالة وسوء التغذية وظروف العمل السيئة في انتشار الأمراض بين العمال، عانى معظمهم من الملاريا والالتهابات المعوية الحادة وحمى التيفوئيد. وفي العام الثاني من الحرب عام 1916، تضاعفت أعداد الحالات بمعدل 120 حالة شهرياً، بينما ازدادت الحالات إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بالسنة السابقة في تل أبيب.

انعكست المسؤولية المجتمعية التي أخذتها «كوبات حوليم» على عاتقها بسبب الأزمة الحاصلة على قطاعاتٍ عديدة، حيث تمّ إعطاء المرضى الذين تماثلوا بالشفاء «فترة نقاهة» يحصل المرضى خلالها على إجازة مدفوعة الأجر بعد فترة علاجهم على شكل قرض، كانت هذه الخدمة ضرورية لمرضى السل والملاريا بالتحديد. في هذه الحالات حيث لم يكُن هناك مراكز طبية مجهّزة متوفرة، قامت «كوبات حوليم» بتأجير غرف طبية والدفع للحصول على إدارة طبية متخصّصة لرعاية المرضى. ولتجاوز مشكلة نقص الأسرّة المتاحة في المشافي، تمّ افتتاح غرف طبية مجهّزة من قبل أخصائيين طبيين في معظم المستوطنات والمزارع، حيث تمّ جلب الأدوية بواسطة تمويل من المجلس. كما زوّدت «كوبات حوليم» العاملين الذين تم نقلهم للخدمة في الجيش العثماني بالخدمات والمعدات الطبية الضرورية، مثل: زيارات الأطباء، والغرف الطبية ومستودعات التنظيف لمراعاة معايير النظافة والتعقيم الضرورية.

قدّم العديد من العمال طلبات للانضمام إلى «كوبات حوليم» ليس بغرض الحصول على الرعاية الطبية وحسب، وإنما لطلب الديون والضمان على القروض، وكذلك للحصول على وصفة طبية لأدوية معينة. وفي حالات الأزمات المالية، كانت تُقدّم قروض لتسديد تكاليف الدفن مع وعد لإعادة الأموال حال تحسن وضعهم المالي. كانت «كوبات حوليم» تقوم بمساندة العمال [الصهاينة] في جميع الأزمات التي عانوا منها وليس مشاكلهم الصحية فقط.

 ساهم النجاح الذي حظيت به نشاطات «كوبات حوليم» خلال الحرب في إعادة تفعيل منظمة العمال في الجليل، والتي بلغ عدد أعضائها آنذاك بين 350 و 400 عضو. بدأ فرع العمّال في الجليل التابع لـ«كوبات حوليم» تقديم خدماته نهاية العام 1915 عقب ازدياد الأزمة المالية سوءاً. بعد فترة قصيرة في العام 1916، بدأت فروع «كوبات حوليم» في الضفة الغربية بالعمل. وفي تمّوز عام 1916، عندما تمّ تفعيل خدمات ثلاثة صناديق للمرضى، تمّ إنشاء نظام وطني للرعاية الصحية للعمّال تحت إشراف ثلاث مؤسسات زراعية. عملت هذه المنظمات الثلاث بتناسقٍ تامٍّ بينها دون منافسة، وتلخّص هدفها في تزويد العمّال المرضى بأفضل خدمات طبية ممكنة والاهتمام بالصحة العامة للمجتمع.

 وقد كان لنجاح التعاون المشترك بين هذه الصناديق الثلاثة والمنظمات العمالية خلال الحرب تأثيران فوريان: الأول: أدّى إلى عمل صناديق المرضى كوحدة واحدة لتقديم الرعاية الطبية تحت اسم «كلاليت كوبات حوليم» (الصندوق العام للمرضى)، وقدرة هذه الصناديق على تقديم الخدمات الطبية لجميع العمال الذين قدموا للحصول عليها على الرغم من ارتفاع عدد الأعضاء والمحنة التي تسببت بها الحرب ودورها في بقاء الأعضاء حتى بعد انتهاء الحرب وتوسعة الصناديق مُحوّلةً إياهم إلى «مؤسسات وطنية». الثاني، التحمت العديد من التجمّعات العمالية [الصهيونية] خلال الحرب، وهو ما أبرز الحاجة إلى إنشاء ممثّل يعبّر عن الدعم المجتمعي، وهذا يتمثل بتأسيس جسم عمالي موحّد -مؤسسة عمالية وطنية- ألا وهو اتحاد العمّال العبري.

 في ربيع عام 1917، اجتمع ممثلون عن المنظّمات العمالية لأول مرة للوصول إلى اتفاقٍ حول تأسيس جسمٍ عمّالي موحد. من بين القضايا التي تمّ نقاشها كان سؤال توحيد صناديق المرضى المحلية الثلاث إلى «كوبات حوليم» واحدة، بالإضافة إلى إنشاء منظّمة عمالية وطنية، هذه كانت الخطوة الأولى. في السنين ما بين 1918 و 1920 كانت قضية توحيد الصناديق الثلاثة وإنشاء هذه المنظمة العمالية على رأس أولويات العمال [الصهاينة] في فلسطين. توص~ل جميع الأطراف المعنيين إلى اتفاق بعد سنتين من الجدل والنقاش.

 في كانون الأول من عام 1920، تمّ تأسيس اتحاد «الهستدروت» العمّالي.  ثمّ بعد سنة في 1921، تمّ توحيد صناديق المرضى المحلية الثلاث إلى «كوبات حوليم»، واحدة تعمل ضمن إطار اتّحاد العمال في فلسطين. كان على كلّ عضو منتسب إلى «كوبات حوليم» أن ينتسب إلزاماً إلى اتحاد العمّال وكانت هذه هي الخطوة الحاسمة. عملية توحيد صناديق المرضى وتنظيم عملها تحت اسم اتحاد العمّال بالإضافة إلى نجاحها في تقديم الخدمات الطبية أثناء الأزمات، كل ذلك ساهم في تقوية موقع «كوبات حوليم» في المجتمع [الصهيوني] وجعلها تقع في قلب الرعاية الصحية في فلسطين».

****