يتتبّع البحث النشاط البريطاني في فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر من خلال النشاط التبشيري والمباحث الأثرية. وتركز الدراسة على البعثات البروتستانتية التبشيرية كإطارٍ مرجعيٍّ لاهوتيٍّ يرى في إرث فلسطين المسيحي واليهودي مسوغاً للادعاء السياسي البريطاني في “الأرض المقدسة”.
توطئة
نقدّم إليكم في “باب الواد” نصاً مُترجماً لدراسة أجرتها “لورا روبسون”، بعنوان “علم الآثار ورسالته: الحضور البريطاني في القدس في القرن التاسع عشر”، والتي نُشرت عام 2009، في العدد 40 من مجلّة القدس الفصلية (Jerusalem Quarterly) الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية باللغة الإنجليزية. يتتبّع البحث النشاط البريطاني في فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر من خلال النشاط التبشيري والمباحث الأثرية. وتركز الدراسة على البعثات البروتستانتية التبشيرية كإطارٍ مرجعيٍّ لاهوتيٍّ يرى في إرث فلسطين المسيحي واليهودي مسوغاً للادعاء السياسي البريطاني في “الأرض المقدسة”. كما تبحث في الجهود الأثرية المبكّرة والتنقيب الأثري البريطاني الذي صاحب البعثات التبشيرية بهدف جمع أدلةٍ على صحة الكتاب المقدس، وتقدم لمحةً عن “صندوق استكشاف فلسطين” الذي دُشِّن لتحديد المواقع والآثار في فلسطين، وتحديداً القدس. بإمكانكم الاطلاع على النص الأصلي من هنا.
ترجمة: عامر إبراهيم
…………………….
في عام 1834، أصدر جيمس كارترايت (James Cartwright)، الأمين العام لجمعية لندن لاعتناق اليهودية “London Society for the Conversion of the Jews”، كُتيِّباً بعنوان “The Hebrew Church in Jerusalem” (الكنيسة العبرية في القدس)، وشرح فيه دوافع نشاطات الجمعية في فلسطين. ومن ضمن ما ادّعاه جيمس في هذا الكُتيّب، هو أنه “على مدار سنين طويلة، كانت للكنيسة المسيحية فروعٌ (أماكن مقدسة: المُترجم) للصلاة في القدس. الإغريق، الرومان الكاثوليك، والأرمن؛ جميعهم كانت لهم كنائسُ للصلاة في القدس. حتى إنه كان للأتراك مسجدٌ، وكان أيضاً هناك كنيسٌ لليهود. وحدها المسيحية الإصلاحية (Christianity of the Reformation) ظهرت كأنها غريبةٌ عن هذا المكان”.
شكّل هذا التوجّهُ من البروتستانتية التبشيرية (Evangelical Protestantism)، التي اعتبرت نفسها منافِسة لأشكالٍ أخرى “مُنحطّةٍ” (degenerate) من المسيحية، مثل الكاثوليكية، الدافعَ والمحركَ الأساسيَّ للنشاط البريطاني في فلسطين، وبشكلٍ خاصٍ في القدس خلال القرن التاسع عشر.
جاء هذا النشاط (البريطاني) بالأساس عن طريق حَقلين أو مجالين: أولهما النشاط التبشيري (Missionary Activity)، وثانيهما المباحث الأثرية (Archeological Pursuits). فالبريطانيون الذين قَدِموا إلى فلسطين حينها انشغلوا إمّا في الأعمال التبشيرية، أو في البحث الأثري، أو في كليهما. كما واتخذوا من البروتستانتية التبشيرية إطاراً مرجعياً دينياً (لاهوتياً) مركزياً لنشاطهم، وهو مرجعٌ يتعارض بشكلٍ مباشرٍ مع الممارسات الطقسية (Ritualistic Practices) والتنظيم الهرمي الكاثوليكي (Hierarchical Organization of Catholicism)، كما يتعارض بشكلٍ موسعٍ مع الكنائس المسيحية الشرقية.
لهذا التوجه اللاهوتي ثلاثةُ محاور تأثير أساسية في فلسطين:
1. أولاً، لقد قاد التوجّه البريطانيين للتركيز بالأساس على الشرائح السكانية المحلية من المسيحيين واليهود، مع إقصاءٍ شبهِ تامٍ للمسلمين هناك. كما وأنه انطلاقاً من هذا التوجه، حدّد البريطانيون حلفاءهم الذين غالباً ما كانوا قوىً غربيةً ذات خلفيات بروتستانتية تبشيرية، مثل أمريكا وألمانيا. وفي المقابل، أنشأوا علاقاتٍ عدائيةً مع القوى الأرثوذوكسية والكاثوليكية، تحديداً روسيا وفرنسا.
2. ثانياً، أثّر هذا التوجّه اللاهوتي على شكل البحث الأثري، بحيث نجده قد ركّز على الماضي الكتابيّ لفلسطين (Palestine’s Biblical Past)، مع عرض التاريخ الإسلامي والعثماني كمحطّات هامشية في التاريخ، وكأن منحَها الاعتبار تاريخياً أو أخذَها بالحسبان أمرٌ غير ضروري
3. وأخيراً، سمح التوجه اللاهوتي بظهور اعتقادٍ أو إيمانٍ يعتبر أن النظرة البريطانية للمسيحية “النقيّة” (Pure Christianity) (أي الإصلاحية: المُترجم)، ورؤيتها للأرض المقدّسة، من شأنها أن تكون أداةً لشرعنة الادعاء السياسي للوجود والأحقية في فلسطين.
أولى البعثات البريطانية التبشيرية في فلسطين (Early British Missions in Palestine):
جاءت البعثات البريطانية إلى الأرض المقدسة بعد نشاط البعثة الفرنسية والروسية بعدّة عقود. فحتى أواسط القرن التاسع عشر، كانت الأدْيِرَة (جمع دَير: المُترجم) الفرنسية والروسية الكاثوليكية والأرثوذوكسية، والمدارس والمساكن بارزةً في فلسطين منذ ما يقارب المئة عام. فكانت فرنسا قد مَوضعت نفسها حينها في وضعية “الحامي” للكاثوليك في ظل الإمبراطورية العثمانية وقت الامتيازات الأجنبية (Capitulations) عام 1740، والتي في ظلّها توسّع النشاط التبشيريُّ الكاثوليكيُّ الفرنسيّ.[1]
وفي عام 1744، تلقّت روسيا حمايةً مماثلةً على المسيحيين الأرثوذوكس، وبدأت بتعزيز نشاطها الروسي الأرثودوكسي أيضاً في فلسطين. كما وتم تعزيز الوجود الكاثوليكي الأوروبي في فلسطين من خلال ترميم البطريركية اللاتينية الكاثوليكية في القدس عام 1847، والدَيْر الفرنسي على جبل الكرمل. وفي كلتا الحالتين، الفرنسية والروسية، اُعتبرَت هذه البعثات المسيحية في فلسطين ممثلةً للسلطة السياسية لبلادها في الإمبراطورية العثمانية، واستخدمت الحكومتان الفرنسية والروسية “سياسات القلق” كذريعةٍ للتدخل في الشؤون السياسية العثمانية.
بخلاف الحالتين الروسية والفرنسية، لم تظهر البعثات البريطانية إلى فلسطين إلا في منتصف القرن التاسع عشر، وتشكلّت بالأساس من البروتستانت التبشيريين الذين وقفوا بعيداً عن هياكل الكنيسة وسلطة الدولة في العاصمة (المتروبول). وكانت رابطة الكنيسة التبشيرية “Church Missionary Society – CMS”، التي تأسست عام 1799 على يد مجموعةٍ من أعضاء التبشيريين في كنيسة إنجلترا (Church of England) التي عُرفت أيضاً باسم “Clapham Sect”، أولَ رابطةٍ تبشيريةٍ ترسل ممثلين إلى فلسطين.
ولم يُبدِ أعضاء لجنة التمثيل، التي ترأسها القس يوشيا برات (Reverend Josiah Pratt)، اهتماماً خاصاً بالتبشير العالمي فحسب، إنما أيضاً بالقضايا الداخلية المحلية المتعلقة بالإصلاح والتأهيل الاجتماعي. والأهم من ذلك هو تشجيع إلغاء الرق والعبودية. وعَرَّفت رابطة “Church Missionary Society” نفسها على أنها بالأساس مُناقِضة (أو مُعارِضة) للكاثوليكية. كما أن النقاشات المتعلقة بالنشاط التبشيري لها في الإمبراطورية العثمانية خلال السنوات الأولى لعملها، عززت بشكلٍ واضحٍ فكرة وجودها (أي الوجود البروتستانتي) في فلسطين على أنه مكافحةٌ للممارسات “البابوية” (أي تلك التابعة للبابا الكاثوليكي) للبعثات الكاثوليكية.
وفي عام 1812، أصدرت الرابطة تقريراً أشارت فيه إلى “الزوال التدريجي للكنيسة الرومانية”، واقترحت أن يتم استبدال أعضاء الكنيسة الحاليين بأعضاء جدد “من الكنيسة المتحدة في إنجلترا وإيرلندا” (United Church of England and Ireland). إضافةً إلى ذلك، رأت الرابطة أن إحدى واجباتها الرئيسية خلاصُ (the Salvation of) المسيحيين الشرقيين الأرثوذوكس عبر جلبهم إلى الطريق البروتستانتي التبشيري. ففي تقاريرها، دعت الجمعية إلى “السعي قُدماً والمساعدة في استعادة السبات الطويل الذي غطّت به الكنائس السورية واليونانية القديمة”. وعلى الرغم من وجود نيّةٍ غامضةٍ في أوساط قادة الرابطة آنذاك بخصوص “تحويل الوثنيين” إلى المسيحية [2] (Converting the Heathen)، بما يشمل المسلمين من الإمبراطورية العثمانية، إلا أن الهدف الأكثر وضوحاً كان شريحة المسيحيين التي اعتبرها المجتمعُ تابعةً للمعتقدات البابوية والمفاهيم الخاطئة. ولذلك، لم يحظَ المسلمون إلّا بالقليل من الاهتمام في نقاشات الرابطة بخصوص مشاريعها في الإمبراطورية العثمانية.
أما البعثة التبشيرية البريطانية الكبرى الأخرى التي وجَّهت انتباهها إلى فلسطين، كانت رابطة “لندن لتشجيع المسيحية لدى اليهود” (أو London Society for Promoting Christianity among the Jews)، والتي عُرفت أيضاً باسم “London Jews Society – LJS”. ظهرت هذه الرابطة كفرعٍ للرابطة التبشيرية في لندن (London Missionary Society) التي تأسست عام 1795. من أوائل المبشّرين التابعين للرابطة ألمانيٌ يهوديٌ اعتنق المسيحيّة، وقد أسس (LJS) عام 1809 برعاية الدوق كينت (Duke of Kent)، بهدف “تخفيف الضائقة الزمنية لليهود وتعزيز رفاهيتهم”.
في البداية، ركّزت الرابطة الجديدة على النشاط التبشيري في المجتمعات اليهودية المقيمة في لندن والمناطق المحيطة بها، لكنها أرسلت في عام 1820 ممثلاً إلى فلسطين للتحقيق في أوضاع المجتمعات اليهودية هناك. وفي عام 1826، وصل القدسَ مُبَشّرٌ دنماركيٌّ يُدعى جون نيكولايسون (John Nicolayson)، كمُمثلٍ لرابطة (LJS)، وبدأ في عقد وتوفير الخدمات البروتستانتية باللغة العبرية في المدينة. على الرغم من التوتّر بين نيكولايسون والإدارة المصرية آنذاك، إلّا أنّ نيكولايسون بدأ في التأسيس لبعثة الكنيسة للقدس في عام 1839.
مال المبشّرون البروتستانت التبشيريون (Evangelical Protestant Missionaries) الذين عملوا في فلسطين خلال هذه السنوات الأولى إلى الامتناع عن التعليق على الممارسات الإسلامية، لكنهم كانوا مذعورين من الطقوس الدينية والنظم التعليمية والممارسات المؤسسية للمجتمعات المسيحية الشرقية الذين كانوا على تواصلٍ معهم. كان النفور (والاشمئزاز) الذي شعر به البروتستانت تجاه الممارسة الأرثوذكسية واضحاً بشكلٍ خاصٍ في وصفهم لكنيسة القيامة (Church of the Holy Sepulchre)، التي وصفها المبشّرون الأوائل والمسافرون بأنها “مُتهالكةٌ” و”متاهةٌ من الخرافات والنزاعات على العقيدة والنتانة والهراء”، وأنها “شيءٌ ما بين البازار والمعبد الصيني أكثر من كونها كنيسةً”.[3] أما لودفيغ شيلنر (Ludwig Schellner)، وهو مُبشّرٌ ألمانيٌّ عَمِلَ مع الرابطة، فلقد ذهب بعيداً بقوله: “أليست العبادة الصامتة لدى المسلمين أمام المسجد أكثر كرامةً؟”.
على العموم، لم تكن أيٌّ من هذه البعثات الأولى إلى فلسطين مُهتمةً على الإطلاق بالسكان المسلمين في المنطقة، الذين عَرِفوا عنهم القليل فقط. بل على عكس ذلك، كان حضور كلٍّ من رابطة “CMS”، و”LJS”، في فلسطين مُكرَّساً بشكلٍ خاصٍ للبروتستانتية التبشيرية، من أجل مكافحة الكاثوليكية في حالة الرابطة الأولى (CMS)، والاهتمام من جديد في اليهود في جميع أنحاء العالم في الحالة الثانية لدى “LJS”.
وقد أبدى هؤلاء المبشّرون جهلاً بكل ما يتعلق بجوانب الدين الإسلامي تقريباً، لدرجة أن الدين الإسلامي لم يظهر في تقاريرهم وبياناتهم إلا باعتباره شراً غامضاً يقف ضد مصالحهم اللاهوتية في معارضة الكاثوليكية، ويعرقل مهامهم في تحويل اليهود (أي تغيير دينهم: المُترجم). وبذلك، أثّر المبشرون على من غيّروا دينهم، وجعلوا علاقاتهم حصراً على المجتمعات المسيحية واليهودية في فلسطين. كما واعتقدوا أنهم بفعلهم هذا، لم يقدّموا لهم بديلاً للإسلام كدينٍ فحسب، بل أيضاً بديلاً للممارسات والطقوس الهرمية الكاثوليكية والمسيحية الشرقية.
على هذا النحو، كانت هذه الجهود التبشيرية البروتستانتية المبكّرة تميل إلى إظهار تعاطفٍ أكبرَ مع البعثات الأمريكية القليلة العاملة في فلسطين آنذاك، مُقارنةً مع نظرائها الفرنسيين. حيث يشير تقرير- كتبه اثنان من الوزراء الاسكتلنديين عام 1839 حين كانا بمهمةٍ تبشيريةٍ إلى فلسطين بهدف إنشاء كنيسة اسكتلندا لليهود (Church of Scotland Mission to the Jews) إلى التعاون بين أوائل عائلات البعثات البريطانية والرحالة الأمريكيين.
كما وأشار التقرير إلى أن جورج دالتون (George Dalton)، المبشّر الأول المبعوث إلى فلسطين تحت رعاية رابطة “LJS” التي تم تشكيلها حديثاً، ناقش إمكانية استئجار دَيْر مع اثنين من أوائل الرحالة الأمريكيين في المنطقة، جوناس كينج وبليني فيسك (Jonas King and Pliny Fisk). إضافةً إلى ذلك، أفاد الوزيران الاسكتلنديان في تقريرهما أن جون نيكولايسون (John Nicolayson) قد رتّب موضوع استئجار منزل مع اثنين من المبشّرين الأمريكيين في القدس، وأنه في عام 1835 عرض استضافة اثنين آخرين من المبشّرين الأمريكيين (اسمهما دودج وويتينغ Dodge and Whiting).
كما أشار التقريرُ بوضوح إلى فرضيةٍ مفادُها أن عمل ونشاط كلٍ من المبشرين الاسكتلنديين والإنجليز على حدة يتداخلان أساساً مع أهداف البعثات البروتستانتية التبشيرية القادمة من الولايات المتحدة، وأن التعاون مع الرحالة الأمريكيين وممثلي البعثات سيعود بالفائدة على الطرفين.
لم يكن هناك مثلُ هذا الشعور بالتعاون مع غير البروتستانت، إذ إنّ جمعيات البعثات البريطانية شعرت أن المؤسسات الأرثوذكسية، وخاصةً الكاثوليكية، تحاول عرقلة تقدّمها (أي تقدّم البعثات البريطانية) من خلال ممارسة نفوذها مع الدولة العثمانية لمنع البعثات البروتستانتية من الحصول على موطئ قدمٍ في فلسطين.
واحدة من الرسائل، التي أُرسلت من مُقيمٍ بريطانيٍ في بيروت إلى جمعية الكتاب المقدس البريطانية والأجنبية (British and Foreign Bible Society) في لندن، أشارت إلى التقدّم البروتستانتي في المنطقة، ونَسبت كلاً من الصعوبات الأمريكية والبريطانية إلى التدخّل اليوناني والفرنسي. جاء في نص الرسالة ما يلي:
“المبشّرون الأمريكيون في سوريا، الكهّان ميسرز بيرد وفيسك (the Revd. Messrs Bird and Fisk)، كانوا أول من عانى من آثار مكائد أعدائنا. فهؤلاء السادة اتُهموا الشتاء الماضي لدى الحاكم في القدس بأنهم أشخاصٌ سَيّئون باعوا كتباً سيئةً (بذيئة من ناحية المضمون: المُترجم)، وهذا الاتهام كان يُنسب عالمياً للرهبان في التيراسانتا (الأرض المقدسة) …. (علاوةً على ذلك) كان الافتراض بأنهم مدينون للرومان الكاثوليك؛ للمعارضة التي أبداها مقر الباب العالي (مقر الحكومة العثمانية في القسطنطينية: المُترجم) بما يخص تعميم الكتاب المقدس. وكلّي أسفٌ بأنني أستطيع الإشارة إلى اسمين من القنصلية الفرنسية في سوريا اللذين أرسلا مكتوبًا إلى القسطنطينية لغرض إحداث الضرر على قضيتنا، وحاولا طرد المبشرين الإنجليز من سوريا، بالرغم من أنهم دائماً أبدوا صداقةً حميمةً لشعبنا.”
كانت العلاقة بين المبشرين البريطانيين في فلسطين، والهيئات الكاثوليكية والأرثوذكسية الفرنسية والروسية واحدةً من العلاقات المشبوهة، مبنيّةً على انقسامات لاهوتية ومنافسة سياسية. هكذا، أسس المبشرون الأوائل منظماتهم على أنها حصونٌ بروتستانتيةٌ تبشيريةٌ (evangelical Protestant bulwarks) ضد شر الطقوس المسيحية “المنحطّة”، بدلاً من شر الإسلام الذين لم يعرفوا شيئاً عنه. كما وأدّى توجههم اللاهوتي الذي وضع جلَّ تركيزه المحلي على السكان المسيحيين واليهود إلى إقصاء واستبعاد المجتمع المسلم في فلسطين. إضافةً إلى أنه حدد نمطاً من التعاون مع المبشرين الأمريكيين والألمان، نظراً للنهج والتوجه التبشيري المتشابه بينهم، وخلق معارضةً عنيدةً للوجود الفرنسي والروسي الكاثوليكي والأرثوذكسي.
الجهود الأثرية المبكّرة (Early Archeological Efforts):
انتشرت الأنشطة التبشيرية هذه إلى جانب حضورٍ جديدٍ في فلسطين: المجتمع البروتستانتي الغربي المهتم بدراسة المواقع الأثرية في فلسطين بهدف إلقاء الضوء على التاريخ التوراتي. أظهر الأعضاء البريطانيون في البعثات العديدَ من المخاوف التبشيرية كسائر نظرائهم المبشرّين. وقد ساعدت حساسيّتهم الدينية على تنمية حضورهم في فلسطين الذي اتسم بالتعاون مع زملائهم الباحثين الأمريكيين البروتستانت، وبالعدائية تجاه عمل الكاثوليك الأوروبيين.
جاء جزءٌ كبيرٌ من ازدياد الاهتمام بالآثار التوراتيّة في فلسطين استجابةً للتحديات العلمية للسلطة التوراتيّة التي بدأت بالنشوء في العقود الأولى للقرن التاسع عشر. فكانت جمعيةُ فلسطين (Palestine Association)، التي تأسست في لندن عام 1804، قد كرّست عملها لبحث تاريخ المنطقة، وجغرافيّتها وتضاريسها، مع تركيزٍ خاصٍ على تاريخها التوراتي.
أما الجمعية الأثرية التوراتية (Biblical Archeological Society)، التي تأسست في لندن في أربعينات القرن التاسع عشر، فدفعت هذا النهج خطوةً واحدةً قدماً، ساعيةً على نحوٍ واسعٍ لإثبات دقّة الرواية والسرد التوراتي.
ومع بدء سفر وترحال أعضاء هذه الجمعيات إلى فلسطين، شكّل انشغالهم في إثبات صحّة التوراة (علمياً: المُترجم) إلى جانب خلفيّتهم التبشيرية، أرضيةً مُشتركةً مع الأمريكيين العاملين في فلسطين لأهدافٍ مماثلةٍ. وخلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت في الشرق الأوسط سلسلةٌ من رجال الدين المسيحيين، وعلماء الدين والباحثين الأمريكيين- ومن ضمنهم إدوارد روبينسون (Edward Robinson) وإيلي سميث (Eli Smith)- والتي هدفت إلى تقديم دليلٍ علميٍّ على ادعاءات الكتاب المقدّس (التوراة).
نُشر عمل روبينسون في مجلةٍ بعنوان “The Biblical Repository”، وأشار إليه المحرر حينها بأنه “عملٌ غنيٌ برسوماته التوضيحية للكتاب المقدّس …. سوف يدرك المسيحيُ الذكي بسهولةٍ معظمَ النقاط في الكتاب المقدّس التي يوضحّها (العمل المنشور) ويدعمها”.
تلقّى روبينسون مساعدةً عمليةً من عددٍ من المبشرّين في كلٍّ من رابطتي “LJS” و”CMS” في القدس، ومن ضمنهم أيضاً جون نيكولايسون (John Nicolayson)، الذي يذكره في مقالاته عن ترحاله وسفره إلى فلسطين. في سياق تكريم الجمعية الجغرافية الملكية (The Royal Geographic Society) في لندن روبينسون على عمله عام 1842؛ قال رئيس الجمعية ويليام ريتشارد هاميلتون (William Richard Hamilton)- الذي شغل منصب سكرتير لدى اللورد إلجين (Lord Elgin) في القسطنطينية، وكان شخصيةً وسيطةً في الاستيلاء على كلٍّ من رخام البارثينون وحجر الروزيتا لصالح المتحف البريطاني- “بقراءةٍ عميقةٍ ومتأنيةٍ للكتاب المقدس، نخلُص إلى قناعةٍ مفادُها أن العالم المسيحي يمتلك أو يشرف على عمل … قد يحقق تقدماً كبيراً ومرضياً نحو معرفةٍ دقيقةٍ بجغرافية الكتاب المقدّس”.[4] وفي سياقٍ آخر، كتب هاميلتون أن “التاريخ الذي يوضّحه روبينسون، لم يشوّه التقاليد الرهبانيّة ولم يجعله متحيّزاً”.[5]
من العوامل التي ساعدت على ربط علماء الآثار البريطانيين والأمريكيين التوراتيين معاً وجودُ التزامٍ مُشتركٍ تجاه البروتستانتية التبشيرية وتَوَلُّدُ الشكوك بما يخص التقاليد الكاثوليكية. وكما هي الحال في مؤسسات البعثات التبشيرية، فقد حددت النظريات اللاهوتية للبروتستانتية التبشيرية محور النشاط والتعاون بين علماء الآثار البريطانيين الأوائل في فلسطين.
مهام أخرى للبعثة: الأسقفية الأنجليكانية (Further Mission Developments: The Anglican Bishopric)
كان أنتوني آشلي كوبر (Anthony Ashley Cooper)، الذي حمل لقب “Earl of Shaftesbury”، أحد أبرز مروّجي رابطة “LJS”، وكان يأمل في توسيع نطاق البروتستانتية التبشيرية إلى أكثر مما استطاعت البعثات التبشيريّة إدارته. وفي عام 1838، اقترح علناً وجود نوعٍ جديدٍ من البروتستانت في فلسطين، مشيراً إلى أن الروم الأرثوذوكس، والكاثوليك، والأرمن واليهود، جميعهم ادعوا بأحقّيتهم في أماكن للعبادة في القدس، ما عدا البروتستانت وحدهم الذين لم يحظوا بهذا الامتياز. وفي مذكراته، ناقش فكرة تأسيس أسقفية بروتستانتية في القدس، مُدعياً أن وجود مثل هكذا جسم من شأنه أن تكون له “سلطةٌ قضائيةٌ على بلاد الشام، ومالطا، وأيٍ من قساوسة الكنيسة على ساحل أفريقيا”. ومن خلال علاقاته الشخصية مع اللورد بالميرستون (Lord Palmerston)، وزير الخارجية آنذاك، تمكّن أنتوني كوبر من إقناع الحكومة البريطانية بوجوب تكليف القنصلية في القدس بحماية الجماعات اليهودية في المدينة، وهو دورٌ رآه بالميرستون أنه يوفر فرصاً لتوسيع النفوذ السياسي البريطاني، كما والقوى الأجنبية الأخرى في الإمبراطورية العثمانية.
في عام 1841، اقترح ملك بروسيا، فريدريك وليام الرابع (Frederick William IV)، تعاوناً بين كنيسة إنجلترا (Church of England) والكنيسة التبشيرية في بروسيا (Evangelical Church of Prussia) لإنشاء أسقفية بروتستانتية في القدس. كان الملك متفانياً للبروتستانتية التبشيرية، وكان يأمل في إعادة توحيد الكنائس المسيحية تحت مظلة بروتستانتية جديدة. كما أراد استعادة أسقفية الكنيسة البروتستانتية الألمانية، لتضاهي بذلك نظيراتها الأرثوذوكسية، والكاثوليكية والأنجليكانية.
تماشياً مع الاهتمام التبشيري بالجاليات اليهودية في فلسطين، كان الأسقف الأول المُعيّن للقدس، مايكل سولومون ألكساندر (Michael Solomon Alexander)، حاخاماً يهودياً سابقاً قد اعتنق المسيحية. مع دعم أنتوني الحماسي، اكتسبت فكرة الأسقفية البروتستانتية في القدس الدعمَ بسرعةٍ لدى البريطانيين التبشيريين.
مع ذلك، واجه التعاون بين البروتستانت التبشيريين والبروتستانت الألمان معارضةً على الفور. اعترضت الأنجلو-كاثوليكية في بريطانيا على هذا التعاون على أساسٍ دينيٍّ ينطلق من أن الكنيسة الأنجليكانية أقربُ إلى الكنائس الأرثوذوكسية والكاثوليكية منها إلى الكنيسة البروسية، التي لم يكن لها أساقفة. واعترض بعض الألمان على الدور الثانوي الذي لعبوه في هيكل الأسقفية، الأمر الذي تطلّب موافقةً أنجليكانيةً (Anglican approval) على جميع القرارات والتعيينات.
علاوةً على ذلك، رأت الحكومة البريطانية اللاحقة، تحت حكم اللورد روبيرت بيل (Lord Robert Peel)، في الأسقفية على أنها قوةٌ عدوانيةٌ محتملةٌ قد ينظر إليها الفرنسيون والروس والعثمانيون على أنها تهديدٌ بريطانيٌّ. وهنا، مرةً أخرى، فهم البريطانيون حضورهم في فلسطين ليس فقط من منظور علاقتهم بسكان فلسطين، إنما أيضاً بما يتعلق بالنقاش اللاهوتي المسيحي المعاصر وسياسات القوة العظمى.
وضع الأسقف البروتستانتي الثاني، الذي خدم في القدس وكان رجل دين من أصل سويسري يتكلّم الألمانية ويُدعى صموئيل غوبات (Samuel Gobat)، نمطاً (لهجة: المُترجم) جديداً للنشاط الأنجليكاني في فلسطين من خلال التركيز على التعليم. وخلال فترة تولّيه منصبَ الأسقف بين الأعوام (1846-1879)، تم تدشين اثنتين وأربعين مدرسةً أنجليكانيةً، وعُيِّنَ أول قسيسَين (اثنين) عرب فلسطينيين. عمل المبشرون الألمان والإنجليز معاً على فتح مدارس بروتستانتية مسكونية (ecumenical Protestant schools) مثل مدرسة شلنر في القدس، وتعاونوا في مشاريع أسقفية مثل دور الأيتام والعيادات. كانت العلاقات البروتستانتية التبشيرية بين المبشرين الإنجليز والألمان قويةً بما يكفي لتشكيل علاقة تعاونية لبضعة عقود.
ومثل أسلافها المبشّرين، لم تُعرّف الأسقفية نفسها تحت حقبة صموئيل غوبات على أنها مناهضةٌ للإسلام، بل مناهضةٌ للكنائس الأرثودوكسية والكاثوليكية في فلسطين. ويعود هذا، إلى حدٍ ما، إلى التقييدات القانونية العثمانية التي حظرت تبشير المسلمين. ولكنه يعكس أيضاً التعريف والتصوّر الذاتي للحركة البروتستانتية الأوروبية التبشيرية على أنها ردٌّ فعلٍ وجوابٌ على الأشكال والممارسات “المنُحلّة” للكاثوليكية. لم يولِ صموئيل غوبات أيَّ اهتمامٍ تقريباً بالسكان العرب المسلمين، فيما ركّز اهتمامه على تأسيس الكنيسة البروتستانتية كبديلٍ عن المجتمعات الأرثوذوكسية والكاثوليكية للسكان المسيحيين “الأصلانيين”.
أثار نهج صموئيل غوبات غضباً شديداً لدى كلٍ من الطائفتين الأرثوذوكسية والكاثوليكية. كما أن تكتيكاته لتجنيد الطلاب من الطوائف الأرثوذوكسية والكاثوليكية للمدارس الأنجليكانية الجديدة جلبت الاحتجاجات إلى حد الثأر والانتقام.
في عام 1852، أدى تجمهر كاثوليكي على مدرسة تابعة للـ(Church Missionary Society – CMS) في الناصرة إلى تدمير المبنى وإصابة أحد المبشرين العاملين هناك. طوّرت البطريركية الأرثوذوكسية اليونانية بسرعةٍ علاقةً عدائيةً شديدةً مع غوبات، وفي عام 1853 هاجم المتظاهرون الأرثوذوكس في نابلس منزل البعثة البروتستانتية أثناء تأديتها للخدمة، ما أدّى إلى هلع وهروب أعضاء البعثة. كما أن البطريركية الأرثوذوكسية أحبطت أيَّ شراكةٍ مع المؤسسات الأنجليكانية، وهددت بطرد أفراد الرابطة غير المطاوعين من منازلهم التي كانت ملكاً للكنيسة.
وعلى الرغم من قيام الأنجليكانيين الإنجليز الذين تبنّوا مبدأ الوحدة المسيحية (Christian Unity) بذمّ التكتيكات العدوانية التي مارسها غوبات في تجنيد أبناء المجتمع الأرثوذوكسي، إلّا أن تصرفاته وممارساته أثّرت باتجاه تحديد الهدف من الوجود الأنجليكاني في فلسطين على أنه منخرطٌ بالدرجة الأولى في معركة ضد الأشكال “المنحلّة” للمسيحيّة، بدلاً من أن يكون ضد الإسلام.
وفي حين ركّز صموئيل غوبات على معارضة البطريركية الأرثوذوكسية وتأثيراتها، استمرت “رابطة التبشير الكنسية” (Church Missionary Society – CMS) بتصوّر نفسها وعملها على أنه يتمركز بالأساس ضد المصالح الكاثوليكية. وأدى ازدياد حضور التبشيرية الغربية الكاثوليكية (وبالأساس الفرنسية) في فلسطين بعد إعادة تأسيس البطريركية اللاتينية في القدس عام 1847 إلى اليأس لدى العديد من المسؤولين في الرابطة (CMS). وفي تقرير عن الأعوام 1854-1855، لاحظ أحد المبشرين وصول “أربع راهبات فرنسيّات، مع قسيس” إلى الناصرة، وأضاف قائلاً: “وهكذا، فها نحن نرى أن جهود الكاثوليك تضاعفت، بينما بقينا نحن بمفردنا”.
ووصف تقريرٌ آخرُ الوجود التبشيري الجديد على أنه يهدف بشكلٍ أساسيٍّ إلى “مناهضة البعثات البروتستانتية”، واستهجن وجود البعثة التبشيرية الكاثوليكية باعتبارها الحاجز الأساسي أمام عمل البعثة البروتستانتية. وكتب أحد المبشّرين الأعضاء في “رابطة التبشير الكنسية” إلى من هم أعلى درجةً منه في لندن أن “الراهبات الفرنسيّات ذهبن إلى جميع المنازل وهددن النساء هناك، وبالتالي منعنهن من القدوم إلى مدرسة رابطة التبشير الكنسية. كما وأنشأ اللاتين مدرسةً منزليةً أمام مدرستنا، وكثيراً ما كان البعض من أعضائهم يقفون أمام مدرستنا محاولين معرفة إذا كانوا قادرين على منع طلابنا من الدخول”. كما ذُكر في التقرير أن الرهبان في دير الفرنسيسكان في الناصرة قد شاركوا في حرق الأناجيل البروتستانتية علناً.
وفي حين كان صموئيل غوبات يؤسس الأسقفية للعمل على مناهضة بطريركية الروم الأرثوذوكس، نظرت “رابطة التبشير الكنسية” (CMS) إلى نفسها على أنها حصنٌ ضد حضور البعثة الكاثوليكية الفرنسية. ومع استمرار رابطة لندن لتشجيع المسيحية لدى اليهود “London Jews Society – LJS” في تقديم الخدمات بالأساس إلى الجالية اليهودية، تجاهلت مؤسسات البعث البريطانية الثلاث بشكلٍ كاملٍ المسلمين العرب في فلسطين. وكان الإسلام غائباً بشكل أساسي عن المفهوم البروتستانتي التبشيري لأهمية “الأرض المقدّسة”.
شهدت هذه السنوات تراجعاً في العلاقة الوثيقة (سابقاً) بين التبشيريين البريطانيين والأمريكيين في فلسطين. وبالرغم من أن الأسقفية كانت في البداية مشروعاً مسكونياً (ecumenical project)، إلا أنها ضمّت عدداً من الناس المعنيين بالحفاظ على التقاليد الليتورجية واللاهوتية للكنيسة الأنجليكانية (liturgical and theological traditions)، وإن كان ذلك ضمن إطار كنيسة أنجليكية (low church). كانت الوصمة أو العلامة الجديدة للتبشير الأنجليكاني أفضل تعليماً، وأقل تكريساً لعلم لاهوت الكنيسة الأنجليكية (low church)، وأقل تشكيكاً بالكنائس الشرقية وأكثر ميلاً إلى الترويج لخصائص المعتقد الأنجليكاني على عموميات البروتستانتية التبشيرية.
كان جورج ويليامز، وهو كاهنٌ أنجليكانيٌّ في فلسطين خلال أوائل الأربعينيات من القرن التاسع عشر، قد انتقد بشكلٍ حادٍّ مَيلَ التبشير الأمريكي إلى جذب مُعتنقين جُددٍ من الكنائس الشرقية، على الرغم من قرارهم الأصلي ضد هذه الممارسة. “حسناً، كان الأمر كذلك”، كتبَ ويليامز، “لم يكن مُصرّحاً به فحسب، ولكن تم التصرف وفقه باستمرار منذ البداية! إذاً، قد يكون ما تم الإعلان عنه هو أقربُ بكثير من إنجازه الآن، إن لم يكن من خلال وكالتهم، ربما من خلال وكالة أخرى لا تقل أهليةً لهذه المهمة”.[6]
كما ووصف تجربة رجلٍ كان قد اعتنق البروتستانتية من خلال الأمريكيين، بعد تعرّفه على فضائل الكنيسة الأنجليكانية: ” كان قد وَقَعَ كتاب صلوات بالإنجليزية في يده، ووجد أن الكنيسة، التي ظهرت مذاهبها له على أنها متطابقةٌ مع طائفة الأبرشيّات، تحمل مواقفَ مختلفةً في العديد من النقاط الأساسية … كانت [هذه النسخة من الكتاب] خاليةً من الأخطاء التي أخرجته من طائفته القديمة، ومن العيوب التي لاحظها في الجديدة. كان سعيداً بالاكتشاف؛ لكن وظيفته كانت قصيرةً. قيل له إن الكتاب كان خطيراً، وإنه يحوي العديد من الأخطاء، وتم إبعاد الكتاب عنه”. في ذلك الوقت، كانت الخلافات قد بدأت تظهر بين المبشرين البريطانيين والأمريكيين العاملين في فلسطين، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى تخلّي الأبرشانيين الأمريكيين (American Congregationalists) عن فلسطين، وتركيز جهودهم في لبنان.
في عام 1881، انقضى التعاون بين الكنائس الأنجليكانية والبروسية بسبب الاختلافات اللاهوتية. أصبحت أسقفية القدس أنجليكانيةً بحتةً عام 1887، وذلك عندما تشكّلت بعثة القدس والشرق تحت قيادة الأسقف الجديد بوبام بلايث (bishop Popham Blyth). من الآن فصاعداً، ستكون الأسقفية في القدس أكثر ارتباطاً بالمؤسسات الأنجليكانية في العاصمة (المتروبول)، وستبتعد عن جذورها البروتستانتية التبشيرية المسكونية (Ecumenical Evangelical Protestant) نحو نهجٍ أكثرَ أنجليكانيّةً وبريطانيّةً.
بعد تأسيس الأسقفية، توارى القلق الأنجليكاني الأساسي عن موضوع التحوّل الديني (Conversion)، وركّز على الحفاظ على الحضور البريطاني الديني في الأرض المقدسة، وتحديداً في المدينة المقدسة. ورفضت القيادة الأنجليكانية الجديدة العديد من التكتيكات التي كان قد اقترحها كلٌّ من صموئيل غوبات و”رابطة التبشير الكنسية” (CMS)، وأسقطت بشكلٍ جوهريٍّ فكرةَ تحويل المسيحيين الأرثوذوكس العرب إلى الأنجليكانية لمصلحة الوحدة المسيحية. ومن الآن فصاعداً، سوف يأخذ التأسيس الأنجليكاني الجديد للأسقفية دوراً جديداً، أقل نيّةً في التبشير، وأكثر تركيزاً على تعزيز الوجود الأنجليكاني في فلسطين باعتباره البؤرة الاستيطانية (أو القاعدة الأمامية: المُترجم) للقيم التعليمية والثقافية البريطانية، بدلاً من كونها بروتستانتيةً مسكونيةً.
صندوق استكشاف فلسطين: التبشير والإمبريالية (The Palestine Exploration Fund: Evangelism and Imperialism)
كان أنتوني كوبر، الذي حمل لقب “Earl of Shaftesbury”، قد اقترح منذ فترةٍ طويلةٍ إجراء التنقيب الأثري في فلسطين لغرض جمع الأدلة على صحة الكتاب المقدس التاريخية. في عام 1865، دشّن تأسيسُ صندوق استكشاف فلسطين (Palestine Exploration Fund) حقبةً جديدةً من المنح الدراسية الغربية حول فلسطين، وتحديداً حول القدس. وكان مؤسسو صندوق استكشاف فلسطين ومديروه الأوائل – والذين من بينهم جورج غروف (George Grove)، والتر موريسون (Walter Morrison)، وآرثر ستانلي (Arthur Stanley) – جميعهم مشاركين في البروتستانتية التبشيرية التي دفعت إلى تطوير علم الآثار التوراتي.
كان والد غروف شخصيةً هامشيةً في الطائفة التي عرفت باسم “Clapham Sect”، وكان ستانلي عميد وستمنستر (Dean of Westminster). أما موريسون فكان من اللفيف الُمخْلِص للكنيسة، والذي تبرّع بسخاءٍ للمدارس البروتستانتية التبشيرية والجمعيات الخيرية. وبينما صرّح الصندوق عن هويّته بكونه علمانياً وغيرَ طائفيٍّ، إلّا أنه كان يدير جميع أنشطته بفكرٍ تبشيريٍّ حول إعادة الاكتشاف البروتستانتي الغربي لفلسطين (Western Protestant Rediscovery of Palestine).
في اجتماعه الأول، وافق صندوق استكشاف فلسطين على أنه “لا ينبغي الشروع به على شكل هيئةٍ دينيةٍ، ولا ينبغي إجراؤه بهذا الشكل”، ولكن أيضاً تمت الموافقة على أن “يتلقّى علماء الكتاب المقدس المساعدةَ في تفسير النص المقدس عن طريق مراقبةٍ حذرةٍ وفهمٍ لأسلوب وعادات شعب الأرض المقدسة”. لم يرغب الأعضاء المؤسسون للصندوق في إبعاد المانحين المحتملين الذين قد تكون لهم بعضُ التحفظات على نهجٍ تبشيريٍّ محددٍ لعلم الآثار. ومع ذلك، فقد كان واضحاً بأن صندوق استكشاف فلسطين بدأ عمله، على حد قول أحد الأعضاء لاحقاً، “فقط بهدف تسليط ضوءٍ جديدٍ وحقيقيٍّ على الكتاب المقدّس”.
بعد الاهتمام البروتستانتي التبشيري في الوجود اليهودي في الأرض المقدسة، ركّز الصندوق اهتمامه بشكلٍ شبهِ حصريٍّ على الحفريات في المواقع التي اُعتقد بأنها ذات صلة بالعهد القديم وسرديّاته. ويعود ذلك جزئياً إلى حقيقة أن مواقع العهد القديم المعروفة كانت تحت سيطرة الروم الأرثوذوكس، ولكنها أيضاً عكست الاهتمام البريطاني التبشيري القوي بتجربة اليهود. تم تكريس عمل صندوق استكشاف فلسطين بشكلٍ رئيسيٍّ لتحديد المواقع والآثار التي يمكن ربطها بسرديّة أرض إسرائيل القديمة. واقترحت بعض الخطابات المرافقة لهذه المشاريع أجندةً إمبرياليةً قوميةً، التي افترضت مقارنةً فلسفيةً بين “الشعب المختار” من العصور القديمة، ونظرائهم المعاصرين في إطار الإمبراطورية البريطانية وقادتها البروتستانتية.
كانت تعليقات رئيس أساقفة يورك (The Archbishop of York) حول فلسطين في الجلسة الافتتاحية للصندوق في عام 1865، بمثابة تصريحٍ جديرٍ بالملاحظة لكل من البعثة التبشيرية والقومية: “فلسطين (تتبع) لي ولكم. إنها جوهرياً لنا. فهي أُعطيت لأب إسرائيل عندما قيل امشِ الأرض في طولها وعرضها، لأني سأعطيك إياها … ونحن نعني السير فيها طولاً وعرضاً لأن الأرض قد أُعطيَت لنا … إنها الأرض التي قد ننظر إليها بنفس الروح الوطنية التي ننظر إليها لإنجلترا القديمة العزيزة التي نحبها كثيراً”. بيّن هذا التصريح المذهل تداخلَ الفلسفة البروتستانتية التبشيرية بالخطاب الإمبريالي السياسي المتصاعد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما طرحَ بعضَ السبل التي من خلالها كان بالإمكان استخدامُ الفهم البروتستانتي التبشيري لمكانة الأرض المقدسة في شرعنة التدخلات السياسية البريطانية في فلسطين.
تاريخياً، أخذ الصندوق على عاتقه هذه المهمة؛ حيث بدأ أعضاؤه بإجراء مسوحاتٍ أثريةٍ حاولت إثبات صحّة السرد التوراتي، لكنه اشتغل أيضاً كعملياتٍ عسكريةٍ سريةٍ لحكومةٍ معنيةٍ بالحفاظ على حضورٍ قويٍّ في فلسطين في وجه قوى أوروبية أخرى. وأصبح ارتباط هاتين المصلحتين في نشاط الصندوق شديدَ الوضوح بعد عام 1869، عندما قرر الصندوق إجراء مسوحات شاملة لفلسطين من أجل الوصول إلى “التفسير الأكثر دقةً لإبراز الخصائص المادية للكتاب المقدس”، ولكن أيضاً من أجل تقديم خرائطَ دقيقةٍ ومفصلةٍ لفلسطين لاستخدامها من قبل أجهزة المخابرات البريطانية في الدفاع عن قناة السويس جراء التهديدات الروسية.
أبدى أعضاء الصندوق الذين عملوا في فلسطين عدم الاهتمام ذاته بالإسلام. وركّزوا، كما فَعَلَ المبشرون البريطانيون، على السكان اليهود والمسيحيين. افترض الكثيرون منهم بأن فترة حكم الإسلام في الإمبراطورية العثمانية آخذةٌ بالتضاؤل، وأن سكان فلسطين اليهود والمسيحيين سيصبحون قريباً في غاية الأهمية. كَتَبَ أحد علماء الآثار، في منشورٍ نشره الصندوق، مقترحاً بتفاؤلٍ أن “الفلاحين المسلمين، حيث يتلاشى تزمّتهم ببطء، يخضعون لمثل هذه التأثيرات [مثل اليهود والمسيحيين]، وسيصبحون أكثر ذكاءً ونشاطاً تدريجياً، لكنهم سيتوقفون عن كونهم سادةَ هذه البلاد. ومع زيادة الرأسمال الأوروبي والمستعمرين الأوروبيين في البلاد، سوف يزداد عددهم في تلك الدول التي تنبت من الجسد التركي”.
وفي إشارةٍ إلى السياق الجيوسياسي لهذه التوجّه، أضاف “مع هذا المستقبل المحتمل، من الصعب التصديق أن الدول الغربية ستسمح للأراضي المقدسة بالخضوع تحت السيطرة الروسية”. أما بالنسبة لأعضاء صندوق استكشاف فلسطين، مثلهم مثل المبشرين البروتستانت التبشيريين الذين سبقوهم، لم يكن الحضور الإسلامي والعثماني في فلسطين أكثرَ من مجرد انحرافٍ مؤقّتٍ؛ وأن المعنى الحقيقي لفلسطين يكمن في سكانها المسيحيين واليهود، وفي مواقعها التوراتية، وفي أهميتها لسياسات القوة العظمى. هذا التفسير لمكانة وتاريخ فلسطين، التي روّجتها كلٌّ من مجموعات البعثات التبشيرية والجمعيات الأثرية، بدأ الآن في شق طريقه إلى الخطاب العام الساعي إلى إضفاء الشرعية على المطالبة السياسية البريطانية بفلسطين.
تلخيصات:
مثّلت البروتستانتية التبشيرية القوّة المهيمنة وراء الوجود البريطاني في فلسطين، خاصةً في القدس، خلال القرن التاسع عشر، حيث تجّلت في كلٍّ من مؤسسات البعثات التبشيرية والأعمال الأثرية. عرّف المشاركون البريطانيون، الذين نشطوا ضمن هذه البعثات والتنقيبات الأثرية، أنفسَهم على أنهم مُناهضون بشكلٍ مباشرٍ للمعتقدات والممارسات الكاثوليكية، بدلاً من كونهم مناهضين للإسلام. واعتبروا أنفسهم جزءاً من مشروع إحضار المسيحية “النقيّة” إلى “الأرض المقدسة”. كما ونظروا إلى أهمية فلسطين بناءً على تاريخها التوراتي وأهمّيتها للمجاراة المسيحية الغربية الدينية والسياسية. لم تكن الجوانب الإسلامية والعثمانية، بالنسبة لهؤلاء الرحّالة البريطانيين، ذات أهمية في ماضي وتاريخ فلسطين.
حدد هذا التوجّهُ البروتستانتيُّ التبشيريُّ طبيعةَ اللقاء والصراع بين البريطانيين والسكان العرب المحليين، كما وصاغ أشكال النزاع والتعاون البريطاني مع القوى الغربية الأخرى في فلسطين في القرن التاسع عشر. حدد هذا التوجّه أيضًا التركيزَ البريطانيَّ على السكان المسيحيين واليهود بدلاً من تركيزه على المجتمع العربي المسلم، وهو ما يمثل الشريحة الأوسع في البلاد. علاوةً على ذلك، فإن الالتزام بالعقيدة البروتستانتية التبشيرية يعني مَيل البريطانيين في فلسطين إلى الانخراط في جهود تعاونية مع المؤسسات والأفراد الأمريكيين والألمان الذين تقاسموا وجهات نظرهم البروتستانتية، وتنميّة علاقات عدائية مع الوجود الفرنسي والروسي. أخيراً، ساعد هذا التوجّه على فهم فلسطين كمكانٍ تكمن أهميتُه في المقام الأول في إرثه المسيحي واليهودي؛ وهي فكرةٌ ستُستخدم ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر فصاعداً لإضفاء الشرعية على الادعاء السياسي البريطاني لما تُسمّى “الأرض المقدسة”.
________________________________________
[1] الامتيازات الأجنبية هي تسهيلاتٌ تقدمها الدول للدول الأجنبية بهدف تشجيعهم على الإقامة فيها واستثمار أموالهم وخبراتهم. ومثال عليها: الامتيازات الفرنسية في الدولة العثمانية. وفي السياق العثماني، يُشار إليها أحياناً في المصادر العربيّة والتركيّة العثمانيّة بلفظ العهود العتيقة أو عهدنامه. من أشهرها الامتيازات الأجنبية في عهد الدولة العثمانية، حيث قامت فرنسا بإنشاء قناصلها داخل الدولة العثمانية، وكان لهذه القنصليات قانونُها الخاصُ الذي كان ينفصل عن قانون الدولة العثمانية، وطالبت من الباب العالي مساعدة القناصل الفرنسية داخل الدولة العثمانية، وقد وقع القانونَ السلطانُ سليمان القانوني مع ملك فرنسا فرانسوا الأول.
[2] بمعنى تحويل من دينٍ أو اعتقادٍ إلى دين آخر.
[3] As “loathsome,” a “labyrinth of superstition, quarrels over dogma, stenches and nonsense,” and “something between a bazaar and a Chinese temple rather than a church.”
[4] ”We rise from the perusal of the book with a conviction that the Christian world is at length in possession or a work, under the guidance of which… they may make large and satisfactory advances towards an accurate knowledge of the geography of the Scriptures.”
[5] ”History which he illustrates is in no instance warped or prejudiced … by monkish traditions.”
[6] ”Had this not only been avowed, but consistently acted upon from the commencement! then might that which is their declared object have been much nearer its accomplishment than now it is, if not through their agency, perhaps through the agency of others not less qualified for the task.”