أثناء الإعداد لهذا البحث لاحظتُ ندرةً في المراجع الأجنبية حول سؤاله المركزي، وانعداماً في الأدبيات العربية الجدية التي تعالج موضوعة الجيش الصهيوني في أبعاده الاجتماعية. لعلّ هذا ما يشكّل دافعاً محموماً لكتابة هذه الورقة في محاولة لرصد العمليات التي من خلالها تتم إعادة إنتاج العنصرية الإثنية داخل الجيش الصهيوني.
ملخص
أثناء الإعداد لهذا البحث لاحظتُ ندرةً في المراجع الأجنبية حول سؤاله المركزي، وانعداماً في الأدبيات العربية الجدية التي تعالج موضوعة الجيش الصهيوني في أبعاده الاجتماعية. لعلّ هذا ما يشكّل دافعاً محموماً لكتابة هذه الورقة في محاولة لرصد العمليات التي من خلالها تتم إعادة إنتاج العنصرية الإثنية داخل الجيش الصهيوني.
تدور المقولة الأساسية للورقة حول سؤال مركزي مفاده: كيف يعيد الجيش الصهيوني إنتاج التمايزات الإثنية داخله/داخل المجتمع؟ هنا يسعى البحث نحو فحص الآليات التي من خلالها يتم الاشتغال على إعادة إنتاج العنصرية الإثنية ضمن مجالات عدة كالتعليم والاقتصاد. وعلى صعيد آخر، يرصد البحث التقسيمات الإثنية داخل الجيش التي تترسخ بفعل الممارسة اليومية للأفراد “الجنود” على اعتبار أنهم يعكسون ثقافاتٍ متباينةً من خلال مجموعة من التمثيلات من قبيل الشكل الخارجي، والسلوك الانضباطي… الخ.
ومن المهم أن نشير في هذا السياق إلى أن بناء التصنيفات الإثنية داخل المجتمع الصهيوني مرتبطٌ بالأساس بالنزعة العرقية الأوروبية التي اختلقت ثنائية “الشرقي والغربي” بشكل موازٍ لثنائية “المتحضر والبدائي”. وبما أن بناة المشروع الاستعماري الصهيوني تحدّروا من أوروبا، أخذت التصنيفات الإثنية تتشكل على أساس تصدّر المستعمرين الأشكناز (القادمين من أوروبا) الحيزَ السلطويَّ في الدولة الصهيونية. ولم تنفصل التصنيفات الإثنية في حينه عن المكانة الطبقية والاقتصادية التي تمتعت بها تلك الفئات. وفي الآن ذاته، أخذت تتشكل الفروقات الطبقية بالارتباط الوثيق مع هذه التراتبية الإثنية. وبهذا يمكن القول إن الطبقة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الصهيوني مبنية إثنياً.
مقدمة
في نظرة سريعة إلى المستعمرة الصهيونية الكبرى، يمكننا بشكلٍ عامٍ ملاحظة ثلاث مجموعات تشكّل بنيةً اجتماعيةً غير متكافئة. تمثل المجموعة الأولى اليهود الأشكناز المنحدرين من أوروبا، وهم حملةُ المشروعِ الصهيوني وبناةُ الدولة الأوائل، وقد هيمنوا بشكل شبه مطلقٍ على المشروع السياسي الصهيوني لسنوات طويلة. فيما تمثل المجموعة الثانية اليهود المزراحيم المنحدرين من دول عربية وإسلامية، والذين تم تشكيلهم اجتماعيا كإثنية “مزراحية” – شرقية منذ استقدامهم للدولة الصهيونية. أما المجموعة الثالثة فهم العرب الفلسطينيون، ضحايا النظام الاستعماري الصهيوني بتناقضاته الإثنية الداخلية.
بحكم طبيعة الكيان الصهيوني كيكان استعماري إثنوقراطي، بمعنى أنه مركب وفق التراتبية الإثنية تتفرد فيه مجموعة إثنو-قومية في الهيمنة على أجهزة القوة[1]، ينبني الجيش على أساس خدمة المجموعة المهيمنة، وهو بذلك تعمل على صعيدين؛ تحجيم وضبط المجموعات الإثنية الضعيفة مثل الشرقيين والأثيوبيين ..والخ. ومن جهة أخرى، إحكام السيطرة والخناق على الفلسطينيين بوصفهم مجموعة قومية تشكل خطراً دائماً على كينونة الدولة.
يحتل الجيش مكانة مركزية داخل المجتمع الصهيوني بوصفه منخرطاً في المجال الأمني والمدني في آنٍ واحدٍ، وبوصفه مجتمعاً غير طبيعي في محيط عربي يشكل تهديداً على وجوده. ولعل ما يُبرز مركزية الجيش كونه مفصلاً أساسياً في بناء الدولة والحفاظ عليها باعتبار انبثاقه عن العصابات المسلحة ما قبل قيام الدولة. يمكن ملاحظة هذا البعد في أقوال وكتابات المؤسسين الأوائل؛ فمثلا، في إحدى الجلسات البرلمانية عبّر ديفيد بن غوريون قائلاً:
“لقد كنت صهيونيا طوال حياتي ولم أنكر وجود اسرائيل، لا سمح الله… ولكن… حتى الامة الانجليزية لم تكن أمة دائما… بل كانت مؤلفة من عدة قبائل تقاتل بعضها بعضا.. وفقط بعد مئات السنين أصبحوا أمة… نحن لا نملك مئات السنين، وبدون الجيش… لن نكون أمة… يجب أن نقود حركة التاريخ، أن نسرعها، أن نوجهها… وهذا يتطلب الواجب.. والتربية الوطنية.”[2]
نتلمس في تصريح بن غوريون البعد التاريخي لعملية تشكيل تنشئة اجتماعية متمحورة بالأساس حول الجيش. وليست الإشارة إلى التربية والواجب الوطني إلا مثالين مولدين للاستراتيجيات التي من خلالها تتبلور عملية التنشئة الاجتماعية المبنية على مفهوم عسكرة الأفراد ذهنياً ومعرفياً.
بوتقة الصهر في ترسيخ التراتبية الإثنية
سوّق الجيش نفسه ولمدة زمنية طويلة بأنه بوتقة صهر اليهود. بالرغم مما تنطوي عليه هذه المقولة من تراتبية داخلية تضع الأشكنازي معياراً أسمى لكل يهودي، وكيهودي أساس عصيّ على الصهر؛ فإن الزعم بأن الجيش بوتقة صهر يجعل منه استراتيجية فذة في إعادة إنتاج التراتبية الإثنية، لكن بتجذير بنيوي.
منذ اللحظة الأولى، تم إنتاج خطاب الأشكنازي في مرتبة أساس؛ بمعنى أنه هو واجهة وجوهر ومعيار الهوية الصهيونية في مقابل إنتاج الشرقيين كجماعة إثنية متمايزة عن الأصل. حاولت بوتقة الصهر في الأوقات السابقة العمل على إزالة الانتساب الإثني كجزء من دمج المجموعات في هوية قومية متجانسة. حيث كان يُتوقع من الشرقيين أن يمروا في عمليات عزل اجتماعي بسبب تصوير ممارساتهم الثقافية على أنها دونية. ثم تتم “عقلنتهم” عن طريق تبنيهم نظاماً قيمياً يقدم نفسه على أنه غربي متقدم كي يتساووا مع الأشكناز[3].
وقد أريد لبوتقة الصهر تلك أن تشكل مرحلة “عبور” لليهود على مستويين مختلفين: بالنسبة لليهود الأشكناز، يشكل الانتساب إلى الجيش “طقس عبور” نحو الرجولة وتعزيز الدور الذكوري للمجتمع. بينما يمثل التجنيد بالنسبة لليهود الشرقيين “طقس عبور” إلى المجتمع الصهيوني كمواطن “جيد”[4].
وكجزء من فكرة العبور، يجب على الشرقي أن يقبل بدونيته المفروضة عليه بنيوياً إلى أن يتم قبول مساهمته في خدمة الكيان[5]. من هنا نرى أن أفراد الجماعة الشرقية أعادوا إنتاج أنفسهم وفق التراتبية الإثنية التي تم تشكيلها في مؤسسة الجيش. إذ يسعى الشرقي باندفاعية نحو استلهام صورة المقاتل التي بُنيت له من قبل المجموعات المهيمنة في تلك المؤسسة. هذا يستلزم بالضرورة إيمان الشرقي بنفسه على أنه دون[6].
والمهم في بوتقة الصهر بُعدها الخطابي الذي ظل قائماً فترة طويلة حتى على مستوى الإنتاج الأكاديمي عن الجيش والمجتمع الصهيوني. لكن في بداية الثمانينات، بدأت تظهر مقاربات نقدية تنسف البنية الخطابية المتعلقة بقدرة الجيش على تفكيك التقسيمات الإثنية والطبقية، لتجادل بأن المنظومة العسكرية، على العكس من ذلك، قد فاقمت التمايزات الاجتماعية، وبدلاً من تعزيز الاندماج الاجتماعي، عملت على ترسيخ التراتبية الإثنية[7].
بل ويتم النظر إلى منظومة الجيش بوصفها الرحم الذي تولد فيه التقسيمات الإثنية والتراتبية الثقافية الوظائفية[8]. ويبدو أن الهالة التي تحيط بنظرية بوتقة الصهر أصبحت تبهت حتى عند المجندين أنفسهم، بحكم تجربتهم في الجيش التي كشفت عن تلك الممارسات التمييزية تجاه من هم في مراتب اجتماعية وإثنية “متدنية”. يقول أحد الضباط الشرقيين في تعقيبه على حراك الفهود السود في السبعينات، والذي كان ينادي بإنصاف اليهود الشرقيين في المجالات الاجتماعية والاقتصادية: “إن الجيش الصهيوني يعكس اللامساواة المتجذرة في المجتمع”. ويقول أحد الناشطين الشرقيين: “حتى رفض كل ما هو شرقي موجود في الجيش الذي من المفترض أن يكون بوتقة صهر حقيقية”[9]. ذلك الرفض لكل ما هو شرقي متأصل في هوية الكيان “التي تبلورت حول مركبات صهيونية مثل الإنتماء الإثني في التقاليد الأوروبية القائمة على مفاهيم الأرض والعسكرة والعلمنة ومناهضة عامة لكل ما هو شرقي ومناهضة خاصة لكل ما هو عربي، أي أن المتاهة لا تسمح بخلق روافد بديلة وإنما الاندماج في الهوية القومية الكبيرة التي يتمتع فيها الشرقيون بمكانة دونية”[10].
في الخمسينات من القرن العشرين، تجنّد أفراد الطبقة الوسطى لتطبيق سياسة بوتقة الصهر الشرسة، وعملوا على “استيعاب” و”تربية” المهاجرين الجدد[11]. كما وتولى الجيش إدارة “المعبروت”، وكانت مهماتهم تتعدى التعليم إلى العناية بالأطفال، وتقديم العون الطبّي، وتزويد المهاجرين بالاحتياجات الأساسية من ملبس ومأكل، وتسهيل التواصل بينهم في المخيمات. وبفعل انخراط الجيش في هذه المهمات، بلوّر الخطاب العام عن الجيش الصهيوني فكرة أنه “جيش الشعب”. وقد هدف الجيش، من خلال المساعدة تلك، إلى تعليم المهاجر الأدوار التي يقوم بها والتي ستُناط به لاحقاً “أي المهاجر”.[12]هذه القوة الخطابية في مقولتي “جيش الشعب” و”بوتقة الصهر” جعلت المهاجر يتشرب التراتبية دونما تساؤل.
التراتبية الهيكلية داخل الجيش
لا يوجد ما هو أكثر دلالة على بناء هيكلية الجيش وفق اعتبارات إثنية، منذ بدايات تأسيسه، مما صرّح به بن غوريون في إحدى زياراته لقادة الكتائب في الجيش. حينها وصف انطباعاته قائلاً بأنه رأى: “عرقاً واحداً، أشكناز.” “لا أستشعر خطراً أعظم مما لو كان القادة من العرق النبيل، والجنود الأقل رتباً من العرق الأدنى”[13]
لا توجد إحصائيات رسمية حول تمثيلات المجموعات الإثنية داخل الجيش الصهيوني[14]، لكن تحليل التراتبيات الهيكلية داخل الجيش ينبني على معطيات من خارج الجيش. يشير الباحث الصهيوني”ياغيل ليفي” إلى أنه في خمسينات القرن الماضي، بلغ عدد المزراحيم الذين يشغلون مهمات وظيفية داخل الجيش حوالي 200 من أصل 4000 مجند. في عام 1970، حوالي 67% من الجنود وقادة الفرق العسكرية كانوا من الشرقيين. لكن الشرقيين شكلوا ما نسبته 30% من الضباط ذوي الرتب الصغيرة وحوالي 10 إلى 17% من الضباط الكبار[15].
لم يكن بمقدور المزراحيم أن يحصلوا على وظائف قتالية أو مراتب عليا داخل الجيش حتى فترة السبعينات. وقد كانوا مهمشين على صعيدين؛ الجيش والمجتمع. وإن تمكن بعض المزراحيم الوصول إلى مراتب عليا داخل الجيش مثل “غابي أشكنازي” بعد السبعينات، لا يعني ذلك أبداً تلاشي تلك النزعة التهميشية، التي هي بنيوية داخل المجتمع بكل مكوناته بما فيها الجيش[16].
في الخطاب الصهيوني الشائع، يُصوَر الجيش على أنه جهاز دولاتي يفتح مجال الفرص أمام الجنود بشكل متساوٍ، بغض النظر عن المكانة الاقتصادية والخلفية الإثنية، وأنه يعدّ برامج تطويرية مكملة للتعليم المدرسي والحرفي من أجل تأهيل المجندين ليكونوا على مرتبة واحدة من الخدمة العسكرية، في حين أن الواقع لا يعكس تلك الصورة البتة.
في وحدة “الجنود المقاتلين”، نرى المجندين هناك يتحدرون من طبقات وأصول إثنية متنوعة، ويتم تعيينهم بناء على مواصفات موضوعية لها علاقة بالقدرات الجسدية والعقلية. فيما أن الجنود الذين لا يطابقون تلك المواصفات لا يُعينون في الوحدات القتالية، أو الذين يتسربون من التدريبات في تلك الوحدات، يتم تعيينهم في وظائف عسكرية تعتمد على تحصيلهم الأكاديمي ومستواهم التعليمي. وفي واقع الأمر، يقوم النظام التعليمي في الكيان الصهيوني على الفصل وعدم المساواة عبر نظام يوجه باستمرار الطلبة “الأشكنازيم” نحو مواقع مهمة تتطلب تأهيلاً أكاديمياً مرموقاً، فيما يُوّجه الطلبة الشرقيون نحو مواقع عمل متدنية. ذلك أن المدارس في الضواحي الأشكنازية تتمتع بتسهيلات أفضل، وبمدرسين أفضل، وبمستوى أرفع، مقارنة مع المدارس في الضواحي الشرقية.[17]
وبما أن النظام التعليمي يُبنى طبقياً بما له علاقة مع الحدود الإثنية والقومية، فإن تقسيم العمل بين الجنود “غير المقاتلين” يعكس بالضرورة التقسيم الطبقي المبني إثنياً داخل النظام التعليمي وسوق العمل الصهيوني[18]. ولعل أول ما يُعين على فهم إعادة إنتاج تلك التقسيمات الطبقية هي النتاجات السوسيولوجية التي تحيل الفجوة بين الأشكناز والمزراحيم لا إلى طبيعة المجتمع الصهيوني العنصرية بل إلى أصول المزراحيم الاجتماعية من حيث كونها “متخلفة” ثقافياً وما قبل حديثة كما يقول الادعاء. وهذا بدوره يعطي تبريراً لإنشاء نظام تعليمي يقدم إعداداً أكاديمياً أفضل للأشكيناز عنه للمزراحيم. فضلاً عن ذلك فإنه يتم تحضير مدارس خاصة من قبل وزارة التربية مخصصة للمزراحيم بكونهم “محرومين ثقافياً” أو من هم بحاجة لتطوير.[19]
وفي إطار إعادة إنتاج التقسيم الوظائفي الإثني داخل الجيش، يعتبر الشرقيون من ذوي الياقات الزرقاء في المراكز العسكرية التي يتبوَؤونها. وهؤلاء يُكلّفون عادة بمهام جسدية صعبة، ويُمنحون مناصب دونية. أما ذوو الياقات البيضاء وهم في العادة أشكناز، يصنفون في المراتب العليا للجيش، وعادة ما يتم تكليفهم بمهام إدارية ووظائف تكنولوجية حساسة[20].
إن التراتبية اللامتكافئة المنتجة بواسطة منظومة السلطة في الجيش تعني أن المناصب المهمة لا ينالها إلا الأشكناز. وبهذا يتم النظر إلى مساهمة الشرقيين في الجيش الصهيوني بوصفها إضافة كمية فيما يُنظر إلى المساهمة الأشكنازية بوصفها إضافة نوعية[21].
ومن جهة أخرى، فإن الخدمة العسكرية والمكانة التي يحتلها الجندي في الجيش تشكل هرمية الإنتماء والولاء إلى الكيان، وفي نفس الوقت، تعمل تلك المكانة التي تبوأها في الجيش على ترسيم حدود المجال والأفق الاجتماعي بعد انتهاء خدمته. هكذا تنبني العلاقة الوثيقة بين الخدمة العسكرية وبنية المواطنة داخل المجتمع الصهيوني وفق محددات الجندر والإثنية[22].
في ظلّ الغبن الذي يشعر به جنود الياقات الزرقاء على مستوى المكانة الاجتماعية والاقتصادية، قد يُخيّل لنا أنهم سيكنّون ولاءً أقل للدولة ولجهازها العسكري، وبالتالي سوف يبدون التزاماً أقل، مقارنة بذوي الياقات البيضاء والمقاتلين الأشكناز، تجاه “واجبهم الصهيوني” المتمثل بالتضحية بالنفس. لكن المسألة معقدة أكثر من ذلك، إذ تتداخل فيها عوامل أخرى. ويبدو أن الممارسات اللامساواتية في التعامل مع ذوي الياقات الزرقاء لا تؤثر بالضرورة على انتمائهم “الوطني”. وغالبهم يعلنون مواقف عسكرية يمينية متطرفة. يصرح أحد الجنود الشرقيين، وهو (تقنيّ داخل الجيش): “أنا أنتمي إلى أقصى التيار اليميني. سوف أقصفهم، وأحرقهم وأقول وداعا. أنا أتحدث عن “أبناء العم” (الفلسطينيين). لا أدعم أي مبادرة للسلام..”[23]
“جولاني” و”المظليون”: مواجهة إثنية
ينبني هذا القسم، بشكل أساسي، على دراسة صهيونية إثنوغرافية تم خلالها مقابلة 60 جندياً من لوائي “غولاني” و”المظليون” باعتبار أن اللوائين يمثلان مواجهة إثنية-ثقافية بكل معنى الكلمة. إذ تقتصر وحدة المظليين على أغلبية أشكنازية، فيما تعد الأخرى ذات أغلبية شرقية. وأفضل تعبير عن تلك المواجهة ما أفصح به أحد جنود جولاني “من أصول شرقية”، في وصفه للعلاقة بين اللوائين:
“دعني أوضح الفرق بلغة كرة القدم. الأمر أشبه بلعبة كرة قدم بي فريقي “بيتار يروشاليم” وهبوعل تل أبيب”( يتم تعريف مشجعي الفريقين بتمايزات اثنية: مشجعو بيتار هم من المزراحيم ومشجعو هبوعل من الأشكناز).. يمثل فريق بيتار الطبقة المتدنية، الفقراء، مدن التطوير؛ أي البساطة، الأحياء البسيطة وكل يتعلق بها. المظليون من ناحية أخرى هو “yellow” ..الأشكناز الذين لديهم أكثر من 15 حرف في أسماء عائلاتهم، والتي لا تبدأ ب “بن” مثل “بن آبو”، “بن شامو” (أمثلة على أسماء مزراحية شائعة)، وما الى ذلك. “yellow” يتحدر من عائلة غنية، ومكانة اقتصادية مرموقة، وبيت جيد. هو شخص درس في أفضل المدارس وأريد له أن يكون طالبا متميزا.. وعندما التحق بالجيش أريد له أن يخدم في أفضل الكتائب جودةً.”[24]
في تعبيره هذا، يفصح الجندي المزراحي عن إدراك واعٍ لمكانته الاجتماعية التي انعكست بالضرورة على موقعه داخل الجيش. وهو حينما أراد أن يعبر عن مكانته في الجيش، أخذ يوصف ما مُنح للآخر “الأشكنازي” من امتيازات اقتصادية وتعليمية في حياته الاجتماعية قبل أن يصل إلى مرحلة الخدمة العسكرية، ويوضع في أعلى المراتب.
في مقارنة بين آليات الالتحاق بين كل من اللوائين، يقول جندي آخر في لواء جولاني “من أصول شرقية”:
“أي شخص مزراحي يود الالحتاق بالمظليين عليه أن يدخل في عملية “تكثيف” من أجل أن يتم قبوله في اللواء،.. أما جولاني فهم “الناس البسطاء”، أي شخص باستطاعته الالتحاق بهذا اللواء… هم شعبك، هم جماعتك… في جولاني شباب رائعون، أتدري؟ هم في المحصلة “عرب..”[25]
ما الذي يقوله هذا المزراحي؟ فعلياً يحيلنا الاقتباس أعلاه إلى الحالة الملتبسة في التعامل مع الشرق والشرقيين عند الصهيونية والتي أشار غيل إيال في كتابه “نزع السحر عن الشرق”[26]. فضمن تجربة المواجهة مع الشرق تلك؛ كانت الصهيونية ترى في القدوم إلي فلسطين عملية محو لبقايا الروح الشرقية. إلا أن تلك التجربة كانت متعددة الأبعاد، وفيها من التناقضات والتعارضات ما يحيل إلى الأفق المفتوح لتشكل الهوية الصهيونية. هنا، ينبهنا إيال إلى أن المستوطن المهاجر متى يشعر بالمشاكل النفسية والأخلاقية التي تسببها له الصهيونية يلجأ وبشكل أوتوماتيكي- انتقائي إلى إبراز ما يثير إعجاب الطبقة المهيمنة من الثقافة العربية. وهذا ما يفعله المزراحي في الاقتباس أعلاه.
فيما يوصف جندي من لواء المظليين (أشكنازي الأصل) الفرق بين اللوائين على النحو التالي:
“الأشكناز، أولاد طيبون، يرتدون النظارات. منضبطون في الوقت، لا يقعون في المشاكل، لا يجادلون إلا في الأمور المهنية. هم يعتقدون أنهم الأذكى. هم جنود طيّعون، عندما تطلب منهم أن يفعوا شيئا يفعلوه. أما جنود جولاني فهم “عرب” قادمون من الحارات.”[27]
في الاقتباس أعلاه، تتجلى الاستعلائية الأشكنازية في أوضح صورها. ويُعدّ التشديد على ترسيخ التراتبية الإثنية حتى على المستوى اللغوي والتمثيلي من آليات تأبيد السيطرة والسلطة. فالأشكنازي هو الذكي والمنضبط والمتماهي “طبيعياً” مع النظام. أما المزراحيم، وفق رؤية هذه الآليات، فهو “ابن حارات”.
ليس ذلك فحسب، بل وصل الأمر إلى حد أن الجندي الأشكنازي الذي يخدم في لواء جولاني، يشعر بالعار نتيجة انتسابه الى مجموعة يراها دونية ويوصفها بقوله:
“عندما تفكر في جولاني، تقفز الى ذهنك صورة الجنود المقاتلين الذي يسببون الفوضى العارمة. ملابسهم قذرة، والبندقية محمولة على أكتافهم بصورة عشوائية دون استقامة..جنود جولاني يمثل “شيخ العرب”.. نحن نبدو كالرجال[28]“
وداخل مجال الجيش، يتم إعادة إنتاج التراتبية الإثنية على مستوى آخر؛ الزي. إذ اختار المظليون الأحمر لوناً لقلنسواتهم مستنبطين القيمة المرموقة للّون الأحمر المستخدم عند الوحدات العسكرية النخبوية في العالم. فيما يتميز جنود جولاني بلون قلنساوتهم البنيّ.
خاتمة: بوادر انعطافة جديدة في الجيش
يشير “يورام بيري” إلى طروء مجموعة من التحوّلات في المبنى الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي بما انعكس على النخب العسكرية. أحد أهم تلك التحولات هو التحول الديموغرافي: “فخلال عقد واحد فقط من الزمن أضيف إلى سكان إسرائيل مهاجرون يهود من الناطقين باللغة الروسية، وتعادل نسبتهم نحو عشرين بالمئة من إجمالي المجتمع الذي استوعبهم. وقد أدى حجم هؤلاء السكان الجدد، بالإضافة إلى عوامل أخرى، إلى تفكيك النمط الاستيعابي لمجتمع المهاجرين الإسرائيلي، وكذلك للتأثير على بلورة تركيبة اجتماعية جديدة، تشتمل على مجموعات ثقافية أو على (قبائل). وقد تغيرت قاعدة التضامن الاجتماعية. وبدلاً من المكانة التي كانت تتمتع بها المجموعة الأشكنازية- العلمانية القديمة التي تمثلها حركة العمل فقد تطورت “سياسة هويات” ونشأت تركيبة عددية إذا لم نقل تركيبة متعددة الثقافات”.[29]
على صعيد آخر، أدت التحوّلات التي حصلت في الاقتصاد الصهيوني منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى تغيير استراتيجية فئات اجتماعية تجاه الجيش، حيث إن الهبوط الذي طرأ على مكانة الجيش وعلى المكافآت التي يمكن توفيرها أدى أيضاً إلى هبوط قوة الجيش في نظر أبناء طبقات النخبة والذين هم من الأشكناز في غالبهم.
في المقابل، وبالنسبة لأبناء الطبقات المتدنية، كان بمقدور الخدمة العسكرية أن تشكل مصدر دخل، جزئياً، لتحسين الوضع الاقتصادي في حياتهم المدنية. تلك التحولات الديموغرافية والاقتصادية إلى جانب تحولات سياسية في فترة التسعينات، أفضت في نهاية المطاف إلى تسلل نخب مجموعات جديدة كانت في الماضي من الأطراف وما شابه ذلك: حريديون، متدينون، وطنيون، مهاجرون، شرقيون ونساء.[30]
أدى ذلك التسلل للنخب “المتدنية” إلى المؤسسة العسكرية، في رأي أحد أبرز الخبراء العسكريين الصهيونيين يوآف جيلبير، إلى هبوط في المستوى الأدائي للجيش وإن لم يكن قد عبر عنه صراحة. فهو يحيل ذلك الهبوط إلى قضايا إجرائية وبيروقراطية داخل الجيش لها علاقة بدخول جنود غير مؤهلين إلى داخل وحدات قتالية هامّة. ويضيف على ذلك أن الخدمة العسكرية الإلزامية بصفتها بوتقة صهر اجتماعية، وأداة تربوية منذ مدة طويلة “أضحت منطوية على مفارقة تاريخية، ويجب الاعتراف بذلك”.
ويترتب على هذا الاعتراف التخلي عن شمولية الخدمة الإلزامية، واختيار الأشخاص الملائمين فقط. وتؤدي هذه السياسة إلى إلغاء أنظمة الدعم والرعاية التربوية، والاجتماعية، والطبية، للشرائح السكانية الضعيفة، أو للحالات الإشكالية، الأمر الذي يستعدي نقل معالجتها إلى القطاع المدني، في إطار الخدمة القومية لا العسكرية. وبذلك يصبح النظام في جيش نخبوي كهذا عسكرياً وليس ميليشيوياً، ومن ليس أهلاً لذلك يتم الاستغناء عنه.”[31]
ومن أجل تجاوز “قلّة الدافعية” تجاه الخدمة في الجيش لدى طبقات النخبة، يقترح جيلبير “اعتماد مقاربة مختلفة تماماً لمكافأة من يخدم في كل من الجيش النظامي فترة قصيرة، وفي الجيش النظامي فترة طويلة، وفي الخدمة الإلزامية، وفي الجيش الاحتياطي. ويجب أن تكون المكافأة مادية لأنها اللغة الوحيدة المتعارف عليها، لكن ليست مادية فقط. إذ يمكن التفكير فيها بمفهوم الحراك الاجتماعي (الارتقاء إلى درجات أعلى في السلم الاجتماعي)، وحتى بمعطيات مدنية/مواطنية- سياسية: على سبيل المثال، إعطاء من يخدم في السلك حق الإدلاء بصوتين في الانتخابات الوطنية العامة.”[32]
هنا يبقى السؤال مفتوحاً؛ هل يكون دخول الشرقيين الى حيّز النخب في الجيش فاتحة تبدل للمعادلة الإثنية التمييزية تجاههم؟
———————–
الهوامش:
[1] غانم، أسعد.2005. الهامشيون في اسرائيل: تحدي الهيمنة الأشكنازية. رام الله: مركز مدار. ص16.
[2] Ben Eliezer. Uri. 1995. A nation in arms: state, nation and militarism in Israel’s first years. Comparative studoes and history, vol 37, no 2.Cambridge university press. Pp. 264-285
[3]Kachtan, Dana. 2012. The Construction of Ethnic Identity in the Military—From the Bottom Up. Israel studies journal, Vol 17.no3. Indiana university studies. pp,150-175
[4]Levy, Orna. 2002. Constructing Identities al the margins: Masculinities and citizenship in the Israeli army. The Sociological Qurterly, vol34, no3. Wiley. Pp.357-383
[5]Levy,Ygil 1998. Militarizing inequality: a conceputual framework.Theory and society, vol 27 no 6.Springer. Pp.373-904
[6] Levy, Yagil Ibid
[7]Schmitter, Barbara (reviewer). 1982. Ethnic security in divided societis by Cynthia Enloe. Contemporary sociology journal, vol 11, no 2.American sociological association. Pp, 223-224
[8]Kachtan, Dana. Ibid.
[9]Levy, Ygil. Ibid
[10]صفاديا، ازر وأورن يفتاحئيل. 2003. “اليهود الشرقيون والمكان: نشوء طبقة اثنية في بلدات التطوير”. في أسعد غانم (محرر) الهويات والسياسة في اسرائيل. رام الله: مدار. ص44.
[11]كيمرلينغ، باروخ. 2002. نهاية الهيمنة الإشكنازية. نواف عثامنة (مترجم). رام الله: مركز مدار.
[12] Ben Eliezer. Uri. 1995. A nation in arms: state, nation and militarism in Israel’s first years. Comparative studoes and history, vol 37, no 2.Cambridge university press. Pp. 264-285
[13]Ben Elieze,Uri.Ibid.
[14]Levy, OrnaSasson. 2008. Individual bodies, collective state interests. Men and Masculinitiesmvol 10, no 3.Sage publications. pp. 296-321.
[15]Levy, Ygil. Ibid. p.891.
[16]Kachtan, Dana. Ibid.
[17]شوحاط، ايلا، 1998، “اليهود الشرقي ون في اسرائيل: الصهيونية من وجهة نظرضحاياها اليهود”،مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد9، العدد 36. ص105-120.
[18]Levy, Orna. 2002. Constructing Identities al the margins: Masculinities and citizenship in the Israeli army. The Sociological Qurterly, vol34, no3. Wiley. Pp.363
[19] شوحاط، ايلا. مرجع سابق.
[20]Ibid.
[21]Levy, Yagil. Ibid
[22]Levy, Orna. Ibid. p360
[23]Levy, OrnaSasson. 2008. Individual bodies, collective state interests. Men and Masculinitiesmvol 10, no 3.Sage publications. pp. 296-321
[24]Kachtan, Dana. 2012. The Construction of Ethnic Identity in the Military—From the Bottom Up. Israel studies journal, Vol 17.no3. Indiana university studies.P 157
[25] Ibid. 168
[26]ايال،جيل، 2009، “اليهودي تحت قناع العربي،تجربة الشرق قبل قيام الدولة”،في نزع السحر عن الشرق،ترجمة حسن خضر، مدار، ص51-85.
[27]Kachtan, Dana. Ibid. p159
[28]Kachtan, Dana. Ibid. p170
[29]يوري، يورام. 2007. النخبة العسكرية الجديدة في اسرائيل: لماذا يعتبر فهم النخبة العسكرية أمراً مهماً. قضايا اسرائيلية. عدد 28. رام الله: مركز مدار. ص52
[30]المرجع السابق.
[31]يوآف جيلبير . 2015. العقيدة الامنية ومكانة الجيش في المجتمع الاسرائيلي. العقيدة الامنية. أحمد خليفة ورندة حيدر (محرر). العقيدة الأمنية الاسرائيلية وحروب إسرائيل في العقد الاخير، دراسات لجنرالات وباحثين إسرائيليين كبار. بيروت: مؤسسة الدراسات. ص43-61.
[32]المرجع السابق.