اهتم الباحثون الصهاينة بشكل موّسع بالتاريخ الصليبي في بلادنا، في محاولة “لاستخلاص العبر”، فمع الإدراك بأن شكل الاستعمار ما بين التجربتين واحد، هناك رغبة لمعرفة أين “أخطأ الاستعمار الصليبي”، وكيف يمكن الاستفادة من ذلك لصالح المشروع الصهيوني.
على الخيول مجهزين بسيوفهم ورماحهم ومرتدين أزياء العصور الوسطى، فريق يُمثل دور المسلمين، وفريق آخر يُمثل دور الصليبيين. يتجمع في حرّ تموز من كلّ عام روّاد “نادي مملكة القدس” الصهيوني بالقرب من قرية حطين شمال فلسطين، بهدف إعادة تمثيل وقائع معركة حطين، التي هَزَمَ فيها النّاصر صلاح الدين الأيوبيّ الجيوش الصليبية بقيادة “رنو دي شاتين” عام 1187م.
أكثر من 700 عامٍ مضت على رحيل آخر السفن الصليبية من سواحل فلسطين بعد استعمار صليبي استمر قرابة 200 عام لمناطق مختلفة من مصر وبلاد الشّام، وما زال التاريخ الصليبي في بلادنا يثير إلهام واهتمام الصهاينة والأوروبيين بكل تفاصيله. فعدا عن كون الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام – والتي يعتبرها البعض حملة صليبية متأخرة – مرتبطة تاريخياً بنشوء الحركة الصهيونية وسعيها للبحث عن “وطن بديل” لليهود، فإن الاستعمار الصهيوني والحملات الصليبية تتقاطعان في شكل الاستعمار المتبنى لديهما، وهو الاستعمار الاستيطاني الإحلالي.
اهتمام بحثي أكاديمي
وقد اهتم الباحثون والأكاديميون الصهاينة بشكل موّسع بالتاريخ الصليبي في بلادنا، في محاولة “لاستخلاص العبر” لصالح استمرارية المشروع الصهيوني. فمع الإدراك بأن شكل الاستعمار ما بين التجربتين واحد، هناك رغبة لمعرفة أين “أخطأ الاستعمار الصليبي”، وكيف يمكن الاستفادة من ذلك لصالح المشروع الصهيوني.
وكان على رأس هؤلاء المهتمين “يهوشاع برافر” (Joshua Prawer)، (1917-1990)، والذي كان له الدور في تأسيس الدراسات الصليبية كحقل أكاديمي وبحثي منفصل في الأكاديميا الصهيونية. وقد خصص أبحاثه بالذات حول تاريخ الصليبيين في فلسطين، وبالذات “مملكة القدس الصليبية”، وذلك على عكس الأبحاث الأوروبية التي اهتمت بتاريخ الحملات الصليبية، دون التعمق في تاريخ الصليبيين في الأراضي التي احتلوها، (ويهوشاع برافر هو والد إيهود برافر صاحب مخطط برافر الاستيطاني التهجيري في النقب).
وبذلك، ركّز برافر في أبحاثه على حياة الصليبيين الاجتماعية والاقتصادية ونمط حياتهم، وأنظمتهم القانونية، وجيوشهم العسكرية، في فلسطين. كما اهتم بجانبين أساسيين هما: ولادة وتطور الفكرة الصليبية، وحياة اليهود خلال الحكم الصليبي. وقد عرف بأنه كان يصحب طلابه في الجامعة في جولات إلى أماكن المعارك والمواقع الصليبية في بلادنا.
اهتمامٌ آخر كان حاضراً في أبحاث برافر هو الاهتمام بتحليل أسباب هزيمة الصليبيين أو كما يقول أحد الكتاب الصهاينة في حديثه عن برافر، بأن “فشل الصليبيين كان الاهتمام الثاني لبرافر في كل أبحاثه، وأنه الموضوع الذي كان يقلق راحته في كل مسيرته الهيستوجرافية” ومن الأسباب التي وضعها برافر لهزيمة الصليبيين، أن مشروعهم الزراعي الاستيطاني كان متواضعاً، وأنهم لم يشكلوا أغلبية ديموغرافية. وفي نهاية المطاف، خلص برافر إلى أن “غرابة” الصليبيين عن أرض فلسطين وعدم قدرتهم على بناء “حضارة” استعمارية مستقرة مثل الفرنسيين في الكيوبك، هي التي أدّت في نهاية الأمر إلى سقوطهم وهزيمتهم.
في المقابل، يحاول باحثون آخرون أن يدرسوا التجربة الصليبية في بلادنا، في محاولة لنفي هذا الشبه بينها وبين المشروع الصهيوني. كأن يخرج أحدهم ويقول أن ما جلبه المشروع الصهيوني إلى فلسطين ليس “صراعاً بين الشرق والغرب“، كما هو حال الصليبيين، وإنما يطرح النظر إلى المشروع الصهيوني باعتباره “هوية شرق أوسطية”، تجمع “بتجانس ووئام” الهويات المختلفة على طرفي المتوسط.
نشاطات “نادي مملكة القدس“
وليس ببعيد عن الاهتمام البحثي الأكاديمي، فإن نشاطات “نادي مملكة القدس” تخاطب من هم خارج الجامعات كذلك، مخرجة هذا الاهتمام من دوائر البحث النخبوي إلى تجربة واقعية حيّة وشعبية، تصحب فيها المشاركين في رحلة دقيقة التفاصيل لما كان عليه الحال في ذلك الزمن.
وفي هذا السياق، يحرص مسؤولو النادي على إعادة إحياء نمط الحياة الصليبي والمعارك الصليبية – الإسلامية بشكل دقيق جداً، اعتمادا على ما تراكم من بحوث اجتماعية وتاريخية وعسكرية عن تلك الفترة. ويُسمى هذا النوع من الاهتمام التّاريخي بـ”التاريخ الحيّ”، أو (Live History).
ويمنع الاشتراك في فعاليات إعادة التمثيل أو فعاليات “التاريخ الحي” دون الالتزام بالزيّ الدقيق الشائع في حينه، سواء كان المشارك يؤدي دور جندي مسلم أو جندي صليبي. عدا عن ذلك، لا يأكل المشاركون في هذه الفعاليات سوى ما كان متوافراً ومتعارفاً عليه من طعام في القرن الثاني عشر، فلا بندورة أو ذرة أو بطاطا، وهي التي لم تعرفها أوروبا إلا في القرن الخامس عشر.
بالإضافة إلى نشاط الذروة الذي ينظمه النادي في ذكرى معركة حطين، فإنه ينشغل طوال العام بإقامة ندوات ومحاضرات وورش عمل حول تاريخ الصليبيين في بلادنا. من ذلك مثلا تنظيم ورش عمل حول حياكة الألبسة والأحذية التي كان الصليبيون يستخدمونها في حينه. كما تشهد قرية لفتا المهجرة غربيّ القدس في تشرين الثاني من كل عام فعالية واسعة ينظمها النادي، يعيش المشارك فيها تجربة صليبية بحتة، إذ يشترط أن يرتدي نفس الأزياء الرائجة في حينه، ويأكل فقط مما كان متوافراً في تلك الأيام.
في آخر فعاليات النادي الصهيوني، اجتمع روّاده والمهتمون بنشاطه ما بين 23 و25 شباط 2017، في اللطرون على الطريق بين القدس ويافا، حيث أعادوا إحياء و”تمثيل” وقائع رحيل آخر الصليبيين من مدينة القدس عقب فتحها الصلاحي عام 1187، وذلك بعنوان: “حتى نعود إلى القدس يجب أن نخرج منها“.
وعن هذه العودة، يقول أحد المشاركين في هذه الفعالية بأن “هناك تحديات تواجه المشروع الصهيوني شبيهة بتلك التي واجهتها المملكة الصليبية”. وعن سرّ اهتمامهم هذا، قالوا إن البلاد “عرفت تعايشا بين العرب والمسلمين واليهود والمسيحيين خلال فترة الحكم الصّليبي، وأن هذا التعايش انتهى باحتلال صلاح الدين وغيره من قادة المسلمين البلاد وطردهم للصليبيين”. في سبيل إعادة هذا “التعايش” المزعوم، وفهم التحديات المشتركة، يرى القائمون على النادي بأنه من الضروري دراسة تفاصيل التاريخ الصليبي وبالذات تاريخ الحروب والمعارك مع المسلمين.
“لقد نجح الصليبيون في الصمود هنا 200 عام، وآمل أن نصمد مثلهم، مع أنني متشائم من المستقبل”، هكذا ختمّ أحد “الصليبيين الجدد” حواره معنا. تكمن المفارقة في استعماله لكلمة “الصمود”، والتي تحيل عادة إلى استراتيجية الضعيف في مقاومة الأقوى بمجرد الوجود والتعويل على الزمن، برسم الأمل في المستقبل، وكأنّ المشروع الصهيوني في فلسطين، وبالرغم من فائض قوّته العسكرية والاقتصادية، لا يمكنه أن يبرأ من متلازمة القلق الوجودي، وعدميّة المغامرة الصهيونية في بلادنا فلسطين.