يلقي ضياء علي نظرةً على صورة العربيّ الفلسطينيّ في السينما الصهيونيّة من خلال قراءةٍ تحليليّةٍ في الفيلم الصهيوني “من وراء القضبان” (عام 1984) مُراجِعاً تاريخَ السينما الصهيونيّة ومراحل تطوّرها حتى سنوات الثمانينيات، ويحاول فهم السياق السياسيّ التي يظهر الفلسطيني فيها.
ملخّص
تسعى هذه الورقة إلى إلقاء نظرةٍ على صورة العربيّ الفلسطينيّ في السينما الصهيونيّة، من خلال قراءةٍ تحليليّةٍ في فيلم “من وراء القضبان” الذي عُرِضَ عام 1984، للمخرجَيْن الصهيونيَيْن “أوري بارباش” و”رودي كوهن”، مُراجِعةً في خضمّ ذلك تاريخَ السينما الصهيونيّة ومراحل تطوّرها منذ نشأتها حتى سنوات الثمانينيات؛ إذ يُعتبر “من وراء القضبان” أحد أفلام تلك المرحلة. كما تسعى الورقة إلى فهم السياق السياسيّ الذي جاءت فيه تلك الأفلام، وعلى أيّ صورةٍ ظهر الفلسطينيّ فيها، وضمن أيّ سياقٍ؟ يأتي فيلم “من وراء القضبان” في الترتيب الثاني، بعد فيلم “خماسين 1981″، في السينما الصهيونيّة ضمن قائمة الأفلام “العربية – الإسرائيلية”، ستتطرّق الورقة لبعضها. جديرٌ بالذكر، أيضاً، أنّ الفيلم رُشّح لجائزة “الأوسكار” لأفضل فيلمٍ بلغةٍ أجنبيّةٍ.
السينما الصهيونيّة وبدايات ظهورها
في البداية، وحتى نستطيع تتبّع تاريخ السينما الإسرائيليّة وفهمها، كان من الضروريّ الاستعانة بتحليل الباحثة المختصّة في السينما الإسرائيليّة، “إيلا شوحاط”، والتي رأتْ في السينما الصهيونيّة مرآةً تعكس الحالة التي نشأت في سياقها “إسرائيل” على أرضٍ مليئةٍ بالصراعات والتناقضات بين سكّانها الأصليين والمستوطنين اليهود الوافدين من دولٍ عدّةٍ، فضلاً عن الصراعات بين ثقافاتٍ وتقاليد عدّةٍ، بين الطبقات الاجتماعية المتصارعة، والتيارات السياسية والأيديولوجيّة الصهيونيّة. تُرجمت هذه الصراعات إلى المواجهة الأكبر للصهاينة مع العرب بشكلٍ عامٍ، والفلسطينيين بشكلٍ خاصٍّ، إضافةً إلى الصراعات الصهيونيّة الداخليّة بين شرقيٍّ وأشكنازيٍّ، ودينيٍّ ولا دينيٍّ، ويساريٍّ ويمينيٍّ، التي تصارعت بمجملها على أهليّة تمثيلها الصهيونيّة.
يتّسم كلٌّ من المجتمع والسينما الصهيونيَّيْن، بحسب تعبير “شوحاط”، بالتناقض في الأفكار والمشاعر والتوجّهات. [1] وبالتالي، لا يمكننا فهم السينما الصهيونيّة خارج دائرة التناقضات والصراعات هذه، أو بعيداً عنها، خاصةً فيما يتعلّق بالصراع الرئيسيّ والتناحريّ بين العرب ومشروع الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ، وهو ما انعكس على تشكيل السينما الصهيونية محطّاتٍ مفصليّةً في رفد المشروع الصهيونيّ؛ إذ تعدّدت أهدافها وجمهورها باختلاف الحِقب السياسيّة.
وكما كلّ المجالات، كانت السينما في فلسطين إحدى الأدوات الاستعماريّة التي استعان بها المستعمِر لتمرير سرديّته التي نظرَ من خلالها إلى بلادنا، وغالباً ما تمّ اعتبار الأخيرة حقلاً معرفيّاً يستوجب دراسة بيئتها وناسها. فمثلاً، في محاولتنا اقتفاءَ أثر تحرّكات السينما الأجنبيّة وتصوير الأفلام في فلسطين، نرى أنّ أولى تلك المحاولات تمّت عام 1897، على يد مصوّرٍ يدعى “ألكسندر فروميو”، أرسله الأخوان الفرنسيان “لوميير”، مُبتكرا الفيلم المتحرك، حيث سجّل مقاطعَ متفرقةً للطبيعة والمدن والقرى والناس، [2] لتّتخذ تلك المشاريع في معظمها طابعاً استعماريّاً.
لاحقاً، سرعان ما بدأت السينما الصهيونيّة الروائيّة بالظهور، إذ صيغت عبْر أفلامٍ تسجيليةٍ صامتةٍ أو ناطقةٍ، لتصبحَ فيما بعد التوجّه الأساسيّ في إيصال الأفكار وطرح الموضوعات المتعلّقة بالصهيونيّة على نحوٍ شديد المثالية. [3] ومثلها مثل أيّة حركةٍ تتبنّى مشروعاً استيطانيّاً، فقد تنبّهت الحركة الصهيونيّة، وبالتحديد زعيمها “هرتزل”، إلى أهمية الدعاية والترويج سعياً لاستقطاب المهاجرين إلى “أرض الميعاد” وجمع الدعم الماليّ والسياسيّ، مُحاولاً صناعة فيلمٍ بهذا الإطار تحت عنوان “أرض الميعاد” في الفترة الواقعة بين عامي 1899 – 1902، لكنّه فشل في ذلك لأسبابٍ غير معلومةٍ.
بجانب ذلك، وفي العقود الأولى من القرن العشرين، جذبت بلادنا عدداً من شركات الإنتاج الكبرى التي يمكننا القول إنّها تعاطت معها بمنظور استشراقيٍّ تارةً، ومنظورٍ دينيٍّ مقدّسٍ طوراً، لا يخلو بالطبع من أبعاد المطامع الاستعماريّة؛ إذ كانت شركة “أديسون” الأمريكيّة قد أرسلت، في تلك الفترة، المصوّر “الفرد عبادي”، ليتوجّه بدوره إلى مصر وفلسطين ولبنان في جولته الأولى بعد ظهور السينما، فقام بتصوير عددٍ من الأفلام القصيرة، كان منها: “قطيع أغنامٍ على طريق القدس” و”سيّاحٌ يصلون إلى القدس”. [4]
فيما بعد، ظهر الصهاينة في جسمٍ استيطانيٍّ مؤسّسيٍّ واضحٍ في مرحلة “اليشوف”، وكانت سرديّات من مثل “الأرض البور” و”الصحراء القاحلة” تشكّل أًسّساً دعائيّةً هامّةً للمشروع الصهيونيّ؛ لاستقطاب اليهود والتعاطي معهم كوحدةٍ مُنتجةٍ تبني وتزرع “أرضهم التاريخيّة” التي انفصلوا عنها بفعل “المنفى”، على اعتبار أنّ “عودتهم” إلى “أرضهم” تشكّل “عودةً” لاحتسابهم ضمن نطاق التاريخ وبناء “الأمّة اليهودية” وتوحيدها بعدما “تشتّت” أفرادها، بحسب ادعاءاتهم. على وقع ذلك، شهد العام 1932 تصوير أول فيلمٍ طويلٍ بأيدٍ يهوديةٍ، وهو فيلم “الصابرا” الذي استُخدمت فيه تقنيات السينما الناطقة لأوّل مرّةٍ. [6] ثم جاء فيلم “عوديد الرحال” في عام 1933، الذي كان فيلماً صامتاً بسبب شحّ الميزانية آنذاك.
اتّسمت هذه الأفلام الآنفة الذكر، بصفةٍ عامّةٍ، بسيادة الأيديولوجية الروسّية/السوفييتيّة على التوجُّهات الفنية داخل المستوطنة اليهوديّة العبريّة التي يسكنها اليهود الروس المهاجرون إلى فلسطين، حاملين الولاء لوطنهم الأمّ روسيا، ومحاولين استلهام تجربة بلادهم الأصليّة في عقد الأمل على تكوين مجتمعٍ “يهوديٍّ” مستقلٍّ جديدٍ. [7] ومن ثم جاء فيلم “هذه الأرض” عام 1935، وهو فيلمٌ توثيقيٌّ يصوّر تحقيق الحلم اليهوديّ بالسُّكنى في أرض فلسطين. تلاه فيلم “فوق الأطلال” الذي واجه مُخرجه صعوبةً في استكمال تصويره بسبب أحداث الثورة الكبرى عام 1936، [8] والتي أطلق الفلسطينيون شرارتها رفضاً للانتداب البريطانيّ والهجرة اليهوديّة إلى البلاد.
يمكننا القول إنّ السينما، بجانب الملصق والمسرح والأغنية، كانت جميعها في مرحلة “اليشوف” أدواتٍ استقطابيّةً تحاول تطبيع الوجود اليهوديّ في بلادنا، والتعبير عن الآمال الصهيونيّة في إنشاء مجتمعٍ يهوديٍّ متماسكٍ، تندمج عناصره في ثقافةٍ صهيونيّةٍ واحدةٍ ترتكن إلى أساطيرها لبناء ذاكرةٍ موحّدةٍ، والتي للمفارقة حوّلت الواقع الفلسطيني، في روايتها، إلى أسطورةٍ، وأخفته عن أرضه وعلاقاتها الإنتاجيّة والاجتماعيّة، قبالة شرعنة الوجود الاستيطانيّ وبناء الهويّة القوميّة اليهوديّة.
ومع باكورة تأسّس “الدولة الإسرائيليّة”، تسمّرت السينما الصهيونية في مكانها ولم تتطوّر كثيراً؛ إذ تركّز الاهتمام الصهيونيّ على تمكين أجهزة “الدولة” وتدعيم قوة الجيش، حتى مجيء العام 1954، حيث سنّ “الكنيست الإسرائيليّ” قانون تشجيع الإنتاج السينمائيّ، فاعتُبر هذا القانون نقلةً نوعيةً في عالم السينما في “إسرائيل”، ليُعتبر عام 1955 محطّةً هامّةً في تاريخ السينما الصهيونيّة؛ إذ عُدَّ فيلم “التلّة 24 لا تجيب” الذي أُنتج على يد مخرجٍ بريطانيٍّ، فيلماً مؤسِّساً في مسار السينما الصهيونيّة اللاحقة، والذي كانت الإنجليزيّة لغته؛ كجزءٍ من تسهيل وصول الدعاية الصهيونيّة إلى يهود أوروبا. يستقي الفيلم أحداثه من قصّةٍ لترسيم الحدود الفاصلة بين العرب واليهود خلال معارك حرب 1948، حيث يصعد في مشهده الأخير كلٌّ من الضابط الأردنيّ وعناصر من “الهاجاناه” وضابط القوّة الدوليّة إلى “التلّة 24″، ليُفاجَأ الجميع بأنّ كلّ الجنود القتلى على التلة ذوو هويّةٍ يهوديّةٍ، ويُحسم الخلاف على تبعيّة أرض التلّة، بعد أن يجد ضابط القوة الدولية علم “إسرائيل” مطويّاً في يد فتاةٍ وُجِدت مقتولةً على التلّة، فينتهى الفيلم بظهور كلمة “البداية” على الشاشة، وهي تعبيرٌ رمزيٌّ عن بداية تحقّق الحلم اليهوديّ فوق أرض فلسطين. [12]
جاء هذا الفيلم، وغيره الكثير، في سياق الأفلام التي دعمت وجود حزب “مباي” الحاكم وسعت نحو تمتين وجود “الدولة”، وتجسيد روحٍ وطنيةٍ مُصطنعةٍ تتجاهل كلّ التناقضات الكامنة؛ إذ إنّها تُصوّر الصهاينة كأبطالٍ ضدّ العرب المُجرّدين من الإنسانيّة. [13] وجديرٌ بالذكر أيضاً أنّ اليهوديّ الأبيض كان متحدّثاً رئيساً في هذه الأفلام، موجّهاً رسائله ودعايته إلى اليهوديّ الأبيض أيضاً.
حراكات المجتمع الصهيونيّ وأثرها على السينما
في أواخر الخمسينيّات، احتجّ اليهود الشرقيون – الذين شكلوا الأغلبيّة من سكان “إسرائيل” آنذاك- على ما اعتبروه عَسفَ المؤسسة الصهيونيّة إزاءهم التي موضعتهم في مرتبةٍ أدنى من الأشكناز؛ إذ سعت إلى صهرهم ضمن منظومتها بهدف تغريبهم عن أصولهم وثقافتهم التي تتعارض مع الهويّة الغربيّة للصهيونيّة، وهو ما انعكس على تصنيفها إياهم ضمن سلمٍ اجتماعيٍّ وحياتيٍّ متدنٍّ، لتندلع نتيحة ذلك احتجاجات وادي الصليب، الحيّ العربيّ الذي قامت “إسرائيل” بتوطين اليهود من أصولٍ شمال إفريقيةٍ، وبالتحديد المغربيّة، في بيوته.
شهدت هذه الأحداث اشتباكاتٍ وعنفاً مع الشرطة الإسرائيليّة. لحقتها في أوائل السبعينيّات حركة الاحتجاج الشرقيّ التي قادها تنظيم “الفهود السود” في كلٍّ من القدس و”تل أبيب”، رافعاً شعاراتٍ مطالبةً بالعدالة الاجتماعيّة والقضاء على الفروقات الطبقيّة في المجتمع الصهيونيّ. من الضروري الإشارةُ هنا إلى هذه الاحتجاجات كانت نابعةً من الصراع على الصهيونيّة، لا ضدّها؛ إذ ظلّت محصورةً داخل حدود المقولات الصهيونيّة، ولم تهدف بالمطلق إلى تجاوزها والثورة على القصة الكبيرة السائدة؛ بل هدِفتْ إلى الاندماج في ظلالها بشروطٍ تموضع المحتجّين في مصافٍ أعلى يؤهّلهم لتمثيل المنظومة الصهيونيّة.
عكست هذه الحراكات نفسها على مجالاتٍ عدّةٍ داخل المجتمع الصهيونيّ، في الأدب والفن والموسيقى والسينما. في هذا السياق، يُعتبر فيلم “صالح شبتاي” [14] الذي أخرجه “إفرايم كيشون” عام 1964، أهمَّ الأمثلة على انعكاس تلك الأحداث والاحتجاجات على طروحات السينما الصهيونيّة. عالج “كيشون”، بنكهةٍ كوميديّةٍ ساخرةٍ، قضية “صالح شبتاي”، اليهوديّ العراقيّ الذي هاجر مع عائلته إلى “إسرائيل” في بدايات إقامتها، حيث وُضع وعائلته في “المعبراه” التي عاش فيها اليهود الشرقيون ظروفاً قاسيةً، على عكس اليهود القادمين من أوروبا؛ إذ تعاطت الصهيونيّة الغربيّة مع “المعبراه” بكونها طقساً لعبور “المزراحيم” منظومةً جديدةً تستوجب نزعهم من ثقافتهم الأمّ، وفقاً لمنظورٍ أبويٍّ استشراقيٍّ استبطن الدونيّة لهم، وحتّم الوصاية عليهم إلى حين الاندماج التام.
صحيحٌ أن الفيلم لم يذهب في طريق محاولة تفكيك الهرميّة الإثنيّة، بلّ على العكس ساهم في تعزيز الصورة النمطيّة للشرقيّ “المتخلّف” والسلوكّيات التي يمارسها، إلا أنّ اليهوديّ الشرقيّ في كينونته ظلّ الحاضر الرئيسيّ في الفيلم، وهو ما اعتُبر بحدّ ذاته تحوّلاً في تاريخ السينما الصهيونيّة. تَبعهُ، لاحقاً، فيلم “تشارلي ونصف” عام 1974، وهو أحد الأفلام الشعبيّة التي تصوّر اليهوديّ الشرقيّ كشخصٍ مخادعٍ يعاني البطالة، إلى أنْ تنتهي قصّته بزواجه من إحدى الفتيات اليهوديّات الغربيّات. [15]
وبعيداً عن الصراع في التمثيل بين الشرق/الغرب في السينما الصهيونيّة، كانت حرب أكتوبر 1973 قد ألقتْ بظلالها على المجتمع “الإسرائيليّ”، مُسبّبةً نوعاً من الصدمة النفسيّة في صفوفه. فقبل الحرب، كان كلّ صهيونيٍّ ينظر إلى “إسرائيل” بعين “الدولة” التي لا تُهزم، وبالتحديد بعد الهزيمة الساحقة التي ألحقتها “إسرائيل” بالجيوش العربيّة عام 1967. لكن مع تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينيّة، وحرب الاستنزاف التي أعلنها الرئيس المصريّ الراحل جمال عبد الناصر، ولاحقاً حرب 1973، تغيّرت تلك المعادلة، وانقسم الصهاينة على أنفسهم تجاه أسطورة “الجيش الذي لا يُهزم”.
وكأيّ حدثٍ كبيرٍ يصيب مجتمعاً ما – فما بالكم إنْ كان مجتمعاً استعماريّاً استيطانيّاً- فإنّ قطاعاتٍ كثيرةً تأثّرت بالحرب وأحداثها، لتنعكسَ بدورها على السينما الصهيونيّة وموضوعاتها بعد وقتٍ ليس بالبعيد؛ مُحاوِلةً تعويض الخسارة بإرساء صورة البطولة للعسكريّ الصهيونيّ، وتقديم نماذج من التضحيّة الصهيونيّة في سبيل “الأمّة اليهوديّة”. لكن حتى تلك الحقبة، كان الفلسطينيّ خارج المعادلة نهائياً في السينما الإسرائيليّة، فلم نشهد إقحاماً له بصورةٍ واضحةٍ، حتى ولو بتقويله ما تريد، وسرقة لسانه نيابةً عنه.
بدايات ظهور الفلسطينيّ في السينما الإسرائيليّة
في العام 1979، عُرض فيلم “قرية خزعة” [16] المُستوحى من قصّةٍ قصيرةٍ بذات العنوان للكاتب الصهيونيّ “يزهار سميلنسكي” التي نُشرت عام 1949. يحكي الفيلم قصّةَ قرية “خربة خزعة”، والتي هُجر أهلها منها عام 1948، علماً أنّ اسم القرية منسوجٌ من خيال الكاتب، بحسب تعبيره. أثار الفيلم، حينها، ضجةً كبيرةً في أوساط المثقفين والحكومة الصهيونيّة؛ إذ اعتُبر المخرج الإسرائيليّ “أوري رام” أنّه قد خَرقَ جدار الصمت الأهمّ، والمتمثّل في الإقرار بنكبة الفلسطينيّ وتأسّس “الدولة” على أنقاض شعبه والمجازر التي ارتُكبت بحقّه. [17]
دفعَ ذلك وزير المعارف الصهيونيّ، آنذاك، إلى إصدار قرارٍ بمنع عرض الفيلم على التلفزيون الرسميّ الذي لم يكن قد أُطلق غيره في ذلك الوقت، ليُسوِّد العاملون في القناة الشاشةَ خلال الفترة المفترضة لعرضه، كخطوةٍ احتجاجيّةٍ على منع العرض، ليُستجاب للاحتجاجات لاحقاً، ويُعرض الفيلم في الأسبوع التالي. لكن من المهم الإشارةُ هنا إلى أن الفيلم لم يأتِ أبداً في سياق ذكر الفلسطيني كضحيّةٍ تحكي مرحلةً جديدةً من رفض الصمت وإنكار ما تعرّض له، والتدخّل في صناعة مستقبلٍ مغايرٍ، بقدر ما مثّل محضَ موضوعٍ للإسرائيليّ، وفرصةً له ليغتسل من ذنوبه التي يشعر بها، وتُزعزع من صورته أمام نفسه فحسب، باعتباره جزءاً من منظومةٍ أقامت حياةً لها على حساب حياة شعبٍ آخر.
فيما بعد، عُرضَ فيلم “خماسين” عام 1981 للمخرج الإسرائيليّ “داني فاكسمان”، [18] وبطولة الفنان الفلسطينيّ سليم ضو والممثّل الإسرائيليّ “شلومو ترشيش”. يعدّ “خماسين” أحد الأفلام التي تستعرض كلّاً من الروايتين الفلسطينيّة والإسرائيليّة، [19] فلا تلجأ إلى ثنائيّة الخير الذي يمثّله اليهوديّ، والشرّ الذي يمثّله العربي، إنما تصوّر صراعاً معقّداً بين جبهاتٍ متعارضةٍ لا تخلو أيٌّ منها من “النزعة الإنسانيّة”، [20] ما يعني محاولة إرساء نزعة مساواةٍ بين السرديتين، لا تمثّل إحداهما حقّاً مطلقاً.
أمّا فيلم “ابتسامة الحمل” لعام 1986، للمخرج “شيمون دوتان”، والمُستوحى من روايةٍ للكاتب والصحافي والضابط السابق في الجيش الصهيونيّ، “دافيد غروسمان”، فنقل منطقة الصراع من السياسيّّ إلى الثقافيّ، بحسب قوله. تمثّلت شخصيّات الفيلم الثلاث في: “حلمي”، وهو العربيّ الذي يظهر في الفيلم بوصفه غريباً يعيش في كهفٍ جبليٍّ، مكرّساً الكاتب من خلاله الصورةَ النمطيّةَ عن العربي “المتخلّف”، وثانياً شخصية “كاتزمان” بدور الحاكم العسكريّ لمنطقةٍ محتلّةٍ في الضفة الغربيّة، وثالثاً صديقه الطبيب العسكريّ “لاينادو”. ومن المفترض أنّ هؤلاء الثلاثة يمثّلون ثقافاتٍ ووجهات نظرٍ مختلفةً، ليفشلوا في النهاية في إيجاد أرضيةٍ مشتركةٍ للحوار فيما بينهم؛ إذ إنّ “كاتزمان”، كونه أحدَ الناجين من “الهولوكوست”، يؤمن بأن الحلّ الوحيد يكمُن في حكمٍ متحضّرٍ لا تسوده الثقافات “البدائيّة”. أمّا “لاينادو” يبقى متمسّكاً بليبراليّته، مسانداً الحقوق المتساوية، في حين أنّ “حلمي” يظلّ متمسّكاً بالأعراف والتقاليد ووجهة النظر العربيّة التقليديّة. [21]
بناءً على ما سبق ذكره من تحوّلاتٍ طرأت على السينما الصهيونيّة، يمكننا القول إنه لا يُمكننا فصل السينما الصهيونيّة عن العقل الاستعماري الأشكنازي والمشروع الصهيوني الذي تعبّر عنه، حتى وإنْ حاولتْ استدخال عناصر وشخصياتٍ عربيّةٍ وفلسطينيّةٍ، إلّا أنّها تأتي في إطار تبرير أزماتٍ أخلاقيّةٍ تعتريها، وخلق مَنفذٍ مُؤدلجٍ للفلسطينيّ تُصنّع صورته وسرديّته عبْره وفقاً للمقاربة السياسيّة التي يريدها الإسرائيليّ أولاً وأخيراً.
العربيّ والصهيونيّ معاً وراء القضبان
يرى المخرج والكاتب الإسرائيليّ “جاد نئمان” بأنّ فيلم “من وراء القضبان” جاء ضمن اتجاهاتٍ جديدةٍ في السينما الصهيونيّة عكست بدورها وجهة نظرٍ تنتقد الصهيونيّة، علاوة على نزعةٍ عدميّةٍ واضحةٍ، إلى جانب التغيّرات السياسيّة والاجتماعية “العنيفة” التي أعقبت حربي عام 1967 وعام 1973 كما ذكرنا سابقاً، الأمر الذي أنتج إعادة هيكلة التراتبّية الاجتماعية بفعل عوامل عدّةٍ. إذ أسهمت العمالة الرخيصة من المناطق الفلسطينيّة المحتلة عام 1967 بدورٍ مركزيٍّ في الاقتصاد الصهيونيّ، لتحُلَّ تدريجياً محلّ شرائح معينةٍٍ من الطبقة العاملة الإسرائيليّة، [22] وبالتحديد ذوي الأصول الشرقيّة؛ أولئك الذين تحوّل جزءٌ منهم إلى الطبقة الوسطى، وجزءٌ آخر إلى طبقة مُحدثي النعمة، ليتحالفوا بدورهم مع اليمين الإسرائيليّ ضدّ “العماليين” الذين فقدوا السلطة.
أدّى هذا التحالف إلى شعور النخبة المثقّفة، التي تماهت مع الصهيونيّة الإنسانويّة اليوتوبيّة المزعومة، بالاغتراب وخيبة الأمل من “خمول” حزب العمل وأفول نجمه، الذي برّر استعماره أرض فلسطين وعنفه ضدّ الفلسطينيّ، بحسب “نئمان”، بحجّة بناء المشروع الصهيونيّ الوليد. ووفقاً لهذا المنطق، عدّت تلك النخبة نفسها جزءاً من المدرسة الصهيونيّة “النقيّة” التي بدأ اليمين الصهيونيّ وكأنّه قطع مسارها؛ ذلك باعتبار ما تعرّض له الفلسطينيّ عام 1948 أخلاقياً، لتنقلبَ المعايير الأخلاقيّة مع انتقال السلطة إلى اليمين؛ إذ لجأت إلى إبراز تطرّف اليمين كوسيلةٍ للتخفيف من هول عمليات التطهير العرقيّ عام 1948، لتجد نفسها أمام حاجةٍ لصياغة موقفها السياسيّ والأخلاقيّ الخاصّ بها، والذي تمحور، من ناحيةٍ، حول “مقاومة” الاحتلال بالوسائل السياسيّة والقانونيّة المختلفة، بما فيها رفض الخدمة العسكريّة في المناطق المحتلّة. ومن ناحيةٍ أخرى، بتبنيها حلّ “الدولتين” والدعوة إلى مفاوضاتٍ مباشرةٍ مع منظمة التحرير الفلسطينيّة. [23]
في ظلّ هذه الظروف الموضوعيّة، خرج إلى الضوء فيلم “من وراء القضبان” عام 1984، [24] لمخرجَيْه “الإسرائيليين”، “رودي كوهن” و”أوري بارباش”، [25] وبطولة الفنان الفلسطينيّ محمد البكري، [26] الذي يؤدّي دور سجينٍ سياسيٍّ فلسطينيٍّ اسمه “عصام”، يكون محكوماً لمدّة 50 عاماً بتهمة العمل الفدائيّ لصالح منظمة التحرير الفلسطينيّة. يقابل “عصام” في سجنه “أوري”، والأخير سجينٌ جنائيٍّ يهوديٍّ من أصولٍ شرقيةٍ، يكون محكوماً لمدة 12 سنةً بتهمة السطو المسلّح. يلعب هذا الدور الممثل الإسرائيليّ “أرنون تصادوك” كشخصيةٍ رئيسةٍ أيضاً، إضافةً إلى الممثل الإسرائيليّ “عاصي دايان” [27] بدور “عساف” اليهوديّ المُعتقل على خلفية الاتصال مع أشخاصٍ من منظمة التحرير الفلسطينية والمحكوم لمدة 5 سنواتٍ. وكذلك، الممثل الإسرائيليّ “هليل نعمان” بدور ضابط الأمن الأشكنازيّ في السجن، فضلاً عن ممثّلين عربٍ وإسرائيليّين آخرين. يأتي الفيلم ضمن ساعتين وعشرين دقيقةً، وتمّ إنتاجه بتقنيّة التصوير الملوّن.
فيلم “من وراء القضبان”
في المشهد الأول، يظهر “أوري” في أول يومٍ لدخوله السجن، وفي غضون أول خطوةٍ يتعرّض لها كلّ المعتقلين، سواءً السياسيين أو الجنائيين، وهي التفتيش العاري، يشتبك “أوري” مع السجّانين ويأخذ ممرضَ السجن كرهينةٍ، مفاوضاً ضابط الأمن في السجن على ترك الممرّض مقابل ضمان عدم تعرّض السجّّانين له أثناء دخوله غرفَ السجن. لكنّ ضابط الأمن لا يفي بوعده لـ”أوري”؛ إذ ينصب له كميناً على بوّابة القسم، ويقوم السجانون بضربه ضرباً مبرحاً. هكذا، تبدأ العداوة بين “أوري” وإدارة السجن.
في المشهد الثاني، يدخل “عساف” عبر بوّابة القسم، ويبدأ السجناء “الإسرائيليون” بالصراخ لبعضهم البعض بأنّ الخائن قادمٌ، ليشتموه بأقذر العبارات ويرموه بلفائف الورق الحارقة أثناء سيره في الممرّ من أمام غرف السجن؛ لأنه “تعامل” مع منظمة التحرير الفلسطينيّة. وفجأةً، يطلب “عصام” من السجّان التوقّف عن ذلك، وإدخال “عساف” إلى غرفة الأسرى الفلسطينيين، غير أنّ السجان يرفض؛ إذ أمر ضابط الأمن بإدخاله إلى الغرفة التي يتواجد بها “أوري”. لكنّ شركاء “أوري” في الغرفة يحتجّون على ذلك، بحجّة أنّ “عساف” مشبوهٌ وخائنٌ لدولته، غير أنّ الضابط يهدّدهم بإلغاء فعاليات مهرجان الغناء السنويّ الذي يُقام في “إسرائيل”، والمُزمع مشاركة أحد السجناء اليهود فيه.
أمّا المشهد الثالث فيكون في غرفة المعتقلين الفلسطينيين، يبدأ “عصام” حديثه بوجوب مساعدة المعتقلين السياسيّين، من مثل “عساف”، نظراً لاعتقاله على خلفية عمله لصالح منظمة التحرير الفلسطينيّة، لكنّ أحد المعتقلين يرفض ذلك لكونه صهيونياً وخدم في الجيش الصهيونيّ، بحسب تعبيره. هنا، يبرز مذهبٌ سياسيٌّ فلسطينيٌّ كان سائداً آنذاك، يقضي بضرورة استيعاب كلّ صوتٍ يساند القضية الفلسطينيّة حتى لو كانت هويّته إسرائيليّةً. على المقلب الآخر، يبرز موقفٌ مُخالفٌ يعتبر أنّ اليهودي التقدميّ هو من يرفض منظومة الاحتلال ويخرج من فلسطين، ويعيش خارج سياق نظام الاستعمار الاستيطانيّ.
وفي سبيل توضيح ما ذكرتُ آنفاً، أستعيدُ هنا عبارةً وردتْ على لسان “عصام” أثناء حديثه مع أحد المعتقلين الفلسطينيين حول قبول “عساف” في الغرفة من عدمه، قائلاً:
” اسمع؛ مشكلتك ومشكلة “غوش إيمونيم” نفس المشكلة، الحقيقة إنكم بتهتمّوش في البني آدمين وبالناس، بتهتمّوا بالشعارات، بالخطابات، بالتاريخ، بالخلود، بس مش بالناس البني آدمين الأحياء، مشكلتنا إحنا إنه أنتم مسموعين بالدنيا، بس بهاي الأوضة يا وليد، لازم تفهم إشي واحد مش بس بهاي الأوضة، الناس بتفضّل عماي على تعصُّبك، حاول ما تنسى”.
هذه العبارة ليست موضوعيةً؛ إذ إنّه من غير الطبيعيّ إرساء نزعة مساواةٍ بين الجلّاد والضحيّة، التي تحوّل بالضرورة السرديّة الفلسطينيّة إلى مجرّد وجهة نظرٍ، تتشابه في أسسها ومقوّماتها مع السرديّة الاستعماريّة، فتصبح كلتاهما وكأنّهما تتضمّنان طائفةً من ثنائيّات الصوابيّة والخطأ والخير والشر، على القدر ذاته. كما أنّه من غير المنطقيّ توريط أنفسنا كممثّلين فلسطينيين في اعتبار من يتشدّد لرأيه في إطار القضية الوطنية بأنّه وحركة “غوش إيمونيم” سيّان. [28]
وفي المشهد الرابع، يحدث الحوار الأول بين “عصام” و”أوري”، بعد اعتداء أحد السجناء اليهود على “عساف” في قاعة الطعام، فيحاول “عصام” ومن معه مساعدة “عساف”. وفي آخر المشهد، يخاطب عصام “أوري”، قائلاً: “إذا ما تعرضتم لـ”عساف”، فسوف نحاسبكم نحن”، فيردّ عليه “أوري” بأنّ “هذه ليست “فتح لاند”، ونحن هنا، أيّ السجناء، من يضع القواعد”. جاء اختيار المخرج للسجن كحيّزٍ يبرز ديناميكيات العلاقة بين الفلسطينيّ والصهيونيّ ضمن مراده في الدعوة إلى الاحتكام للواقع الموجود والقبول به والعيش ضمن قواعده في الحيز الأكبر؛ أي “إسرائيل” والضفة الغربية وقطاع غزة.
ومن المهمّ الإشارة إلى محاولة المخرج تمثيلَ الشخص المتشدّد من اليهود تجاه قضية “عساف”، عبْر شخصية السجين الجنائيّ، مدمن المخدرات، صانع المشاكل الدائم في السجن، والمتحرّش جنسيّاً في باقي السجناء. كما يعمل المخرج على إبراز الصراع الإثنيّ والعرقيّ والطبقيّ المتمثّل في ثنائيّة “مزراحيّ_أشكنازيّ”، من خلال الحوار الدائر بين السجناء الصهاينة أنفسهم عبر جملٍ مركّزةٍ ومحوريّةٍ، راسماً بذلك صورةً مغايرةً للواقع تطفو فيها حرية الأديان والمعتقدات داخل الحيّز المفترض الذي يعيش فيه الصهاينة والعرب معاً؛ إذ يعرض مشاهدَ للآذان والصلاة عند المسلمين، ومشاهدَ لخروج اليهود من الكنيس المخصّص لهم في ساحة السجن، مع إرجاعه الفضلَ بذلك إلى إدارة مصلحة السجون، كونها تبسط بساط هذه “الحرية”.
وفي ذات المشهد، أيّ الرابع، يتجلّى الأسير الفلسطينيّ “عصام”، بعد تلقيه رسالةً من زوجته بواسطة الصليب الأحمر الدوليّ، بصورة الإنسان الحقيقيّ صاحب مشاعر الحب والاشتياق لزوجته وطفله. ويعّبر بهذه المشاعر لرفيقه الشيوعيّ اليهوديّ “درون” الذي يعيش معه في ذات الغرفة؛ إذ جاء به عبر اتفاقٍ عقده مع ضابط الأمن، بغية حمايته من الجنائيين اليهود الذين تحرّشوا به، والذي بدوره يصنع إطاراً لصورة زوجة عصام ويهديه إياه.
في المشهد الذي يليه، تسود أجواءٌ من الفرح المشترك على إثر متابعة مهرجان “إسرائيل” للغناء الذي يُعرض في قاعة السجن؛ إذ سيكون أحد السجناء اليهود مشاركاً في مسابقة هذه السنة، فيحضر الأسرى الفلسطينيون والسجناء اليهود المهرجان سويةً، ويتبادلون الابتسامات والتهاني في ما بينهم لفوز السجين في المسابقة.
لكن، وخلال العرض، يقطع التلفزيون الإسرائيلي بثّه على إثر وقوع عمليةٍ فدائيةٍ نفّذها فدائيّون فلسطينيّون في شمال فلسطين المحتلّة، تُقتل على إثرها عائلةٌ يهوديةٌ قوامها ستة أفرادٍ. وهنا، تتوتّر الأجواء بين السجناء اليهود والأسرى الفلسطينيين، فيحاول اليهود الاعتداء على الفلسطينيين، وتحدث مناوشاتٌ بالأيدي، لكنّ إدارة السجن تحول دون تطوّر الأحداث.
يظهر “عصام” بعد سماع خبر العملية بوجهٍ محايدٍ أو غير راضٍ عمّا حدث. كما يعود المخرج أدراجه مرةً أخرى لإبراز الفلسطيني “المتشدّد” الذي يرى في الدمّ حلّاً وحيداً، وعلى النقيض منه، ذلك الفلسطينيّ “المتفهّم” لما يحدث، والقادر على استيعاب خلفيات الأمور والأحداث. ثمّ يتطوّر الخلاف من جديدٍ، ليُحسَم بالتصويت على قرار قتل “هوفمان”، وهو أحد السجناء اليهود الذين اعتدوا على “رشيد”، الأسير الفلسطينيّ.
يتّجه رأي “عصام” إلى عدم قتل “هوفمان”؛ إذ إنّه ليس السبب الأساسيّ في المشكلة الأكبر؛ أي الصراع بين اليهود والعرب داخل السجن، فهو يرى أنّ ضابط الأمن الأشكنازيّ مَن يحرّض الفلسطينيين ويجرّهم لقتله، حتى تشتعل الأمور بين الطرفين، ويصبح المستفيد من هذا الصراع. وهو ما يحدث بالفعل، حيث يرسل ضابط الأمن أحدَ السجناء العرب المتعاونين معه لقتل “هوفمان”. وعلى إثر مقتل الأخير، يتسلّل السجناء اليهود إلى غرفة الأسرى الفلسطينيين، ويقومون بحرقها أثناء نومهم بعد إخراج “درون” من الغرفة، الذي استيقظ أثناء دخولهم. يتعارك اليهود والعرب في ممرّ القسم لينتهي العراك بمشهد “عصام” و”أوري” يسقطان بجانب بعضهما من التعب.
يحاول الفيلم، من خلال هذه الحادثة، أنْ يخبرنا بأنّ مشكلة العربيّ واليهوديّ في هذا الحيز تمثّلت بالضابط الأشكنازيّ والعملية الفدائيّة التي حدثت وسبّبت التوتر. وبالتالي، حرّر المخرج نفسه من عرض مشهدٍ لمجزرةٍ صهيونيّةٍ للجيش في إحدى القرى أو المخيمات خارج السجن، كي لا يظهر أنه حمّل وزر الصراع لطرفٍ دون آخر، مكتفياً بالقول إنّ مشكلة الصراع الأكبر من جهة “إسرائيل” هي مشكلة نظامٍ سياسيٍّ، وليست مرتبطةً بوجود منظومة استعمارٍ استيطانيٍّ طردت شعباً كاملاً من أرضه.
لاحقاً، تقوم إدارة السجن بعزل “عصام” في زنازين العزل الانفراديّ، وتحرمه من زيارة الأهل بسبب احتجاجه على منع الإدارة زيارةَ أهل أحد الأسرى الفلسطينيين له. وبعد ذلك، تعزل إدارة السجن “أوري” بسبب عدم التزامه بوقت الزيارة وحاجته لوقتٍ أطول للحديث مع ابنته. يلتقي الاثنان وجهاً لوجه-“عصام” و”أوري”- في العزل الانفراديّ في زنزانتين متقابلتين، مع تأثيراتٍ موسيقيّةٍ حزينةٍ في الخلفية توحي بأن الاثنين يعيشان نوعاً من الهمّ المشترك في هذه اللحظة. لكن الحوار الذي يدور بين الاثنين يكون عكس ذلك، حيث يقول “عصام” لـ”أوري” إنّ إدارة السجن تحاول اللعب بالعرب واليهود سويّةً، وإثارة المشاكل بين الطرفين، ما يستوجب التوحّد في الرد عليها. غير أنّ “أوري” يسارع بنفي أنّ الطرفين ينتميان لبعضهما، ويستحيل إيجاد عملٍ مشتركٍ بينهما للوقوف بوجه إدارة السجن. لكن وخلال تنظيف أحد السجناء ممرَّ الزنازين، يمنح “أوري” سيجارةً، طالباً منه منحَ “عصام” واحدةً أخرى، في إشارةٍ إلى أنّ “أوري” بدأ يفكّر ـبـ”عصام” وحديثه، ليكون ذلك خاتمة المشهد الأخير في العزل الانفراديّ، فينادي عليه “عصام”، قائلاً:
– نحن لم نقتل “هوفمان”
– ولماذا عليَّ أن أصدّقكَ؟
– نحن لو أخذنا القرار بقتله، لكنّا معنيين بمعرفة جميع السجناء اليهود في القسم بقتلنا له، كي يلتقطوا العبرة، وأنا شخصياً ليس لديَّ شيءٌ لأخسره، فأنا محكومٌ بالمؤبّد، ولن أخاف من تبعات قتل أحدٍ. هذه حربٌ ونحن أكبر منها.
– هل الحرب أنْ تضعوا قنبلةً في باص؟
– وهل المعركة أن تقصف طائرات “الفانتوم” مخيمات اللاجئين؟ هذه أصعب من ألف قنبلةٍ في باصٍ.
لاحقاً، يتجلّى التحوّل المركزيّ في موقف “أوري” بعد أن يجد السجين اليهوديّ الشيوعيّ “درون” مشنوقاً في حمام السجن، وفي يده ورقةٌ كُتب عليها “طلب منّي ضابط السجن أن أكذب وأقول بأن عصام مَن قتل “هوفمان”، وإذ لم أستجب لذلك، فسوف يرجعني إلى “مشانيه”، السجين الأشكنازيّ الذي كان يغتصبه. على إثر ذلك، يخرج السجناء إلى قاعة الطعام، ويرمي “عصام” طبق الطعام على الأرض كخطوةٍ تشير إلى الإضراب عن الطعام، احتجاجاً على مقتل “درون”، فيتبعه “أوري” مباشرةً بنفس الخطوة، ثم سجينٌ آخر، فـ”عساف”، وصولاً إلى جميع السجناء، باستثناء سجناء “أشكيناز”، من ضمنهم “مشانيه”، بحجّة أنّهم لن يخوضوا إضراباً مشتركاً مع العرب. يقف “أوري” معلناً بأن هذا الإضراب ضدّ إدارة السجن، ويُسمح خلاله بشرب الماء فقط، وُيمنع الخروج من الغرف والعمل والحديث مع الإدارة، باستثناء اللجنة الممثّلة للسجناء، في إشارةٍ إليه ولـ”عصام”.
تحاول الإدارة إيقاف الإضراب عبْر محاولتها التفاوضَ مع السجناء، لكن “عصام” و”أوري” يرفضان ذلك حتى تتشكّل لجنةُ تحقيقٍ مستقلّةٌ في حادث مقتل “درون”. تقرّر إدارة السجن، حينها، إنهاء الإضراب وتفريق وحدة السجناء بالاستعانة بسياسة الترغيب والترهيب، فتوظّف عاملي الوقت والجوع، وتضغط على مدمني المخدّرات بعدم إعطائهم الجرعات اللازمة، من جهةٍ. ومن جهةٍ أخرى، تحاول إغراء السجناء اليهود بإجازات الخروج من السجن والحصول على قرار “الشليش”؛ أيّ قضاء ثلثي المدّة.
نهايةٌ ملحميّةٌ وقويّةٌ وعاطفيّةٌ ومفتوحةٌ للفيلم، يستخدم فيها المخرج المؤثّرات الصوتية والموسيقى الحزينة، حيث تقرّر إدارة السجن الضغط على “عصام”، بإحضار زوجته وطفله إلى السجن كي ينهي الإضراب. في البداية، يرفض الخروج للقائهما، لكنّه وتحت ضغط “أوري” وباقي السجناء يخرج للقاء بهما على بوابة القسم، آمراً زوجتَه مها بالعودة إلى المنزل، تجنّباً لكسر إضراب السجناء لسببٍ شخصيٍّ وذاتيٍّ.
خلاصة
إذا ما أردنا اعتبار فيلم “من وراء القضبان” جزءاً من نقطة تحوّلٍ في السينما الإسرائيليّة، وإقحام الفلسطيني فيها، لإحداثه شرخاً ما في ظاهرة مركزة السينما ورسائلها التي كانت سائدةً لفترةٍ طويلةٍ، وبالتحديد في بداية تأسيس “الدولة”، فيمكننا القول إنّ التحوّل جاء في سياق بحث نخب ما يسمّى “اليسار الصهيوني” عن مساحةٍ وقبولٍ داخل المجتمع الإسرائيليّ، وبين أوساط الفلسطينيين في الداخل المحتل 1948، بعد أن خسرت هذه النخب ثقلها السياسيّ أمام اليمين الصهيونيّ في انتخابات عام 1977.
يسلب مخرجا الفيلم، “أوري بارباش” و”رودي كوهن”، لسان الفلسطينيّ في فيلمهما نيابةً عنه، ويقوّلانه ما يريدان هما قوله في الفيلم، تماشياً مع رؤية “اليسار الصهيوني” في تلك المرحلة، وضمن محاولة تحصيل شرعيّةٍ من خلال “الفلسطيني”، والذي استحال موضوعاً “مباحاً” في السينما الصهيونيّة؛ شخصيةٌ لا يُمكن حصرها في دور البدويّ “المتخلّف” التائه في الصحراء، بلّ حاضرةٌ وتحمل قضيةً ومبدأً وتبايناً في الآراء والمشاعر والعواطف، وبإمكانها، كما يصوّرها الفيلم، استيعاب صوتٍ “إسرائيليٍّ” ينادي بالسلام والعيش والنضال المشتركين، ونبذ العنف والتطرّف. وهكذا، يبدو التوجّه إلى رسم صورةٍ للفلسطينيّ تتقاطع في تفاصيلها السياسيّة مع صورة “الإسرائيليّ” نابعاً من حرف الصراع عن كونه دائراً بين مستعمِر ومستعمَر إلى اختزاله في صورة اختلاف رؤىً سياسيّةٍ بين الطرفين.
إجمالاً، يأتي هذا الفيلم ضمن سياق المرحلة التي شهدت نشاط حركة “السلام الآن” الإسرائيليّة، وخروج منظمة التحرير الفلسطينيّة من بيروت، حيث كانت القيادة المتنفّذة تبحث عن مدخلٍ للتواصل مع ما تُسمى “الجماعة المعتدلة” ونشطاء السلام لإحداث “اختراقٍ” داخل مجتمع العدو الصهيونيّ. هكذا، أراد المخرج لليهوديّ والعربيّ أنْ يلتقيا، جاعلاً من السجن حيّزاً لفيلمه، لأنه بقدر ما يكون الصراع حامياً فيه، يكون اللقاء ممكناً أيضاً، بحسبه. ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى التقى الطرفان خارج ذاك السجن في “أوسلو” التي صنعت سجناً أكبر لطموحات وأحلام الفلسطينيّ في التحرّر!
****
الهوامش:
[1] شوحاط، إيلا. “السينما الإسرائيلية: الشرق / الغرب وسياسات التمثيل”، ترجمة أحمد يوسف (مصر: أدب ونقد، 1999)، ص 9.
[2] أبو جبل، سليم. “أفلام الأيديولوجيا والحرب في السينما الإسرائيلية”، قضايا إسرائيلية، ص 96
[3] شوحاط، إيلا. مرجع سابق، ص 9.
[4] أبو جبل، سليم.. مرجع سابق، ص 96.
[5] شوحاط، إيلا. مرجع سابق، ص 11.
[6] أبو جبل، سليم. مرجع سابق، ص 97.
[7] شوحاط، إيلا. مرجع سابق، ص 12
[8] أبو جبل. سليم. مرجع سابق، ص 97.
[9]نورث جيرتز، خليف، السينما الفلسطينية: الطبيعة، الصدمة والذاكرة (أدنبرة: جامعة أدنبرة، 2008)، ص11.
[10] شوحاط، إيلا. مرجع سابق، ص 12.
[11] نورث جيرتز، خليف، مرجع سابق، ص 11.
[12] المقطع الأخير من الفيلم، يوتيوب، 29 أيار 2016، شوهد في 12 كانون ثاني 2019، من هنا.
[13] شوحاط، إيلا. مرجع سابق، ص 12.
[14] مشهد من الفيلم، يوتيوب، 19 أيلول 2012، شوهد في 10 كانون ثاني 2019، من هنا.
[15] أبو جبل، سليم. مرجع سابق، ص 98.
[16] فيلم “قرية خزعة”، يوتيوب، 22 كانون أول 2014، شوهد في 9 كانون ثاني 2019، من هنا.
[17] أبو جبل، سليم. مرجع سابق، ص 99.
[18] مقطع من فيلم “خماسين”، السينما في إسرائيل، شوهد في 13 كانون ثاني 2019، من هنا.
[19] “حقيقة على وشك الانفجار حول: حماسين”، هآرتس، 21 كانون أول 2012، شوهد في 12 كانون الثاني 2019، من هنا.
[20] شوحاط.إيلا. مرجع سابق، ص 12.
[21] سليمان، فوزي. “اليهود والعرب في السينما الإسرائيلية”، إبداع، العدد 3 (آذار 1995)، ص 135.
[22] نئمان، جاد. “السينما الاسرائيلية: التابوت الفارغ في قبر ما بعد الحداثة”، ترجمة حسن خضر، الكرمل، العدد 59، (1999) ص 130.
[23]المرجع السابق، ص124.
[24] فيلم “من وراء القضبان”، يوتيوب، 18 آب 2018، شوهد في 15 كانون ثاني 2019، من هنا .
[25] المخرج” أوري بارباش”، “السينما في إسرائيل”، شوهد في 14 كانون الثاني 2019، من هنا.
[26] ممّثلٌ ومخرجٌ ومؤلّفٌ فلسطينيُّ وُلد عام 1953 بقرية البعنة بالجليل، ثم سافر إلى عكّا لاستكمال دراسته الثانوية. درس التمثيل والأدب في جامعة “تل أبيب”، حيث التحق بالجامعة عام 1973. اشترك في العديد من الأعمال الفنية في هولندا وبلجيكا وفرنسا وكندا. بدأ مشواره الفنيّ بالمشاركة في العديد من الأعمال المسرحيّة المحليّة. شارك بالتمثيل والإخراج والتأليف والإنتاج في أكثر من 43 عملاً.
[27] الممثّل “عاصي دايان”، “السينما في إسرائيل”، شوهد في 14 كانون ثاني 2019، من هنا.
[28] حركةٌ دينيّةٌ قوميّةٌ غير مرتبطةٍ بالعمل البرلمانيّ الإسرائيليّ. عملتْ بنشاطٍ واسعٍ في الفترة الواقعة بين 1974 و 1988، مُشكّلةً النشاط الاستيطانيّ اليهوديّ في الضفة الغربية وقطاع غزة. وينبع منطلق الحركة من أنّ “من حق اليهوديّ إقامة استيطانٍ له في كل موقعٍ من أرض إسرائيل كجزءٍ من تخليص وإنقاذ الأرض من الغرباء”.
المراجع
بالعربيّة
. شوحاط، ايلا. 1999. السينما الإسرائيلّية: الشرق / الغرب وسياسات التمثيل .ترجمة أحمد يوسف (مصر: أدب ونقد).
. أبو جبل، سليم. “أفلام الأيديولوجيا والحرب في السينما الإسرائيلية”. قضايا إسرائيلية.
. سليمان، فوزي. “اليهود والعرب في السينما الإسرائيلية”. إبداع. العدد 3 (آذار 1995).
. نئمان، جاد. “السينما الإسرائيلية: التابوت الفارغ في قبر ما بعد الحداثة”. ترجمة حسن خضر. الكرمل. العدد 59.
بالأجنبيّة
. نورث جيرتز، خليف. 2008. السينما الفلسطينية: الطبيعة، الصدمة والذاكرة. (أدنبرة: جامعة أدنبرة، 2008).
. المخرج “أوري بارباش”، “السينما في إسرائيل”، شوهد في 14 كانون الثاني 2019، من هنا.
. الممثل “عاصي دايان”، “السينما في إسرائيل”، شوهد في 14 كانون ثاني 2019، من هنا.
. المقطع الأخير من الفيلم، يوتيوب، 29 أيار 2016، شوهد في 12 كانون ثاني 2019، من هنا.
. “حقيقةٌ على وشك الانفجار حول: خماسين”، هآرتس، 21 كانون أول 2012، شوهد في 12 كانون الثاني 2019، من هنا.
. فيلم “قرية خزعة”، يوتيوب، 22 كانون أول 2014، شوهد في 9 كانون ثاني 2019، من هنا.
. فيلم “من وراء القضبان”، يوتيوب، 18 آب 2018، شوهد في 15 كانون ثاني 2019، من هنا.
. “مشهد من الفيلم”، يوتيوب، 19 أيلول 2012، شوهد في 10 كانون ثاني 2019، من هنا.
. “مقطع من فيلم “خماسين”، السينما في إسرائيل، شوهد في 13 كانون ثاني 2019، من هنا.