( هناك سلاحان يهددان “العالم الحر” في عالمنا اليوم. يتطلب الأول (وهو القنبلة الهيدروجينية من وزن 100 ميغا طن) تحتاج مصادر هائلة من التكنولوجيا والجهد والمال. يمثل هذا السّلاح ذروة ما أنتجه الرجلُ العلميُّ المُتحضر. أمّا السّلاح الآخر المخادع في بساطته؛ فهو عبارة عن مسمارٍ مثبّتٍ بقطعةِ خشبٍ مغروسةٍ في حقل أرز، وهو يمثل سلاحَ الفلاحين).

الكولونيل ت.ن غرين ( 1962).

“ما هو عدد العمليات “الإرهابية الفردية” التي يجب أن تحصل حتّى نتوقف عن تسميتها بعمليات فرديّة؟!” – محلل صهيوني، 2015

مقدمة

يُمثِلُ الاستعمار الصّهيونيّ في فلسطين حالةً من حالات الاستعمار الإستيطانيّ الإحلاليّ، أحدَّ أشكال الاستعمار الأوروبي في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولا يعني هذا انتفاء وجود مميّزات تخصّ هذا الاستعمار الصّهيوني وتُميّزه عن غيره، لكنها لا تُخرِجُهُ من النّمط العامّ لهذا الشّكل من الاستعمار. وقد بذلت الحركة الصّهيونيّة في أطوارها المختلفة جهداً هائلاً لنفي الصّفة الاستعماريّة عن المشروع الصّهيوني ولتقديمه كـمشروع “استقلالٍ قوميّ”، وذلك عن طريق صناعة تقسيمات جغرافية وحدود، وإعطاء “حقوق سياسية” متباينة للفلسطينيين بناءً على هذه التقسيمات.  

وعندما نتحدث عن الاستعمار الإستيطانيّ فإننا نشير إليه باعتباره “بُنية” وليس “حدثاً”، وذلك يعني فيما يعنيه أن عمليات التّهجير والاستيطان ليست حدثاً (حرباً/معركةً) لحظيّاً يتحوّل بعدها المشروع الاستيطاني إلى “دولة ما بعد استعمارية”، بل إنّ هذه العمليات تأخذُ شكلَ بُنيةٍ أي عملية مستمرة اجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ واقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ نحو الإحلال الكامل للمستعمِر مكانَ المجتمع المستعمَر.

وتأتي أهميةُ هذا التعريف أو المقدمة لضرورة فهم وتأطير الفعل المقاوم في مواجهة تلك العملية الإحلالية. ومن الضّروري القول أنّ عملية الإحلال تبقى مستمرةً حتى إن توقفت العملياتُ العسكريّةُ بشكلها الصّارخ. ومن هنا فلا معنى لمصطلحات مثل “الجمود السّياسيّ”  أو “إدارة الصّراع بدل حلّه”، أو مصطلح “الإبقاء على الوضع القائم”. وضمن هذا الإطار، يمكنُ فهمُ الفعلِ المقاومِ ضمنَ قدرته على خلخلة  البُنية الاستعماريّة وتأزيمها عن طريق تعزيز تناقضاتها الإجتماعيّة الداخليّة، وإبقاء التفكير بالهجرة خياراً قائماً وعملياً من حيث حسابات الربح والخسارة لدى المجتمع الصّهيونيّ .

من المهم رؤية هذا السّياق الإجتماعيّ الاستعماريّ البنيويّ كسياقٍ عامٍّ يؤطرُ السّياق الأمنيّ المتداول حول الفعل المقاوم. فإنّ ما  تحاول البنية الاستعماريّة فعله هو بناء قنواتٍ تقنيةٍ تستوعب وتُنحي ما هو سياسي، وتَبني في المقابل علاقات إجرائية من مثل المواطنة والتمثيل “الكنيست”، وعلاقات خدماتية بين المجتمع الفلسطينيّ في القدس ومؤسسة البلدية كجهاز استعماريّ، وعلاقات ديبلوماسية تقنيّة مع السّلطة الفلسطينية، أي أنّها تعمل على إلغاء الطّابع التّناحريّ مع الاستعمار، وتُحيلُهُ إلى طابعٍ تقنيٍّ إجرائيّ.

وبالمجمل فإنّ قضية أداة المقاومة وفاعليتها تتحدد أساساً بقدرتها على ضرب منطق السّيطرة أو شكل العلاقة الاستعماريّة (ما بين مستعمِر ومستعمَر)، وبهذا يتحرر نقاش الأداة والقدرة من النّقاش التقني ومن النقاش الرمزيّ والثّقافيّ. وهذا التحرر من خلال تنحية هذه التمثيلات/ النقاشات للفعل المقاوم والأدة هو ما يُمكِّنا من الوصول إلى حقيقته ومعرفة أبعاده، فما نشهدُهُ اليوم في هذه الهبة، وما سبقها من فعلٍ مقاومٍ، هو مواجهةٌ تقعُ تحت ما يُسمى  بالمُواجهات “غير المتكافئة” أو “منخفضة الوتيرة” في الأدبيات العسكرية.   

وفي البعدّ الأمني يشكّل الفعل المقاوم تحدياً للتّقنيات “الأمنيّة الصهيونية الموّجهة للتعامل مع الُبنى التنظيمية، فالمنظومات الأمنيّة  تعتمد على منطق أساسي هو “الشّبكة” للرصدّ والمكافحة، ويعني مفهوم الشبكة أمنياً: كلما زاد عدد العلاقات والأشخاص المشاركين في فعل ما، وكلما زادت الاحتياجات اللوجستية لهذا الفعل كلما تزداد المؤشرات التي يمكن رصدها: تحركات، اتصالات، التّنسيق معلوماتياً، ومن ثمّ تحديد مركز الثقل وموضع الضّغط التي يمكن توجيه الفعل العسكريّ باتجاهها لشلها أو للتهديد بضرب مصالحها. أما في حالة الهبة اليوم فكل ما يحتاجه الفرد هو الإرادة وسكينٌ مشحوذٌ.

“الحروب غير المتكافئة/ اللامُتماثلة”

لم يكن عبد الكريم الخطابي وثوار الريف في المغرب يدركون وهم ينقضّون على نقاط الجيش الإسباني بأنّهم يدوّنون بالممارسة المبادئ الأولى لما سيطلق عليه لاحقاً حرب العصابات. وكذلك  الأمر لدى  أبناء “الجبهة الوطنيّة لتحرير جنوب فيتنام” عندما كانوا ينتقلون من شمال فيتنام إلى جنوبها بأحذيةٍ مطاطيةٍ مصنوعةٍ من إطارات السّيارات، مستخدمين طريق “هوتشي منه”، بأنهم يخوضون حرباً لا متماثلة أو غير متكافئة.

كما لم يكن يدرك أبناء قبائل “الزولو” في أفريقيا أنّ رمحاهم التي أصابت قلب الإمبراطورية البريطانيّة يمكن لها أن تشكل عائقاً كبيراً أمام استكمال استعمار القارة الافريقية. وكذلك الأمرُ عبر التّاريخ الطويل لحروب المُستضعفين في مواجهة القوى الاستعماريّة.  

لطالما استطاع الضعفاءُ  تحقيقَ النّصرِ أو خلقِ معادلاتٍ للردع، أو القيام بحربِ استنزافٍ شعبيّةٍ طويلةٍ الأمد في حروبهم مع القوى الاستعماريّة، في واقع كان عنوانُه دوماً “عدم توازن ميزان القوى” وذلك بمقياس القوّة الكلاسيكي  (الاقتصاد، السّلاح، التطوّر التقني) أو لنقل بمقياس القوّة المعتمد عند القوي. وقد كان مفتاحُ هذهِ الانجازات ذاتياً هو اعتمادها على إرادةِ المُقاومة، وموضوعياً اعتمادُها على مواجهة الخصمِ بطريقةٍ قادرةٍ على تحييد نقاط قوته وقدراته واستغلال نقاط ضعفه، لتفرضَ المقاومةُ منطقَها في المواجهة على القوّة الاستعماريّة.

وبالاعتماد على ما سبق يمكننا النّظر إلى الهجمات بالسّلاح الأبيض (السّكاكين) خلال الهبة الحاليّة كحالة من المواجهة “غير المتكافئة”، وإن كانت هذه المواجهة تتسم بسمة يغلب عليها طبيعة فردية أو عفويّة، وإن كانت عفويتها أو فرديتها في الظاهر تستند إلى بُنية اجتماعيّة تمنحها القدرة على الاستمرار في الباطن.

وبالنظر إلى المكوّن الأول وهو إرادة المقاومة، فإنّ هذا الفعل يعتمد أساساً على الإرث النضاليّ الوطنيّ والقوميً والإسلاميّ والذاكرة الجمعيّة للمقاومة ونماذجها، والتي استطاعت أن تتغلب على عمليات ” كيّ الوعي” التي أعتبرتها المؤسسة الصّهيونيّة هدفاً أساسياً لعملياتها العسكريّة في محاولة لإقناع المجتمع الفلسطينيّ بعدم جدوى المقاومة.

إنّ أي قراءة تتسم بالموسوعية لتاريخ المقاومة في مواجهة القوى الاستعماريّة، توصلنا إلى الاعتراف بحقيقة القدرة الخارقة للمقاومين على ابتكار وابداع أدوات للمواجهة ضمن الظروف المعطاة، تتسم أساساً بالبساطة وتتوفر في المحيط: كالحجر والسّكين.

ترتكز الحروب اللامتماثلة على ثلاث ركائز: الأولى هي القوّة بمعناها البنيوي والإستراتيجي والتكتيكي، مثل قوة النيران والقدرات العسكريّة المختلفة كسلاح الجوّ والأنفاق، وقدرة كلّ طرف على تطوير واستحداث وموائمة الأدوات العسكريّة المتاحة والتكتيكات مع ضرورات المعركة الآنية. تجب الإشارة هنا إلى أنّ الحروب اللامتماثلة استمدت تسميتها من حقيقة أن القوى التي تخوض هذه الحرب تتفاوت قدرتها النيرانية والعسكريّة والاقتصاديّة، أي أنها ليست الحرب النظامية.  

أما الركيزة الثّانية فهي السّياسة، بمعنى التّحالفات والقدرة على توظيف المحيط السّياسيّ الدوليّ المرافق لأي عملٍ عسكريّ في تحقيق الأهداف المنشودة، ومن توظيف الأدوات العسكريّة للتغلغل بالبنى الاجتماعيّة، أي بمعنى أن يكون الفعل المقاوم فعلاً تحريضياً يستبق الحالة الثوريّة يؤجج لها، أي السّياسة في بعدها الاجتماعيّ.

أما الركيزة الثّالثة فهي الرأي العامّ أو الحاضنة الشّعبيّة ومدى قدرة تلك الحاضنة على استيعاب الضّرر الناتج عن الحرب وتأييدها للعمل العسكريّ أو الفعل المقاوم، وهنا تكمن أهمية الإعلام والحرب النّفسيّة في تحويلِ النجاح التكتيكي إلى نجاحٍ استراتيجي، أو من تقديم النجاحات التكتيكة في شكل وخطاب مُركز في محاولة لخلق الشرخ اللازم عند العدوّ.

في العام 1808 حاصر الفرنسيون مدينة سرقسطة في إسبانيا، كان قائد الحملةِ الفرنسيةِ آنذاك هو الجنرال جان-انطوان فيردير والذي تفاجأ من هول المقاومة التي خرجت من رحم سرقسطة الصّغيرة والضعيفة آنذاك. بعث الجنرال الفرنسي رسالةً إلى أبناء سرقسطة مفادها “الاستسلام لتحقيق السلام” وكان مفاد الرد من أبناء المدينة المحاصرة واضحاً  “الحرب حتى لو بالسّكين”.

في السّياق الفلسطيني، يبدو أن افرازات التّعاون الأمنيّ وما تبعها من ضعف في البنى الاجتماعيّة للمقاومة من احزاب وفصائل  قد بعثت زخمًا في  مقولة “الحرب ولو بالسّكين” في حاضرنا وبدأت ترسم معالم مستقبلنا.

1. تاريخ مختصر للسكين في فلسطين

بإصراره وتصميمه وبخنجرٍ اشتراه من أسواق غزة، وبعد رحلةٍ  طويلةٍ من حلب إلى القدس إلى غزة إلى القاهرة وبأربع طعناتٍ مُحكمةٍ في صدر “كليبر” (قائد الحملة الفرنسية على مصر عام 1800) أسقطَ الثّائرُ سليمان الحلبي المشروعَ الفرنسيَ الطامحَ لاحتلال الإمبراطورية العثمانية آنذاك، وأزاحَ المشاريعَ الأوروبية الأخرى لأكثر من مئة عامٍ في سعيها لاحتلال المشرق العربي. مسيرة الحلبي الممتدة ما بين حلب والقدس وغزة والقاهرة تُعبرُ عن وحدة مصائر شعوب المنطقة وعلاقتها بمقاومة الاستعمار الأوروبيّ. وما بين الحلبي سليمان والحلبي مهند ارتسم تاريخٌ طويلٌ من مقاومة الاستعمار بحدّ السّكين.

لم يشكل غياب الأداة عائقاً أمام الشعوب في محاربة أعدائها، واحتل السّكين (الخنجر، الشبرية، الموس، السيف) دوراً مهماً في تاريخ الفلسطينيين في محاربة أعدائهم. فبعد إخماد ثورة 1834 على الحكم المصريّ في فلسطين، ومصادرة أسلحة الفلسطينيين النّارية (صودرت 10 آلاف بندقية من جبل نابلس وحده)، وبعد عودة الحكم العثماني الذي استمر في نفس سياسة مصادرة سلاح الشّعب ومنعه من حمله، لتتبعه سياسات الانتداب البريطاني التي صادرت وجرمت امتلاك الأسلحة النّارية التي انتشرت في فلسطين اثناء الحرب العالمية الاولى، انتقل السّكين من أداة حربية ثانوية إلى أداة حربية رئيسية.

شكلتْ هبة البراق عام 1929 لحظةً فارقةً في تاريخ مواجهة المشروع الصّهيونيّ، فزلزال ووباء وجراد 1927 والأزمة المالية العالمية تركت أثراً مهماً على المجتمع الفلسطيني. كما فاقمت تشريعاتُ الانتداب البريطاني لتسهيل تدفق المهاجرين الصّهاينة إلى فلسطين واستملاك ومصادرة أراضي الفلاحين من غضب الفلسطينيين. يضاف إلى ذلك السّياسات الاقتصاديّة البريطانية التي منحت الصّهاينة عدداً من الامتيازات المهمة مثل امتياز شركة الكهرباء واستخراج البوتاس وتجفيف بحيرة الحولة. وقد كان رفعُ العلمِ الصّهيونيّ على حائط البراق الشّرارةَ التي أطلقت الثّورة.

نقلتْ تلك اللحظة المجتمع الفلسطيني إلى لحظة وعي وإدراك أنّ المشروع الصّهيونيّ لا يمكن أن يكون لولا اعتماده على حراب الاستعمار الإنجليزي، وأنّ القيادة الفلسطينية ليست كفؤاً لقيادة الشّعب ومواجهة المشروع الصّهيونيّ وأن خياراتها “النضاليّة” ثبت فشلها.

وقد شكّلت هبة البراق لحظة مميزة في تاريخ حروب المستضعفين، شعبٌ يواجه آلاف البنادق الإنجليزية والصّهيونيّة والمدرعات وسلاح الطائرات بالعصي والسّكاكين والحجارة. وقد كانت أشد المواجهات في مدينتي الخليل وصفد، ليُعدَم على إثرها شهداءُ الثّلاثاء الحمراء (محمد جمجوم، عطا الزير وفؤاد حجازي).

وكان اختيار التكتيك الصّحيح في استخدام الأداة المتوفرة “السّكين” عاملاً مهماً في جعل خسائر العدوّ أكثر من خسائر الفلسطينيين، فقد قُتل بالسّكاكين والحجارة والبلطات 133 صهيونياً وجُرح 239 منهم في حين أن الشّهداء الفلسطينيين كانوا 116 شهيداً و 232 جريحاً قُتلوا بالرصاص.

وقد كان فهم الفلسطينيين لمعادلة القوّة والتّسليح في تلك الهبة نقطةً حاسمةً في اختيار التّكتيك المناسب لمواجهة العدوّ، فاعتمد الفلسطينييون على تكتيك الإغارة السّريعة على أحياء ومصالح العدوّ، في حين شكّلت المواجهات والاشتباكات المفتوحة المباشرة انهاكاً للشعب وضاعفت خسائره.

ولم يمنع تواطؤ القيادة الفلسطينية في تلك الفترة الممثلة بما كان يسمى بـ”اللجنة المركزية” ولجوؤها إلى تفريغ الشّارع من الحركة الجماهيرية وتهدئة الأمور، وتشكيل لجنة “شو” البريطانية للتحقيق في الأحداث، وعمليات القمع الرهيبة التي قامت بها الحكومة بالقتل والأحكام العالية بالسجن والغرامات الكبيرة وهدم البيوت، كلّ هذا لم يمنع الفلسطينيين من بداية التحضير لثورة 1936، لتشكل الفترة الواقعة بين 1929 – 1936 مرحلة بواكير الثّورة.

ولم تغب السّكين في ثورة عام 1936، فقد كانت السّلاح الثّالث في عمليات الفلسطينيين داخل المدن في الثّورة، وذلك بعد القنبلة اليدوية والمسدس. وما تكاد تغيب السّكين عن المشهد حتى ترجع وتظهر مرة أخرى، ففي العام 1947 وبعد أيام قليلة من إعلان قرار التقسيم، جاءت صورة طعن الصّحفي آشر لازار في شارع مأمن الله في القدس لتحتل صدر الصّفحات الأولى في كثيرٍ من الصّحف العالميّة.

وعاد السّكين ليصبح السّلاح الرئيسي للفلاحين الفلسطينيين أثناء مرحلة التسلل إلى الأراضي المحتلة عام 1948. فقد دفعتهم مصادرة الأسلحة النّارية بعد النكبة إلى العودة للاعتماد على السّكين. ولم يغب السّكين عن الثّورة الفلسطينية في السّبعينات والثمانينات، وكان من عمليات السّكاكين عمليات خالد الجعيدي عام 1986، والذي قتل 3 صهاينة وأصاب رابعاً في عمليات متفرقة في غزة. وقد تكررت العمليات في الانتفاضة الأولى في ظاهرة أطلق عليها “ثورة السّكاكين”.

وفي العام الثّالث للانتفاضة أخذ العمل الشّعبي بالانتقال إلى مرحلة متقدمة من ناحية التكتيك والأدوات والخسائر في صفوف العدوّ. ومن أشهر عمليات السّكاكين في تلك الفترة عمليةُ عامر أبو سرحان في حيّ البقعة في القدس، وعملية الشّهيد رائد الريفي في يافا باستخدام السّيف، والشّهيد طلال سليم الأعرج في غزة، وعملية أشرف البعلوجي ومروان الزايغ عام 1990.

وقد دفعت تلك العمليات وبعد شهرين من بداية العام الثّالث للانتفاضة العديد من المحللين الصّهاينة للحديث عن “لبننة المناطق” في إشارة لضرورة الإنسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، كما اضطروا للانسحاب من لبنان باتجاه “الشّريط الأمن” بعد 3 سنوات من غزو لبنان بفعل عمليات المقاومة.

وقد صرح وزير الحرب الصهيوني يومها اسحق رابين بـالتالي: “إننا نعيش وضعاً من الارتفاع الشّامل في العنف، ومن المتوقع أن يستمر هذا الوضع. لكن لا يمكننا أن نرى في إطلاق النّار على حافلة الركاب أول من أمس مرحلة جديدة في الانتفاضة. نحن نتوقع استمرار العنف المميَّز: رجم الحجارة والطعن بالسّكاكين”.

ووصف الصّحفي “عاموس غلبواع” في مقال في صحيفة “معاريف” في 7 ديسمبر 1990 ظاهرة السّكاكين بالقول: “نشاهدُ أفراداً مستقلين، يقودون الشّارع، ويجرّون القيادة وراءهم؛ والرمز ليس الحجر أو الزجاجة أو الزجاجة الحارقة، وإنما السّكين والخنجر…. وحامل السّكين ثروة فلسطينية، لأنه يتسلل إلى كل مكان، ويصل إلى عتبة كلّ منزل، وحافلة ركاب، ومقهى”.

ولم يغب السّكين عن مرحلة ما بعد أوسلو فقد سُجلت 498 حالة طعن بالسّكين بين عامي 1993-1999، أدت إلى مقتل 19 صهيونياً وإصابة المئات (بحسب تقارير الشّاباك الصّهيوني).

وعادت السّكين لتحتل دورها الرئيس كأداة فعل بعد عام 2010 نظراً لمصادرة الأسلحة النّارية في انتفاضة الأقصى. وقد أدت هذه العمليات حتى نهاية شهر سبتمبر 2015 إلى مقتل 15 مستوطناً، وكان أبرزها عملية الطعن وإطلاق النّار في كنيس يهودي عام 2014 نفذها الشهيدان عدي وغسان أبو جمل.

ومن ثمّ لحقت عملية بيت فوريك في الأول من اكتوبر 2015 وعملية الشّهيد مهند الحلبي في 3 اكتوبر2015 موجة كبيرة من عمليات الطعن وإطلاق النار وصلت لما يقارب 15 عملية، كان أبرزها عملية الطعن وإطلاق النّار التي نفذها الشهيد بهاء عليان والأسير بلال غانم، بالإضافة إلى عملية الدهس والطعن التي نفذها الشّهيد علاء أبو جمل.

وقد رُسمت جغرافيا العمليات في 3 مناطق، هي القدس والخليل وتل أبيب. وقد خرج أغلب منفذي العمليات من مدينة القدس وضواحيها، ومن ثم مدينة الخليل وجبلها التي يتواجد في داخلها مجتمع استيطاني يزيد من فرص الاحتكاك وقدرة الفلسطيني على الوصول إلى الصّهاينة.

2. المجتمع الفلسطيني وسؤال  الأداة

في ظلّ الظرف الذي عاشه المجتمع الفلسطيني من تفكيكٍ لبناه النضاليّة وأدوات المواجهة لديه، يعود سؤال الأداة للظهور في كلّ حالةٍ من المواجهة القسرية اليومية. وبالإضافة إلى التّدمير المباشر لأدوات المقاومة والمواجهة الفلسطينية، فقد برزت التّنظيرات السّاعية نحو تدمير الأداة في الوجدان والوعي الفلسطيني من خلال خطاب اللاعنف.

كم كانت معبرةً صورة رسم غاندي على الجدار الاستيطاني، حيث بدت الصّورة كأنها تُكمِّل عمل الجدار ووظيفته. وقد استمدت خطابات اللاعنف في المجتمع الفلسطيني بصورتها الحالية حججها من غياب الأداة فيما بدا دعوةً لقبول الواقع والرضا بحالة اللاصراع، أو حصر المواجهة في شكل قضية حقوقية أو “مقاطعة” عالمية، وتمت عقلنتها بالادعاء أن خيار المقاومة قد فشل. بكلمات أخرى، يقوم الكثير من النقد الموّجه للعمل الوطنيّ المقاوم على نقده لتفكيكه لا لترشيده.

وقد تنوعت أدوات المواجهة ضمن نطاق الجغرافية الفلسطينية المستعمرَة، وفي حين بدت بعض الأسئلة حول تلك الأدوات في الضّفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، فإنّ الأمر قد حُسِم  في قطاع غزة لتصل تلك الأدوات إلى حدٍّ أقصى من المواجهة العسكريّة بالصواريخ والعمليات العسكريّة الموّجهة إلى عمق الكيان الصّهيوني باستخدام الأنفاق لتحييد التّفوق الجوّيّ، وللضرب في عمق العدوّ، من وراء خطوطه.

أمام هذا المشهد المتقدم عسكريّاً وتقنياً، والذي أتى من خلال جهدٍ بالبناء والتطوير في بيئة جيوستراتيجية مكّنت غزة من الوصول لهذه القدرات، توقف المشهد المجتمعي في القدس والضّفة والداخل أمام سؤال أداة المواجهة، في ظلّ ضيق الأفق الذي يمكّن من استحضار تجربة غزة في الضّفة المحتلة، واستحالتها في القدس والداخل في الوقت الحاضر، وهو الأمر الذي لن يكون بذات الفعالية إذا ما قيس بالجهد والثمن المطلوب لنسخ التجربة.

وهكذا أصبحت العمليات التي يقوم بها الشّبان بمبادرة منهم، كالطعن والدهس واستهداف مصالح الاحتلال بالتخريب وسيلةً متوفرةً قادرةً على إحداث الفرق وتحييد القدرة الأمنيّة للعدوّ ومتعاونيه في اكتشاف الخلايا العسكريّة التي حاولت مجموعات فلسطينية تشكيلها خلال السّنوات الماضية. وهكذا عاد الطعن ليشكل علامةً فارقةً في الأدوات النضاليّة وعنواناً لهذه الهبة، أداة ارتبطت بتاريخ مقاومة الشّعب، وتعبيراً عن شعار الواجب فوق الإمكان ضمن نظام عقلاني له مقدماته ومنطقه المتماسك. ومعنى الواجب هنا لا يتحدد بشعار أو عاطفة منفلتة بقدر ما هو مبنيٌّ على تحليل ورؤية لمفصلية مرحلة أو ظرف ما. وعادة ما جوبهت هذه الشّعارات بوصفها جنوناً ولاعقلانية ومغامرة، مع العلم أنّ المغامرة كانت المقدمة الضرورية للكثير مما نعتبره نبيلاً وعظيماً في هذا العالم.  

تُعيدُ هذه الوسيلة “السّكين” إلى المجتمع الفلسطيني قدرتَه الفاعلة على المواجهة، وذلك من خلال تحرره من سطوة التّفوق العسكريّ الصّهيوني، وعدم وجود الأداة المؤثرة الموازنة للقوّة المضادة، وذلك دون التّقيد بقواعد الاشتباك والتحضير والتنظيم المتبعة، حيث أن بعض مناطق الاشتباك والتماس قد “ترتبت” بما يتيح التّفوق العسكريّ والمكانيّ للعدوّ، وهذا ما أخرج الفعل المشتبك مع الاحتلال من خلال التظاهر من حيز الفعل المؤثر إلى الفعل التعبيري الظاهري، وذلك رغم الثمن الذي يدفعه المجتمع من جرحى وشهداء في هذه الاشتباكات.

إلا أنّ عمليات الطعن أتاحت المجال لصنع التّأثير على العدوّ والاصطدام بأحدّ رؤوس حرابه المُشرعه، والذين يحمل منهم المجتمع الفلسطيني ميراثاً من الاعتداء والإيذاء الفعليّ اليوميّ للناس والأرض، نتحدث هنا عن المستوطنين، الذين شنت ميليشاتهم ومجموعاتهم في الضّفة هجمات على البيوت والمساجد والقرى وكانت إحدى عصاباتهم وراء حريق منزل آل دوابشة الذي استشهد بسببه كل من الأم والأب والطفل. كما يُستحضر المستوطنون في سياق القدس والاقتحامات التي ترتبها جماعاتهم إلى المسجد الأقصى. وبذلك يحلّ المستوطن في ذهنية المجتمع الفلسطيني كوجهة استهداف بالطعن.

إن حالة التّوتر التي فرضتها عملياتُ الطعن على الحياة اليوميّة في مدينة القدس، والتي تمثلت في شلّ الحركة التّجارية وفرضت قيوداً على خروج النّاس من بيوتهم، إنما هي إعادة لتعريف الصّراع والمواجهة أمام العدوّ، وهي تعيد الحياة اليومية إلى طبيعتها كمكوّن في الصّراع الوجوديّ، وأن الخطر وإن لم يكن واضحاً بسبب تفاصيله اليومية والانهماك بها، أصبح اليوم واضحاً وجلياً.

هذه الحالة من الحذر والتزام البيوت تضع المجتمع الفلسطيني أمام المواجهة الفعلية، وتريه صورة الهجمة الاستيطانية عليه بشكل واضح، هذا الخطر الذي كان موجوداً دون الإحساس اليومي به سابقاً، الحفر القائم تحت المسجد الأقصى منذ سنوات، هدم البيوت وسرقتها واستيطانها في القدس، التنكيل اليومي، اقتحامات الأقصى، كلّ هذه الأخطار قائمة دون أثر يوميّ، اليوم يتجلى الأثر اليوميّ في الفعل وفي الردّ عليه، هذه أيام المواجهة، وظهور حقيقة الأخطار على المجتمع الفلسطيني ووجوده في القدس والضّفة والداخل.

هذه الأيام التي أعادت الحذر الأمنيّ لشعب تحت استهداف مؤسسة استيطانية استعمارية هي الأيام الطبيعية ضمن معركة العدوّ ضد المجتمع الفلسطيني للقضاء عليه، وإن حالة الهدوء النسبي والحياة العادية كانت أياماً تسرقها سلطات العدوّ لأجل استمرار استيطانها وتهويدها للقدس.

3. الآثار على المجتمع الصّهيونيّ

منذ نشأة الكيان الصّهيوني على أرض فلسطين وهو يعيش في عقدة عنوانها الرئيس هو “الأمن”. وقد نبعت فكرة التّفوق العسكريّ وسياسة “الجدار الحديديّ” من إدراك قيادات المجتمع الصّهيونيّ أن أي استعمارٍ استيطاني إحلالي لا يمكن له أن يتحقق دون استخدام “القوّة”، ولا يمكن له الاستمرار دون بنيانٍ عسكريٍّ متفوّق على محيطه يُمكِّنه من ردع المحيط العربيّ والإسلاميّ أو الانتصار عليه بسهولة.

اعتمد العدوّ منذ البداية، وبناءً على شكله كقوة استعمارية، على التّقنية في حلّ الاشكاليات والمعضلات الأمنيّة. فالمجتمعات البيروقراطية والمتطوّرة تقنياً وإدارياً لها قصورها في منظورها المحدود للحياة، إذ غالباً ما يقتصر هذا المنظور على الرؤية التّقنية (يريدون صنع قبة حديدية لكل شيء).

وقد عبّر عن هذا أحدّ ضباط شعبة التّخطيط العملياتي في الجيش الصّهيونيّ عندما حذّر من الكارثة التي حلّت بالجيش الصّهيونيّ والمجتمع الصّهيونيّ بسبب اعتماده المفرط على التّقنيات والحلول التّقنية في حلّ الإشكاليات والتّحديات الأمنيّة. في مقابل ذلك، سعى هذا الضّابط إلى التّعلم من القرويين الفلسطينيين  وقدرتهم على ابتكار حلول بسيطة وغير مُكلفة ولكنها ناجعة لما يواجهونه من إشكاليات حياتية. وكما أكدّ هذا الضابط في  إحدى محاضراته فإنّه يحرصُ على زيارة “أصدقائه” في هذه القرية للتعرف على ما أسماه “العقل العربيّ” الشّمولي في مقابل “العقل الغربيّ” التّقنيّ الأحاديّ.

وقد تنامتْ إشكالياتٌ مختلفةٌ من رحم عُقدة وبنية “الأمن” في داخل المجتمع الصّهيونيّ، أهمها الشّرخ الكبير ما بين قدرة هذا المشروع على توفير الأمن الحقيقي وبين مطالبة الجمهور الصّهيونيّ الواسع لهكذا نوع من الأمن. فبالرغم من مرور مئة عام وأكثر على بداية الصّراع،  ما زالت أولى مستوطنات العدوّ في رحم منطقة المركز”غوش دان” أو “تل أبيب الكبرى” تتعرض لعمليات فدائية من قبل الفلسطينيين.

وبالرغم من اتفاقيات أوسلو وقدرة الصّهيونيّ على توظيف شرائح فلسطينية في عملية هندسية تهدف لإضعافُ البنية الاجتماعيّة والماديّة للمقاومة على شاكلة التّعاون الأمنيّ ما بين أجهزة السّلطة وأجهزة الأمن الصّهيونيّة، خرج الفلسطيني من عباءة التّنظيم والفصيل وضرب “بالسّكين” المستوطن وسياسات السّلطة الوظيفية. هذا يعني أن محاولات الصّهيونيّ وتواطؤ شرائح فلسطينية ونخب ثقافيّة وسياسيّة لم تنجح في نزع قدرة الفلسطيني على خلق توازن الرعب أمام المجتمع الصّهيونيّ.  

 وتتسم الردود الصّهيونيّة على الهبة الحالية بالتخبط، فما يميز العمليات الراهنة أن عناوينها غير واضحة، فهي عمليات يقوم بها أفراد يخرجون من رحم اجتماعيّ يتعطش للمقاومة وروحيتها. كيف لمنظومة “الأمن” أن تتعامل مع عمليات لا تأتي من وسط العمل التنظيمي، فالمقاوم اليوم هو صنيعة ذات ثورية ترتبط بذات اجتماعيّة أوسع، أي أنه بالمحصلة النّهائية ابن ذاته بالفعل حتى وإن ارتبط مع سياقٍ اجتماعيٍّ أكبر.

إنّ هذا التّخبط يعني أن القيادة الصّهيونيّة فقدت العنوانَ الواضح، فأي اغتيالات في صفوف مناضلين داخل البنية الحزبيّة لن تنجح في وقف هكذا نوع من العمليات، كما أن سياسات الاعتقال لن تستطيع ضرب بنية المقاومة، فمن تغتال أو من تعتقل؟ وبالنسبة للسّلطة الفلسطينية بسياستها الأمنيّة اليوم فهي عنوان للهدوء والتّعاون مع الجهات الأمنيّة الصّهيونيّة. أما الحركات الفلسطينية (حماس، الجهاد الإسلامي، الجبهة الشّعبية، وغيرها) فإنها من ضعف قدراتها الماديّة في الضّفة الغربيّة.

وقد أدى عدم الوضوح هذا إلى سياسات متخبطة كتقسيم القدس من خلال وضع المكعبات الاسمنتية  وإغلاق الشّوارع، نافيةً بذلك مقولة “القدس الموحدة”. وما إن أغلقت القدس على سكانها الفلسطينيين حتى أتت الضّربة من بئر السّبع في عملية ابن النقب الشّهيد مهند العقبي.

بل إن الدراسات التي خرجت من مراكز الأبحاث المهمة كـ”معهد الأمن القوميّ” التّابع لجامعة تل أبيب، لم يأتِ بالجديد، فمعظم التّوصيات الصّادرة عنه تندرج في إطار “الإبقاء على الوضع كما هو”، وتذكير القيادة السّياسيّة أن أي ردود فعل مبالغ فيها يمكن لها أن تؤجج وتضعف البنية الأمنيّة الصّهيونيّة-الفلسطينية التي تم بناؤها منذ انتهاء انتفاضة الأقصى.

ويمكن القول أن المساحة الوحيدة التي ترى المؤسسة الأمنيّة ضرورة تطوير قدراتها فيها هي “وسائل التواصل الاجتماعيّ”، وذلك من خلال المراقبة وحفظ البيانات الإلكترونية وتجميعها، ومن خلال محاولة التّأثير على خطاب المجتمع الفلسطيني عبر خلق صفحات إخبارية صهيونية، ومتحدثين رسميين باللغة العربية، وشخصيات وهمية، وخوض حرب نفسيّة هدفها تأجيج التناقضات داخل المجتمع الفلسطيني والعمل على إدخال خطابٍ بديلٍ وبعيدٍ عن مفاهيم المقاومة يدخل في إطار سياسات كيّ الوعي.

ويلعب الإعلامُ الصّهيونيّ دوراً واضحاً في تأجيج أزمة القيادة الصّهيونيّة بشقيها الأمنيّ والسّياسيّ من خلال التغطية الشّاملة للعمليات المتتالية والتي بثت حالة من الرعب والخوف، وأدت إلى مطالبات من قبل الجمهور الصّهيونيّ بأنهاء العمليات أمام عجز تلك القيادة على القيام بأي عمل ملموس ذي جدوى في إنهائها.

ويمكن القول أن تزايد أعداد أفراد شرطة الاحتلال ووضع المكعبات الاسمنتية والحواجز والسّواتر العسكرية واستدعاء وحدات عسكرية إلى القدس، وكذلك المطالبة بالقتل الفوريّ لمنفذي العمليات، يدخلُ في سياق إعطاء الجمهور الصّهيونيّ “إحساساً” بالأمن في ظلّ انعدام الأدوات الفعليّة التي تمكِّن المؤسسة الأمنيّة الصّهيونيّة من توفير الأمن حقيقة.

وقد أدت حالة التّوتر داخل المجتمع الصّهيونيّ إلى زيادة نسبة حاملي الأسلحة. وللمفارقة فإنّ تزايد الأسلحة بيد “المدنيين” الصّهاينة يعني أيضاً زيادة إمكانية الاستحواذ عليها من قبل المقاومين ومنفذي العمليات، وزيادة إمكانية “طعن” أو قتل الذات كما حصل في عملية بئر السبع التي قُتِل فيها رجلٌ أرتيري مهاجر إلى الكيان، بالإضافة إلى الحادثة التي طعن فيها مستوطن مستوطناً آخر ظناً منه أنه عربيّ، واطلاق النّار على مستوطن في المحطة المركزية في القدس لأنه أثار شكوك الجنود. وفي قراءة أخرى، يظهر بأن العمليات الفلسطينية ساهمت في إخراج التّناقضات الاجتماعيّة داخل السّاحة الصّهيونيّة إلى الظاهر، فالشرقيون من يهودٍ عرب وأفارقة يهابون اليوم عمليات الفلسطينيين وكذلك يهابون قتلهم بالخطأ على يد قوات الاحتلال، وقد أصبحت شعارات “أنا يمني”، وغيرها تحتل ملابس بعض الشرقيين في محاولة لحماية النّفس والقول “أنا لا أُشكّل خطراً”.

أنّ القيادة الأمنيّة الصّهيونيّة ترى أنّ نقطة الضعف الأساسية في حروبها غير المتكافئة الأخيرة في لبنان وغزة هي “الجبهة الداخليّة”. هذا يعني أن تلك القيادة تدرك ضرورة العمل على حماية القدرة على “الحياة الطبيعية” لدى المجتمع الصّهيوني، والمحافظة على يُسمّى “نسيج الحياة” أي عمل المؤسسات الاجتماعية بشكلٍ طبيعيٍّ.  إلا أن ما نشهده اليوم هو حالة تتعرض فيها الجبهة الداخليّة للهجوم المباشر الذي استطاع أن يُحيّد كلّ الاجراءات الدّفاعية (القبة الحديدية، الدّفاع المدنيّ، صفارات الإنذار) حيث أنّ صوت الإنذار الوحيد الذي يُسمَع هو صفارات سيارات الاسعاف في طريقها لموقع العملية.

خاتمة

إنّ  تحدي الفعل المقاوم للقدرات الأمنيّة في ما يتعلق بالاكتشاف والتّعامل مع منفذي هذه العمليات بشكل استباقي ووقائي شكلت تغييراً فارقاً في القدرة على أداء فعلٍ نضاليٍ مؤثرٍ وفعّالٍ. وبالرغم من قدرة السّكين على ترك هذا الأثر على المجتمع الصّهيونيّ وقدرتها أيضاً على تحرير المقاومة من سطوة الأداة، فإنّ “السّكين” وإنْ خرجت من رحم الحاجة فإن الحاجة كذلك تستوجب البحث عن أدوات إسنادية شعبية فعّالة تستلهم السّكين كرافعة في عملية الحشد الشّعبيّ، وتتخذ من أدوات النّضال المختلفة طريقاً لها. فكما كانت السّكين وسيلةً حرّرت المجتمع من سطوة وسؤال الأداة وبرغم هذا الدور الذي لعبته، إلا أنه لا ينبغي لها أن تكون الأداة التي تمارس سطوتها كخيارٍ وحيدٍ في العمل النضاليّ الموّجه ضدّ العدوّ.

متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي، يتوجب نَسب المادة إلى دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي-فلسطين ، يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية – يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص .