في إحدى الصباحات الصيفية للعام 2006، وبالتحديد شهر تمّوز، أفاقت نابلس على صوت انفجارٍ كبير مصاحب لاقتحامٍ لجيش العدوّ للبلدة القديمة. وهنا كان الخبر: مقتل ضابط «إسرائيلي» وجرح خمسة جنود على إثر انفجار عبوّة ناسفة بهم أثناء اقتحامهم لحارة الياسمينة في نابلس القديمة، والتوقيع كان واضحاً لدى الجميع: فادي قفيشة. ذلك الشاب المقبل على عقده الرابع من العمر، شاهد تلك الوحدة المقتحمة من بنايةٍ محاذية لديوان حارة الياسمينة، منتظراً اللحظة المناسبة ليكسر «جولتهم الروتينية» ويحوّلها إلى جحيم تتذكّره كل نابلس حتى بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على هذه الحادثة الشهيرة. [1]

يتتبّع هذا النص صفحاتٍ شهيرة من حياة أحد أهم قادة العمل المسلّح في مدينة نابلس أثناء الانتفاضة الثانية: الشهيد فادي قفيشة، مسلّطاً الضوء على سنين طفولته ومراهقته وبداية انخراطه بالانتفاضة الأولى وصولاً إلى فترة شبابه التي طغت عليها حالة المطاردة لأكثر من ثلاث سنوات. والهدف من هذا النص، بشكلٍ أساسيّ، هو إظهار الجوانب المنسية من إرث مدينة نابلس المقاوم، وتقديمه في سياق سيرة الشهيد فادي. ومن هذا المنطلق، نرى الضرورة الملحّة لسرد قصصٍ من حياة الشهيد فادي قفيشة.


الطفولة


في عام 1977، وفي بيتٍ صغيرٍ ومتواضع في شارع المأمون المحاذي للبلدة القديمة لنابلس، وُلد فادي عبد الحفيظ قفيشة لأبٍ خليلي وأمٍ نابلسية، وقد كان الطفل الأوسط بين أخويه الكبيرين رامي وكَرَم، ولاحقًا أخيه الأصغر كريم. وعلى إثر ارتباطه بالخليل عن طريق أبيه فقد تنقّل إلى الخليل عدّة مراتٍ بطفولته إلا أنْ استقرّ وأخيراً في نابلس. وفي أتون الانتفاضة الأولى انخرط فادي مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبدأ بكتابة الشعارات على الجدران ورفع الأعلام، وكسببٍ مباشر لتأثّره بالعمل الوطني، ترك الدراسة عن عمر يناهز الثانية عشرة، حيث كان يدرس بمدرسة ابن الهيثم. وفي عام 1988، وعندما كان يخطّ بعض العبارات على الجدران، لاحقه جنود الاحتلال وأطلقوا النار عليه، ما أدى إلى إصابته برصاصةٍ في ظهره، والتي استقرّت فيه حتى استشهاده، حيث كانت إزالتها قد تعرّضه للشلل. [2]

(من اليسار إلى اليمين: فادي، كريم، وكَرَم قفيشة)


كان التحوّل الشخصي لدى فادي في عام 1990، حيث تمّ اعتقاله على خلفية الانتماء لتنظيمٍ محظور، ورفع العلم، وعدةِ تهمٍ أخرى، قضى على إثرها ثلاث سنوات في سجن النقب. من هنا، تعرّف فادي على التنظيمات الفلسطينية عن كثب، وفي السجن صقلت شخصيته -كما سنرى لاحقاً- التي تؤمن بوحدة السلاح بصدر المحتل. وعقب توقيع اتفاقية «غزّة-أريحا»، اطلقت «إسرائيل» سراح حوالي 4450 أسيراً اعتُقل أغلبهم في أتون الانتفاضة الأولى، وكان فادي من بينهم. [3] وعقب تحرّره من سجون الاحتلال، انتمى فادي لحركة «فتح» والتحق بجهاز الشرطة الذي تأسّس في أريحا، وكان من ضمن أول دفعةٍ تمّ تدريبها لتكون شرطة مرور. وقضى جلّ وقته في هذه الفترة في أريحا، قبل تسليم مدينة نابلس للسلطة الفلسطينية في عام 1995 والتي عاد إليها وأدّى دوره فيها كشرطيّ مرور. [4]


نقطة التحوّل والانتفاضة


في عام 1999، وبعد ترقيته لمرافق مدير شرطة نابلس، ضاق فادي ذرعاً بالسلطة: فمن جهة، رأى حجم الفساد الإداري المستشري في جسدها، ومن جهةٍ أخرى، تبدّدت آماله في الوصول إلى «الدولة الفلسطينية» التي روّج لها عرفات. وبسبب كشفه تفاصيل معينةٍ تخصّ فساد جهازه، تمّ تسريحه من جهاز الشرطة وخضع لتحقيقٍ في سجن نابلس مكث به خمسين يوماً. ومن هنا بدأ التناقض بين نهج فادي ونهج السلطة بالظهور. [5]

عند اندلاع الانتفاضة الثانية، وأفول نشوة «بناء الدولة»، التحق العديد من الشباب الفلسطيني في مجموعاتٍ مسلّحة اشتبكت مع الاحتلال على نقاط التماس مثل قبر يوسف في نابلس. ومنذ بادئ الأمر، التحق فادي بمجموعات «صقور فتح» بقيادة الشهيد أحمد الطبّوق. ومن هذه المجموعات كوّن أصدقاء صقلوا مهاراته في تصنيع العبوّات والتعامل مع السلاح، وإيجاد مصادر تمويل للعمل المسلّح في نابلس: أمثال الشهيد أسامة جوابرة والشهيد باسم أبو سرّية والشهيد نايف أبو شرخ. وقد تمّ إعادة تسمية «صقور فتح» إلى «كتائب شهداء الأقصى» عقب استشهاد أسامة جوابرة بتفخيخ هاتفٍ عام استخدمه في سنة 2001. وفي اجتياح نيسان 2002، شارك فادي مع كوادر الكتائب والمقاومة ككلّ بنصب الكمائن من خلال زرع العبوّات، ولكنّ دوره الأبرز سوف يظهر بعد انقشاع الغبار عن اجتياح 2002 وعودة العمل المسلّح إلى المدينة بقيادة القائد العام لكتائب شهداء الأقصى نايف أبو شرخ. [6]

 

بدايات المطارَدة


في آب من العام 2003، حاصرت قوّات الاحتلال مبنىً في شارع قلعة شقيف، المسمّى شعبياً بـ«شارع 24»، وهدِف الاحتلال من هذا الحصار لاعتقال أشخاصٍ اشتبهوا بأنهم ينتمون إلى الحالة النضالية في المدينة. وهنا كان فادي يكمن لهم وبيده «فخّارة» مليئة بالمواد الحارقة. كان يعتلي سطح مبنى عائلة هوّاش، ومن هذا السطح انتظر من جنود دورية لواء «الجولاني» ترجّلهم من المركبة، وما خرج أول جنديٍ إلا وقد سكب فادي المواد الحارقة على هذا الجندي، حيث أصيب الجندي إصابةً بالغة. ولم تكُن هذه العملية إلا غيضٍ من عمليات فادي على مدار السنوات الثلاث القادمة، حيث اتّسمت عملياته بتنوعها: إطلاق الرصاص، والعبوّات الناسفة، وتجهيز الاستشهاديين. وبسبب جرأته في مقارعة الاحتلال منذ بدايات مطاردته، لُقّب بـ«الميجر جنرال» من قِبَل رفاقه في السلاح، وعائلته، ولاحقاً حاضنته الشعبية التي عرفته كشابٍ تحدّى الموت عدة مرات ولم يلين. [7]

وفي صدد الحديث عن رفاقه بالسلاح، فقد كان فادي رجلاً وحدويّاً لأبعد الحدود: فكان صديق أمجد مليطات ويامن فرج، قادة كتائب أبو علي مصطفى في نابلس، وكوّن علاقات مع كوادر حركتي «حماس» والجهاد الإسلامي في مدينة نابلس ومخيماتها: أمثال قائد سرايا القدس في نابلس القديمة هاني عويجان، ومن هذه الصداقات التي كوّنها فادي على أساس وحدة البندقية يمكن استخلاص عبرةٍ تكلّم عنها الباحث والمفكّر الماركسي المصري أنور عبد الملك بأنّه «عندما يتعلّق الأمر بإحداثِ تغييرٍ شاسع على الصعيد الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي في المجتمعات ككلّ، يظهر لنا جلياً بأنّ الطريق الوحيدة تجاه تلك الغاية تكمن في تعبئة أكبر عددٍ ممكن من السكّان: أيّ كل المعنيّين بالعمل على الأرض لأجل التقدّم والتغيير والثورة». [8] ومن هنا، لا يمتلك المقاتل من رفاق إلّا الذين تربّى وترعرع معهم في نفس الكَنَف. فهُم، قبل كونهم رفاقه بالبندقية، أبناء حارته وبلدته.


نايف أبو شرخ وبدايات «فارس الليل»


على مدار السنة التي أعقبت عمليته في «شارع 24»، شارك فادي في عمليات إطلاق نارٍ على قوات الاحتلال المقتحمة لنابلس وعمل على تصنيع العبوّات. وبعد استشهاد القائد العام نايف أبو شرخ مع ثلّةٍ من مقاتلي كتائب الأقصى، وسرايا القدس، وكتائب القسّام، امتلأ فادي بالغضب على استشهاد معلّمه الذي تتلمذ على يده، فقد اعتَبر الشهيد نايف أبو شرخ بمثابة أبٍ له. حينها بدأ فادي قفيشة بالعمل على عملية ثأر لأرواح قادة المقاومة، وتأسّست على إثر ذلك مجموعات «فارس الليل» التابعة لكتائب الأقصى.

جاء الردّ بالتلّة الفرنسية في مدينة القدس المحتلة، حيث قامت الاستشهادية زينب أبو سالم بعمليةٍ استشهادية أسفرت عن مقتل مستوطنيْن وجرح خمسة عشر آخرين، وكان فادي هو من جهّز الحزام الاستشهادي. وهذه العملية بالذات هي التي وضعت فادي تحت الرادار الصهيوني، فقد أصبح بعد هذه العملية من أبرز مطلوبي الضفّة. كما شارك أيضاً بتأسيس مجموعات «فارس الليل» وبتمويل العمل المسلّح لها من خلال استقطاب الدعم الخارجي.

 


(ملصق لمنفّذة عملية التلّة الفرنسية الاستشهادية زينب أبو سالم، من مخيّم عسكر، في البلدة القديمة/نابلس، 2022)

معركة الياسمينة ورأس العين


في صباح الأول من تشرين الثاني للعام 2003، اقتحم جيش الاحتلال مدينة نابلس بحثاً عن فادي، حيث أشارت معلومات استخباراتيّة بوجوده على أطراف حارة الياسمينة المؤدّية إلى منطقة رأس العين المحاذية، وعليه قام الجيش بمحاولة اقتحام لحارة الياسمينة عن طريق درج مسجد الخضراء، لكنهم فوجئوا بالقوّة النارية الهائلة للمقاومين. وأثناء حصار المنطقة، تمّ اقتحام عدّة مبانٍ سكنية، وعندما سألوا الشهيد فادي الصَرَوان عن اسمه، وعند إجابته باسم «فادي» لم يلبث الجنود إلّا بإطلاق النار على وجهه من نقطة الصفر، الأمر الذي أدى لاستشهاده. وأثناء هذا الاشتباك عَلِم فادي قفيشة بحصار رفيقه مجدي مرعي الملقّب بـ«الحجّوب»، والذي استشهد في هذه المعركة، وأتى إلى حارة الياسمينة لفكّ الحصار حاملاً عبوّة ناسفة بيده اليمنى كاد أن يرميها على جنود الاحتلال إلا أنّ رصاصةً من الجنود أسفرت عن انفجار العبوّة بيده، واختراق شظاياها لجسده. [9]

عند سماع هذا الخبر، ظنّت نابلس بأنّ فادي قفيشة قد استشهد، ولكن بفضل الحاضنة الشعبية التي سحبته إلى منطقةٍ أخرى قد استطاع أن يكمل مسيرته، حيث مكث في بيتٍ آمن بالبلدة القديمة بإشرافِ طبيبٍ خاصّ لمدّة شهرين، والتأمت جراحه الناتجة عن اختراق فوق المئة شظية لجسده وتمّ بتر يده اليمنى وخسارة إبهامه الأيسر. وبعد أن استردّ عافيته، قامت مجموعات «فارس الليل» بمسيرةٍ عسكرية لإعلام الحاضنة الشعبية بعودة فادي إلى الميدان، حيث استقبله المئات من مدينة نابلس، وقراها ومخيّماتها.


الزهد والتواضع في ميدان العمل


وكمسؤولٍ عن تمويل مطارَدي مجموعات «فارس الليل»، قام فادي وبشكلٍ شخصيّ بطلب الدعم الخارجي لعملهم المسلّح، وفي حادثةٍ يرويها لنا أخاه كريم: اتصل فادي بأخيه في إحدى الليالي وطلب منه تحضير القهوة، وكان هذا بالنسبة لكريم خبراً لا يتكرّر كل يوم، حيث طبيعة المطارَدة تفرض على فادي الابتعاد عن عائلته لأسابيع متواصلة. وصل فادي وبيده مبلغ كبير من المال، احتسى القهوة وقام بتوزيع التمويل على المجموعة على قطعة ورقٍ صغيرة: فقد اعطى هذا خمسمئة شيكل، وذاك ألف شيكل. وعندما انتهى فادي من توزيع التمويل، أدرك كريم أن ما تبقّى لفادي من هذا المبلغ الضخم لا يتعدى الـ150 شيكل، فقال فادي له مبتسماً: «كويسات، أحسن من ولا اشي». [10]

وفي حادثةٍ أخرى تبيّن صحة مقولة «ماو تسي تونغ» بأنّ المقاتل يمشي بين الجماهير كما تسبح السمكة بالماء، كان فادي كثير الارتياد لـ«سوق البصل»، فقد كان هذا الحيّ من أكثر أماكنه المفضّلة بالمدينة. وعندما كان جالساً، رأى إمرأةً تبكي على فقدان مبلغ ألف شيكل أعطاها إياها زوجها لشراء بعض الحاجيّات للبيت. وعندما علم بهذه المصيبة، قام فادي بجولةٍ في البلدة القديمة لجمع التبرّعات لصالح إعادة هذا المبلغ إلى تلك المرأة، وهذا ما حصل. فهنا، يمكن إدراك العلاقة التكافلية بين الطليعة المقاوِمة وبين الجماهير: فالأول من دم ولحم الأخير، وسُبُل إطالة مدّة مطارَدة هذه الطليعة المقاتلة تعتمد كلياً على مساعدة الجماهير لها.


في الحاضنة الشعبية


عند الحديث عن فادي، لا يمكن تجاهل الحاضنة الشعبية التي أمدّته بكلّ ما تملك. فمن ناحية، نجا فادي من الموت المحتوم عدّة مرات في إطار تعاون الحاضنة الشعبية بإخفائه عن أعين القوّات الخاصة «الإسرائيلية»، ومن ناحيةٍ أخرى، فقد أعطى فادي دفعةً لا بأس بها للحاضنة الشعبية لكي تكمل المقاومة في ظلّ التسويات السياسية والضغط العسكري الصهيوني التي طالت المجموعات المقاوِمة في الضفّة الغربية. رفض فادي كل عروض التسوية، ويمكننا رؤية تأثير هذا الرفض بالحالة التي سادت نابلس بعد استشهاد فادي: فقد تمّ تحييد مجموعات «فارس الليل» من خلال صفقات العفو عن عناصرها، والاغتيالات التي طالت أكبر قادتها، وتمرير خطاب «السلاح الشرعي» في الإعلام والخطاب الشعبي الذي حصر إمكانية امتلاك السلاح لصالح السلطة الفلسطينية.


هدنة عام 2005، وموقف الشهيد فادي منها


شكّلت هدنة فبراير 2005 إحدى أولى نتائج استلام محمود عبّاس زمام السلطة، حيث وافق عبّاس ورئيس وزراء حكومة الاحتلال «أرئيل شارون» على اتفاقية «وقف إطلاق نار» تشمل وقف عمليات إطلاق النار على الاحتلال، والعمليات الاستشهادية، ووقف الاقتحامات الصهيونية للمدن الفلسطينية. ولا يخفى على أحدٍ بأنّ الاخيرة لم تطبّق واقعاً، وعليه فقد كان الاتفاق أحادياً من الجانب العمليّ.

عندها رفضت كتائب القسّام وقف العمليات، ولو أنّها وافقت عليها من الناحية العملية حيث تطلبت الضرورات التكتيكية للمرحلة خفض التصعيد، وقالت القسّام بأنّها في حلٍ من أي اتفاقاتٍ بين السلطة الفلسطينية والاحتلال. وكان موقف سرايا القدس من الهدنة الرفض القاطع، حيث لم تلتزم بالهدنة وقامت بعدّة عمليات استشهادية أثناء فترة سريان الهدنة ردّاً على اعتداءات الاحتلال. أما من جانب مجموعات «فارس الليل»، ومع التضييقات المستمرّة وملاحقة السلطة الفلسطينية لأفراد المجموعة، بالإضافة إلى شحّ التمويل والضغوط السياسية وكثرة الاعتقالات والاغتيالات التي أنهكت تلك الحالة، انتهى الأمر بقبولهم بالهدنة والالتزام بوقف إطلاق النار على مَضض، شريطة عدم دخول الاحتلال إلى نابلس، مع رفضهم القاطع لمحاولات السلطة نزع سلاحهم. 

وقد سرت تلك الهدنة، مع استمرار الاقتحامات الإسرائيلية ورد كتائب الأقصى عليها بإطلاق النار والعبوّات الناسفة، حتى نهاية العام. ويمكن ملاحظة بأنّ نشاطهم في تلك الفترة انحصر على عمليات إطلاقِ نارٍ محدودة على القوات الإسرائيلية المقتحمة للمدينة، حيث إرسال الاستشهاديين وعمليات إطلاق النار على المستوطنات والقواعد العسكرية والحواجز المحيطة بنابلس لم يعد في إطار تكتيك «فارس الليل» في إدارة معركتها مع الاحتلال. بذلك، كانت الهدنة محاولةً لبناء معادلةٍ جديدةٍ على الأرض.


معركة القريون والاستشهاد


في فجر الحادي والثلاثين من آب للعام 2006، تم رصد وجودٍ للقوّات الخاصة «الإسرائيلية» في حارة القريون، التي سبق وخاض بها فادي جولةً في عام 2005 أسفرت عن مقتل عدّة جنود في صفوف الاحتلال متأثرين بانفجار العبوّات. وعليه، تقدّم فادي برفقة مساعديه الشهيد علاء الغليظ والأسير علاء عكّوبة من «حوش الجيطان» إلى القريون. وعند خروجهم من منطقة «حبس الدم» في حارة القريون ودخولهم إلى الساحة الرئيسية للحارة، تعمّدوا المشي بمحاذاة الحائط لكي تشكّل لهم ساتراً حامياً للرصاص المعادي. أشار فادي إلى مرافقيه بضرورة اجتياز الساحة وتفقّد الحارة، فكانوا الجنود، وبدون علم المقاومين، متمركزين في بيت عائلة منصور، والتي تقع عند مدخل الساحة، وقد كانوا يراقبون حركات المقاومين. 

وما إن قطع فادي الطريق إلى الجانب الآخر من الساحة بعد أن مرّ الشهيد علاء الغليظ قبله، حتى أصابته أول رصاصةٍ في بطنه، ومن ثم رصاصة أخرى في صدره. وعندما حاول فادي، مثقلاً بجراحه، الهروب من الكمين، أصابته الرصاصة الأخيرة في خاصرته. وما كان من رفاقه إلا أن يحاولوا فرض حزامٍ ناريّ يمكّنهم من انتشال فادي من وسط ساحة القريون، ولم يفلحوا بذلك إلا بعد ساعاتٍ من إصابته. وتمّ نقله إلى «حوش الطويل» بينما خاض رفاقه هذه الجولة نيابةً عن فادي، للمرّة الأخيرة، حيث امتزج صوت الرصاص بأصوات المساجد التي تنعى القائد العام لمجموعات «فارس الليل». [11]

شيّعت الجماهير فادي ابتداءً من مستشفى رفيديا، والتي استقبلت -وما زالت تستقبل- كل شهداء نابلس منذ بداية أيام الانتفاضة الثانية، حتى المقبرة الغربية المحاذية لبيت عائلة فادي. شارك بالجنازة الآلاف، وشيّعه رفاقه أمثال الشهيد عبد الرحمن الشنّاوي، وباسم أبو سرّية، ومرافقَيه علاء عكّوبة وعلاء الغليظ. وعندها، أصبح باسم أبو سرّية القائد العام الأخير لمجموعات «فارس الليل».

وما انطوت صفحة قيادة فادي لـ«فارس الليل» حتى بدأ شبح العفو يطلّ على كوادر تلك المجموعة، وقد تعمّدت السلطة القيام بحملاتٍ أمنية «تطهيرية» للبلدة القديمة أرادت منها جرّ المجموعة إلى الاشتباك معها، وتصوير سلاحهم بأنّه «خارج عن القانون». وما لبثت مجموعات «فارس الليل» إلا وقد حلّت نفسها بعد اغتيال قائديها باسم أبو سرّية وعبد الرحمن الشنّاوي بعمليةٍ من تدبير جهاز «الشاباك» وعميلٍ محليّ في تاريخ السابع عشر من أكتوبر للعام 2007.


الفقد كحافز: شهداء الأرض يبعثون مجدداً

 

 

(صورة تجمع مؤسسَي مجموعات «عرين الأسود»، محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح بالشهيد فادي قفيشة إلى جانب ثلة من الاستشهاديين والقادة. حارة الياسمينة، البلدة القديمة/نابلس، 2023)

 

في الختام، نرى بظاهرة «عرين الأسود» امتداداً لكلّ مشاريع المقاومة التي سبقتها، ومنها مجموعات «فارس الليل»، حيث نرى وجه فادي قفيشة حاضراً في البلدة القديمة بجانب مؤسسَي العرين: الشهيدين محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح. ومن هنا، نستنتج بأن الشهداء لا يزولون بعد تصفيتهم الجسدية، بل يصبح دمهم، وبوصف الشهيد فتحي الشقاقي «شريان الحياة لشجرة المقاومة والجهاد». وهذا ما يتجلّى في المشهد النابلسي حالياً، حيث نرى حبّ قادة العرين لأمثال فادي وباسم أبو سرّية. وعليه، فإنّ سرد هذا الخطّ الزمنيّ أمرٌ مهم: لا يمكن فصل جهاد واستشهاد فادي عمّا يحدث في نابلس في يومنا هذا، فأطفال اليوم الذين شهدوا جنازة إبراهيم النابلسي سوف يكبرون ويحلمون تماماً كما كان يحلم فادي وهو يمشي في جنازات شهداء نابلس في الانتفاضة الأولى. وما أحوجنا للحالمين، أمثال فادي، الذين يخطّون بدمهم طريق التحرير.