ملخص

ضمن تسارع الأحداث والاشتباكات مع العدوّ وعودة عمليات الطعن من حيز الذاكرة إلى الممارسة الفعليّة، يبرز سؤال الانتفاضة: هل نحن أمام انطلاقتها أم بواكيرها؟ تحاول هذه الورقة تحليل بدايات هذه الهبة واستشراف مستقبلها في ظلّ الظروف والقوى السّياسيّة المؤثرة، ودور كلّ من هذه القوى ومصالحها.

وترسم هذه الورقة إطاراً للحالة السّياسيّة التي أدت إلى اندلاع الهبّة، والتي لا يمكن الجزم بتحولها إلى انتفاضة، إذ أن الفعل الإنسانيّ والاجتماعيّ يتصف بصفة المباغتة والفجائية التي تسبق التحليل، وهو بطبيعة الحال فعلٌ يسبق معرفتنا “المابعدية”. إلا أنه وفقاً لتقدير هذه الورقة، فإن إمكانية حدوث انتفاضة على شاكلة الانتفاضة الأولى أو الثانية تبقى ضئيلةً في ظلّ استمرار نفس النهج السّياسي العام، فالقوى المعادية لقيام انتفاضة تملك أدواتٍ اجتماعية واقتصادية وأمنية ما يمكنها من احتواء أو تجيير أيّة انتفاضة بما يتفق مع مصالح تلك القوى البنيويّة والسّياسيّة.

بالرغم مما ورد فالفرصة ما تزال قائمة أمام هذه الهبّة لِتُشكِّل مفصلاً تاريخياً من خلال إعادة تجذير الرفض والمحافظة على الوتيرة اليوميّة في المقاومة والبعد عن المطلبية السّياسيّة. إنّ ما يحدث اليوم في أرضنا المحتلة يحتم علينا إعادة ترميم ما فقدناه من البنى الاجتماعيّة والتحتية للمقاومة وتبني اللامركزية في العمل الاجتماعيّ والجماهيريّ والسّياسيّ وذلك من خلال استغلال الشّرخ الذي أنتجته حرب السّلطة الفلسطينية مع ذاتها.

أ. خلفية تاريخيّة:

قام الفلسطينيون في تاريخ مواجهتهم للمشروع الاستعماريّ الصّهيونيّ بأكثر من 18 “هبة” وانتفاضة وثورة. بناء على دراسة تلك التّجارب منذ العهد العثمانيّ وحتى اللحظة الراهنة، نجدُ أنّه من الصّعب فعلياّ أو المستحيل إعادة استنساخ أية تجربة من تلك التجارب بكافة تفاصيها ومختلف نواحيها سواء من ناحية الاستراتيجية أو التكتيك أو الأدوات أو التنظيم أو القوى الفاعلة أو القوى المضادة.

ولا يعني هذا غياب ما هو مشترك بين كلّ تلك المواجهات، فلطالما كان تمادي العدوّ في إجراءاته وقراراته وسلوكياته الاستعماريّة دافعاً مهماً في مراكمة الغضبِ الشعبيّ، والذي سرعان ما  تتم ترجمتُه إلى فعلٍ صداميٍّ اشتباكيّ.  فطبيعة المشروع الاستيطانيّ الصّهيونيّ القائم على التّوسع الدائم مكانياً بالاستيطان، واجتماعياً بمحاولة تعميق وإحكام الهيمنة، تؤدي بالضرورة إلى المواجهة الدورية، وأنّ الصّدام مسألة وقت.  

ومن الملاحظ أنه في كلّ مواجهة تتغير الفئة المتصدرة للفعل الاستعماريّ، ففي المرحلة الحالية التي نعيشها اليوم تُشكل مليشيات المستوطنين رأس الحربة الهجومية على المجتمع الفلسطيني، وخاصّة في القدس والضفة. ومن المهم هنا الانتباه إلى أن توصيف أفعال المستوطنين بالانفلات أو بالتطرف أو بالعربدة هو توصيف مُضلل ويخدم الاحتلال، فما نشهده هو عملٌ إرهابيٌ منظمٌ ومدعومٌ حكومياً مشابه بدرجة كبيرة لعمل العصابات الصّهيونيّة الإرهابية ضدّ القرويين الفلسطينيين ما قبل النكبة وخلالها.

ومن المهم كذلك الانتباه إلى أن الطبيعة التوسعيّة للعدوّ الصّهيونيّ مُوّلِدة دائماً للأزمات والتناقضات الدّاخلية في المجتمع الصّهيونيّ، وخاصّة فيما يتعلق بالجمع ما بين التّوسع والقمع وبين الرغبة في الحفاظ على الحياة الطبيعية، وهذا ما يمكننا من  فهم التجاذبات الداخلية بين المعسكرات الصّهيونيّة حول أفعال المستوطنين.  

وقد ترافقت هذه الهبّات الجماهيرية عادةً مع “ضعف” القيادات والنخب الفلسطينيّة والعربيّة، وصولاً في كثيرٍ من الأحيان إلى حدّ التآمر، بالإضافة إلى انغماس أغلب هذه القيادات في صراعاتٍ داخليّةٍ. وغالبا ما كانت  هذه الصّراعات الداخليّة  عاملاً أساسيّا في تحديد “الموقف الوطنيّ” لأطراف الصّراع، بما يعني أن تلك النخب استخدمت القضيّة الوطنيّة كساحة ووسيلة لتصفية صراعاتها الداخلية وتحقيق مصالحها الضّيقة.

وبطبيعة الحال، فقد كانت هذه الصّراعات الداخلية عاملاً رئيسياً في زيادة قدرة الاستعمار الاستيطاني الصّهيونيّ والبريطانيّ على تبديد انجازات الانتفاضات والثورات المختلفة، وإضعاف قدرتها على الصمود ومراكمة الفعل المقاوم. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: الصّراع الذي شلّ المجتمع الفلسطينيّ في ثورة عام 1936 بسبب تعاون بعض وجهاء العائلات المقدسية مع حكومة الانتداب البريطاني، أو الصّراعات بين فصائل منظمة التحرير الموازيّ لصراع الأنظمة العربيّة، وصراعات الأجنحة ومراكز القوى داخل حركة فتح. وقد أخذ “الانقسام الفلسطيني” اليوم شكلاً جغرافياً ما بين غزة والضفة، وأدى إلى تغيير في رسم شكل جبهات المواجهة مع العدوّ، وأدى إلى خفض وتيرة الفعل المقاوم في بعض اللحظات التاريخية.

وعادةً ما كانت تفصل بين حالات الانتفاض الكبرى فترة زمنية تمتد من 10 إلى 15 سنة. ويسبق  كلّ حالة من تلك الحالات “بواكير” حددت شكل الممارسة النضالية و”تكتيكاتها” والأدوات وأشكال التنظيم والخطاب. فقد سبق ثورة 1936 استشهادُ الشّيخ عزّ الدّين القسّام (1935) في يعبد بالقرب من جنين، كما سبقت ثورة 1965 عملياتُ تسلل للأرض المحتلة لتنفيذ عمليات مقاومة.

أما الانتفاضة الأولى  (1987) فقد سبقتها حركةُ مقاومةٍ فرديّةٍ وجماعيّةٍ مُنظمةٍ، شملت عمليات عسكريّة واشتباكاتٍ شعبيّة، وهبّات متلاحقة مثل ثورة السكاكين، بالتوازي مع مساعٍ لتنظيم المجتمع، ساهمت بالإضافة إلى عوامل أخرى، في نضوج بنيةٍ اجتماعيّةٍ مقاومة تشكلت من خلال طلبة الجامعات والأحزاب والتنظيمات المختلفة والنقابات ورموز العمل الوطنيّ. وقد ترافق هذا التصاعد في العمل الشعبيّ المقاوم مع توسع الاستيطان في الضّفة الغربيّة والقدس، وحالة من اليأس بسبب انسحاب منظمة التحرير من لبنان وانتهاء حقبة الكفاح المسلح التي قادتها المنظمة من الخارج وانتقال الثقل النضاليّ إلى الداخل الفلسطيني.

ومن المهم أيضاً ملاحظة تزامن تفجّر الإنتفاضات مع حالات انسداد الأفق السّياسيّ “والدبلوماسي” المُعبّرِ عنها بـ “الجمود السّياسيّ” أو تعابير من مثل “تعثر  المفاوضات”. وعادة ما تستخدم مقولات انسداد الأفق السّياسيّ “والطريق المسدود” لتضليل الناس كبديل عن الاعتراف بفشل القيادة وخياراتها السّياسيّة الخاضعة للسقف الاستعماريّ، والذي من الطبيعي أنّ يقوم الطرف القوي-الاستعمار الصّهيونيّ- بخفضه دائماً. في المقابل فلا يمكن الحديث عن حالة “انسداد سياسي”  في المجتمع الفلسطيني، الذي يُظهِر وبشكل دوريّ القدرة على تجديد الروح النضاليّة في مواجهة الاستعمار. وهنا يتضح حجم الجريمة عندما يترافق فشل القيادة وخياراتها السّياسيّة مع قيامها بقمع القوى الحيّة في المجتمع القادرة على فتح أفق جديد.

وفي هذا السّياق يمكن فهم التقليد السّياسيّ للقيادات المسمى بـ “السياسات التحريكية”، والتي ترى من خلاله أن الهبات الشعبيّة وسيلة من أجل تحسين شروط التفاوض، والحصول على المزيد من الوقت وتجديد لشرعيتها وإعادة تسويق ذاتها للإحتلال والقوى الدوليّة الداعمة، كطرف قادر على الضبط والقمع وضمان الأمن. من هنا تأتي أهمية خطاب نتنياهو الأخير (08-10-2015) والذي طالب فيه بحكومة “ائتلاف وطنيّ” إسرائيلية قد تضمّ حزب المعارضة “المعسكر الصّهيونيّ” وذلك يحمل معنى التلويح بإمكانية العودة للمفاوضات.

في المقابل، نرى أن العدوّ لم يقم أبداً بإغلاق الأفق السّياسيّ بشكلٍ تامّ،  بل يعمد إلى ترك ثغرة يحاول من خلالها خلق مساحة مناورةٍ لكسب الوقت، وخلق وقائع إضافية على الأرض لامتصاص الانتفاضة أو الهبة المتوقعة أو أي أزمة ناتجة عن الفعل الاستعماريّ، إلا أن تلك الثغرات في الأفق السّياسيّ لم تكن أبداً لتتسع لاقناع الشعب الفلسطيني بغالبيته على الإنتظار- والترقب وبناء الآمال- إلا وهو مغلوب على أمره أو مغرر  به.

وقبل الخوض في تحليل المشهد الفلسطيني اليوم، نشير إلى أن الانتفاضات والثورات تتميز بدرجة ما من الفجائية “وااللامتوقع”، وهنا من المهم التنبيه إلى أنّ تحليلنا للعوامل التي أدت للحدث، يندرج  دائماً تحت بند “المعرفة الما بعدية”، أي اقتراح أسباب وسياقات للأحداث بعد حصولها، فقوة الحياة في المجتمع تبقى دائماً أكبر وأعقد من مناهج التحليل والتنبؤ.

ب. التصعيد والساحات:

التصعيد الميداني

أخذت الحالة النّضاليّة في فلسطين المحتلة مؤخراً منحىً تصاعدياً منذ جريمة إحراق عائلة دوابشة في قرية دوما بتاريخ 31-07-2015. استشهد على الفور الطفل علي دوابشة، وانطلقت في اليوم التّالي المظاهرات والاشتباكات التي استشهد فيها الشّاب ليث الخالدي. في 8 آب 2015 استشهد الوالد سعد دوابشة متأثراً بجراحه. وقد لحق ذلك عملية طعن نفذها الشّهيد أنس طه. وفي 15-08-2015 حاول الشّاب رفيق التاج طعن جندي ليستشهد بعد اطلاق النار عليه. بعد يومين تكررت محاولة طعن جندي آخر على حاجز زعترة واستشهد منفذها محمد الأطرش إثر اطلاق جيش العدوّ النّار عليه، لتكون حصيلة الشهداء في شهر آب 4 شهداء، بالإضافة إلى 71 إصابة إثر المواجهات مع الاحتلال.

وتضاعفت العمليات الفلسطينية والاشتباكات في شهر آب ليُسجّل في الضفة الغربية إصابة 12 صهيونياً بجراح إثر عمليات طعن وإطلاق نار وإلقاء زجاجات مولوتوف، ليشكل ذلك ارتفاعاً بنسبة 400% عن الشّهر السّابق. وسُجِل ارتفاع واضح في العمليات والاشتباكات في الضفة الغربية يصل إلى 117 حادثة مسجلة، وذلك يشكل ارتفاع بنسبة 80% عن الشهر السابق (شهر تموز).

وقد شهد شهر أيلول استشهاد 4 فلسطينيين، اثنان منهم أثناء تنفيذ عمليات ضد العدوّ، وهما الشّهيد ضياء تلاحمة والشّهيدة هديل الهشلمون بالإضافة إلى الشّهيدة رهام دوابشة والدة الطفل علي، والشّهيد أحمد خطاطبة الذي ارتقى إثر إصابته السّابقة على مدخل بيت فوريك برصاص العدوّ.

وتضاعف عدد الجرحى في شهر أيلول بالمقارنة بشهر آب، وقد رافق هذا ارتفاعٌ ملحوظٌ في عدد المعتقلين والجرحى في القدس تحديداً بعد المواجهات التي خاضها المعتكفون والمرابطون في 13 أيلول 2015 إثر اقتحام العدوّ للمسجد الأقصى. في المقابل، ارتفعت وتيرة الاشتباكات مع العدوّ الصهيوني في شهر أيلول، قُتل على إثرها صهيونيان وأصيب اثنان آخران، وشهد النصف الثانيّ من شهر أيلول طفرة  في عدد العمليات المسجلة لتصل إلى 13 عملية مقارنة بـ3 عمليات في النصف الأول من الشهر.

يبدو من تسلسل الأحداث أن جريمة حرق عائلة دوابشة شكلت شرارةً لتصاعد المقاومة، ليلحقها بعد استشهاد الوالد سعد دوابشة عملياتٌ انتقامية واشتباكات ومواجهات مع العدوّ. ومن ثمّ جاءت المواجهات في المسجد الأقصى ما بين المرابطين وشرطة الاحتلال، لتكون رافداً آخر لارتفاع مستوى الاشتباكات، حتى وصلت ذروتها إلى عملية نابلس التي قتل فيها صهيونيان، وتبعتها مباشرة عملية الشّهيد مهند الحلبي النوعيّة بالنظر إلى حصيلتها ومكانها وتوقيتها مقارنة بعمليات الطعن الأخرى، فقد قتل فيها مستوطنان ونفذها شاب من مدينة البيرة (الضفة الغربية) داخل البلدة القديمة في القدس.

وقد تلاحقت خلال الـ 48 ساعة الماضية عمليات الطعن (11 عملية) في القدس والضفة وفلسطين المحتلة عام  1948 مع تزايد في انتشار الاشتباكات وحدّتها في الضفة والداخل المحتل عام 1948 وقطاع غزة. (حتى لحظة كتابة الورقة).

مع أنّ الوصف المتداول لعمليات المقاومة هو “العمليات الفردية”، إلّا أنّ هذا الوصف ــــــ وإن صَدق على بعض العمليات ـــــ إلا أنه لا يصدق تماماً على البعض الآخر، فلقد خرج جزءٌ لا بأس به من منفذي هذه العمليات من بين صفوف التنظيمات والتيارات الفلسطينية، أو من بيئة قريبة من هذه التنظيمات، مما يعني أن “فصائل العمل الوطنيّ والإسلامي” ما زالت على الأقل قادرة على “التعبئة”، في ظل القبضة الأمنية المزدوجة في الضفة الغربية التي تتقاسم الأجهزة الأمنية الفلسطينية وأجهزة الاستخبارات الصّهيونيّة أعباءها.

الضفة والسّلطة الفلسطينية:

إنّ الوضع العامّ للحالة الاستعماريّة هو نتيجة التفاعل ما بين ثلاث قوى: قوى السيطرة والقمع الاستعماريّ، قوى المقاومة، وقوى التواطؤ مع الاستعمار، ومن هنا تأتي ضرورة دراسة وفهم القوى المتواطئة والمضادّة للتحرر ولدورها في كلّ مرحلةٍ تاريخيةٍ. وهنا يجب الانتباه إلى أن مفهوم التواطؤ يمتدّ من العمالة إلى التقاء المصالح وتداخلها. وتعتبر دراسة وفهم طبيعة النخب السّياسيّة والاقتصادية والثقافية وتحالفاتها مدخلاً لفهم طبيعة ومدى التواطؤ، فهذه النخب عادةً ما تُشكِّل حالة المواجهة إضراراً بمصالحها، خاصة الطبقية منها، كما أنها تخاف – أي النخب – من صعود قيادات بديلة أكثر التصاقاً بتطلعات الناس، وهو ما يُعبّر عنه بالصّراع المزمن على التمثيل وحصريته.

وفي الحالة الفلسطينية تضمّ السّلطة الوطنيّة اليوم شريحةً واسعةً “منتفعة” لا تقتصر على النخب بل تشمل كذلك موظفي سلكها الوزاريّ، وأجهزتها التنفيذية المختلفة (رواتب موظفي السلطة 1.6 مليار دولار)، ولذلك فإن الثابت في ردّ فعل السّلطة الفلسطينية المتوقع لأي حراك شعبيّ فلسطيني يبقى ما بين الاحتواء و/ أو الاستثمار المطلبيّ الدبلوماسي، أي تحريك الركود السّياسيّ مع دولة الاحتلال.  

ولا ننسى أن السّلطة الفلسطينية اليوم في “حرب مع ذاتها”، تدور في أروقة اللجنة المركزية في حركة فتح، ويقود أحد قطبيها محمد دحلان، بينما يقود قطبها الآخر الرئيس محمود عباس. بالإضافة لوجود تيارات متعددة متضاربة و/ أو متحالفة داخل فتح، لا سيما أن حرب تقسيم تركة عباس قد اندلعت منذ مدة، ويعلم أرباب هذه “الحرب” أنهم بحاجة لغطاء من طرفين أحدهما دولي أمريكي والآخر شعبيّ فلسطيني أو على الأقل شعبيّ ضمن قاعدة الحركة.

إنّ تصاعد الازمة الداخلية في فتح بدأ يؤثر على توازنات القوى الداخلية فيه، خاصة في المخيمات الفلسطينية سواءً في الشتات أو في الداخل الفلسطيني، ويمكن الجزم أن محمد دحلان استطاع اليوم أن يحشد قوة كبيرة داخل تيارات فتح المتنافسة معززاً بذلك الأزمة التي يعيشها تيار عباس، والذي يعتمد اليوم بشكل أساسي على قوة الأجهزة الأمنية في إحكام سيطرته على الضّفة الغربيّة. إن الحرب السّلطوية التي تخوضها تيارات فتح المختلفة  خلقت شرخاً يساعد على  قيام حراك شعبيّ فلسطيني وقد ينتج عن تصاعده أزمة أخرى داخل الحركة ما بين مؤيد للحراك ومعارضٍ له، مشكلاً في ذات الوقت الفراغ الذي يحتاجه المجتمع لتكثيف وتصعيد المواجهة.

بالرغم من  ذلك فإن السّلطة ما زالت تمتلك أدواتٍ فاعلة ومؤثرة يمكن من خلالها تجيير أو احتواء أي انتفاض فلسطيني، بالقوة الأمنية واحتكار السّلاح، وبالإضافة إلى التفاف غالبية حركة فتح برمزيتها التاريخية وثقلها الجماهيريّ حول سياسات السّلطة الفلسطينية.

ولقد أفرزت السّنوات العشرة الماضية بنيةً أمنيةً محكمة تغلغلت في المجتمع الفلسطيني ومؤسساته الاجتماعية والسّياسيّة والثقافية، كالجامعات الفلسطينية بما في ذلك الحركة الطلابية. ويشمل ذلك  سياسات الاعتقال الدوريّ أو “الباب الدوار”، بالإضافة إلى تحول العديد من امتدادات الحركة الوطنيّة إلى “شبكات الاستزلام” والمصالح، وعملية “غسل دماغ وروح” منظمة للمجتمع الفلسطيني وخاصة قواه الشّابة. إنّ هذا التغلغل ساهم بشكل كبير في تقويض فاعلية التنظيمات السّياسيّة الفلسطينية وقدرتها العملياتية في الضفة الغربية. وأبرز مظاهر ذلك مسعى السّلطة المنظم إلى حصر فعل المقاومة في طقوس فلكلورية “لاعنفية”، متزامناً مع اشاعة فكرة “الفلسطيني الضحية” مقابل الفلسطيني المقاوم.

إن النجاح النسبيّ للبنية الأمنية المعادية للمقاومة في تقويض البنى التحتية للمقاومة، لا يعني إحراز نجاحٍ مطلقٍ في  صهر الوعيّ الجمعيّ الفلسطيني بشكلٍ كاملٍ، والدليل أن ذلك الأخير ما زال داعماً للمقاومة بفطرة تلقائية يصعب على جميع الأجهزة الايدولوجية الدخيلة قتلها أو تغييرها. ولا أدلّ على ذلك من تصاعد العمليات “الفردية” في الفترة الماضية، فهي تعبير عن وعي مجتمعي والتزام هذا المجتمع بالنضال بعفويته الطاهرة.  

القدس كانت القدس تاريخياً بؤرة ورافعة للحراك الشعبيّ الفلسطيني، بمركزيتها الدينية والوطنيّة في الوجدان الفلسطيني، فمن القدس وحولها انطلقت شرارة الهبات الشّعبيّة الفلسطينية في الأعوام 1919، 1929، 1982، 1996، مروراً بانتفاضة الأقصى ووصولاً إلى يومنا هذا.

وقد كثّف العدوّ الصّهيونيّ مساعيه لحسم مسألة القدس (إحدى القضايا المؤجلة للحل النهائيّ) عن طريق تكثيف الاستيطان وعزل القدس عن محيطها. وقام الجهاز الاستعماريّ المسمى ببلدية القدس بتصميم سياسة ممنهجة للتغلغل في المجتمع المقدسي عبر ما يسمى “بالمراكز الجماهيرية”، وبناء علاقات حميمة مع “المجتمع المحلي” من خلال تأهيل وصناعة “قيادات محلية” وممثلين لهذا المجتمع. ترافق ذلك مع زيادة الأبحاث الاجتماعية لمعرفة تفصيلية أكثر بطبيعة المجتمع المقدسي كمقدمة لبناء سياسات تدخل وسياسات “تهدئة” أكثر فاعلية مما سبق. ومن الوسائل التي تستخدمها بلدية الاحتلال في سبيل تحقيق أهدافها تعزيز الهويات الطائفية وخلق هويات إثنية في المجتمع المقدسي، بالإضافة إلى إنشاء أحد أكثر شبكات المراقبة والتصوير الثابتة والمتحركة كثافة وتعقيداً في العالم.

كلّ هذا الفعل الاستعماريّ المنظم والممنهج  قوبل بغياب شبه كامل لعمل وطنيّ مضادّ من قبل الحركة الوطنيّة دون أن يعني هذا غياب المبادرات المحليّة هنا وهناك. وتحملت القوى الشعبيّة الشّبابية بمفردها عبء مواجهة هذا الهجمة المنظمة سواء في البلدة القديمة أو في ضواحي المدينة في سلوان والطور ورأس العامود والعيسوية وشعفاط ومخيمها.  

ضمن هذا الرؤية العامة للسياسة الصّهيونيّة في القدس،  يمكن فهم الهجمة المنظمة على المسجد الأقصى، ليس فقط لمكانته الدينية، وإنما بكونه كذلك يمثل عصب الحياة الاجتماعية في القدس. وهنا تجب الإشارة إلى الموقع المعقد للمسجد الأقصى في سياسة العدوّ الصّهيونيّ، فهو من جهة مكوّنُ أساسٍ في البعد الديني اليهودي  للأيديولوجيا الصّهيونيّة، وعنوانٌ لاكتمال السّيادة على “العاصمة القدس الموحدة”، وفي الوقت ذاته نافذة مهمة للتطبيع مع المحيط العربيّ الإسلاميّ  تحت مظلة “الزيارات والسّياحة الدينية”، بالإضافة إلى كونه أداة لضبط وتهدئة الشّارع الفلسطيني عبر مجموعة من اجراءات السمح والمنع والتسهيلات والتشديدات في المناسبات الدينية (شهر رمضان وصلاة الجمعة).

يمكن القول بأن الكثير من السياسات الاستعماريّة الصّهيونيّة كانت تؤدي في كثير من الاحيان إلى العكس من المقصود منها؛ فعلى سبيل المثال فإن مشروع القطار الخفيف (الذي نفذته شركة فرنسية) لربط الأحياء الصّهيونيّة المحيطة بالقدس أصبح رهينة بيد أهالي شعفاط وبيت حنينا، ومحاولة خنق المدينة وعزلها وسحب الهويات دفع الآلاف للعودة للسكن في البلدة القديمة واستغلال كل متر مربع، فلا يمكن لأيّ عملية هيمنة أن تكتمل، كما أنّ كلُّ عملية هيمنة تحمل بذور نقيضها التحرريّ في داخلها.   

الأراضي المحتلة عام 1948

تبقى الأحزاب والقوى السّياسيّة في مجملها، مرتبطةً بشكلٍ جذريٍّ مع البنية الاستعماريّة عبر مشاركتها الواسعة في انتخابات الكنيست الصّهيونيّ، ومن خلال المخصصات الماليّة التي تحظى بها من الكيان، والتي تعتبر العنصر الأساس في الاقتصاد السّياسيّ الحزبيّ الفلسطيني في الداخل. وعلى صعيد الخطاب، فإنها تبقى أسيرة خطابين مزدوجين، أحدهما يطالب بالمساواة الفردية، والآخر يطالب بحقوق جمعية للأقلية العربية داخل المنظومة الاستعماريّة، أيّ أن تلك القيادات ترى ذاتها الوطنيّة فقط من خلال سقف عدوّها. وتشكل تلك الأحزاب باختلاف تياراتها الأيدولوجية والسّياسيّة إحدى العوائق الأساسية أمام قيام حراك شعبيّ ثوريّ والعائق الأكبر أمام قيام حراك قابل للالتحام مع حالة ثورية فلسطينية في الضفة الغربية والقدس. إن أغلبية هذه الأحزاب تلعب دورَ الوساطة ما بين الجمهور الفلسطيني والمؤسسة الصّهيونيّة بشقيها الأمني والسّياسيّ.

يتضح ذلك جلياً من خلال تهدئتها للشارع الفلسطيني في فترات حرجة، مثل انتفاضة الأقصى، أو خلال ما يعرف عند البعض بـ”هبة اكتوبر”. أو من خلال محاولتها تجيير وتوجيه الحراك الشعبيّ الرافض لخطة برافر التي دعمته من جهة ومن ثم سحبت الغطاء عنه عندما تطورت الحالة لمواجهات في حيفا والنقب خصوصاً.

كما لا يخفى ومن خلال بعض التحليلات السّياسيّة لبعض قياداتها ومنظريها بأنها تسعى لإدخال رؤيتها السّياسيّة ضمن ذهنية الحل (أي كيف ننهي الصراع مع العدوّ؟ من خلال دولة واحدة أو دولتين؟) وهي اليوم تسعى لاستدخال هذا الخطاب ومحاولة العمل به  داخل الأراضي المحتلة عام 1967م، مستفيدة من فشل السلطة الفلسطينية التي انتهجت انهاء الصراع مع العدوّ من خلال دولتين، وهذا ما قد يفسر العديد من المواقف والمناكفات الحادة بينها – أي أحزاب الداخل- وبين السّلطة.

بالرغم مما ذكر أعلاه  تتصاعد أصوات من شرائح شبابيّة مختلفة تحاول رفع سقف النقاش وحدة وأسلوب المواجهة. ويمكن تقسيم هؤلاء إلى ثلاثة أقسام: شريحة تنتمي حزبياً ولا تلتزم كلياً بتوجيهات الأحزاب المختلفة وتدرك الدور السّلبي لتلك الأحزاب، وشريحة لا تنتمي حزبياً وتعادي بنية وتوجيهات الأحزاب المختلفة وتعاني من عدم وضوح في الرؤية والتنظيم، وشريحة ثالثة أخيرة خارج العمل السّياسيّ ومن الطبقات الهامشية في المجتمع الفلسطيني في الداخل. وهذه الشّريحة الأخيرة بالرغم من ضعف فاعليتها السّياسيّة بمعناها النخبويّ، إلا أنها من أوائل الشرائح المتصادمة بشكل فطريّ مع االبُنية الاستعماريّة والأجهزة الأمنية الصّهيونيّة.

إنّ هذه الشرائح إن اجتمعت يمكن لها أن تشكل حالةَ تمردٍ على البنية الحزبية التقليدية، ويمكن لها أن تنتج خطاباً يتعدى في مضمونه ما يطرحه قادةُ هذه الأحزاب على منبر الكنيست. ما زالت الحالة في طور مخاضها الأول وإمكانية تطورها ضئيلة، في المحصلة  فإن الانجاز الإنتخابي “للقائمة المشتركة” في انتخابات “الكنيست” الأخيرة قد أوصل الحالة إلى أقصى مداها، وبالتالي يضعها أمام تحدي سؤال: ماذا بعد؟     

ولا يمكن هنا أن ننسى وجود التنظيمات السّياسيّة التي رفضت دخول سباق “الكنيست”، أحدها يعبر عن اليسار الفلسطيني الثوري وهو امتداد له متمثلاً بحركة أبناء البلد، والتي يكمن ضعفها الأساسي في القدرة على التنظيم بالإضافة إلى افتقارها لأدوات العمل الاجتماعي والاقتصادي. أما التنظيم الآخر فهو الحركة الإسلامية – الجناح الشماليّ – فقد ركزت جهودها على بناء مؤسسات اجتماعية واقتصادية، كما ركزت جهودها الصّدامية مع المنظومة الاستعماريّة بما يخص “المقدسات الإسلامية” وعلى رأسها المسجد الأقصى، ولم تنجح في تطويرِ خطابٍ وطنيٍّ جامعٍ يتناسب وحضورها المجتمعيّ.

قطاع غزة:

على الرغم من انطلاق المظاهرات إلى نقاط التماس مع العدو الصهيوني وارتقاء 6 شهداء من غزة يوم الجمعة، تبدو فرص تشكل حالة مواجهة متلاحمة ما بين غزة والضفة ضئيلة. فقبل عشرة أعوام أقدمت دولة الاحتلال على سحب قواتها العسكرية وتدمير مستوطناتها داخل القطاع في عملية أحادية الجانب، كانت نتاج عوامل مختلفة أهمها ضغط المقاومة والتي استطاعت زيادة تكلفة وجودها في القطاع مقابل عائد وأيديولوجيا هذه الوجود. وكان الانسحاب في حينه محاولةً لتجنب أية تنازلات في الضّفة مقابل الانسحاب من غزة. وقد اتخذ الفعل المقاوم في غزة شكلاً أكثر تطوراً وانتقل إلى مرحلة متقدمة لأسباب متعددة منها ما هو ذاتيّ ومنها ما هو موضوعيّ.

على أن الحالة في قطاع غزة اليوم تختلف بحكم تغير قواعد اللعبة الاقليمية أساساً والتي تحدّ من قدرة قوى المقاومة على مواجهة دائمة ومكلفة،  حتى لو كانت تمتلك النضوج الماديّ العسكريّ للقيام بذلك. غزة اليوم هي غزة الجولات والتوازن التي فرضت معادلات قوة وردع مع العدوّ، ومن المهم أن تواصل خطاها في تطوير البنية العسكرية والخطاب الإعلاميّ الحربيّ، واستخلاص العبر من معركتي البنيان المرصوص والعصف المأكول، مهيئة نفسها وحاضنتها  لجولة قادمة لا مناص من حدوثها، مع التنبيه للأثر السلبي لأي تصعيد عسكري محتمل على جبهة غزة على الحالة الانتفاضية في الضفة والقدس. 

   

ت. تحديات وفرص

بدايةً، يجدر بنا الحديث عن ضرورة بناء منظور تحليليّ وخطاب يجمعُ ما بين الرصانة والجرأة، ويخلق الموائمة الصّعبة ما بين الوجدان والعقل، ويعي الخطَّ الفاصلَ ما بين معرفة الواقع والانصياع له، وخاصة في لحظة الإنفجار وغمرة تسارع الأحداث. فالعواطف – على أهميتها ودورها في الفعل الإنسانيّ- قادرة على دفع وإثارة الجماعات والأفراد عند استفزاز مشاعرها الدينيّة والوطنيّة والاجتماعيّة، إلا أنه لا يمكن الإعتماد  طويلاً وحصرياً على العواطف في رفد العمل الشعبيّ المقاوم بعنصر الاستمرارية.

إذ أن العواطف سرعان ما تُستَهلك، لنقع بعدها  ضحية لإجراءات الرشوة التي يتبعها الاحتلال عبر رزم التسهيلات بعد التضييق للحدّ من تطوّر الحالة الشعبيّة إلى مواجهة شاملة. وكذلك من المهم التحذير من  الوقوع في فخّ  “الرغبوية” “والأرادوية” عند التحليل والفهم، أي تحويل الوقائع الى مؤشرات على ما نرغب به ونتمنى حدوثه، والمبالغة في تقديرنا لدور الإرادة مع إهمال الظرف الموضوعي لهذه الإرادة، وهنا من المهم أيضا النظر لكل العوائق للفعل المقاوم كمعطيات وتحديات يجب العمل خلالها لا استخدامها كتبرير جاهز لعدم إمكانية الفعل.   

وفقاً للمعطيات الحالية ومن منطلق فهم طبيعة وسلوك السّلطة الفلسطينية،  فإنّ إمكانية حدوث انتفاضة تصل إلى حالة إنفجار شعبيّ كامل تبقي ضئيلة، وذلك في سياق البيئة الأمنية والبنى الإجتماعية والإقتصادية في المجتمع الفلسطيني.

إلا أن ذلك لا ينفي  إمكانية أن يتحصل الحراك الشعبيّ على المزيد من الطاقة والاستمرارية نتيجة لحالة “حرب السّلطة مع ذاتها”، وفشل مسارها الدبلوماسي، وفقدانها القدرة على تبرير وجودها ونمط سياستها في ظلّ تلاشي فرص حلّ الصراع من خلال المسار التفاوضي، ونتيجة كذلك لسياسة الحسم الصّهيونيّة المتبعة في الضّفة والقدس على وجه التحديد وخصوصاً في المسجد الأقصى ومحيطه.

إنّ ردّ فعل السلطة الفلسطينية المتوقع هو منح “فسحة زمنية” تسمح  بتفريغ طاقات الشباب في مواجهات محددة ومعروفة السّقف مسبقاً، تندرج في إطار سياسة الإحتواء التي اتبعتها منذ نهاية الانتفاضة الثانية، وتوجهِها إلى تطبيق شروط الرباعية وبناء المؤسسات والتعاون الأمني. وهنا يجب أن لا نحصر قراءتنا للظرف الموضوعي بعامل السلطة الفلسطينية، وإنما أيضاً للتحولات التي طرأت على المجتمع الفلسطيني تحت هذه السلطة.

أما في التكتيك الميداني والسّياسيّ، فلا بدّ في المرحلة الأولى الراهنة للفعل الانتفاضي المحافظة على الأفقية واللامركزية في العمل، وذلك لغياب القيادة والنواة الصّلبة القادرة على قيادة دفة الحراك، فهذا يحتاج لبعض الوقت حتى تتغير الولاءات وتمتاز الصفوف ويفرز الشارع قياداته السّياسيّة والميدانية المناسبة. ومن الضروري بل الواجب عدم الوقوع في فخ محاكاة  وتكرار التجارب الفلسطينية والعربيّة السّابقة، سواء على مستوى الممارسة والتكتيكات أو على مستوى تصوّر الحدث وأبعاده، أو التأثر بفكرة الحشد الكبير من وحي حركات الاحتجاج العربي (المليونيات)  لأنها لا تنطبق على شروط الاشتباك الموجودة في الساحة الفلسطينية.

كما يجدر الانتباه إلى أن  نقد الفصائل وأداءها- مع وجاهته- لا يعني عدم ضرورة أو فاعلية هذا الشّكل التنظيمي بالمطلق.  ويجب عدم الانجرار إلى نقاط الاشتباك التقليدية التي كانت في الانتفاضة الثانية دون مراعاة تغير الفضاء وإعداد العدوّ تلك الفضاءات لاحتواء تلك الاشتباكات وإيقاع أكبر الخسائر في صفوف المناضلين، وهنا تبقى القاعدة الذهبية الصحيحة هي قاعدة البحث دائماً عن نقاط الضعف العدوّ، وتجنب نقاط القوة وهذا يتطلب “فصلاً” ما بين الشّعار العملياتي والشّعار التعبويّ، والسعي الدائم إلى توسيع رقعة الاشتباك وخاصّة نحو الأرياف، والدمج التدريجي للقضايا العدالة الاجتماعية بالسّياسيّة (التوزيع العادل لعبء المواجهة) ومواجهة سياسات النخبة الاقتصادية الفلسطينية المدمرة للقدرة على الصمود. 

واللامركزية مهمة في هذه المرحلة لأسباب عديدة منها، أولاً: ضمان أوسع انتشار ممكن للفعل الانتفاضي في المرحلة الاولى بغض النظر عن انخفاض الوتيرة أو ارتفاعها. ثانياً: تساهم اللامركزية في الحدّ من قدرة قوى “الثورة المضادة” في السيطرة على حركة الشّارع وتجيير الحراك الشعبيّ لصالحها أو تبديدها. ثالثاً: تحدّ اللامركزية من امكانية قمع الحركة الشعبيّة بضربة سريعة واحدة. رابعاً: تتوافق اللامركزية مع المرونة اللازمة للحفاظ على وتيرة ثابتة من الاشتباك بما يضمن عدم إنهاك المجتمع وتبديد قواه، وصولا إلى عدم حرق المراحل عبر طرح أهداف سياسية تمثيلية كبرى.

بكلمات أخرى، فإن المطلوب الآن هو تجذير حالة المقاومة والاشتباك بحدّ ذاتها، وإدامة حالة الرفض، وكسب نافذة من الوقت في ظلّ الاشتباك لبعث الطاقات في المجتمع بهدف ترميم قدراته على المقاومة، وبعث الروح الوطنيّة والقيم النضاليّة، واستعادة  فلسطين كوطن وكقضية تحرر وطني بالعودة إلى أساسيات الصراع: الأرض والقدس والعودة، والحذر من الوقوع في  مقولة “البديل” و”البرنامج” بالمعنى التقني المبتذل.

والمطلوب كذلك عدم الانجرار في اللحظة الراهنة إلى الحديث عن “مطالب سياسية” (بالمعنى الدبلوماسي للكلمة كمفاوضات جديدة أو غيرها) حتى تصبح ممارسة السّياسة بمعناها الاجتماعي العميق ممارسةً حيّةً حقيقية غير حالمة، تهدف لإعادة الحالة الفلسطينية إلى حدٍّ أدنى من المسار النّضاليّ أي العودة إلى الفعل المقاوم كحالة يوميّة،  وذلك على نمط حالة الاشتباك في القدس وضواحيها، وهنا تبرز تجربة قرية العيسوية كمثال للدراسة والفهم. كما يجب العمل على  إعادة الاعتبار لمفهوم الوحدة الوطنيّة بمعنى وحدة الشّعب والجغرافيا وليس فقط الوحدة الفصائلية، سواء بخلق الهم الجماعيّ اليوميّ المشترك بين كافة فئات الشعب الفلسطيني، والذي يعبر عن معنى “كامل التراب الوطني” بما يستلزم بالضرورة  تفكيك “التقسيم الجغرافي الاستعماريّ للشعب الفلسطيني”.

كاستراتيجية خروج رئيسية من الأزمة، فسوف يعتمد الكيان الصهيوني على اختزال مسببات الحالة الشعبيّة  في قضية الأقصى وفصل الوطني عن الديني، ومن هنا ضرورة التشديد على الهوية الوطنيّة للهبّة الشعبيّة. وسيقوم العدوّ على التأكيد على “عدم السعي الحكومة الصهيونية إلى تغيير الوضع القائم”  في المسجد الأقصى، وسيكون للأردن دورٌ أساسيٌّ في هذا المسعى، بالإضافة إلى تقديم رزمة من التسهيلات.

وهنا يجب التذكير بأنّه على أرض الواقع فقد تغيّر الوضع القائم في المسجد الأقصى بالفعل، ولم تعدّ المسألة وقف الاقتحامات وممارسة الشعائر الدينية اليهودية في المسجد الأقصى مطروحة، وإنما المسألة الآن هي تنظيمها والتحكم بوتيرتها وصولاً إلى التقسيم الزماني والمكاني الفعلي كمحصلة لمجموعة من الترتيبات والاجراءات “الأمنية” (سابقة إغلاق البلدة القديمة بعد عملية الشهيد مهند الحلبي).