نقّدم لكم أدناه نصّاً مُترجماً لدراسةٍ أعدها الباحث “حاجاي رام” حول “تجار الحشيش ومستهلكوه، والمعرفة الاستعمارية في فلسطين الانتدابية”. يسرد “رام” في هذا النص عدّة موضوعات؛ فيحدّثنا عن تهريب الحشيش عبر أراضي فلسطين التاريخية، ثمّ ينتقل للحديث عن مستهلكي الحشيش الفلسطينيين واليهود والمصريين، ويعرّج على المعرفة الاستعمارية حوله، التي تُطلعنا على تشكيل المواقف تجاههم. كما يدرس النصّ الخطابات التي تطوّرت حول موضوعة الحشيش، إذ يحاول أن يفهم كيف ولماذا كان الحشيش في فلسطين أيام الانتداب البريطاني مُحمّلاً بمعانٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ وعِرقيةٍ لم تكن لها أيّة علاقةٍ بمادة الحشيش نفسها، وبطبيعة الحال ليست لها علاقةٌ أيضاً بتأثيراتها السيكولوجية الفعلية.
توطئة:
نقّدم لكم أدناه نصّاً مُترجماً لدراسةٍ أعدها الباحث “حاجاي رام” حول “تجار الحشيش ومستهلكوه، والمعرفة الاستعمارية في فلسطين الانتدابية”، والتي نُشرت في مجلة “الدراسات الشرق الأوسطية” عام 2016، في مجلّدها (52)، العدد 3. مع ضرورة التنويه أن كل ما يرد في هذا المقال يعود إلى المصدر الأصلي الذي بإمكانكم الاطلاع عليه من هنا.
يسرد “حاجاي رام” في هذا النص عدّة موضوعات؛ فيحدّثنا عن تهريب الحشيش عبر أراضي فلسطين التاريخية، ثمّ ينتقل للحديث عن مستهلكي الحشيش الفلسطينيين واليهود والمصريين، ويعرّج على المعرفة الاستعمارية حوله، التي تُطلعنا على تشكيل المواقف تجاههم. كما يدرس النصّ الخطابات التي تطوّرت حول موضوعة الحشيش، إذ يحاول أن يفهم كيف ولماذا كان الحشيش في فلسطين أيام الانتداب البريطاني مُحمّلاً بمعانٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ وعِرقيةٍ لم تكن لها أيّة علاقةٍ بمادة الحشيش نفسها، وبطبيعة الحال ليست لها علاقةٌ أيضاً بتأثيراتها السيكولوجية الفعلية.
كان استهلاك الحشيش في فلسطين فترة الانتداب البريطاني محدوداً جداً، حيث دخّن الفلسطينيون شيئاً من الحشيش دون إفراطٍ، كما أظهرت ذلك الكثير من النصوص العبرية الأدبية والصحافية. لكن مع ذلك، كان موقع فلسطين مركزياً بالنسبة للحشيش، إذ ظهرت باعتبارها طريقاً عابراً بين سوريا ولبنان – اللتين كانتا مصدراً مهمّاً للحشيش- ومصر التي تستهلكه بإفراط. أما اليهود فقد تجنّبوها بالكامل تقريباً؛ نظراً للمعرفة الاستعمارية التي تلقّاها هؤلاء حول الحشيش، والتي تبالغ في حجم تفشّي إدمانه بين الفلسطينيين، فيما جعلته رمزاً شرقياً عربياً خالصاً يعبّر عن صفاتهم الواهنة والكسولة، على اعتبار أن افتتانهم بالحشيش كان مسؤولاً على مرّ الأزمان عن سلوكهم الفاسد الانفعالي، ليرجعوا فشل العرب في الازدهار إلى ذلك.
ترجمة: حنين أبو عمر
_________
نصّ المقال المترجم
بينما ينتظر حنّا السلمان تنفيذ حكمه بالإعدام شنقاً بعد إدانته بقتل بائعتَيْ هوى، يجلس في إحدى زنازين سجن الرمل في بيروت، يستمع إلى قصصٍ يرويها له أحمد ومنير، مَفتوناً بحكايتهما حول أعمال سامي الخوري البطولية؛ أحد أخطر المُهرِّبين في عالم المخدرات – الملقّب بالريّس- وقد أثّرت قصة الملفوف في حنّا وأثارت مشاعره، والتي أوضحت براعة الريّس وقدرته المذهلة على الهروب من شبكات الشرطة التي كانت تلاحقه.
يروي أحمد ومنير: “أمرنا الريّس أن نزرع الملفوف، ظننّا أنه فقد عقله، قال لنا: احصلوا على قطعة أرض وازرعوها بالملفوف. قلنا: يا ريّس، لقد جئنا إلى هنا لالتقاط الرزق، وليس للزراعة. فقال: ازرعوا الملفوف والباقي عليّ. فزرعنا الملفوف، سقيناه واعتنينا به ونحن لا نفهم ما يجري. بطبيعة الحال لم نزرع الأرض بأنفسنا، بل قمنا بتوظيف عمالٍ من المنطقة للقيام بذلك، أما نحن فكنّا مأمورين بمراقبة الملفوف حتّى يتفتّح.”
وفي ليلة “ما فيها ضوْ قمر”، وصل الريّس مع عشرة شبّانٍ مُجهّزين بمسدسات ماغنوم، وعشر شاحناتٍ محمّلةٍ بالحشيش، أخذنا الحشيش وزرعناه داخل الملفوف المتفتّح. عملنا طوال الليل، أصرّ الريّس على طيّ أكمامه والبدء بزراعة الحشيش داخل الملفوف كما لو كان طبيباً يعطي الدواء للمريض.
بعد عشرة أيام -مرّت كمئة عام- كانت أوراق الملفوف قد انطبقت على بعضها وغطّت ما بداخلها من الحشيش الذي ابتلعته. بعد ذلك، جمعنا الملفوف وأرسلناه إلى مصر في طائراتِ شحنٍ، بذريعة صفقة تصديرٍ للملفوف .. الطريقة التي تمّ بها إغلاق الملفوف كانت مذهلة!”
نُقلت الكثير من القصص عن حنّا ومُهرّبي الحشيش اللبنانيين في رواية “مجمع الأسرار” المكتوبة عام 1994 للروائي اللبناني الشهير والكاتب والناقد المسرحي إلياس خوري. الرواية -أولاً وقبل كل شيء- عملٌ خياليٌّ، لكن التقرير الذي قدّمته عن مغامرات الرئيس في التهريب عكس حقيقةً تاريخيةً تشير إلى المدى الذي شكّل فيه الانتدابُ في المشرق مصدرَ ثراءٍ فاحشٍ لكثيرٍ من مهرّبي الحشيش اللبنانيين والسوريين.
الطريف بالأمر، بروز المشرق كجنّةٍ للمهرِّبين بعد تدشين سلطات مكافحة القنّب في المنطقة، وليس العكس! ففي أواخر القرن التاسع عشر ومع بدايات القرن العشرين، كانت اليونان المصدرَ الرئيسَ للحشيش المتداول في مصر. ومع أنّ الحكومة اليونانية استجابت للضغوط البريطانية المتصاعدة لتضييق الخناق على مزارعي القنّب المحليين والمهرّبين، إلا أن المصريين لجأوا إلى الحشيش السوري واللبناني لتعويض فقدان الإمدادات اليونانية.
ومع سيطرة بريطانيا وفرنسا التدريجية على بلاد الشام بعد الحكم العثماني، أصبحت فلسطين “خطاً ناقلاً” في التجارة غير القانونية للمخدرات، بين لبنان وسوريا في الشمال، ومصر في الجنوب، بين أكبر مُصدّرٍ وأكبر مستوردٍ للحشيش في المنطقة على التوالي! ومنذ ذلك الحين، اضطرّت جميع قوافل إمدادات الحشيش المتوجّهة إلى مصر من لبنان وسوريا للمرور عبر فلسطين، سواءً عن طريق البر، أو البحر أو الجو. يمكن القول إن هذه الظروف وفّرت لمهرِّبي الحشيش اللبنانيين وعددٍ كبيرٍ من المهربين المحليين والإقليميين والدوليين فرصاً لا نظيرَ لها لجني الأرباح.
في نفس الوقت، ازدادت الجهود الدولية من قبل عصبة الأمم لتقييد وضبط وحظر تدفّق الحشيش واستخدامه، والتي تزامنت بدورها مع تشكيل أنظمة الانتداب في بلاد الشام، و كانت ضارةً لأولئك الناس الذين تعتمد حياتهم على حرية الحركة لتجارة مختلف السلع، بما في ذلك المواد التي تؤثّر على العقل. وفي عام 1921 أبدت عصبة الأمم استعدادها لمكافحة انتشار المخدرات؛ فأنشأت “اللجنة الاستشارية المختصّة في الاتجار بالأفيون وغيرها من العقاقير الخطرة”، والتي -بدورها- نسَّقت جهودها للحصول على معلوماتٍ حول المخدِّرات على مستوى العالم وسجّلت حالاتِ تهريبٍ كثيرةً.
وفي عام 1925 أُضيف (القنّب الهندي) إلى قائمة منظمة الأفيون الدولية للعقاقير الخطرة، وحظرت الاتفاقية -التي دخلت حيّز التنفيذ في عام 1928- تصدير الحشيش إلى بلدان عدّة مثل فلسطين ومصر، والتي كانت تحظر في السابق استخدامها، وتجرّم التجار العاملين في المواد سايكولوجية التأثير، حيث اعتبرتهم “تجّار مخدِّرات”.
علاوةً على ذلك، فإن دخول بريطانيا وفرنسا، وإنشاءَهما لدول الانتداب في المشرق- والتي رافقها إقامة مراكز للجمارك والشرطة على طول حدود هذه الدول- قد قيّدا حركة التجّار الحرة، فلم يعد بإمكانهم توقّع الطرق غير المشروعة لنقل البضائع وذهابها دون أن يكتشفها أحدٌ. تطلّبت هذه الظروف والمُلابسات المشؤومة من التجار مجموعةً متنوعةً من الحيل والخدع- من جنس طريقة الملفوف- لنقل شحناتهم وتأمين عبورها بأمانٍ من لبنان عبر فلسطين إلى مصر.
في ما يلي دراسةٌ أجريتها حول مدى التزايد في الحملات الدولية ضدّ القنب في أوائل القرن العشرين، والمعاني الثقافية والعِرقية الجديدة التي تُعزى إلى هذه المادة المؤثّرة على العقل التي أثّرت على حياة هؤلاء الناس في فلسطين الانتدابية، والتي اعتمدت ثقافة عيشها وترفيهها على حرية حركة هذه السلع والوصول إليها. وبالنظر إلى حقيقة كون الفترة الانتدابية مرحلةً حاسمةً في المكافحة العالمية ضدّ القنب، فهي بمثابة ساحةٍ ممتازةٍ لاستكشاف الاختلافات المحلية الناجمة عن عكس مسار “ثورة المواد النفسية التأثير”؛ وهي الثورة التي جعلت المخدّرات منتشرةً في المجتمعات البشرية في التاريخ الحداثي في مناطق المحيط الأطلسي، من القرن السابع عشر حتى التاسع عشر.
في عهد الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، كانت الموادُ ذات التأثير السايكولوجي بأنواعٍ كثيرةٍ ومختلفةٍ، شائعةَ الاستخدام في الحياة اليومية لكثيرٍ من الناس. وعلى عكس العديد من القادة الأوروبيين ورجال الدولة في عصرهم، انغمس السلاطين العثمانيون في ملذّات الأفيون، كما استهلك ممارسو الطرائق الصوفية الأفيونَ والحشيشَ في الطقوس والمناسبات الأخرى. و لم يقتصر استهلاك هذه المواد على المناصب العليا للدولة العثمانية؛ فقد ورد أن الأشخاص العاديين، أو أفراد “الطبقات الدنيا” كانوا يقضون وقتهم في المقاهي، فيستهلكون كمياتٍ كبيرةً من الأفيون وأحياناً الحشيش. كما أن هذه المواد تخدم مجموعةً واسعةً من الأغراض الطبية، ويمكن شراؤها من أي متجرٍ أو بائعٍ متجوّلٍ، خاصّةً من العطارين. نستدلّ من هذا أن نفس الحالة كانت سائدةً في إيران في ظلّ حكم الصفويين والقاجار، وفي أوروبا الحديثة المبكّرة -كما عبّر بييرو كامبوري باستياء- انتشرت المخدّرات بحيث كنت تجدها حتى بين من هم في مرحلة الطفولة أو الشيخوخة” .
في منتصف القرن التاسع عشر، استرضت الدولة العثمانية النُقّادَ الأوروبيين لزعمهم بتشدّد الدولة العثمانية وفسادها؛ إذ أجرت إصلاحاتٍ قانونيةً لتنظيم ومراقبة تدفّق بعض المواد المُسْكِرة واستخدامها. ومع صعوبة اندثار العادات القديمة، فإن هذه التدابير لم تُفلح في فرض حظرٍ كاملٍ على هذه المواد.
تقدّم الأميرة الإيطالية كريستينا تريفولزيو دي بلجوجوسو- التي تمّ نفيُها إلى الإمبراطورية العثمانية في الأعوام 1850-1855- شرحاً تفصيلياً وشهادةً حيةً على الانفتاح في استخدام الحشيش في بلاد الشام العثمانية:
“استخدام هذا المخّدر -أي الحشيش- منتشرٌ في سوريا بكثرة؛ فإذا قابلتَ رجلاً وكانت عيناه باهتتين غير مستقرّتين، وكان وجهه هزيلاً وشفتاه شاحبتين ورقيقتين، فتأكد بأنّك قابلت حشاشاَ أو سكّيراً. وإن رأيت رَجُلين يجلس أحدهما قبالة الآخر على طاولة أحد المقاهي، وكانا ينفخان سُحُباً من الدخان على وجه بعضهما البعض دون أن يتفوّها بكلمة، فتيقّن أنهما في جلسةِ حشيشٍ، وإذا قدّم لك أحدهما بعض الحلويات أو الشراب، يتوجّب عليك الحذر؛ فقد يكون الحشيش مُخبّأً فيها“. وبهذا، وقع المشرق تحت وصاية المجتمع الدولي غير المؤيد للعقاقير المسبّبة للهلوسة والسُّكر، والتي أصبحت الآن مُعرّفةً بدقةٍ على أنها “مخدِّرات”!
إن آثار هذه التطورات على عالم مُهرّبي الحشيش ومستهلكيه في فلسطين -في فترة الانتداب- هو موضوع هذه الدراسة. أبدأ ببحث كيفية تكيُّف تجار الحشيش مع هذه الظروف غير المُواتية، والتي فرضت السيطرة على تداول الحشيش ومنعته، وكيف أظهر استمرارهم في مواكبة تجارة الحشيش تحدّياتٍ غير متوقعة على السلطات. ثم أنتقلُ بعد ذلك إلى تقديم معلوماتٍ حول دارسي السلوك الاستهلاكي في فلسطين وأنواع المعرفة الاستعمارية عن القنّب؛ الأمر الذي سيساعد على إثراء الوعي الثقافي والعِرقي الهام لإدراك هذه المواضيع.
تاريخ الحشيش في “فلسطين الانتدابية”
لم يُروَ تاريخ القنّب في فلسطين من قبل، ولم تكتب أيّة دراسة من هذا النوع باستثناء دراسةٍ قيّمةٍ واحدةٍ أجراها “سايروس شايغه”، والتي درس من خلالها تجارة المخدرات في بلاد الشام ما بين الحربين، حيث تعامل مع فلسطين بشكلٍ جزئيٍ فقط. ومع أنّنا نعرف الكثير عن تاريخ الحشيش واستهلاكه في أجزاء أخرى من الإمبراطورية البريطانية – وعلى الأخصّ في الهند ومصر- إلا أننا لا نعرف سوى القليل عن تاريخها في فلسطين الانتدابية. وبالاستفادة من الأرشيف والمصادر الأدبية والصحافية -التي لم تُستغل من قبل في عدّة مواضع بحثية- آمل أن ألقي الضوء على عالم مهرّبي الحشيش ومستهلكيه في فلسطين، والروايات التي نشأت حولهم.
على الرغم من أنّ تعاطي المخدرات بشكلٍ عامٍ لم يكن قضيةً رئيسيةً في فلسطين، فقد ادّعى البريطانيون مراراً وتكراراً أن “فلسطين نفسها لا تعاني من مشكلة مخدرات”، حيث لديها سوقٌ محدودةٌ للغاية بالنسبة للمخدرات من أيّ نوعٍ كانت، إلا أنّ أنشطة مُهرّبي الحشيش عبر أراضيها -من حدودها الشمالية إلى الجنوبية- كانت سبباً في إثارة الكثير من القلق للسلطات الانتدابية.
“كلود سكودامور جارفيس”، وهو رائدٌ بريطاني خدم في الجيش الإنجليزي في مصر وفلسطين، نقل هذه المشاعر بإيجازٍ شديدٍ، شاكياً من خطر تهريب الحشيش؛ فقال: “إنّ إيقاف تهريب الحشيش يشبه محاولة سدّ مجرىً مائيٍّ بحاجزٍ طينيٍّ، سرعان ما ستجد ثقباً جديداً يتسرّب منه الماء”.
لم يكن “جارفيس” الوحيد الذي عبّر عن استيائه من بروز فلسطين كطريقٍ لعبور تجار الحشيش في المنطقة؛ ففي عام 1936 استعرض “جوزيف برودهورست” -وهو ضابطٌ كبيرٌ سابقٌ في الشرطة الفلسطينية- معضلة “ضخامة مشكلة التهريب التي واجهت الشرطة الفلسطينية”، والعدد الكبير من المهرّبين الذين “لعبوا كثيراً من الحيل على الشرطة وسبّبوا لهم متاعبَ لا نهايةَ لها؛ إذ إنهم شديدو المَكر والدهاء منذ ولادتهم بالفطرة. وتابع برودهرست قائلاً: “يتمّ تهريب الحشيش على الحدود السورية – الفلسطينية بكلّ الطرق والخدع عبر فلسطين، وعبر صحراء سيناء المشتعلة، على جزءٍ وحيدٍ من قناة السويس وإلى القاهرة”.
قبل دراسة تفاصيل عمليات التهريب هذه وتداعياتها بمزيدٍ من التفصيل، أودّ أن ألفت الانتباه إلى العناصر البشرية التي نفّذتها. أولاً وقبل كل شيء؛ كان مهرّبو الحشيش في أرجاء فلسطين عربًا فلسطينيين بُسطاء، أصحابَ متاجرٍ، وباعةً متجوّلين، وسائقي سيارات أجرة، وأصحاب مرائب، وميكانيكيين، وحرفيين، وفلاحين، وغيرهم من العرب من الدول المجاورة مثل مصر ولبنان وسوريا وحتى العراق. وصف السِّير “توماس وينتورث رسل”- المعروف أيضاً باسم “راسل باشا”، الرئيس الأسطوري لمكتب المخابرات المركزي للمخدرات، والذي أسّسته الحكومة المصرية في عام 1929- هذه المجموعة بأنها “حشدٌ من الطبقة الدنيا يتمتعون بقليلٍ من الجدّية أو الالتزام في ما بينهم” ووفقًا لمراقبٍ معاصرٍ آخر، لم يكن لدى هؤلاء المهرّبين أيُّ كبيرٍ؛ فهم لم يخافوا الله ولا الإنسان، وكانوا يفعلون أيَّ شيءٍ في سبيل جني بعض القروش.
كانت “العصابات الدولية” المطلوب التالي على قائمة مُهرّبي الحشيش في جميع أنحاء فلسطين، والتي شملت المجرمين من العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، (مصر وإيطاليا واليونان وقبرص وبلغاريا)، على سبيل المثال لا الحصر. أعضاء هذه المجموعة- في فلسطين- كانوا متعادلين بجُرمهم مع هذه الجماعات البغيضة. يقدّم “هنري دي مونفريد”- وهو مغامرٌ فرنسيٌّ من أوائل القرن العشرين ومهرّبُ حشيشٍ ما بين اليونان ومصر- وصفًا مُسلياً لطرق أحد أفراد العصابة المشهورين عالمياً، وهو مواطنٌ يونانيٌ: ” لقد غسل السلطة بجرعةٍ كبيرةٍ من النبيذ الأسود المأخوذ من الجلد، وعندما رآني مُقبلاً نحوه، مسح فمه بظهر يده، انحرف وعلّق غليوناً غليظاً في فمه، وأرسل طائرةً من اللعاب سقطت على قدمي، لتُريني كم كان مُرحّباً بي”
أخيراً، العسكريون البريطانيون المتمركزون في فلسطين ومصر، والذين -كما أشار أحد المراقبين المحليين المعتمدين- أُغْروا بوعود مكافآتٍ كبيرةٍ أو بأرباحٍ مباشِرةٍ عاليةٍ”، فقد أدّوا دوراً نشيطاً ومتصاعداً في عرقلة ومنع عمليات تهريب الحشيش من وإلى فلسطين. وكما لوحظ، فإنّ كل الحواجز من ضوابط الجوازات ونقاط التفتيش الجمركية على طول الحدود، وكذلك أنشطة الشرطة داخل الدول الانتدابية وغيرها من الحواجز الجديدة، قد دعتهم إلى ابتكار حلولٍ إبداعيةٍ خلّاقةٍ بنفس مستوى الإبداع الذي يمتلكه تجّار الحشيش؛ لذلك كانت الألاعيبُ والخِدَعُ جزءاً لا غنىً عنه في حِرفة الطرفين.
حِيَل تجار الحشيش في التهريب
يقدّم “كايروس شايغه” لمحةً عن هذا النوع من الخداع الذي يلجأ إليه مهرّبو الحشيش في لبنان من أجل نقل حمولاتهم غير المشروعة بأمانٍ إلى حدود لبنان الجنوبية، ومن هناك إلى فلسطين: “على طريق (بيروت – رأس الناقورة – حيفا) السريع، حاول المهرّبون التغلب على دوريات الدرك باستخدام بطاقات هويةٍ مُزيّفة، وإخفاء السيارات بجانب الطريق، والقيادة على نقاطٍ معينةٍ في الطرق الوعرة، وإطفاء الأنوار في الليل، أو استخدام الطرق الفرعية، وفي الناقورة كان المهربون يخفون المخدرات بطرقٍ مبدعةٍ في كثيرٍ من الأحيان”.
يمكن استخلاص مثل هذه الحيل التجارية -كما يسمّيها “راسل باشا”- أيضاً من عمليات التهريب عبر فلسطين الانتدابية، من الشمال إلى الجنوب. فعلى سبيل المثال، قام ضابط شرطةٍ بريطانيٍّ متمركزٍ في فلسطين بلفت الانتباه إلى هؤلاء المهرّبين الذين كانوا ينقلون المخدرات داخل الأحذية ذات النِّعال السميكة المجوّفة؛ وكذلك في ألواح جوفاء من الشوكولاتة تحمل علامةً تجاريةً لشركةٍ معروفةٍ؛ أو في صُلبانٍ صغيرةٍ مجوّفةٍ في صُرّة راهبٍ يونانيٍّ مُزيّفٍ؛ أو في أكياسٍ رقيقةٍ مربوطةٍ بفخذي رجلٍ تحت ملابسه؛ أو في ثنيات ستة أزواجٍ من السراويل مُعبّأةٍ في صندوقٍ خلفيٍّ لمواطنٍ بلغاري.
وباستخدام هذه الحيل والخِدَع، وظّف مهرّبو الحشيش “تقنيات اختزال العالم”، كما وصفها المؤرخ “بول كنيبر” في سياق النشاط الإجرامي في أوروبا، وغيرها من المنتجات على طول القرن التاسع عشر، والتي عملت أيضاً على تمكينهم. بالمناسبة؛ أجمعت مصادري على نقطةٍ واحدةٍ: استخدم المهرّبون السيارات والسفن والقطارات وحتى الطائرات، إلى جانب وسائل النقل التقليدية (مثل الجِمال)، لنقل بضائعهم غير المشروعة عبر الحدود. وقد شكّل هذا الأمرُ تحدياتٍ كبيرةً لجهات تنفيذ القانون المحلية والاستعمارية والدولية، ليس فقط بسبب كثافة وحجم عمليات التهريب هذه، ولكن أيضاً وبشكلٍ رئيسيٍّ كَوْنَ هذه العمليات سلّطت الضوء على طبيعة الحدود المليئة بالثغراث والفتحات لتلك المناطق الخاضعة لسلطات الانتداب.
وقد كانت القطاراتُ أكثرَ وسائل النقل الحديثة توظيفاً من قبل المهرّبين خلال عملهم، من ذلك ما حدث عام 1929 من قضيةٍ جدليةٍ كبيرةٍ أحرجت السلطات البريطانية؛ حيث لم يتورّط فيها سوى المفوض السامي البريطاني في مصر: السير “جورج أمبروز لويد”. فأثناء وقفةٍ في اللد – فلسطين، تم تفتيش القطار الذي كان يحمل السِّير لويد عائداً إلى القاهرة بعد زيارةٍ إلى دمشق، عثروا حينها على 24 لوحاً من الحشيش في سيارته الخاصّة بالقطارات، وكان الجُناة المشتبه بهم يرافقون “الحراس والخدم المصريين”.
كما كانت السيارات ذات دورٍ فعالٍ في محاولة هؤلاء المهربين التغلّبَ على سلطات تنفيذ القانون. تقدّم مصادري حالاتٍ متكرّرةً لمضبوطاتٍ من الأفيون والحشيش كانت مخبّأةً في أجزاءٍ مختلفةٍ من السيارات. وبهذا، استخدم المهرّبون الأكثر جرأةً وبراعةً مزيجاً من التقنيات والأساليب- التي تجعل العالم صغيراً- في وقتٍ واحد. وبذلك، تمّ القبض على “شخصٍ من عائلةٍ يافيّةٍ معروفةٍ”، كان قد أمر بعربة سكةٍ حديديةٍ خاصّةٍ لشحن سيارته إلى القنطرة- وهي مدينةٌ تقع في شمالي شرقي مصر على الجانب الشرقي من قناة السويس- وذلك بعد اكتشاف مخزنٍ عظيمٍ من الحشيش والأفيون مخفيٍّ في عجلات السيارة.
مثالٌ شبيهٌ لما سبق؛ قصةٌ عن عصابةٍ من مهرّبي الحشيش المقدسيين الذين “أثاروا الشبهات على أنفسهم” لأنهم ظلّوا مدّة أشهرٍ يشترون سياراتٍ مستعملةً من شخصين أو ثلاثة قُبُلاً – والتي قد لا يرغب في شرائها إلا الشرقيون- كانت تُشحن عن طريق البحر من يافا إلى مصر. وقد أكّد بحثٌ أُجري على هذه السيارات بناءً على الشكوك، أنّ إطاراتها “مليئةٌ بالحشيش”.
كما ولعبت العصابات الدولية دوراً رائداً في توظيف وسائلَ متعددةٍ في عمليات النقل والتهريب التي قاموا بها؛ ففي عام 1937 على سبيل المثال، حملت إحدى هذه العصابات المُكوّنة من فلسطينيين ويونانيين ومصريين وإيطاليين بضائعَ غيرَ مشروعةٍ- إذ اشتروا المخدرات- على طول الطريق من لبنان، مروراً بفلسطين، إلى بورسعيد شمال شرق مصر باستخدام السيارات والقطار والطائرة بالتبادل- جُرّبت من قبل عضو عصابةٍ إيطالي. ولسوء حظّهم، فشلت العصابة بفضل يقظة العملاء السرّيين العاملين في قسم مكافحة المخدِّرات في مكتب المخابرات تحت قيادة “راسل باشا”.
وصل الحشيش إلى مصر عبر فلسطين، إمّا باستخدام سيارةٍ أو قطارٍ أو طائرةٍ، وأيضًا عن طريق البحر. وعلى الرغم من معرفة البريطانيين بكون بعض ملّاحي السفن بعينهم أو بعض طواقمها مهرِّبين مشهورين، إلا أن البريطانيين لم يُعيروا السفن التي تُبحر إلى موانئ فلسطين ومن هناك إلى مصر أيّ اهتمامٍ، ولا سيّما الإسكندرية، والتي كانت تُعدّ ميناء الدخول الرئيسي للمخدرات والمواد غير المشروعة.
بالتالي، ليس من المفاجئ أنّ شرطة ميناء فلسطين- التي كان من واجبها اعتراضُ المهرّبين في البحر- كان لها هي الأخرى نصيبٌ وإسهامٌ في المشاكل التي تسبّب بها مهرّبو الحشيش الماكرون. فبانضمامه إلى قوة الشرطة الفلسطينية عام 1922، وخدمته كعضوٍ في شرطة ميناء فلسطين (حتى عام 1922)، يزوّدنا “دوغلاس داف” بمذكّراتٍ تروي خطر هؤلاء المهرّبين، فيصف إحدى الحالات التي كان فيها على رأس مركبٍ شراعيٍ يطارد سفينةً يُشتبه بحملها شحنةَ حشيشٍ من صيدا-لبنان. وبينما كانوا يطاردونها، لم يدرك إلا متأخّراً بعد فوات الأوان أنهم نقلوا حمولتهم إلى سفينةٍ أخرى، وأفلتوا بسلامٍ.
في مكانٍ آخر، يشكو “داف” من ضعف جودة المعدّات التي مُنحت لهم في سبيل ملاحقة المهرّبين في البحر. ففي محاولةٍ لبدء استخدام موتور البحر الشراعي لمطاردة سفينةٍ للمهربين، لم ينقل نسيم الليل صوتاً، وتمكّنت سفينة المهرّبين من الاختفاء في الظلام. هذه الحادثة -كما يصف “دوف”- جعلته يفقد عقله بسبب الحكومة التي أعطتهم أدواتٍ ليست مجديةً تساعدهم على إنجاز مهامهم!
دور العصابات الصهيونية في تهريب الحشيش
كما ذُكر آنفاً، فقد خلّف تهريبُ الحشيش آثاراً مدمّرةً على الأفراد العسكريين البريطانيين. كانت التقارير الصحفية عن هؤلاء الجنود البريطانيين الطائشين المتمركزين في فلسطين أكثرَ من أن تُحصى. كانت إحدى الحالات الرئيسية لجنديٍّ بريطانيٍّ اكتُشفت خلال الحملة الترويجية الموسيقية المسمّاة “جوك بوكس” -والتي تمّت في العديد من المخيمات في فلسطين؛ ففي سيارته المنقلبة شمالي غزة تم اكتشاف أكثر من 300 كيلوغرام من الحشيش و أقل بقليل من 250 كيلوغراماً من الأفيون. لم تتسبّب هذه القضية في إثارة حالةٍ من الجلبة العامّة فحسب، بل جعلت السلطات البريطانية تدرك أنها خلف إحدى أكبر عصابات المخدرات في الشرق الأوسط، والتي تمتدّ أنشطتها في سوريا ولبنان، وربّما في تركيا بعض الشيء، وكذلك مصر وفلسطين.
وقد قيل إن بعض المنظمات الصهيونية التي حاربت البريطانيين في فلسطين، ربما تورّطت في عمليات تهريب المخدرات لتمويل أنشطتها السرية المسلحة، فمثلاً أستطيع الآن أن أقول على وجه اليقين إن هناك منظمةً واحدةً على الأقل -الهاغاناه- قد فكرت في اللجوء إلى مثل هذه الأنشطة كوسيلةٍ لتنشيط مواردها القليلة من جديدٍ، فقامت بتهريب الحشيش عبر فلسطين ومروراً بها.
هذا ما يتّضح من خلال شهادةٍ أدلى بها “شمشون ماشبيتز” عام 1970، وهو عضوٌ مؤسّسٌ في الذراع الاستخباراتية للهاغاناه (Shai). يصف ماشبيتز بالتفصيل كيف خطرت له الفكرة في البداية؛ فيتذكر أمسيةً في مقهىً محليٍّ في حيفا عام 1942 أو 1943، ناقش فيها هو وزملاؤه “الموارد المتضائلة” للمنظّمة والطرق الممكنة لزيادتها، ويعزو ماشبيتز الفضل لرفيقه يهوشوا (جوش) بالمون؛ كونه اقترح الاتجار في الحشيش كحلٍّ مناسبٍ.
كانت الخطة -كما اقترح “بالمون”- تقضي بتهريب الحشيش من لبنان إلى مصر، .وعند بيعه يُرفع سعره عشرة أضعاف السعر الذي تمّ شراؤه فيه. “دافيد شالتييل”، الذي كان قائداً للهاغاناه في منطقة القدس خلال حرب عام 1948، كان متحمّساً للفكرة بشكلٍ خاصٍّ: فـ “أخذ بريق عينيه يملأ نظراته، ثمّ قال فجأةً: “هيّا فلنفعل ذلك .. “كاديما!” (أيّ إلى الأمام بالعبرية). تلقت المجموعةُ الموافقةَ على إجراء تحقيقٍ أوّليٍّ في القضية، وتمّ تكليف “ماشبيتز” بهذه المهمة؛ “إن كان بالإمكان نقلُ الأسلحة إلى أماكن إخفاء سرّية”، مُخبراً مُحاورَه الذي أجرى معه المقابلة بعد ثلاثة عقود: “تمكّنا من نقل الحشيش أيضاً”.
استغلّ “ماشبتيز” علاقاته اللبنانية من أجل السفر إلى لبنان في سبيل سَبْر أغوار سوق الحشيش هناك. وفي بيروت التقى “مُهرّباً شرقَ أوسطيٍّ مثالياً”، قدّم له سيارةً وسائقاً، “قادنا عبر وادي البقاع في لبنان، مروراً بمزارع الحشيش ومزارع الأفيون …”، يقول”ماشبتيز”. ويضيف: “لقد درستُ القضية برمّتها: كيف نزرع الحشيش، وكيف نسوّقه، وعلامات الحشيش المختلفة، وما هو جيدٌ وما هو سيّءٌ، وكيف نميّز الاختلافات في ما بينها”.
لدى عودته إلى حيفا بالمعلومات اللازمة، اختصر “ماشبتيز” قيادة الهاغاناه في رحلته، وقال بشيءٍ من الاعتداد -مهنّئاً ذاته- بأنّ الجميع أُذهلوا من طريقة عرضه. ومن هنا، وُضعت خطةٌ لتهريب الحشيش من لبنان إلى مصر عبر فلسطين. لكن كان من المؤسف، أن شاؤول (ميروف) أفيجور – الذي لعب دوراً فعالاً في تأسيس الذراع الاستخباراتية للهاجاناه “Shai”- اعترض على الفكرة بشدّةٍ. يقول “ّماشبيتز” واصفاً: “استمعَ إلى قصّتي بهدوءٍ، خفَّض رأسه، وأعلن بشكلٍ قاطعٍ وبنبرةٍ هادئةٍ وواثقةٍ، ولكن بطريقةٍ جعلت جدالَنا مُستحيلاً”، وقال: “لا يجوز أن نسمح للنقود بتدنيس أسلحتنا”. من الواضح أنّنا بعد هذه الكلمات -وكما لخّص “ماشبيتز” بإيجاز- ” أجّلنا الخطة بأكملها ونسينا القضية”.
ربّما تكون الهاغاناه قد تورّطت في عمليات تهريب الحشيش، وربما لا! لكن البعض- ربّما من الأعضاء الأكثر جموحاً وجرأةً ومن تمتّعوا بروح المغامرة داخل المعسكر الصهيوني والمتعاطفين البريطانيين معه- قد اتّخذوا من العمل في تهريب الحشيش عبر فلسطين عملاً عَرَضياً وجانبياً لهم، من أجل مصادرة حمولات المخدّرات والكحول. يرتبط هذا، مثلاً بأن يحيل قرشٌ واحدٌ بينك وبين الاستمتاع!
“أسبر بايفسكي” -رائدٌ في أعمال الشحن اليهودية في فلسطين- سيشرَع مع صديقه إسحاق في مغامرة قرصنة:
“سوف يتوجّه الاثنان إلى البحر في قاربٍ شراعيٍّ صغيرٍ، وينتظران وصول مهرّبين عربٍ لينقلوا الحشيش من لبنان أو سوريا إلى أرض “إسرائيل”. سيعترض اللصّان -إسحاق وبييفسكي- السفن المهرّبة، وسرعان ما سيحطّون على ظهرها مسلّحين بالسكاكين والبلطات. إسحاق -الذي كان يُتقن العربية- سيطلب من رُبّان السفينة العربيّ فديةً متواضعةً “حفنة من الحشيش” مقابل سماحه للسفينة بالسير بسلام! ومن ثمّ يعود بييفسكي وإسحاق إلى الشاطئ والغنائم في متناول أيديهما، ويبدّدان المال بأكمله في حفلةٍ جامحةٍ لشرب الكحول. كانت هذه المغامرة في ساعات الليل المتأخّرة غايةً في الخطورة، ولكنّ بييفسكي لم يكن يردعه أيُّ شيءٍ”.
في النهاية، لا يمكننا فصل التجارة -غير المشروعة- بالحشيش عبر فلسطين الانتدابية عن النشاط الإجرامي الذي ارتفع في أماكن أخرى من العالم خلال سنوات ما بين الحربين. في الواقع، ربّما كان هذا الأمر مظهراً محلّياً ينمّ عن الجرأة المتنامية وتطوّر النشاط الإجرامي على نطاقٍ عالميٍّ. لذلك، ليس من الصدفة أبداً أن العديد من الأفراد والجماعات في أوروبا في ذلك الوقت بدأوا بالتحذير من سُلالةٍ جديدةٍ من المجرمين الذين حوّلوا الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناشئة لصالحهم؛ فـ”استخدموا التكنولوجيا من أجل معاملاتٍ ماليةٍ هدفُها النصبُ والاحتيالُ، من أجل الهروب عبر الحدود الوطنية، والمحافظة على تجارةٍ واسعة النطاق في التجارة غير المشروعة”. وبالتالي، فإن التحديات التي يطرحها المجرمون من عابري الحدود -في فلسطين وكما هو الحال في أوروبا- شكّلت مثالاً آخرَ لما اعتبره “إريك هوبسباوم” “عدمَ قابلية التطبيق المطلق لمبدأ ويلسون، والذي يقضي بجعل حدود الدولة تتوافق مع حدود القومية واللغة”.
المعرفة الاستعمارية حول الحشيش
قد تفسّر المخاوف المُتزايدة بشأن القوة المتنامية للجريمة العالمية وتوسّعها -ولو جزئياً- السبب في كون عصبة الأمم بدأت كمؤسسةٍ لتعزيز السلام بين دُولها الأعضاء، لكنّها حوّلت تركيزها بشكلٍ تدريجيٍّ وصبّته في محاولاتها لمنع الجرائم! إن تهريب الحشيش عبر فلسطين -في فترة الانتداب- هو جزءٌ واحدٌ فقط من القصة التي أودّ سردها هنا. ثمّة جزءٌ مُكمّلٌ عن مستهلكي الحشيش المحليين، ومعرفةٌ (استعمارية كولونيالية) خاصّة تُطلعنا على تشكيل المواقف تجاههم. إنّ هدفي العام في هذا القسم هو دراسة الكيفية التي يُنظر بها إلى قضية المواضيع المُستهلكة -التي تمّ تداولها كثيراً- في فلسطين والخطابات التي تطوّرت حولها. وبصفةٍ خاصّةٍ، أحاول أن أفهم كيف ولماذا كان الحشيش في فلسطين الانتدابية مُحمّلاً بمعانٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ وعِرقيةٍ لم تكن لها أيّة علاقةٍ بمادة الحشيش نفسها، وبطبيعة الحال ليست لها أيّة علاقةٍ بتأثيراتها السيكولوجية الفعلية.
بشكلٍ مبدئيٍّ ومن خلال مشاريعهم الاستعمارية، اكتشف الأوروبيون لأول مرةٍ آثار القنّب المُسكِرة، على الرغم من أنهم كانوا على درايةٍ بالقنّب والمخدِّرات، باعتبارها مصدراً ثميناً للإنتاج الصناعي وإنتاج الأدوية، والذي كان متوفراً إلى حدٍّ كبيرٍ في المناطق الاستعمارية “الشرقية”، مثل الهند ومصر. أجرى الأوروبيون لقاءاتٍ مع السكان الأصليين المتأثرين بثقافة الحشيش والقنّب، والذين استهلكوا، أكلوا، أو دخّنوا الحشيش كعادةٍ أساسيةٍ في حياتهم اليومية؛ فقد استهلكوه لأسبابٍ مختلفةٍ طبّيةٍ ودينيةٍ، وبحثاً عن اللذة، وما إلى ذلك، والتي اجتمعت فيهم كلّهم غايةٌ مُلِحّةٌ واحدةٌ، وهي”الثّمالة والابتهاج”.
مثل الكثير من الصفات التي لا يمكن تصنيفها بيولوجياً -كالملابس والنظافة والرائحة- كان للقنّب كذلك دورٌ مُعتبرٌ في التقسيم العنصري الاستعماري بين كثيرٍ من الجماعات؛ فقد ساعد القنّب على استبعاد العديد من المجموعات التي استهلكت الحشيش، وعملت على تحديدها كطبقاتٍ اجتماعيةٍ دُنيا، مُضيفاً بذلك سبباً آخر – واحداً من كثيرٍ- للكراهية والخوف. وليس من قبيل الصدفة أنّ المجموعات التي كانت ضحيةً لهذا النوع من “العنصرية غير العرقية” كانت -غالباً- الجماعات التي تحمّلت عبئاً أكبر من ضحايا “العنصرية العرقية”.
ولمّا تلقت العديد من العواصم الأوروبية (وما وراءها) هذه المعرفة العقلانية، سُرعان ما وفّرت لوازم بناء قيم البرجوازية، كالاعتدال والانضباط والعقلانية والإنتاجية. كما يعرّف المؤرخ “ريتشارد دافنبورت-هاينز”، فإن “مُدمني المخدرات نادراً ما يتوافقون مع الإحساس البرجوازي للهوية البشرية كعملٍ جدّيٍ ومستقرٍ وثابتٍ ودائمٍ، والمطلوب لجزْم صفة التماسك في ذاتهم الداخلية كدليلٍ على صحّتهم وكونهم مواطنين جيّدين!
صُوِّر تخلّف الأشخاص المستهلكين للحشيش عن هذه القيم -البرجوازية- بطريقةٍ أكثر سهولةً وأكثر شعبيةً عن طريق الحكايات الاستشراقية التي تحدّثت عن التجاوزات والفوضى التي تسبّب بها هؤلاء الأشخاص في الماضي والحاضر. وكان من بين أهم هذه الأساطير: أسطورة القتلة (أو الحشاشين) في العصور الوسطى! حيث رُوي أن أعضاء الطائفة الإسماعيلية النزارية قد شنّوا هجماتٍ انتحاريةً ضدّ أعدائهم المسلمين، بينما لم يكونوا -في الحقيقة- إلا تحت تأثير الحشيش! أسطورةٌ سحرت الطبقة البرجوازية الباريسية المحترمة في أواسط القرن التاسع عشر. ومن المثير للاهتمام أن هذه الحكايات الأوروبية حول الفساد والهمجية الشرقية التي سبّبها الحشيش قدّمت لاحقاً دعماً وموثوقيّةً للدراسات النفسية الاستعمارية التي ربطت استهلاك الحشيش بالجنون.
بالنظر إلى ما ورد أعلاه، فإن حُجّتي الأساسية في هذا القسم هي: المعرفة الاستعمارية حول الحشيش، فبمُجرّد وصولها إلى شواطئ فلسطين الانتدابية، تمّ تطبيقها كعلامةٍ مميِّزةٍ بين اليهود والعرب (لا يختلف هذا عن الطرق التي استُخدمت بها الماريجوانا في وقتٍ مبكّرٍ في الولايات المتحدة في القرن العشرين؛ إذ تمّت رسملتها من قبل الطبقات المتوسطة البيضاء من أجل تجريم وتهميش السود والمكسيكيين). ولكن قبل أن أُسهب في هذه المسألة، أود أن أعلّق بإيجازٍ على هوية مستهلكي الحشيش في فلسطين.
فلسطين ومصر: ثنائية التهريب والاستهلاك
كان المستهلكون الرئيسيون للحشيش في فلسطين الانتدابية فلسطينيين محليين وعرباً من دولٍ مجاورةٍ. لنأخذ على سبيل المثال مدينة حيفا في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي جذبت الزائرين والمهاجرين من الدول العربية نظراً لأهميتها، كونها مركزاً إقليمياً بحرياً هاماً للعديد من المنتجات، بما فيها الحشيش.
لقد ظهرت عادة تدخين المخدرات في حيفا -أوّل ما ظهرت- في بيوت الصفيح في الأجزاء الشرقية من المدينة. كانت غالبية السكان آنذاك من المصريين والسوريين والعراقيين والحورانيين، إضافةً إلى عددٍ قليلٍ من فلّاحي “أرض إسرائيل”. وفي كلّ أسبوع، كان يمسك رجال الشرطة بأشخاصٍ عربٍ بحوزتهم حشيشٌ، بكمياتٍ قليلةٍ أحياناً، ما يشير إلى كونها للاستخدام الشخصي، وأحياناً بكمياتٍ كبيرةٍ أُعِدّت لمدخنين آخرين في هذا الحي المتهدِّل.
على الرغم من أن تعاطي المخدّرات مشهورٌ باعتباره ظاهرةً حضريةً، إلا أنّ هذه العادة في فلسطين كانت أكثر بروزاً في المناطق الريفية. يُعدّ موسم النبي روبين -الذي يُقام سنوياً في قرية النبي روبين الواقعة على بعد 10 أميال جنوبي حيفا، وقد كانت موجودةً حتى تدميرها عام 1948- مثالاً جيّداً على ذلك. النبي روبين -ووفقاً للإرث الإسلامي- مكان دفن روبين ابن النبي يعقوب عليه السلام، والذي أصبح قبره موقعَ الحجّ الرئيسي للمسلمين في السهل الساحلي المتوسط.
عند أوّل ظهور القمر -مُحاقُه- في شهر أغسطس وحتى آخر الشهر، “كان الحجاج يقيمون مدينةً من الخيام تتّسع لـــ 30,000 شخصٍ أو أكثر، بالإضافة إلى المقاهي المؤقتة والمطاعم والأكشاك التي تبيع الطعام وغيرها من البضائع”. عاد شاهدُ عيانٍ يهوديٌّ من المهرجان عام 1934 مع انطباعاته التالية:
مستضيفُنا بحّارٌ ذو أكتافٍ عريضةٍ ووجهٍ جميلٍ، تشِعّ عيناه حِكمةً ممّا جرّبه وخَبِره، رحّب بنا بنداءاتٍ صادحةٍ لكلّ العوام: (أهلاً أهلاً .. تفضّلوا). هذا الرجل الساحلي -الذي يعتمد مصدر رزقه على البحر والميناء- يصل إلى النبي روبين في وقتٍ مبكر، فيضع خيمةً واسعةً رباعية الزوايا، ثمّ يجلب الأدوات اللازمة للمقهى الذي يُسمّى “بيت القهوة”، من المقاعد القصيرة إلى الشيشة -النرجيلة- الطويلة. وفي زاوية نائيةٍ مخبّأةٍ خلف سِتار، قد يجد المرء أيضاً تلك الأوراق النباتية المُسكِرة التي تساعد في التمويه. هذا هو “الحشيش”؛ مع كلّ سحْبٍ طاحنٍ يخفق القلب، ويمنح صاحبه واحدةً من المكافآت السماوية الستين التي وُعد بها “المؤمنون”!
وعلى الرغم من هذه الحوادث، إلا أنّ كلّ ذلك يشير إلى أنّ عدد مستهلكي الحشيش لم يكن كبيراً في فلسطين. وعلى نفس القدر من الأهمية، فحتّى من جرّبوا هذه المادة لم يُعرَف أنهم أساؤوا استخدامها؛ ولعلّكم تذكرون تصريح السلطات البريطانية مِراراً وتكراراً في رسائلها إلى لندن بأنه لا مشكلةً حقيقيةً في فلسطين من حيث الإدمان والاستهلاك المُفرط. بعبارةٍ أخرى، على الرغم من كون فلسطين “طريقاً عابراً” في التجارة الإقليمية للمخدّرات، ورغم أنها وقعت في شِرك العديد من عمليات تهريب الحشيش، إلا أنها لم تُثِر مشهداً كثيفاً بالأحداث ومُعقّداً في الاستهلاك يُقارَن بالمشهد في مصر، حيث قيل إنّ الحشيش كان سبباً للعديد من الأمراض، وملجأً للعاطلين عن العمل والبائسين، لا سيّما في تلك الأماكن التي لوحظ فيها استهلاك الحشيش. ومع ذلك، وكما هو الحال مع المواد التي تُؤثّر على العقل- فإنها ترتبط بوفرة المادة، وبالتالي بالإلمام بها والقرب منها. وقد حرص أحد ضباط الشرطة البريطانية على الإشارة إلى أنه “أثناء انتقاله عبر فلسطين، كانت توضع كمياتٌ محدّدةٌ من الحشيش في الأسواق المحلية لأغراض الاستهلاك المنزلي”.
ومن خلال تقصّي الخطاب العام الفلسطيني في هذه المرحلة، تبيّن أن استهلاك الحشيش في فلسطين كان محدودَ النطاق إلى حدٍّ ما. على عكس الوضع في مصر، إذ أظهرت “ليات كوزما” أن الطبقات المتوسطة أو ما كان يسمّى بـ”الأفنديات” قد شاركت في حملات مكافحة القنب بفعاليةٍ، وعارضوا استهلاك الحشيش بشدّةٍ من خلال الصحافة، ليس هناك دليلٌ في فلسطين على مشاركةٍ منظّمةٍ ودوريةٍ للطبقة الوسطى العربية للتحذير من مخاطر استخدام الحشيش. ورغم أن الصحافة العربية في فلسطين نشرت تقاريرَ منتظمةً وموثوقةً عن مصادرة العديد من شحنات القنّب وتوقيف مهرّبي حشيشٍ وملاحقتهم، فإنني لم أجد فيها حتى حالة واحدة من موادّ وتقارير تشي بالقلق أو الاستياء من ظاهرة تفشّي الحشيش أو ضرره على المجتمع الفلسطيني، وقد يكشف بحثٌ آخرُ أكثرُ شموليةً عن المزيد من الإشارات حول هذا الموضوع.
ربّما يدلّ هذا الصمت المُطبِق على أن ممثّلي الفلسطينيين والمتحدثين باسم الطبقة الوسطى، مثل نُظرائِهم المصريين الذين تمّت دراستهم من قبل “كوزما، يؤمنون بالحداثة والتقدّم الغربيين! إنّهم لم يعتبروا الحشيش مشكلةً مُلحّةً تتطلب تدخلاً اسثنائياً وفورياً، وذلك على العكس من مسألة تعاطي القنب بين السكان العرب في فلسطين الانتدابية، والتي قد تستحق مزيداً من البحث.
المنطق الاستشراقي في ابتعاد اليهود عن التعاطي
ومن الواضح تماماً أن يهود فلسطين، لا سيّما أولئك الذين ينتمون لـ “نيو ييشوف New Yishuv” ، كانوا يميلون إلى الابتعاد عن تعاطيه. بعضٌ من جواب هذا يكمُن في ما تحثّ عليه روح الصهيونية من الاكتفاء الذاتي والعمل للدولة العبرية، وهي روحيةٌ تُضفي قيمةً على الاعتدال أكثر من الإسراف والشّطَطْ، ورجاحة العقل على غيابه وسُكره. ومع ذلك، كان هناك سببٌ آخر مُنحت هذه المعاني الأخلاقية الملموسة والدرامية من خلاله، وهو الرؤية الاستعمارية للحشيش على أنها موادُّ شرقيةٌ وعربيةٌ تحديداً، وعلى أنها مادةٌ تؤدي حتماً بمستهلكيها إلى ارتكاب الجريمة والفساد والقتل، حسب أسطورة الحشّاشين في القرون الوسطى .
تمّ إسناد هذه المفاهيم إلى الافتراضات العِرقية والثقافية السائدة في المجتمع اليهودي، في ضوء تأكيد اليهود على غرابة العرب واختلافهم. خوّلت أنماط هذه الإدانات أو القناعات -المأخوذة سابقاً- الكتابَ اليهودَ بالتعليق على فشل العرب المزعوم في الازدهار، فهم ينغمسون في حياة الجهل والكسل والإهمال؛ وهم “متجهّمون” و “عرضةٌ سهلةٌ للتلاعب”؛ يُكبِرون من “أولئك الذين يُمسكون بقبضاتهم”؛ و”أنّهم انفعاليون متعنّتون وحادّون للغاية” و”سيفهم هو قانونهم”- كدلالةٍ على استعدادهم للهجوم المتبادل في أيّة لحظة- هذه الإدانات ذاتها هي ما مكّنتهم كذلك من إنشاء علاقاتٍ مع عرب البلاد واستهلاك الحشيش. وعلى الرغم من أن العرب الفلسطينيين في الواقع لم يستهلكوا سوى القليل جداً من الحشيش؛ إلا أنّ قراءات النصوص العبرية في تلك الفترة تُعطي انطباعاً مُغايِراً.
مثالٌ على ذلك ما تضمّنه مقالٌ افتتاحيٌّ نُشر في صحيفة “دافار” -الصادرة باللغة العبرية- في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي. تبدأ الافتتاحية بالزعم أنّ “ثقافة المخدرات” في فلسطين هي -أساساً- مشكلةٌ شرقيةٌ:
“من بين العوامل التي تعمل لصالح العصابات العاملة ﻓﻲ اﻟﺒﻼد هو اﻟثمل والفساد المتأصّل في الشرق واﻟﺬي ﻳﻨﻔَﺬ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺠﻴﻨﺎت، ومن ﺧﻼل المخدرات التي تُزرَع هناك -أي في الشرق- على نطاقٍ واسعٍ. مستهلكو الحشيش – وحسب ما ورد من تعليقاتٍ في الافتتاحية: “يمكن تسليمهم بسهولةٍ للغضب العارم أو القتل بقلبٍ باردٍ قاسٍ لافتٍ للانتباه”. الحشيش “يدوّخ” عقول العرب، “يزيد من وساوسهم”، “يُضعف، أو حتّى يدمّر إدراكهم للواقع”، ويُظهر فيهم “كبتاً للفطرة وللحياة الاجتماعية” التي بدونها لا يمكن أن تكون هناك أيّةُ حياةٍ ثقافيةٍ للتحدّث عنها. ونتيجةً لذلك، يصبح العربي “رجلاً مُجرّداً من كلّ إرادةٍ أو قوةٍ دافعةٍ”، والأسوأ من ذلك: ” يصبح أداةً عمياءَ في خدمة أيّ شخصٍ يسعى للتلاعب به”. خلاصة القول: إن افتتان العرب بالحشيش قد يكون مسؤولاً -على مرّ التاريخ- عن سلوكهم الفاسد وغير العقلاني، والذي لا يمكن التنبّؤ به”!
تتناول رواية إسحاق الشاميّ “انتقام البطاركة” المنشورة عام 1927 المواضيع الثلاثة التي نوقشت حتّى الآن في هذا القسم:
الاستهلاك المحدود للحشيش بين العرب الفلسطينيين، والإصرار اليهودي -على النقيض- لربط كون العرب ضحايا تعساء مع هذه العادة الخبيثة، والعلاقة الوثيقة بين رفض اليهود للحشيش ونكرانهم لكلّ ما هو عربي. تعتبر هذه الرواية أهمّ أعمال شامي، وهي مستوحاةٌ من حادثةٍ حقيقيةٍ. تبدأ أحداثها بالتحضيرات لمهرجان الربيع السنوي لموسم النبي موسى، عندما تتلاقى مواكب الحجّاج المسلمين من جميع أنحاء فلسطين هناك عند المقام (يقع على بعد حوالي 25 ميلاً شرق القدس).
تسافر ثلاثُ مجموعاتٍ رئيسيةٍ من القدس والخليل ونابلس. لكلٍّ منها زعيمُها وحاملُ العلمِ والطبّالُ والموسيقيون والراقصون وأبطالُ المبارزةِ والرمايةِ. يأتون على ظهور الخيل أو على أقدامهم، رجالاً ونساءً وأطفالاً، مع الإبل تحمل مؤناً تكفي لعدة أيام. نلتقي مع بطل الرواية المأساوي، زعيم مجموعة نابلس ذو الشارب “نمر أبو الشوارب” في خضمّ جلَبة المهرجان وإثارته. تزداد حدّة الشدّ والجذب بين “أبو الشوارب” وزعيم جماعة الخليل “أبو فارس”: يُهين “أبو فارس” “أبو الشوارب” مراراً وتكراراً، ما يجعله مستفَزّاً ومستَحثّاً لقتله، وخوفاً من الانتقام وسفك الدم، يُهرول إلى البرّية وينتهي إلى القاهرة بظلّ نفسه الأصيلة النقيّة من فعلٍ كهذا.
وصفُ الشامي لأوضاع القاهرة، وبؤسُ المنفى وتأثيرُ الندم على “أبو الشوارب” كلُّها أمورٌ واضحةٌ، كما يلفت أحد مراجعي الرواية النظر. في الواقع، وأثناء إقامة “أبو الشوارب” في القاهرة، يُنفق المبلغ الضئيل الذي يملكه دون حكمةٍ أو وعيٍ، ويصبح مُدمناً للحشيش، ويعاني من اكتئابٍ حادٍّ متفشٍّ! وكنتيجةٍ لرؤيته الكوابيس، قرّر أن يعود إلى فلسطين لطلب العفو من الخليليين والأنبياء المدفونين في الخليل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. لكن للأسف، عندما يتسلّق “أبو الشوارب” إلى الكهف الذي دُفن فيه الأنبياء، يضربه “انتقام الآباء”!
بقدر ما يتعلّق الأمر بالحشيش، فإن الرواية تبعث برسالتين (أحدهما صريحةٌ والأخرى ضمنيةٌ): أوّلهما أن مدخّني الحشيش عاطلون عن العمل، بُلداء، غير عقلانيين، وغير منتجين وعنيفون وانفعاليون! وأنّ الشرقيين -والعرب على وجه الخصوص- مؤهّلون بشكلٍ استنائيٍّ لإدمان الحشيش. كما ذُكر آنفاً، يغوص “أبو الشوارب” في القاهرة في أعماق اليأس، ليجد ملجأه في الحشيش: كان يهرع إلى أن يغلق على نفسه في غرفته ويستنشق الدخان المُدوِّخ والمُسكر، جرعةٌ بعد أخرى. يبدو أن الحشيش أكثرَ وسيلةٍ مضمونةٍ وفعّالةٍ لتخفيف آلامه، قياساً بكلّ السحر والتمائم التي كان يمنحها له الدراويش والقدّيسون، وأنفعها لتخفيف معاناته وإخضاع لحظاتٍ لا نهايةَ لها من الخوف إلى السكون وانفلاج الفجر- كدلالةٍ على انتهاء الألم- وكلّما أخذ من هذا العقار السام والخبيث، ازدادت حالته الصحية سوءاً.
وكنتيجةٍ لاستسلامه وخضوعه الكامل للحشيش، لا يتحوّل “أبو الشوارب” إلى عنيفٍ وشديد الانفعال فحسب، بل يهدُر صوتُه صراخاً وشكوى، ويشتم كثيراً ويتورّط في شجاراتٍ لا طائلَ منها، وتصبح حياته بأكملها بائسةً وعبثيةً، وميئوساً منها:
أمضى نمر حياته في فراغٍ وتبذيرٍ، وضاعت هباءً بالثّمل والفسوق والإهمال. كلُّ يومٍ بدا كسابقه، وكلُّ ليلةٍ مثل سالِفتها. كانت المقاهي والموسيقى كلَّ عالمه، والحشيش وورق اللعب جُلّ بهجته وخياله.
باختصار، فإن التأثيرات الخبيثة الناتجة عن استخدام الحشيش كتلك التي أثّرت على طاقة “أبو الشوارب” وجَلَده وحيويته تعادل ذلك الهامد الذي لا حياةَ فيه؛ ففي الليل تكون عضلاته ثقيلةً مثل الرصاص، لكنه لا يستطع إغلاق جفونه إلا بعد أخذ جرعةٍ مضاعفةٍ من الحشيش. أصدقاؤه الذين غالباً ما كانوا يستعلِمون عن صحّته وأحواله، سيجدونه مُمدّداً إلى أطول وقتٍ بلا حراكٍ -على حصيرةٍ- وساقاه منفرجتان، وقفطانه أعوجٌ ومُلتفٌّ تحته، وشعرُ صدره مكشوفٌ، وعيناه شاحبتان معلّقتان على مصباح الزيت الصدئ، يحدّق فيه دون أيّ تعبيرٍ عن حياةٍ ما، وفكّه الأسفل متدلٍّ، ملتوٍ مثل رجلٍ ميّتٍ.
من المهم أن نلاحظ هنا التفاعل بين الهوية المعقدة لشامي ككاتبٍ عبريٍّ ونهجه -أسلوب تعامله- لكلٍّ من العرب الفلسطينيين والحشيش. فمن ناحيةٍ؛ إسحاق شامي الذي سعى إلى أن يصبح جزءاً من المدفع الأدبي للأشكناز في عصره، ملتزمٌ بنوعٍ من النثر المبتذل الذي ينظر إلى العرب كونهم أعداءً وتهديداً للصهيونية. ولهذا السبب يصف في الرواية الدافع إلى الجريمة وسفك الدماء كسماتٍ عربيةٍ أساساً، ويقارن العرب بالحيوانات والحشرات، ويتعمّق في معاملة العرب القمعية للمرأة ويُصوّرهم على أنهم مدمنو حشيشٍ، تافهون لا يصلحون لشيء.
في الوقت نفسه، يجب أن نتذكر أن الشامي المولود في الخليل كان عضواً في الجالية اليهودية السفاردية القديمة في فلسطين، وهي مجتمعٌ تتشابه تقاليده وثقافته مع المسلمين والمسيحيين المحليين. ومن هنا، يتبنّى الشامي-في الرواية- وجهة النظر العربية، ويسعى إلى تصوير العرب من الداخل أثناء محاولته التوغّل في عالمهم. وبسبب هذا، فإنه يقدم تقريراً موثوقاً قدر الإمكان لمشهد تدخين الحشيش بين العرب الفلسطينيين في ذلك الوقت. في الواقع، يخلُصُ حقيقةً إلى تأكيد ما نعرفه سابقاً؛ وهو أن استهلاك الحشيش بين العرب الفلسطينيين كان ظاهرةً محدودةً. وبالتالي، لا يضع الشامي مراكز تدخين الحشيش وتجارته في نابلس أو الخليل أو القدس أو يافا، بل في القاهرة! المدينة الواعدة والمُغرية ذات الفارق الكبير.
وبهذا، فقد كان استهلاك الحشيش في فلسطين الانتدابية على الأرجح مسألةً محدودةً، حيث دخّن عربُ فلسطين شيئاً من الحشيش، ولكن ليس بشكلٍ مُفرطٍ. بينما كان اليهود – وهم المتلقّون الأساسيون للمعرفة الاستعمارية حول هذه المادة- يتجنّبونها بالكامل تقريباً.
كانت التعليقات اليهودية – بإلهامٍ من هذه المعرفة الاستعمارية- تميلُ إلى تحديد استهلاك الحشيش كشيءٍ استثنائيٍّ يعبّر عن مأساةٍ ما في مجتمعات الشرقية، ومبالغةٍ -بالمثل- في حجم تفشّي الظاهرة بين السكان العرب في فلسطين. في الوقت نفسه، كانت مصر- أكثر من فلسطين- سبباً رئيسياً في بروز هذه التعليقات لتصبح لصيقةً بها بفضل الحشيش، مستشهدةً بذلك كدليلٍ على طبيعة هذه المادة المحسوبة ضِمناً على أنها شرقيةٌ عربيةٌ واهنةٌ!
استهلاك الحشيش في “إسرائيل” اليوم
بالرجوع إلى التاريخ، لم يكن القرن الحادي والعشرين لطيفاً -إن جاز التعبير- لمستهلكي الحشيش الإسرائيليين؛ سواءٌ أولئك الذين يستهلكونه بشكلٍ متقطّعٍ متباعدٍ، أو أولئك المدمنين المستعصين. ففي مطلعه، شبّت انتفاضة الأقصى، تلاها “فكّ الارتباط” الإسرائيلي مع قطاع غزة (2005)، ثمّ حرب لبنان الثانية (2006)، والهجمات المتعدّدة للجيش الإسرائيلي على غزة الواقعة تحت حكم حماس؛ بدءاً بعملية “الرصاص المصبوب” عام 2008، وعملية “عامود السماء” عام 2012، وعملية “الجرف الصامد” عام 2014. لم تُحدث كلّ هذه الأزمات فتْكاً لا يوصف في الأرواح والبُنى التحتية فحسب، وإنّما أحدثت عرقلةً في عمليات تهريب المخدرات إلى “إسرائيل”، ما أدّى إلى تقلّص عرضها بشدّة، وانقطاع ذخيرتها!
بجانب ذلك، فإنّ استكمال السياج الحدودي على طول الحدود الإسرائيلية المصرية عام 2012 – والذي وُضع أساساً لمنع دخول اللاجئين وهجرة البدو الرحّل والعمال، وأيضاً لمنع تهريب مختلف السلع غير المشروعة إلى البلاد- وجّه ضربةً قاسيةً أخرى للإسرائيليين في الوصول إلى “المواد المُسكرة” الأثيرة لديهم. ومع ذلك، إذا كان هناك أيُّ درسٍ يمكن استخلاصه من محاربة تجارة المخدرات في أماكن أخرى من العالم -في الماضي والحاضر على حدٍّ سواء- فمن المُرجّح ألا يستمرّ هذا الشُحّ في مصادرها وجفاف سبيلها إلى الأبد.
على الرغم من إطباق الإغلاق على طرق التصدير، “تستمرُّ التجارة، وتجد منافذَ جديدةً باستمرار”، و”كلّما ازداد الجهد المبذول لمكافحة هذه التجارة، كلّما زادت الجهود الموجّهة نحو التهريب، وهكذا تستمرُّ إحدى أكثر ثلاث اقتصاديات العالم ربحيةً”.
ومن هنا، وعلى الرغم من أزمة العرض الحالية في “إسرائيل”، إلا أنّه من المرجّح أن تجد الحشود الإسرائيلية الراحةَ على وقعِ حقيقةِ أن مُهرّبي الحشيش لم يُلقوا أيديهم في وجه العوائق الموضوعة في طريقهم؛ حيث إنهم يواصلون البحث عن طرقٍ بديلةٍ، وتمرّ الشحنات غير المشروعة عبر الحدود دون أن تنكشف، وتصل بأمانٍ إلى مناطقها داخل الأراضي “الإسرائيلية”، كما كان الحال من قبل.
وكما رأينا، فإن لعبة “القط والفأر” هذه بين مهرّبي الحشيش والسلطات التنفيذية ليست ظاهرةً جديدةً في الأراضي التي تحكمها “دولة إسرائيل”. في الواقع، هي قديمةٌ قِدَم الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الدولة العثمانية، والتي يرجع تأريخها إلى بداية تكوّن دول الانتداب في بلاد الشام. لم يتزامن هذا الحدث الأخير مع ترسيم الحدود بين دول المشرق الجديدة فحسب، بل أيضاً مع تشكيل أوّل أنظمة حظرٍ ضدّ الحشيش في العالم. وكلاهما أعاق القدرة على نقل المواد المُسكرة والمخدّرة بأمانٍ وبسهولةٍ نسبيةٍ، ما أثار ما كان مُقدّراً له أن يخلق منافسةً طويلة الأمد بين المُهرّبين والسلطات، حيث حاول كلٌّ منهما خداعَ الآخر، وعادةً ما كسب الأول دعم اليد العُليا.
اعترف “راسل باشا” بنفس القدر، فقد لاحظ طبيعة الصراع بين مُهرّبي الحشيش والسلطات القانونية: “كلّ خطوة يخطوها أحدهما بأسلوبٍ مُطوّرٍ عن ذي قبل، تتبعها تحسيناتٌ بنفس القدر من قبل الآخر”، كما أنّه على الرغم من المبالغ الطائلة التي أُنفقت في سبيل عرقلة تهريب الحشيش، إلا أن فلسطين ومصر نجحتا “في الاستيلاء على حوالي 10% من الكمية المورّدة إلى البلاد”.
بما أنّ “إسرائيل” تشهد استهلاكاً للحشيش، فلم يعد هذا السلوك مشكلةً عربيةً فقط. فمنذ الستينيات تفشّى استهلاك القنب والحشيش -كما هو الحال في أي مكانٍ آخر من العالم- حتّى وصل إلى مجموعاتٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ ذات سماتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ إثنيةٍ مختلفةٍ اختلافاً جذرياً عن تلك التي كانت في السابق، كما حصل تماماً مع “الماريجوانا” التي تفشّت بين مستوطني الضفة الغربية، كما هي بين أطباء تل أبيب ومحاميها.
ومع ذلك، يمكن ملاحظة الاستمرارية مع حقبة ما قبل عام 1948 في مجال خطاب مكافحة الحشيش. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك مقطع فيديو قصير مدّته 33 ثانية، أعدّته هيئة مكافحة المخدرات الإسرائيلية عام 2006 لثني المراهقين عن استخدام المواد المُسكرة، وخاصّةً القنب، وبُثّ على قناة التلفزيون الإسرائيلية الرئيسة، وتمّ إنتاجه بأسلوب مقاطع فيديو “الوصيّة الأخيرة” التي صُوّرت لـ”المخرّبين الانتحاريين” المسلمين.
يظهر صبيٌّ في سنّ المراهقة يحمل بونغ “أداة تدخين الحشيش” كسلاحٍ مُميت، يقف أمام كاميرا غير مستقرة، ويقرأ مونولوجه:
أنا.. عمر كانديل، أبلغ من العمر ستة عشر عاماً، أنا من رعنانا. والديّ رونيت وشموئيل وشقيقتي كيرين، وسأذهب إلى حفلةٍ في تل أبيب. هناك طريقةٌ واحدةٌ فقط لأكون حرّاً فعلاً: أن تشرب كثيراً وتتعاطى المخدرات، وتشعر بكثيرٍ من السُّكر والثمل .. لا تبكي يا أمّي .. أنا ذاهبٌ إلى الجنة!
من السهل أن نرى في هذا المقطع القصير أصداء أسطورة الحشاشين والدلالات العنصرية المنبثقة عنه. تزامنَ وقت بثّ المقطع مع الأيام الأخيرة من الانتفاضة الثانية وذروة “الحرب العالمية على الإرهاب”! أصبح الانتحاري في الولايات المتحدة وفي أوروبا الغربية و”إسرائيل” رمزاً لثقافة الموت الإسلامي.
عَزفَ المقطع بشكلٍ مقصودٍ على أوتار الإسلاموفوبيا لدى الجمهور الإسرائيلي التي كانت في ذروتها في ذلك الوقت. وقد استند أيضاً إلى مفردات القرن التاسع عشر التي حدّدت موقفها سلفاً تجاه الحشيش! أي أن الحشيش مادةٌ شرقيةٌ يستخدمها المتعصّبون المسلمون غير المتحضرين الذين يناصرون طقوس الموت بدلاً من طقوس الحياة!
ما تستوجب الإشارةُ إليها حقيقةُ أنّ ما سُمّي بـ”الانتحاري” في المقطع لم يكن إلا فتىً يهودياً من الطبقة المتوسطة من مدينة “رعنانا” البيضاء الميسورة. من حيث خلفيته الاجتماعية والهوية الديموغرافية والإثنية، كان عمر يمثّل شيئاً مختلفاً تماماً عن الصورة التقليدية لمستهلكي الحشيش في “إسرائيل”، ما يعكس قلق المؤسسة المعاصرة، لئلا ينتشر استهلاك الحشيش إلى جميع أجزاء المجتمع الإسرائيلي.