رصاصة واحدة، دخلت الصدر واخترقت القلب، فانفجرت منه نافورة دم سخين يتدفق قوياً، ومن حيث تدفق الدم من قلب جهاد صعدت روحه إلى بارئها في سيارة الإسعاف، وصل جهاد إلى مستشفى المقاصد شهيداً، فسُجّي بجوار الحاج صالح اليماني، وانشغلت طواقم المشفى في معالجة ستين جريحاً وصلوا للمشفى.
قصة شهيد ونور آية
جهاد إبراهيم بدر ابن امرأة طيبة المعشر، لطيفة المحضر، كنا نناديها: عمتي عزيزة. صديق عزيز عرفته في الأعياد وأيام العطل المدرسية، أيام كنت أرافق أبي أو أمي لزيارة عمتي حفيظة في باب السلسلة في القدس. أذكره فأذكر فتًى نحيفَ الجسم بشوشَ الوجه، أجعدَ الشعر، قليلَ الكلام، كثيرَ الاحترام للناس، ودودَ الملامح، يسخّر نفسَه لخدمة من حوله، محبوباً عند الجميع.
ولما دخلتُ الجامعة، وكنا في السنة الثانية سمعت خبر استشهاده في الأخبار، فذهبت في اليوم التالي للمشاركة في مسيرة وداعه. كان جنود الاحتلال عند سميراميس قد وضعوا حاجزاً يردّ الناس عن القدس، فسلكت مع بعض الشباب طريقاً جبلياً وتخطينا الحاجز، يومها وصلت متأخراً؛ فكان جهاد قد أُسرى به ليلاً ليلتحق بموكب الشهداء الأحياء.
حتى اليوم، ما زلت كلما تيسر لي الأمر بدخول القدس أزور قبره عند باب الأسباط ، حيث يرقد تحت ثرى الأقصى المبارك في مقبرة الشهداء، وبجواره رفيقه في الشهادة الحاج محمد صالح اليماني، شهيدان جمعتهما مقبرة ومجزرة، ولم يُكتب على الشاهد آيات ولا تاريخ الاستشهاد، ولكن كان في حياته القصيرة، ومآثره الكبيرة، وخاتمته عبرة لمن سمع فوَعى، أو نظر فاعتبر.
دعاني لكتابة قصة الشهيد جهاد بدر، حقُ الشهيد الذي رفعه الله، ويرفعنا بذكره ووفاءً للمسجد الأول الذي سالت دماؤه الزكية دفاعاً عنه، وعزّ عليّ أن قصته ظلت منسية لم تُسجل في الكتب، ولا الشبكة العنكبوتية، فكانت هذه السطور وفاءً لشهيدٍ كريمٍ، وصديقٍ قديمٍ.
عقبة السرايا
عاش جهاد الابن الأكبر مع عائلته في بيت مستأجر من غرفة واحدة في الطابق الثاني مقابل مدرسة دار الأيتام في عقبة السرايا . عندما كنت أزور دار عمتي عزيزة في عقبة السرايا، كنت ألحظ بقايا ملصق لصورة رجل مكتنز العضلات، وتحتها كُتب بخط اليد (بطل فلسطين الشهيد محمود الكرد)، وكان جهاد وكل شبان القدس يحفظون قصته ويرونها بفخر، فهو بطل كمال الأجسام في فلسطين، وكان لا يحط أيٌّ من الجنود الصهاينة الذين يعربدون في خان الزيت حيث يسكن.
وذات يوم بينما كان يمرّ بالخان استنجدت به طالبة فلسطينية اعتقلها الجنود، لأنهم وجدوا في حقيبتها علم فلسطين، فحاول تخليصها من أيديهم، واشتبك معهم بالأيدي، عندما أوسعهم ضرباً أطلقوا عليه النار فسقط شهيداً في عام 1976، وصار أيقونة للبطولة والشهامة ونجدة بنات البلد.
الطريقة التي كان يقصّ بها جهاد حادثة الاستشهاد للشهيد محمود الكرد، والتفاصيل التي يحفظها: كيف اقترب وكيف ضرب، وكيف تحدى وتصدى، وخاطر، وماذا قال وكيف ردّ على الجنود، تشعرك بالصدق والفخر، عرفت فيما بعد أن الشهيد محمود الكرد كان عند جهاد رمزاً ونبراساً كما للكثيرين من فتيان القدس العتيقة في تلك الفترة.
وذات يوم سلك جهاد ذات الطريق عندما استغاث به الأقصى، بعد أن عاش حياة صعبة نسجت خيوطها المعاناة وكحلها الصبر الجميل بدموع الرجاء.
عندما تقرأ الأم في كتاب القدر
تخرّج جهاد كهربائياً في مدرسة عبد الله بن الحسين الصناعية في حيّ الشيخ جراح عام 1980، فوجد نفسه مسؤولاً عن أسرة فيها أم وأخت وأربعة إخوة، أصغرهم أشرف في الرابعة من عمره، أسرة غاب عنها الأب المعيل يطلب رزقه، فكان على الأم أن تحضن أولادها بجناح مكسور كحمام الأقصى الذي بنى أعشاشه بين حجارة السور.
حمل جهاد واجبه تجاه أسرته فكان الأب والمعيل والمربي، وبدأت رحلة كفاح الشاب اليافع خافضاً لأمه جناح الذل من الرحمة، وحاضناً إخوته بصدر يفيض حباً وحناناً، محافظاً على زيارة جدته أم رشيد التي بلغ بها الكبر في بيت خاله، يزورها برّاً بها ويخدمها وهي المريضة القعيدة، فتبشّ له حين يقبل فرِحة سعيدة.
وبدأ الفتى يشعر بألم في رأسه، يتألم ويغالب وجعه، فقد صَبَرَ كي لا يُحزن أمه الصابرة، ولا يسرق البسمة من عيون إخوته الصغار. مع الأيام صار الألم غير محتملٍ، ألم يصدع الرأس ويقعده عن الخروج لعمله، ولما عرفت به الأم أخذته إلى مستشفى الهوسبيس في الواد. كشف عنه الدكتور أنطون الطرزي، وطلب تصوير الرأس بالأشعة المقطعية، ثم كانت الصدمة: “ابنك مصاب بسرطان في الرأس، ووضعه لا يحتمل التأجيل، ويجب إجراء عملية له في أسرع وقت”.
سقط الخبر على الأم كالصاعقة، فها هو مهجة القلب، وسند الظهر، وأمل العمر، وقرة العين مصاب بمرض خبيث يأكل دماغه وعمره الفتيّ. لم تصدق الأم ما سمعت من الطبيب، وأراد قلبها أن يُكذب ما تسمع، فراحت تطوف بولدها على أطباء في المقاصد والفرنساوي، ولكن المكتوب وقع، والبلاء حضر، فراحت الأمّ تضمّه لصدرها وتردد: “أنا ولا إنت يا جهاد، أنا ولا إنت يا نور عيني”. وكأن الأم وهي تردد هذه الكلمات تقرأ في كتاب القدر مصيرها، فكانت فاجعة أخرى حلت بالعائلة بعد حين.
مبروك للولد وآسفون للوالدة
في صباح يوم غائم من شهر كانون أول راحت الأم تتردد في البيت خائفة مرتبكة متوترة فاليوم عملية جهاد، عملية خطرة وربنا يستر، فسيفتحون رأسه ليخرجوا ذلك الورم الخبيث منه، وعلى جناح الأمل والرجاء راح قلب الأم يخفق بأدعية تستغيث الذي يسمع السرَّ وأخفى، وراح لسانها يتوسل لله بالأنبياء الذين مرّوا بالقبلة الأولى ألا يفجعها بابنها الحبيب.
لبس جهاد بيجامة زرقاء جديدة وراح يمشط شعره وكأنه لن يُحلَق بعد لحظات، لاحظ قلق أمه واضطرابها فقال لها مطمئناً مداعباً: “شوفي يمة، بيجامة جديدة كأني عريس، متى ستزوجينني وتفرحين بي؟”.
في المستشفى وبعد ساعاتٍ كانت على الأم أطول من الدهر، وأمرّ من علقم الصبر، خرج الطبيب أنطون الطرزي من غرفة العمليات وبشّر الأم أن العملية تمت بنجاح، ويحتاج جهاد لبعض جلسات الكيماوي استكمالاً للعلاج، وأن جهاد نُقِلَ للعناية المركزة. وعندما رأت الأم جهاد في غرفة العناية المركزة وقد لُفّ رأسه بالشاش الأبيض، وتورّم وجهه، وازرقت جفونه، ضربت بيدها على صدرها، وصاحت ووقعت على بلاط الغرفة، جاءت الممرضات ونقلنها إلى غرفة مجاورة.
وبعد الفحوصات والتحاليل، ظهر بأن الأم لم تقع من الصدمة برؤية ابنها غارقاً في الشاش الأبيض، بل وقعت لأن مرضاً خبيثاً كان قد استوطن أمعاءها منذ سنين، فكان تحقيقاً لدعائها الذي قرأته في كتاب القدر: “أنا ولا إنت”.
خرج الأطباء، وأسرّوا لأخيها رشيد حقيقة مرض الأم، وأن حالتها صعبة تستدعي بقاءها في المستشفى للعلاج والمتابعة، وكأن لسان حالهم يقول: “مبروك للولد، وآسفين للوالدة”. تعافى جهاد من آثار العملية الخطيرة، واسترد بعض قواه، كان فرحاً بنتيجة العملية وأنه سيكون سبباً في عودة السرور لأمه بعد شهور من القلق والتوتر. ولما حملته رجلاه قصد أمه في سريرها، كانت علامات المرض بادية عليها، شحب وجهها، وتلاشت شهيتها للطعام، وراحت تتقيأ ما تأكل، وصار جسدها يذوي ووزنها ينقص بسرعة.
في غرفة الأم في مشفى المقاصد كان هناك خمسة أسرّة، فأصر جهاد على أن ينتقل لينام عندها ويرعاها ليل نهار رغم مرضه وانتظاره لجلسات الكيماوي المؤلمة. ولما عرف جهاد أن أمه مصابة بسرطان المعدة، مرض الموت البطيء، كرّس كل دقيقة من وقته، وسخّر كل ما تبقى من قواه ليقوم بخدمتها ورعايتها.
تلك أيام ضرب فيها جهاد مثلاً أعلى في برّ والدته. كان جهاد يد الحنان والوفاء التي تمسح جبين أمه المحموم، كرس جهده لراحتها، وكان يرفض أن تعتني بها الممرضات، يطعمها بيده لقيمات يقنعها بصعوبة أن تأكلها، يقلّم لها أظافر يديها ورجليها، يساعدها في حمامها، يسرح لها شعرها، يتابع كل فحص وحبة دواء، وعندما تتدخل الممرضات لخدمتها، أو تأتي إحدى القريبات لرعايتها كان لا ينفك يردد جملته القصيرة المليئة بمعاني البر والوفاء والإيمان بوعد الله: “ثواب أمي لي”.
مواقف جهاد، وتردي حالة الأم جعل كل من في مستشفى المقاصد يتضامن معهما، ويحاول تقديم ما يمكن لإنقاذ الأم، وكان منهم الدكتور حمد السنجلاوي الذي قرر أن يجري لأم جهاد عملية استئصال المرض الخبيث من المعدة، عملية احتمال نجاحها قليل، ولكن المضطر يركب الصعب.. والغريق يتعلق بقشة.. والمؤمن لا ييأس من رحمة الله. شرح الدكتور حمد السنجلاوي لجهاد خطورة العملية، ونسبة نجاحها غير المطمئنة. وافق جهاد على العملية مستمسكاً بحبل الرجاء بالله، وحريصاً على أية بارقة أمل، ودخلت الأم غرفة العمليات في مستشفى المقاصد، ومضت ساعات من الترقب أثقل من الجبال، ثم خرج الطبيب من غرفة العمليات وعلامات خيبة الأمل مرسومة على وجهه.
بعد العملية تدهورت حالة الأم بسرعة، فلم تلتئم المعدة المجروحة، ودب القنوط واليأس في الأهل في نظراتهم وكلماتهم وهمساتهم. وحده جهاد بقي مُصراً على أن ينقذ أمه، سمع عن طبيب يهودي خبير في أمراض سرطان المعدة في مستشفى هداسا، ذهب إليه ودفع له ما طلب من المال، وأتى به إلى مستشفى المقاصد لعله ينقذ الأم، كشف الطبيب عن الأم واطّلع على نتائج الفحوصات وناقش الأطباء الذين عالجوها، وقدم لهم نصيحته.
لم تتحسن صحة الأم، وأصرّ جهاد على إنقاذ أمه مرة أخرى، فذهب جهاد إلى طبيب أعشاب من منطقة نابلس، وأحضره للبيت، وقدم لها المعالج ما يعرف من وصفات الطب الشعبي، من خلال وصفات قضى الليل في تحضيرها، ولكن المرض الخبيث كان عصياً.
كانت الأم تطلب أن تعود لبيتها بين الفترة والأخرى، ولسانها يتوسل الأطباء: “أولادي صغار بخاف عليهم لوحدهم في الدار”. ويحملها جهاد للبيت، ويعيدها إلى المستشفى، رغم البرد والشتاء وصعوبة الطريق، حتى جاء الطبيب يوماً، وقال لجهاد: “أمك في آخر ساعاتها، ولم يبق لدينا ما نفعله”.
حملها واهنة ضعيفة في رحلتها الأخيرة إلى البلدة العتيقة، أدركت الأم أنها في ساعاتها الأخيرة، فطلبت من جهاد أن يأخذها إلى بيت أمها في باب السلسلة، وقالت له مودعة: “خليني أموت في بيت أمي، عشان يظل أولادي في بيتنا يتذكروني وأنا عايشة”. وحملها جهاد بعد الظهر لبيت والدتها أم رشيد، وهناك في بيت الأم اجتمع الأهل والأولاد والأقارب والجيران، والأم في فراش الموت لا وصية لها إلا أولادها، وجهاد عند رأسها يقرأ القرآن، ويودع أمه بخير الكلمات.
في الساعة الحادية عشرة من يوم الاثنين 30 آذار عام 1981 خمدت أنفاس الأم عن 41 عاماً، وسكت قلبها، فانفجر البيت نحيباً مرّاً، وهبط الحزن غيمة ثقيلة على وجوه الحاضرين، ولكن جهاد ضم المصحف لصدره، وكأنه يضم أعزَّ المعزين بأمه. ولما علم طلاب مدرسة دار الأيتام بنبأ وفاة المرأة التي كانت تعاملهم بحنان الأم أعلنوا الحداد وعطلوا الدراسة، وراحت سماعات المدرسة تتلو آيات من القرآن تودع جارتهم التي كانت تحنو عليهم كأبنائها، وشاركوا بأكاليل الورد في الجنازة، وتلوا الفاتحة على روحها قبل أن يودعوها في مقبرة الرحمة في باب الأسباط.
الأحد 11 نيسان 1982
صباح ذلك اليوم الربيعي الدافئ، أوصل جهاد أخاه الصغير أشرف للروضة وعاد للبيت، وكان حريصاً على أن يرافق أخاه في الذهاب والإياب، وذلك لأنه حدث ولم يعد أشرف من الروضة يوماً، وراح إخوته يبحثون عنه قلقين متوترين، ثم عثروا عليه بعد عناء عند قبر أمه في باب الأسباط.
بينما كان جهاد منهمكاً بتنظيف ما خلفه إخوته من صحون بعد طعام الإفطار، كان الأقصى في الساعة العاشرة صباحاً على موعد مع مستوطن متطرف حاقد من زبانية حركة كاخ يدعى ( ألن هاري غودمان) في الـ 37 من عمره، هاجر إلى دولة الكيان الصهيوني في عام 1977 من ولاية بالتيمور في الولايات المتحدة الأمريكية، تدرب على السلاح في الجيش، وتشرب الحقد على الأقصى من حركة كاخ التي من أهدافها هدم الأقصى وبناء الهيكل.
تسلل غودمان من باب الرحمة بلباسه العسكري، حاملاً بندقية إم 16، وحقيبة من المتفجرات، بهدف وضعها داخل مغارة قبة الصخرة. لاحظ الحارس على باب قبة الصخرة محمد صالح اليماني المستوطن وما يحمله، فسارع دون تردد وخطف سلاح المستوطن الجبان، وبينما السلاح بيديه صاح به أبو خليل الأنصاري رئيس السدنة العاملين في الأقصى: “لا تقتله يا صالح، لا تقتله.. رح يبنوا له مقام جوّا الأقصى”. استجاب صالح للتوسّل، وألقى بسلاح الرشاشّ تجاه عناصر شرطة الاحتلال الذين تجمّعوا في المكان. وسريعًا وبخفّة سارق خطف المستوطن سلاحه، وأطلق 16 رصاصة توزّعت في جسد صالح ، وبقيت أثارها على أحد أبواب قبّة الصخرة؛ فيما تروي ثيابه الموجودة في متحف الأقصى الحكاية للزائرين.
وبدأت مكبرات الصوت من الأقصى تطلق صرخات النجدة، وتهيب بأهل القدس المسارعة للدفاع عن أولى القبلتين، وصل النداء لمسامع جهاد، وهو واقف على المجلى يغسل ما تبقى من الصحون بعد إفطار إخوته، فألقى ما بيديه، ونزل مسرعاً ملبياً نداءات الاستغاثة، رأته جارتهم أم هاني يسرع نازلاً، فتوسلت إليه ترجوه: “ارجع بلاش يصير لك إشي، بيضيعوا إخواتك”. فرد عليها: “لهم الله يا خالتي، هذا الأقصى بنادي …!!”.
ليلة ضيافة جهاد عند أمه
خرج جهاد مسرعاً من بيته يلبي نداء الأقصى، ركض هابطاً عقبة السرايا باتجاه الواد، مئات الحجاج النصارى القادمين للاحتفال بعيد الفصح يغيرون طريقهم الصاعد نحو كنيسة القيامة، وهم يلحظون حالة الاستنفار التي راحت تسود المكان، شبان من كل شرايين حارات القدس يتدفقون نحو المسجد الأقصى، تركوا محلاتهم وأماكن عملهم، فقد جاء ما هو أكبر من المال والأشغال، هذا يحمل سكيناً وهذا زجاجة فارغة، وهذا عصا مكنسة فقد حان وقت النفير خفافاً وثقالاً.
رأى جهاد الشبان يتسلحون بما توفر، وعند مطعم في سوق القطانين حمل سيخاً للشواء، وواصل طريقه نحو مسرى الأنبياء، مع عشرات الشباب دخل جهاد الأقصى من باب الحديد. دخل جهاد باحة الأقصى ودوي الرصاص والهتافات تملأ المكان، قنابل الغاز تنشر في سـماء المسجد غمامة الدمع، صعد جهاد مع جموع الشباب درج قبة الصخرة، كان المجرم قد هبط من أعلى الدرج يطلق النار، يطلق النار بينما شرطة الاحتلال تطلق الغاز، صرخات الله أكبر تعلو فوق صوت الرصاص، أنفاس الشباب اللاهثة تغالب الغاز الخانق، وسيارات الإسعاف بدأت تنقل الجرحى والمختنقين بالغاز.
صاح صوت جهير مستغيثاً: “إسعاف، عندنا جريح..”.
تقدم المسعفون يرفعون شاباً من بين الجموع على حمالة، ركضوا به نحو سيارة الإسعاف باتجاه باب الأسباط، وركض معهم الأخ الأوسط عامر، فقد عرف أن المصاب أخوه جهاد، رصاصة واحدة، دخلت الصدر واخترقت القلب، فانفجرت منه نافورة دم سخين يتدفق قوياً، ومن حيث تدفق الدم من قلب جهاد صعدت روحه إلى بارئها في سيارة الإسعاف، وصل جهاد إلى مستشفى المقاصد شهيداً، فسُجّي بجوار الحاج صالح اليماني، وانشغلت طواقم المشفى في معالجة ستين جريحاً وصلوا للمشفى.
تدفق الناس إلى مشفى المقاصد، وعند ساعات المساء كانت قائمة الجرحى تضم خمسة وستين جريحاً ومصاباً بالاختناق، واثنين من الشهداء: الحاج صالح محمد اليماني ابن الثالثة والستين، وجهاد بدر ابن الحادية والعشرين. نجح الشباب بتهريب الشهيدين من المقاصد إلى المسجد الأقصى، رغم حواجز الجنود، وحالة الاستنفار وإغلاق الحارات. بعد صلاة العشاء شيع الشباب الشهيدين، وتقرر دفنهما داخل سور البلدة القديمة عند باب الأسباط كرامة لدفاعهما عن الأقصى، تلك البقعة صار اسمها فيما بعد مقبرة الشهداء. في تلك الليلة نام جهاد ضيفاً بجوار أمه الراقدة تحت الجهة الشرقية من السور.
في اليوم التالي لرحيل جهاد ورفيقه اليماني أقيم بيت عزاء للشهيد جهاد في بيته في عقبة السرايا، وجاء الجيران والمعارف وأهل القدس وكل يحدث عن موقف للشهيد كان فيه تقياً ونبيلاً وطيباً وكريماً.
وهنا بعض من العناوين الإخبارية في تلك الفترة:
- الشيخ سعد الدين العلمي رئيس الهيئة الإسلامية العليا يعقد مؤتمر صحفياً ويدعو للإضراب العام في فلسطين لمدة أسبوع.
- انتفاضة شاملة في الضفة والقطاع وفرض منع التجول على حلحول والظاهرية ورفح وبلاطة وجباليا والجلزون.
- وكالات الأنباء تعلن أن غودمان قتل الشهيد اليماني وأصاب أربعة آخرين، وأن الشرطة وحرس الحدود هم الذين أطلقوا النار على جهاد وأصابوا خمسين آخرين.
- الولايات المتحدة تُفشل مشروعاً في مجلس الأمن يدين الممارسات الإسرائيلية في القدس، وتعتبر القاتل مختلاً عقلياً!
- الدكتور حاييم ميلسون رئيس الإدارة المدنية يأمر بإغلاق الجامعات الفلسطينية، في محاولة لاحتواء ردة الفعل العنيفة على أحداث الأقصى.
- فرضت سلطات الاحتلال الإقامة الجبرية على بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس في منزله.
- انفجار عبوتين ناسفتين في محطتين للجنود في عسقلان وأسدود.
- حركة كاخ العنصرية ترسل مظاريف لأهل الشهداء ولأسر من القدس فيها ست كلمات : “اقتل عربياً وادفع ديته دولاراً واحداً”.
- أسماء الشهيدين جهاد بدر ومحمد صالح اليماني على ألسنة الفلسطينيين الثائرين وعلى حيطان الوطن مع هتافات وعبارات طلب الانتقام.
ولكن ماذا حدث للمجرم غودمان؟!
ألقت الشرطة الصهيونية القبض على المجرم القاتل هاري غودمان، وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة بالإضافة إلى 40 عاماً لقتل حارس الأقصى، ومحاولة قتل أربعة آخرين، المحكمة اعتبرت جهاد مصاباً بالحادث. ولكن هذا لم يكن نهاية القصة. استأنف ألن هاري غودمان حكم المحكمة، فتم تخفيض العقوبة إلى السجن لمدة 15 عاماً، مع المنع من دخول دولة إسرائيل لمدة لا تقل عن 8 سنوات، استأنف غودمان على قرار الإبعاد، وتم تخفيض فترة الإبعاد إلى سنة واحدة، وسمح له بالعودة إلى دولة الاحتلال. وبذلك أفرج عنه في العام 1997. وبحسب بعض المصادر، عاد آلن للعيش في القدس حيث ارتكب جريمته.
بعد ثلاثة عشر شهراً من وفاة الأم مبطونة استشهد الأخ الكبير جهاد برصاص الصهاينة، وبعد شهرين من استشهاد جهاد غرق الصغير أشرف في بركة عند قصر هشام في أريحا، وفي حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله. فطوبى لأسرة مقدسية ادخرت رصيداً في خزائن البرزخ ثلاثة شفعاء.. يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم يجتمع الخصوم أمام رب العالمين.