في ظل تزايد النقد للمُمكنات السياسية للضفة الغربية وعدم قدرتها على توليد فعلٍ يرتقي لما تقدّمه غزة، يقدّم عنان الحمدلله في هذه المقالة البحثية المطوّلة الإجابة عن سؤال: كيف لعب عنف إعادة هيكلة المجتمع الفلسطيني دوراً في حجب الممكنات المختزنة لشعبٍ يقبع تحت الاحتلال، وكيف قادت عمليات الهدم والتجريف إلى تفكيك البنى التنظيمية ومساهمتها في توليد الفعل، مجادلاً بأنّ «الحياة الطبيعية» و«التنسيق الأمني المقدس» باتا وجهين للفكرة عينها.

****

 

في التفريق ما بين النظرية التقليدية والنظرية النقدية في مقال جاء تحت عنوان «النظرية التقليدية والنقدية»، أرسى «ماكس هوركهايمر»، الذي كان في حينه مديراَ لمعهد البحوث الاجتماعية، الأسس والتوجّهات البحثية لمدرسة فرانكفورت بالتركيز على إيجاد الصلات بين الحياة الاقتصادية للمجتمع والحالة النفسية للأفراد في علاقتها مع الثقافة. تأتي هذه المقاربة العابرة للتخصصات في دراسة المجتمع بعد مدّةٍ زمنية طويلة من الفصل المزمن بين التخصصات الذي أدى إلى تذرير التوجهات البحثية الشاملة في دراستها للمجتمع، من خلال تقديم بديلٍ يجمع ما بين وجهات نظرٍ مستقاة من تخصصات متعدّدة كالاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع والنظرية الثقافية والتاريخ الخ.. 

من خلال هذا المسعى فقط، كان من الممكن التغلّب على الثنائية التقليدية ما بين الاقتصاد السياسي من جهة والدراسات الثقافية من جهة أخرى، متجاوزاً اختزالية منظور وحقل الاقتصاد من ناحية، والتفسيرات الثقافوية من الناحية الأخرى. قادت هذه المقاربة «هوركهايمر» أيضاً للتعبير عن الحاجة إلى الفحص المزدوج لصلاحية الأطر النظرية في علاقتها مع الواقع، مؤكداً على أن «الصلاحية الحقيقية للنظرية تعتمد على امتلاك المقترحات المشتقة توافقاً مع الحقائق الواقعية. وفي حال تناقض التجربة والنظرية مع بعضهما، يجب على الباحث فحصها وإعادة النظر فيها، فإمّا أن العالم قد فشل أن يراقب بشكل صحيح أو أن مبادئ النظرية يعتريها الخطأ». [1] 

بطريقة مماثلة، ولكن في سياقٍ مختلف أقرب إلى سياقنا البحثي، ناقش «فرانتز فانون» ذات المنطق من خلال الإعلان أنّه يجب علينا توسيع نطاق التحليل الماركسي عندما يتعلق الأمر بتحليل السياقات الاستعمارية، فلا تتناسب الماركسية وتفسيراتها والواقع الاستعماري. بالنسبة لـ«فانون»، وفي سياقٍ استعماري، فإنّ البنية التحتية الاقتصادية هي في ذات الوقت بنية فوقية. [2] وبلغةٍ أخرى، يجب النظر إلى الاستعمار وحركته كبنية تحتية للاقتصاد السياسي للمُستعمَر. بناءً عليه، تسعى هذه الورقة إلى وضع تصوّرٍ نظري لتفسير الواقع الفلسطيني الاستعماري وتجلّياته المختلفة، وخصوصاً الاقتصاد السياسي لمكافحة التمرد، آخذةً الأفكار الآنفة لمدرسة فرانكفورت و«فرانتز فانون» كنقطة انطلاق، ومن خلال الاعتراف بأنّ النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت هي نقد غربي لسياق غربي، ممّا يحدّ من قدرتها على قراءة الواقع الاستعماري المعقد كالواقع الفلسطيني، ولكنّ ذلك لا يعني الانفكاك الكلّي عن محدّداتها البحثية التي استعرضناها.

وفي سعيها هذا، تحاول هذه الورقة تقديم تفسيرٍ للمنطق الناظم لعمل السلطة الفلسطينية منذ نشأتها كوعاء وقناة احتواء. فالكلمات المفتاحية «حياة طبيعية» و«التنسيق الأمني المقدس» وجهان لنفس الفكرة، وهي بُنى لما يسمّى بعملية السلام (الجوانب الاقتصادية والاجتماعية للعملية) أكثر منها كلمات أو سياسات لمن هم في قمّة الهرم السياسي، وقد تمّ الاشتغال عليها منذ نشأة السلطة وجرى تكثيفها عقب الانتفاضة الثانية. لذا، لم يكن شكر وزير الخارجية الأمريكي «بلينكن» لمحمود عباس لحفاظه على «الاستقرار» و«الهدوء» في الضفة خلال الفترة الماضية إلّا نتيجة للمجهود الأمريكي في الأساس والذي ساهم في تأسيس تلك البُنى وتدعيمها. 

ولذلك، فإنّ هذه الورقة تحاول أن تؤطّر وتقدّم تفسيراً لسلوك السلطة من خلال النظر إليه ضمن الاقتصاد السياسي لمكافحة التمرد، والذي يستخدم بلاغات شعبوية متعدّدة الطبقات (من ‘أصحاب الطلقة الأولى’ إلى ‘بناء الدولة والسلاح الشرعي الواحد والوحيد للسلطة’) لتبرير سلوكها السلطوي تجاه فئات من المجتمع لبقية المجتمع. تسعى هذه الدراسة للإجابة عن سؤال: كيف يمكن لنا فهم «النيوليبرالية السلطوية» للسلطة الفلسطينية في سياق المستعمَرة الما بعد-استعمارية المسمّاة بالأراضي الفلسطينية المحتلّة لعام 1967؟ بلغة «اخيل ميمبي»، كيف تمّت صناعة ومأسسة نظام المعاني كعالم سوسيو-تاريخي وجعل هذا النظام واقعاً، وتحويله إلى جزءٍ من وعي الناس المستهدف ووعي المرحلة؟ [3] 

ولعلّ راهنية هذا البحث في هذا الوقت تعود إلى تزايد النقد للمُمكنات السياسية للضفة الغربية وعدم قدرتها على توليد فعل سياسي أو عسكري يرتقي لما تقدّمه غزة، محاولاً الإجابة عن سؤال كيف لعب عنف إعادة هيكلة المجتمع الفلسطيني دوراً في حجب الممكنات المختزنة لشعبٍ يقبع تحت الاحتلال، فضلاً عمّا أصاب البُنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية من عمليات هدم وتجريف أدّت إلى تفكيك البنى التنظيمية للناس التي تساهم في توليد الفعل. وقد كان أبرز تجلياتها ظهور ما يسمّى بوهم «الحياة الطبيعية» التي تمشي يداً بيد مع «التنسيق الأمني المقدس»، فكلاهما رأس جبل الجليد الظاهر منه لا أكثر لعمليات الهدم والبناء العنيفة. ومن ناحية أخرى، تنبع راهنية ما تتناوله هذه الدراسة من تزايد الحديث اليوم عن الترتيبات السياسية لما بعد طوفان الأقصى في غزة؛ أيّ تلك المشاريع التي تشبه ما مرت به الضفة الغربية على مدار أكثر من ثلاثة عقود، في محاولة لتجاوز فخاخ الهندسة الاجتماعية والاقتصادية بغطاء سياسي.

ما هو الاقتصاد/السياسي الفلسطيني في الرأسمالية المعولمة؟

في سياقٍ استعماري كما في فلسطين، ليس من السهل تصوّر أو دراسة الاقتصاد/السياسي في الشرط الاستعماري، حيث يُدمج الاستعمار الكلاسيكي المباشر بالحكم الاستعماري غير المباشر، من خلال نخبة متعاونة من السكّان المحليين ومؤسساتهم، بالاستعمار الجديد القائم على التبعية الاقتصادية والإخضاع السياسي. [4] ولذلك، فإنّ الديناميكيات والاستراتيجيات التي تتبنّاها القوى الاستعمارية تعيد هندسة التفاعل بين ما هو «سياسي» وما هو «اقتصادي»، أو ما يتمّ تعريفه بكونه سياسياً وما يتمّ تعريفه بكونه اقتصادياً، من أجل إخضاع الأرض وسكانها.

بناءً على ذلك، وفي محاولةٍ للإجابة عن سؤال «أين الاقتصاد الفلسطيني؟»، تناقش الأستاذة ليلى فرسخ بأنّ «موقع وحدود الاقتصاد الفلسطيني قد تغيّر وتحوّل خلال مسار المئة سنة الماضية. ومعرفتنا حوله ملتزمة زمنياً ومكانياً حيث ارتبط تحليلنا بالتكوين السياسي المحدّد للنضال الفلسطيني في مراحل زمنية متعددة من التاريخ، وخصوصاً في محاولته لمقاومة أو التعايش مع أو رفض الاستلاب الصهيوني». ولهذا السبب، وبالنظر إلى الأدبيات المنتجة حول الاقتصاد الفلسطيني في ربع القرن الفائت من كتابة فرسخ، يمكن الخروج بخلاصة مفادها بأنّ هذه الأدبيات متمركزة حول الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967، وتتجاهل التكتلات الفلسطينية في المخيمات خارج فلسطين التاريخية، وتلك التي تعيش داخل ما يُسمّى بـ «الخط الأخضر». [5] 

وبهذا الخصوص، تدّعي هذه القراءات الاقتصادية التقليدية والتقارير الدولية، كما يدّعي بعض الخبراء أيضاً، بأنّ فلسطين التاريخية مقسمة إلى منطقتين وشعبين واقتصادين، الأول، لـ «إسرائيل»، والآخر لدولة فلسطين التي لم تولد بعد. وفيما يختص بالأول كقوة احتلال، فيتمّ تحليله وفقاً للسردية التي تركّز على تميّز مساره الاقتصادي وارتباطه بالعالمي، بينما يرتبط الثاني بالسلطة الفلسطينية وما نصّ عليه القانون الأساسي حول كون الاقتصاد الفلسطيني اقتصاد سوقٍ حر داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة لعام 1967. ضمن هذه القراءة، هنالك ادعاء بالتكافؤ بين الاقتصادين بناءً على السيناريو المتفائل حول حلّ الدولتين، بينما تقول الوقائع على الأرض قصةً أخرى. فاقتصاد فلسطين اليوم هو «اللانظام الاقتصادي» (Nonsystem Economy) لجيوب جغرافية غير متجاورة ومبعثرة تحت السيادة «الإسرائيلية»، والتي تضمّ المناطق المصنّفة بـ «ألف» في الضفة الغربية، وباقي مناطق الضفة الغربية المصنفة بـ «باء» و«جيم»، وتضمّ الثالثة القدس الشرقية التي تعاني من النهب والإلحاق، والرابعة تضمّ قطاع غزة المحاصر.

يمتلك كل جيب من هذه الجيوب الجغرافية صيغته من التبعية للاقتصاد «الإسرائيلي»، وما هو مشترك بينها أنّها تعاني جميعاً من الهيمنة (Domination) والتحييد/التدجين (Pacification) الاقتصادييْن منذ العام 1967، وما يرتبط بها من الإطار الاستراتيجي للسيطرة على هذه الجيوب. المبدأ الأول، أي الهيمنة الاقتصادية، فإنّه يمثّل المنطق الاستعماري التقليدي في السلب ونزع الملكية والطرد وإخضاع السكان «الأصليين»، والسيطرة على الموارد الاقتصادية والاستغلال القائم على العنف البنيوي. وبناءً عليه، يطرح طارق دعنا الهدف النهائي من الاستعمار الاستيطاني ألا وهو «تدمير المجتمعات المحلية عن طريق إقامة مجتمع استعماري جديد على الأراضي المصادرة. لذلك تحمل الهيمنة الاقتصادية للقوى الاستعمارية الاستيطانية أهدافاً تطهيرية وإحلالية بطبيعتها». [6]

المبدأ الاستراتيجي الثاني، أيّ التحييد والتدجين الاقتصاديين، مصممٌ لتطبيع الاحتلال من خلال تقديم تحسيناتٍ شكلية على الظروف المعيشية للسكان الأصليين، بهدف تقويض أية سياسة وتوجّه راديكالي تجاه الاستعمار. من الأمثلة المبكرة على هذا المبدأ، والذي يربط الاقتصاد بالسياسة، هي سياسة الجسور المفتوحة لوزير الدفاع «الإسرائيلي» الأسبق «موشيه دايان»، والتي صُمّمت لجعل الاحتلال غير مرئي بينما تحتفظ «إسرائيل» بسيادتها وسيطرتها الكاملة على السكان والأرض. بناءً على ذلك، فإنّ الجهود التي تسعى إلى جعل الاحتلال غير مرئي لم تقتصر على سياسات الاحتلال، بل طالت الأدبيات الاقتصادية منذ عام 1993، والتي تفادت إمكانية جعل الاستعمار إطاراً تحليلياً، بذريعة عدم قابلية هذا الإطار للتطبيق في المنطق العقلاني لعلم الاقتصاد. [7] 

بهذا الصدد، هنالك عدد من المحدّدات والقيود التي ترتبط بالطبيعة التقليدية للعلوم الاجتماعية عموماً، وحقل الاقتصاد على وجه الخصوص. أولاً، طبيعتها المتمركزة أوروبياً؛ من خلال تاريخها المؤسساتي الممتدّ داخل النظم الأكاديمية، فإنّها تُعدّ ثمرة النظام العالمي الحديث حيث المركزية الأوروبية تأسيسية لجيو-ثقافة العالم الحديث. بلغة «إيمانويل وولشتراين» (Immanuel Wallerstein)، عند الإشارة إلى المركزية الأوروبية، فإنّنا لا نشير إليها بالمعنى الخرائطي فقط، بل بالمعنى الثقافي أيضاً. كما أنّ العلوم الاجتماعية ظهرت وتطوّرت كاستجابة لإشكاليات أوروبية تبلورت في نقطةٍ محدّدة من التاريخ عندما سيطرت أوروبا على النظام العالمي. فلا مفرّ من كون اختيار عنوان الإشكالية والموضوع، وإطاره النظري والمنهجية والابستمولوجيا، قد عكس المحدّدات التي وُلدت من أجلها. ثانياً، إنّ العلوم الاجتماعية والإنسانيات تنتج معرفةً على صلة بـ، ومركَّزةً على، وموجّهةً نحو الدولة-الأمّة كوحدة تحليل. فمثلاً، يناقش «تيموثي ميتشل» بأنّ الاقتصاد، كحقلٍ بُني تاريخياً باعتباره فضاءً مرتبطاً جوهرياً بخلق الدولة-الأمّة، هو نتاج النظام الإمبريالي أيضاً، هيكل الحكومة والإدارة. تؤكد هذه النظرة على الفكرة المتمركزة أوروبياً حول تطور المجتمعات في إطار الدولة-الأمّة، من حيث التطور الخطي (linear evolution) لوسائل الإنتاج من عصر ما قبل الرأسمالية إلى الرأسمالية. ولذلك، فإنّ طبيعة العلوم الاجتماعية المعولمة، بما فيها الاقتصاد، تدّعي بأنّ ما جرى في العالم الغربي قد أنشأ نمطاً يمكن تطبيقه وتقليده عالمياً. [8]

ووفقاً للاقتصادية «ديفيكا دوت» (Devika Dutt)، إنّ التيار الاقتصادي السائد في تحليله لتطور الرأسمالية متمركز غربياً في طبيعته، وعلى درجة عالية من التشويه والانتقائية، «فهو يتجاهل علاقات القوة والاضطهاد والتغيّرات الكيفية في العلاقات الاجتماعية… والأهم في ذلك، دور الاستعمار». ومن هنا، أخذ وصف تطور الرأسمالية شكل التطور العالمي، حيث يتكشّف التاريخ وفقاً لمسارٍ مقدّرٍ مسبقاً، وهو المسار الغربي. [9] كان لهذا التطور أثره على ما سُمّي بإرث الليبرالية للقرن التاسع عشر، والذي يعني تقسيم ما هو اقتصادي وسياسي وثقافي واجتماعي إلى مجالات مستقلة. وبناءً على «وولشتراين»، قادت هيمنة الليبرالية كالجيو-ثقافة (geoculture) للنظام العالمي الحديث إلى بناء هذه المجالات المستقلة وتجسّدها في حقول معرفية منفصلة، مؤكداً على أنّ «إرث القرن التاسع عشر للعلوم الاجتماعية هو تقسيم التحليل الاجتماعي إلى ثلاثة مجالات، ثلاثة منطقيات (logics)، ثلاثة مستويات؛ ما هو اقتصادي وما هو سياسي وما هو سوسيو-ثقافي. تقف هذه التقسيمات حاجزاً أمام تقدمنا الفكري».

نستطيع أن نرى هذه المحدودية وهذه القيود وتداعياتها على السياق الفلسطيني، خصوصاً في الاهتمامات الأكاديمية ورسم السياسات الاقتصادية، من خلال ملاحظة التركيز على بناء الدولة الفلسطينية المنفصلة عن «إسرائيل»، وكيف قادت هذه التطلّعات المدعومة من الحركة الوطنية الفلسطينية والمجتمع الدولي إلى تجاهل الاستعمار الاستيطاني «الإسرائيلي» وتفاديه، أملاً بأن إقامة الدولة الفلسطينية سيعكس من أثر الاستعمار الاستيطاني. لهذا السبب ولوقت طويل، تجاهل التيار الأكاديمي الاقتصادي السائد الاستعمار كمكوّن اقتصادي بنيوي في التحليل. يجب أخذ هذه القيود الابستمولوجية وتطبيقاتها السياسية في الحسبان وضرورة أن تنعكس على دراستنا للاقتصاد السياسي للأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967 في علاقته مع النظام الرأسمالي العالمي، ضمن مقاربةٍ حساسة للسياقات. 

ومن هنا تأتي الرؤى القيّمة لـ «رامون جروسفوجويل» حول جيو-سياسية المعرفة في فهم الرأسمالية كالنظام الاقتصادي العالمي. إذ يجادل بأنّ النظرة المتمركزة أوروبياً، حيث الرأسمالية كنظام عالمي، نشأت من تنافس القوى الأوروبية الإمبريالية في سعيها المحموم لإيجاد طرق ومسارات قصيرة نحو الشرق، ونتيجةً لذلك تمّ «استكشاف» الأمريكيّتيْن. ومنذ ذلك الوقت، اعتُبرت الرأسمالية بوصفها النظام الاقتصادي الوحيد لتراكم رأس المال والعمل لغرض إنتاج السلع وبيعها للربح في السوق العالمي. وبالنسبة لـ «جروسفوجويل»، لم تكُن هذه الرؤى والعناصر الوحيدة في التحليل، فقد أثار سؤالاً ابستمياً مفاده: كيف يمكن فهم النظام العالمي الرأسمالي من قبل السكان الأصليين بدلاً من الأوروبيين. كانت إجابته بأنّ الرأسمالية لم تصل إلى الأمريكيّتيْن كنظام اقتصادي فقط، فهذه النظرة اختزالية للنظام العالمي. لذلك، ومن موقع بنيوي للسكان الأصليين في الأمريكيّتيْن، ما وصل كان أكثر مما أقرّته بردايغمات الاقتصاد السياسي وتحليل النظام العالمي؛ ما وصل هو تراتبيات بُنيت في الزمان والمكان الأمريكيّين وقائمة على كونها أوروبية، رأسمالية، عسكرية، مسيحية، بطرياركية بيضاء. [11]

في السياق الفلسطيني، يشير خالد عودة الله، الباحث في العلوم الاجتماعية وفلسفتها، إلى العلاقة بين النماذج النظرية المعولمة والسياق الاستعماري في فلسطين. فيقول «يمكن تشخيص تكثيفٍ لعملية يمكن تسميتها بـ ‘نزع الخصوصية عن الحالة الفلسطينية’، كأحد تبعات الانخراط في نظام المعرفة المُعولم بأبعاده الفلسفية والاقتصادية. وهنا أتساءل: ما الذي يبقى من فلسطين إذا ما دُرِست بالمعنى المزدوج (الدرس بمعنى البحث وبمعنى الدّوس) كتجلٍّ محليٍّ لنموذج نظري مُعوْلَم؟ وماذا يبقى من فلسطين إذا ما تحوّلت إلى discipline كذلك بالمعنى المزدوج (بمعنى تخصّص أكاديمي وبمعنى التأديب)؟ فعلى سبيل المثال: ما الذي يبقى من تجربة اللجوء إذا ما دُرِست كأحد أشكال الهجرة القسرية، وما الأبعاد السياسية لهذا الدرس؟ وما الذي نخسره معرفياً عندما نسمّي الاستشهادي ‘انتحاريًا’ لكي يتلاءم مع اشتراطات النظرية، وكيف تقلّم هذه العملية الظواهر وتشذّبها لتُستَدخل في ‘نظام الأشياء’ للمعرفة الغالبة». [12] 

على خطى «جروسفوجويل» وعودة الله، يجب علينا أن نتساءل: كيف تتموضع الراسمالية-النيوليبرالية كنظام عالمي معولم في السياق الاستعماري الفلسطيني؟

عملية السلام: السياسة كمكافحة للتمرّد

«عملية السلام»، مفردتان لعبتا دوراً بالغ الأهمية فيما سُمّي بالصراع الفلسطيني- «الإسرائيلي» على مدار ما يقارب الثلاثة عقود من الزمن، بحثاً عن «السلام المفقود» كما عنوَن في حينه مبعوث السلام للشرق الأوسط «دينيس روس» مؤلّفه. في الوقت الذي وصف فيه إدوارد سعيد تلك المفردات على أنها قتل وحشي للّغة، لانفصال الدال عن المدلول والتسمية عن الممارسة، في سياق الغطاء الذي تشكّل لاحتواء الممارسات «الإسرائيلية» الممنهجة من قتل وتدمير ونهب واستمرار لعملية الاستيطان، وكتعقيبٍ على ما عبّر عنه كل من «بيريس» و«بيلين» وهما من «حمائم السلام» في أوقاتٍ مختلفة تلت التوقيع على اتفاقية أوسلو. [13]

وعلى الرغم من حديث الكثيرين عن عملية السلام على أنّها عملية سياسيّة تهدف إلى حلّ الصراع الفلسطيني- «الإسرائيلي» في المقام الأول من خلال المفاوضات، أو مقاربةٍ لإدارة الصراع، معلنين موتها في عدة مناسبات، بدءاً باغتيال «رابين» ومروراً بفشل قمّة «كامب ديفيد» وما تبعها من انغلاق الآفاق السياسية. إلّا أنه لا بدّ لنا من وقفةٍ جادّة لمعرفة ماهية عملية السلام، بتمحيص المفاهيم التي تستند إليها، والكشف عن المضامين التي تحملها تلك المفردات، والسياق الذي وُلدت فيه، والأهداف التي ترمي إليها. وذلك على الرغم من الكثير من الحواجز المعرفية التي تشكّلت بما تمّ إرساؤه من قواعد استخدام وتحليل ونقد سبق الإشارة إلى جزء منها، وما خطّته الحقول المعرفية كدراسات السلام والصراع من أدوات ونماذج، ممّا ساهم في تغطية الواقع كون المشكلة الأساسية لم تعُد في المحرّك التأسيسي الذي يدوم ويستمر في البقاء من خلال تناسخه في تنويعات وأشكال مختلفة، بل المشكلة في التحولات والتمظهرات التي تعمل كتأسيس وتجديد لما تمّ تأسيسه. وهذا ما جاءت هذه الدراسة لتتناوله كمحاولةٍ للاستكشاف والتمحيص والهدم، من خلال تفكيكها لمفهوم السلام، والسلام كعملية، في السياق الاستعماري لفلسطين.

ننطلق في التحليل ممّا خطّه «هنري كسنجر» مبتكراً مقاربة الخطوة-بخطوة لتحقيق «السلام» عقب فشل قمة «كامب ديفيد» الثانية، والتي كانت إحدى محطات «عملية السلام» عام 2000 وأُلقي اللوم بفشلها على الجانب الفلسطيني: «أياً كان الحكم الصادر على الدوافع التي جعلت ياسر عرفات يردّد ويكرّر التحذير حول أنّ الوقت لم يحِن الآن لعقد القمة، فإنّه من المهم أن نفهم الهوة الفلسفية بين الطريقة التي تعرّف فيها «إسرائيل» والولايات المتحدة السلام، والطريقة التي يعرّفه فيها الفلسطينيون… القادة الإسرائيليون والأمريكيون كانوا يطبّقون مفاهيم القرن العشرين للديمقراطية الليبرالية، في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون -أو على الأقل الكثير منهم- يعيشون قناعات أكثر قابلية للمقارنة لتلك التي سادت أوروبا في القرن السابع عشر حول الصراعات الدينية». [14] 

وعلى الرغم من عدم دقّة وصف «كيسنجر» –المقصود- وتحليله لنظرة الفلسطينيين لطبيعة الصراع والأسس التي يقوم عليها، إلا أنّ ما يهمّنا الوقوف عليه في هذا السياق هو ما ذكره حول مفهوم القرن العشرين للسلام من خلال الإطار الديمقراطي الليبرالي الذي يتبنّاه الأمريكيون والعالم الغربي. تشير إحدى الدراسات إلى أنّه هنالك تحولًا شهدته العشرون سنة الماضية في فهم السلام على النطاق الدولي. ففي الوقت الذي كان فيه «السلام» تعبيراً عن، أو وصفاً لـ، حالة العلاقات في إقليمٍ معين، أصبح يُنظر إليه على أنّه «عمليات» (operations) للتدخل الخارجي في حالات «ما بعد الصراع»، بالاعتماد على الفهم الليبرالي للسلام المبنيّ على ضرورة اعتماد الهياكل والإجراءات الليبرالية الغربية في بيئات الصراع لمنع نشوبه مرةً أخرى.

كان ذلك نتيجة ظهور خطاب الأمم المتحدة المتعلّق ببناء السلام وسط نهوض الُمثُل الأمميّة الليبرالية في المجتمع الدولي في أعقاب الحرب الباردة، ووسط تطلّعات لدور «تدخلي» أقوى للأمم المتحدة في العالم، التي أرساها «بطرس غالي» فيما سُمّي بخطة السلام (Agenda for Peace)، إلى جانب آمال الرئيس الأمريكي «جورج بوش» الأول في قيام «النظام العالمي الجديد». وعلى ضوء هذه المتغيرات سرعان ما برزت مصطلحات ومفاهيم جديدة لتوفير الأمل لهذا التوجه، فكان بناء السلام، إلى جانب المفاهيم التقليدية كالدبلوماسية الوقائية، وصنع السلام، وحفظ السلام، وفرض السلام بالقوة. وبذلك، تمّ الانتقال من مفهوم السلام إلى مفهوم بناء السلام كأحد أهم الوسائل لـ «صنع السلام». [15]

عرّف بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة بناء السلام بأنّه: «العمل على تحديد ودعم الهياكل التي من شأنها تعزيز وترسيخ السلام من أجل تجنب العودة إلى الصراع». كذلك عرّفه «كوفي عنان» من خلال تصور مماثل لما طرحه الأول يقصد به: «خلق الظروف اللازمة لتحقيق السلام المستدام في المجتمعات التي مزقتها الحروب». [16] وبذلك، تشكلّت سمات مفهوم «بناء السلام» اعتماداً على ثلاثة عناصر أساسية: أوّلها، «إعادة تأهيل» وبناء المجتمعات التي عانت من النزاعات المسلحة. وثانيها، الحاجة إلى إنشاء آليات الأمن ذات الصلة السياسية والاجتماعية-الاقتصادية لبناء الثقة بين أطراف الصراع ومنع استئناف العنف، وأخيراً التدخل الخارجي (الأجنبي)، سواءً كان هذا التدخل قومي، أو متعدّد الأطراف، أو من خلال الأمم المتحدة للمساعدة على تهيئة الظروف المواتية «للسلام». [17]

واقتضت هذه العناصر من بناء السلام، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ارتباطه على نحوٍ متزايد بخلق وإنشاء عمليات تحويلية وانتقالية تتعلّق بالديمقراطية والحكم والتنمية والأمن، يتمّ من خلالها هيكلة النشاط الإنساني. والتي بدورها (كعناصر وعمليات تحويلية) ألقت بظلالها على الكيفية التي يتمّ فيها التدخل الدولي تجاه دول ما بعد الاتحاد السوفيتي وما بعد الاستعمار اعتماداً على الفهم الليبرالي للسلام. تتأطّر هذه العمليات التحويلية في ثلاثة محاور وهي: التحوّل الأمني والتحول الديمقراطي والتحول الاقتصادي-الاجتماعي. ويشكّل منع تجدّد أعمال العنف الهدف الأساسي لبناء السلام، ولذلك يتطلب خلال هذه المرحلة القيام بمجموعة من المهام التي تُلقى في الغالب على عاتق قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، منها نزع سلاح المقاتلين وتسريحهم وإعادة دمجهم في الحياة المدنية، وإصلاح القوات المسلّحة وقوات الشرطة واستعادة الأسلحة الخفيفة. 

وينطوي «التحوّل الديمقراطي» المذكور آنفاً على تهيئة الظروف التي تساعد في إنجاز عملية التحول الديمقراطي من خلال الدفع باتجاه مشاركة المدنيين في جميع مستويات الحكومة عن طريق الانتخابات الخاضعة للرقابة لضمان نجاحها وشرعيتها، والعمل على خلق بيئة تُحترم فيها حقوق الإنسان ويسود فيها حكم القانون، وإصلاح نظام العقوبات. أمّا الأهداف الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة ببناء السلام، فتتضمّن: إعادة بناء وتشكيل المجتمع (بناء الأمّة)، والنظام المالي والاقتصادي، والحكومة. فإعادة البناء هي عملية لتعزيز الإصلاح والانتعاش الاقتصادي لتمكين الاقتصاد لاحقاً من توليد رؤوس الأموال الضرورية لإعادة التأهيل بشكلٍ ذاتي. لكن في الوقت الذي تُعتبر فيه إعادة البناء ضرورية، فإنها كمكوّنٍ أساسيّ من مكونات بناء السلام ترتبط ببرامج المعونة الإنمائية الدولية (التنمية). ومع ذلك، لا تتعلّق هذه المسألة بحلّ مشكلات ما يصنّف في خانة «التخلّف» (Underdevelopment) بمنظورهم، وإنّما تأتي من منظور أنّ إعادة البناء الاقتصادي يساعد على منع تجدّد وعودة العنف مرةً أخرى. [18] وبناءً عليه، «فإنّ الخطاب الديمقراطي لبناء السلام يبيّن أن الانتقال من حالة الحرب إلى السلام عن طريق الوصول إلى نقطة النهاية المتمثّلة بالسلام الديمقراطي الليبرالي، والتي تمّ فيها التعامل مع السلام على أنّه مُنتج أو سلعة كما الحال في الصناعات التحويلية، أصبح الصراع وجميع تجلّياته مواد تخضع لممارسات وتأثيرات من خلال أنظمة أو «آلات» منتجة أو مؤسِّسة في النهاية لنوعية العلاقات المطلوبة». [19] 

تناقش إحدى الدراسات أنّ مساعي الغرب لبناء السلام في سياق الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 يجب تأطيرها كمكوّنٍ من مكونات المعادلة الاستعمارية؛ إذ أنّ هذا البناء يأخذ عقلية «مهمات التحضير» (civilizing mission) والتي تهدف إلى «تنمية» السكان المحليين وجعلهم مستعدّين لنظام الدولة، أو ربما لشكلٍ آخر من أشكال الحكم الذاتي. وذلك، أنّ الهدف المعلن لبناء السلام الغربي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 هو دعم عملية السلام من خلال بناء اقتصاد فلسطيني ومؤسسات الحكم في إطار المفاوضات النهائية، بغرض تحقيق حلّ الدولتين. ولهذا السبب، رأينا ما بعد عام 1993 ازدياداً عالياً في المعونات والمساعدات المالية المقدَّمة للفلسطينيين. ومع حلول عام 2010، كان هنالك 42 دولةً مانحة، و20 من المنظمات التابعة للأمم المتحدة أو المنظمات الدولية، جميعهم يشاركون في نشاطات بناء السلام في الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967. كما تزايدت المعونات السنوية من $178 مليون دولار في عام 1993 إلى $2.5 مليار دولار بحلول عام 2010. وعلى الرغم من هيمنة تركيز المانحين على كون هذه المساعدات تستهدف الحفاظ على أمن «إسرائيل»، فإنّ نشاطات المانحين مؤطَّرة ضمن افتراضات وسياسات بناء السلام الليبرالي؛ فضّلت سياسات نيوليبرالية كالأسواق المفتوحة والخصخصة والاقتصاد المالي وبناء القدرات والحكم الرشيد. [20] 

وفي قراءةٍ أكثر نقدية، تقترح الباحثة «ماندي تيرنر» تأطير بناء السلام لمكافحة للتمرّد. هذا الاقتراح يفترض بأنّ النقطة المشتركة فيما بينهما هي أنّ مكافحة التمرد التقليدية تعطي أولوية لتحييد السكان بدلاً من القضاء عليهم. يتمحور الهدف الأساسي من تلك السياسات هنا حول صياغة الإذعان وتحقيق السيطرة على السكان. بناءً على ما أوردته «تيرنر»، فإنّ تكتيكات مكافحة التمرد لديها تاريخ غني كوسائل للسيطرة وخلق الإذعان، وقد استخدمتها القوى الاستعمارية لقمع حركات التحرّر من الاستعمار، كما استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الباردة لإدارة الصراع أحياناً وللتغلّب على الحركات الوطنية والاشتراكية التي هدّدت المصالح الاقتصادية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية. وفي عالم ما بعد الحرب الباردة، خصوصاً بما سُمّيَ بـ «عالم ما بعد الاستعمار»، بقيت هذه الاستراتيجية مكوّناً أساسيّاً للهيمنة والسيطرة، وتمّ تنقيحها وتطويرها لتتناسب والمتغيّرات في البيئة الدولية.

من هنا، فإنّ هدف مكافحة التمرد هو ضبط إيقاع النشاط السياسي ومستوى العنف والاستقرار في البيئة الاجتماعية. وفي حال فشلها في الحفاظ على الاستقرار البنيوي من خلال مقاربات السيطرة، يستعيد العنف دوره الحيوي في ذلك. لذا، يمكن استشفاف أهداف مكافحي التمرد في فرض النظام وتعزيز التعاون المشترك ما بين المستعمِر والمستعمَر التي ترمي لتحصين الدول من العنف وعدم الاستقرار، من خلال التأكيد على السيطرة على الفضاءات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. ويتمّ ذلك من خلال توجيه معونات التنمية ودعم النخب المتواطئة. 

يشابه هذا التوجّه العام لمكافحة التمرّد بناءَ السلام من حيث المضمون والشكل والممارسة والنظرية؛ إذ تتشابه التكتيكات والاستراتيجيات المستخدمة في مكافحة التمرد تلك المتعلقة ببناء السلام، والفرق الواضح بينهما هو أنّ مصطلح «مكافحة التمرد» ليست موظّفاً في أدبيات التنمية وبناء السلام، ويتمحور البديل المطروح حول مفردات الأمن-التنمية والعلاقة ما بينهما. يمكن تفصيل هذه العلاقة من حيث كونها تروّج للاعتقاد السائد بين المانحين بأنّ التنمية تحتاج للأمن وأنّ الأمن يحتاج للتنمية، ولكن مع إعطاء الأولوية للتنمية، بطريقة تجعل تحييد السكان شرطاً ضرورياً مسبقاً لتحسين الوضع الاقتصادي. 

وبذلك، فإنّ الثيمة الأساسية ما بين مكافحة التمرد وبناء السلام هي السعي نحو السيطرة والتحييد وبناء الاستقرار، «فبناء السلام كمكافحة للتمرد يعمل كطبقة أخرى من تقنيات التحييد المُمأسسة التي تنتهجها «إسرائيل». وضمن هذا السيناريو، يعمل المانحون في نشاطات بناء السلام، كبناء الدولة وإعادة تأهيل القطاع الأمني وترويج الديمقراطية وتحفيز القطاع الخاص ودعم قطاع منظمات المجتمع المدني، ضمن منطق وآليات مكافحة التمرد. [21]

مختبرات الاقتصاد السياسي لمكافحة التمرد

في صعودها كرمزٍ مركزيّ في القتال من أجل العدالة، تمتلك فلسطين أهميةً دوليةً باعتبارها الاستعمار الوحيد المتبقي في عصرٍ وُسِم بعالم ما بعد الاستعمار. هذا النضال ضدّ «إسرائيل» المدعومة من الإمبراطورية الأمريكية قد جعل النظر إلى فلسطين باعتبارها مختبراً وأرضيةً خصبة لتطوير تقنيات مكافحة التمرد. [22] 

في دراستها المهمّة لفحص فلسطين كمختبرٍ لمكافحة التمرد وموقعها العالمي في هذا المجال، تركّز «لاله خليلي» على الشبكات والمدارات الأفقية التي يتمّ من خلالها نقل الممارسة الأمنية الاستعمارية ونشرها عبر الزمن والجغرافيا، مموضعةً فلسطين كمصدرٍ أو عقدةٍ (node) أساسية في نقل تلك الممارسات. تفترض خليلي أنّ حركة المسؤولين الرسميين والجنود وتقنيات السيطرة والموارد لا تتنقل ما بين المستعمَرات والمتروبول فقط، ولكن أيضاً فيما بين المستعمرات التابعة لقوة إمبريالية واحدة أو لعددٍ من القوى، حيث تلعب البيروقراطية الاستعمارية والنخب العسكرية دوراً محورياً في دراسة ومشاركة وتكييف (adapt) هذه التقنيات كممارساتٍ سلطوية، ومن هنا برز دور فلسطين في هذا الصدد كمختبرٍ لتناقل هذه الممارسات.

والنقطة المهمة في هذا الطرح أنّ العسكرية «الإسرائيلية» بعيد استيعاب وهضم الدروس من الإمبريالية البريطانية وممارساتها في المستعمَرات، وخصوصاً في فلسطين، قد استفادت من التجربة الفرنسية في الجزائر، والتي نُظر إليها على أنها ذات صلة قوية بالسياق الفلسطيني نظراً للإرث الجزائري-الفلسطيني العربي المشترك. فنرى مثلاً أنّه خلال حرب التحرير الجزائرية، عمل «الإسرائيليون» على دراسة استخدام المروحيات الفرنسية في مكافحة التمرد. وفي عام 1960، زار جنرالان «إسرائيليان» في حينه، وهما «يتسحاق رابين» و«حاييم هيرتزوج»، الجزائر لمراقبة عمل المظليين الفرنسيين في ميدان القتال فيها. [23] مثالٌ آخر لتدفق الخبرات والمعرفة الاستعمارية هي تلك النصيحة التي أبداها «ديفيد بن غوريون» لـ«تشارلز ديغول»؛ في السابع عشر من يونيو عام 1960، استقبل الرئيس الفرنسي «ديغول» رئيس الوزراء «الإسرائيلي» «ديفيد بن غوريون» في قصر الإليزيه. وخلال حديثهما، قدّم «بن غوريون» نصيحةً لمواجهة المتاعب التي تلاقيها فرنسا في الجزائر، من خلال الدعوة إلى تقسيم الجزائر ما بين العرب والفرنسيين، أيّ إقامة منطقة فرنسية خاصة بهم في الجزائر، وهي الطريقة التي استخدمها «الإسرائيليون» لإنشاء دولتهم، فـ «لا يمكن لأحد شراء أو استعمار بلد، بل يمكن بناءه بنفسه» كما وضح «بن غوريون».

وجدت هذه النصيحة آذاناً صاغية لدى المسؤولين الفرنسيين، حيث أرادوا فهم الجزائر من خلال إطار المقارنة مع دول أخرى شهدت عمليات التجزئة والتقسيم، ونادراً ما تمّت مناقشة هذا التقسيم دون الرجوع إلى نقاش مقارن مع حالات أخرى، بما في ذلك الانتداب البريطاني لفلسطين وإنشاء دولة «إسرائيل». كما ثمّن المسؤولون الفرنسيون أداة المقارنة كوسيلة لابتكار حلول استعمارية عقلانية للحكم، خالية من محدّدات السياسة الفرنسية وصراعاتها. مع ذلك، فمن الملحوظ بأنّ الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الجزائرية قد استخلصوا التشابهات بين «إسرائيل» والجزائر، لأسباب متفاوتة إلى حدّ التناقض. لم ينظر المسؤولون الفرنسيون إلى «إسرائيل» كدولة استعمارية، وبالتالي رأوا فيها نموذجاً لمستقبل الجزائر. ووفقاً لهم، فإنّ «إسرائيل الجديدة» ليست مشروعاً استعمارياً. على عكس ذلك، قامت جبهة التحرير الجزائرية بمقارنة الجزائر بفلسطين، ولكن لأسباب مختلفة كلياً. رأى الوطنيون الجزائريون في الأحداث التي جرت في فلسطين منذ ثلاثينيات القرن العشرين أنها نتاج الإمبريالية الأوروبية، واعتبروا «إسرائيل» دولة استعمارية. كانت فلسطين والجزائر كلتاهما مستعمَرتان (colony)، وعلى كلّ منهما أن يتحرّرا من الاستعمار. ولذلك، بالنسبة لجبهة التحرير الجزائرية، فإنّ تكرار نموذج فلسطين هو كارثة بالنسبة للجزائر، وأن الجزائر إذا ما توقفت عن النضال ضدّ الاستعمار للتحرّر فإنها ستصبح فلسطين جديدة. وكردٍّ على خطاب «ديغول» حول التقسيم عام 1960، استنكرت «المجاهد» التقسيم ونظرت إليه باعتباره «أسرلةً للجزائر». [24] (Israelization of the country) 

وبالنظر إلى هذه الحوادث التاريخية، من المستحيل التغاضي عن التشابهات الماثلة بين الأيديولوجيا والمنطق والتكتيكات الاستعمارية لكلٍّ من «إسرائيل» وفرنسا، إلى جانب المجتمع الدولي. ولعلّ أكثر هذه التشابهات وضوحاً في مجال الاقتصاد كردٍّ على المقاومة المناهضة للاستعمار، مبنيّة على العلاقة بين التنمية من جهة والأمن من جهةٍ أخرى، والذي يتمثّل بالافتراض القائل إنّ التدخل الاقتصادي يمكن له أن يقلّل من العنف ويمنع ظهوره وتكراره. 

فبعيد شهورٍ من إعلان «ديغول» للجزائريين «إنّني قد فهمتكم»، أعلن عام 1958 عن خطة قسنطينة للتنمية الاقتصادية، والهدف الرئيسي منها هو «ضمان أنّه سيكون لكلّ الجزائر نصيباً ممّا تقدمه الحضارة الحديثة للبشر». ولذلك، تمّ تصميم خطة التنمية الشاملة هذه لتقليل الفارق والفجوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ما بين المتروبول الفرنسي وفرنسا الجزائرية، عاملاً «ديغول» بالاعتقاد بأنّه وسط تصاعد الصراع في الجزائر، «سيقوم اقتصادي (economist) بحلّ هذه المشكلة لي». لم يقتصر تنفيذ فرنسا لخطة التنمية على هدف تحسين الإنتاجية الاقتصادية فحسب، بل استخدام التنمية كأداة لإعادة تعريف الدور الإمبريالي لفرنسا، والذي كشف عن العلاقات الوثيقة بين الاستراتيجية العسكرية لتحييد السكان وصناعة الاستقرار من جهة، والتدخل «التنموي الإنساني» من جهةٍ أخرى.

في هذا السياق، تصاعدت الاقتصادوية (economism)؛ أيّ النظر إلى العوامل الاقتصادية بوصفها المحرّك للفعل الاجتماعي والسياسي. لم يكُن تبني التنمية الاقتصادية بداعي الكرم الاستعماري، بل بالنظر إليها باعتبارها وسيلةً لاستدامة السيطرة الاستعمارية. ووفقاً لـ«ديغول» «يجب علينا تحييد وإدارة الجزائر، ولكن في ذات الوقت علينا تحويلها (transform it)». إذ سعى إلى تقديم عوائد وتقدّم مادي للتخفيف من كرب الجزائريين الذي غذّى الثورة. ولذلك، ما بعد عام 1958، أضحت التنمية الاقتصادية سلاحاً أساسياً لتحييد الجزائريين والحدّ من العنف، من خلال ما تُحدِثه من تحوّلاتٍ اجتماعية. حملت خطة قسنطينة مبدأً مفاده بأنّ التحفيز الاقتصادي للسوق يمكن له بلورة تغيّرات اجتماعية. علاوةً على ذلك، فإن عناصر عديدة للخطة، بما فيها الاعتماد على حقليْ علم الاجتماع وعلم النفس لتقديم استراتيجياتٍ للهندسة الاجتماعية، قد تمّ تضمينها في حقل التنمية ما بعد الاستعمارية. وبشكلٍ أساسي، عندما تحوّلت الجزائر إلى مختبرٍ تجريبي للتجارب الاقتصادية الدولية، أصبحت النقاشات التي تدور حول مستقبل الرأسمالية أكثر بروزاً، سواءً تلك الليبرالية او الماركسية منها. [25]

في السياق الفلسطيني، فإنّ ما يمكن الإطلاق عليه بالاقتصاد الفلسطيني للأراضي المحتلة عام 1967 يعتمد بشكلٍ كبير على المعونات الدولية. فمنذ عام 1993 ونشوء السلطة، أنفق المانحون الدوليون ما يقارب الـ 40 مليار دولار. ويمكن قراءة هذا التدفق ضمن نموذج «عائدات السلام» (Peace Dividend)، وهو تشكيلة من تشكيلات إطار السلام الاقتصادي المتجذّر في السياسة الأمريكية. تعود هذه الفكرة في التاريخ إلى سبعينيّات القرن العشرين عندما خلقت إدارة الرئيس الأمريكي «كارتر» مقاربةً لا-سياسية قائمةً على الاعتقاد بأنّ «الفلسطينيين السعداء» الذين تتوفر لهم فرص توظيف مستقرّة وبنية إدارية سيكونون أكثر انفتاحاً على المفاوضات، حتى وإن ما زالوا تحت الاحتلال. 

وفي ثمانينيّات القرن الماضي، اقترحت إدارة «ريغان» مبادرة «نوعية الحياة» (Quality of Life)، والتي تهدف إلى تعزيز المصالحة بين «إسرائيل» والفلسطينيين من خلال الحوافز الاقتصادية، والتي تعتبر نظرياً مفصولةً ومستقلةً عن السياسة. كما وتبنّت إدارة «كلينتون» في التسعينيّات فكرة عوائد السلام واعدةً بعصرٍ جديد من الازدهار، والتي تبنّتها لاحقاً إدارة «جورج بوش» الابن عند اقتراحه «خارطة الطريق للسلام»، واضعاً النمو الاقتصادي والاستثمار في قلب عملية السلام. وفي عام 2013، اقترحت إدارة «أوباما» مبادرة «مليارات كيري» لتعزيز الاقتصاد الفلسطيني والمساهمة في تحوّل «حظوظ الفلسطينيين». واستمراراً على ذات النمط، اقترحت إدارة «ترامب» خطتها «من السلام للازدهار: رؤية لتحسين حياة الفلسطينيين والإسرائيليين»، والتي اعتمدت على ذات المنطق الاقتصادي في علاقته بالسياسة.

ولعلّ تقرير للكونغرس الأمريكي الصادر عام 2012 يشرح إطار المعونات التي تقدّمها الإدارات الأمريكية المتعاقبة للفلسطينيين، والتي تمحورت حول ثلاث أولويات: الأولى، تحييد وردع الإرهاب ضد «إسرائيل» من قبل الجماعات الإسلامية كحماس وغيرها من الفصائل. والثانية، إقامة دورة من الاستقرار والازدهار في الضفة الغربية لتشجيع الفلسطينيين، بمن فيهم الغزيّين تحت حكم حماس، للعيش المشترك مع «إسرائيل» وإعداداً لهم للحكم الذاتي. أما الأولوية الثالثة والأخيرة، فهي الاستجابة للحاجات الإغاثية في سبيل منع عدم الاستقرار، وخصوصاً في غزة. [26] وفي هذا السياق، أصبح الاقتصاد السياسي للمانحين مرتبطاً بشكلٍ عميق مع هذه الأطروحات؛ فالهدف المعلن للمساعدات المالية الدولية ما بعد عام 1993 هو لتعزيز «السلام». كما جاء في مؤتمر المانحين عام 1993 على لسان وزير الخارجية الأمريكي آنذاك بأنّ هذا المؤتمر يهدف إلى «حشد الأموال لجعل الاتفاق يعمل»، في إشارةٍ إلى اتفاقية أوسلو. [27] ولعلّ المحدّد الأبرز كذلك لنموذج المساعدات المالية للفلسطينيين هو ما طوّره البنك الدولي من برنامج عملٍ أسماه «استثمار في السلام»، والذي أطّر وقاد كيفية إنفاق المساعدات المالية بهدف تحسين جودة حياة الفلسطينيين ورفع مستوى المعيشة وتزويدهم بالحوافز للمشاركة في محادثات السلام، إلى حدّ اعتبار الأراضي الفلسطينية وفقاً للبنك الدولي كمختبرٍ لسياسات بناء السلام؛ فالممارسات الأنجع لبناء السلام وإعادة الإعمار في «بيئات ما بعد الصراع» مستمدّة بشكلٍ كبير من تجربة البنك في الأراضي الفلسطينية في تسعينيّات القرن العشرين. [28] 

هذه الترتيبات الاقتصادية والمالية والسياسية المستمدة من بردايغم بناء السلام النيوليبرالي، بدأت تتشابك وحياة الفلسطينيين بهدف تحييد قطاعاتٍ واسعة منه، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا يتضمن البيروقراطية التي يُقدّر عديدها بـ 180 ألف موظف، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني المدعومة غربياً. بهذا، تمّ خلق اعتمادية بنيوية عمودية تجمع هؤلاء الفاعلين بإطار الاقتصاد السياسي لمكافحة التمرّد الذي تمّ إنشاؤه بموجب أوسلو. وفي حال المعارضة السياسية أو العسكرية لهذه الترتيبات، سيتمّ إيقاف هذا الريع السياسي، كما حصل عند فوز حماس بانتخابات المجلس التشريعي عام 2006. في الواقع، فإنّ عدداً كبيراً من نشاطات بناء السلام وبناء الدولة يُمكن ترجمتها على أنّها محاولات لتشكيل وهندسة ترتيباتٍ سياسية واجتماعية واقتصادية تتماشى وأولويات المانحين و«إسرائيل». لذلك، وفي هذا السياق، تقول «ماندي تيرنر»: «في غياب الضغط الاقتصادي أو السياسي على «إسرائيل» للسماح في نشوء دولةٍ فلسطينية مستقلة ذات سيادة، فإنه من الحتمي أن المساعدات الدولية ستخلق بُنى واقتصاداً سياسياً يعمل وفقاً لحكم «إسرائيل» على الأرض». [29]

في هذا السياق يمكن فهم نقاش طارق دعنا عن العلاقة التكافلية بين «الفياضيّة» ومقاربة «إسرائيل» للسلام الاقتصادي مع الفلسطينيين، والتي تؤكّد على الاستراتيجيات الاقتصادية بدلاً من السياسة لتحقيق السلام والاستقرار، متمثّلةً في شعار «نتنياهو» القائل إنّ «الاقتصاد، لا السياسة، هو مفتاح السلام». ولعلّه من المفيد التعريج على ما اصُطلح عليه بالفياضيّة (Fayyadism)، والتي تمثّل التكتيكات النيوليبرالية لبناء الدولة والتنمية الاقتصادية المتبناة من السلطة الفلسطينية، والتي تعطي أولويةً للاستقرار السياسي والأمن والتنمية التي يقودها القطاع الخاص. وفي قلب الفياضيّة، طريق ثالث لتحقيق حلم الدولة، فلا الصراع المسلّح ولا المفاوضات الدبلوماسية يُمكن لها تحقيق هذا الحلم. فالطريق إلى تحقيقه يمرّ عبر التعاون التقني والاقتصادي والأمني مع «إسرائيل» ومجتمع المانحين، كأدواتٍ لبناء المؤسسات وتحقيق التنمية الاقتصادية.

وفي مقاربة السياستين «الإسرائيلية» والفلسطينية، نرى حجم المشتركات بين سياسة «موشيه ديان» الجسور المفتوحة وسياسة «بنيامين نتنياهو»، أيّ السلام الاقتصادي من جهة والفياضيّة من جهة أخرى، ودوافعهما السياسية. استند التفكير السياسي الاستراتيجي لـ«موشيه ديان» إلى الافتراض القائل إنّ تحسين الظروف السوسيو-اقتصادية للسكان الفلسطينيين سيقود الى تقويض قدرة منظمة التحرير الفلسطينية في التأثير على الأراضي المحتلّة عام 1967، والحدّ من المقاومة ضدّ الاحتلال. ونتيجةً لهذه الرؤية، فإنّ تعزيز نوعٍ ما من الازدهار الاقتصادي سيقود الناس إلى التخلّي عن حقوقهم السياسية. وضمن ذات المنطق، نظر «نتنياهو» إلى السلام الاقتصادي وما يتضمّنه من رفع مستوى المعيشة للفلسطينيين في الضفة الغربية، على أنّه سيخلق تأثيراتٍ تحييديّة لردع التطرّف السياسي. هذا التوجه وفقاً لـ«نتنياهو»، سيسهّل الانتقال من السلام السياسي المحقّق من خلال المفاوضات إلى السلام الاقتصادي المدفوع بديناميكيّات السوق. دفعت هذه المقاربات إلى تحويل الضفة الغربية إلى مختبرٍ لتجربة تقنيات السيطرة في مجالات التحكّم والهندسة الاجتماعية والنمو الاقتصادي والأمن وبناء المؤسسات، مدعوماً من قبل المنظمات الدولية ومجتمع المانحين و«إسرائيل»، ضمن منطق تحقيق الأمن لـ«إسرائيل» أولاً لتحقيق التنمية الاقتصادية أو من خلالها. [30]

الريع الاقتصادي: التعاون والتحييد السياسي البنيوي

يناقش خالد عودة الله بأنّ هنالك ظاهرة تاريخية معروفة لدى كل الأمم التي خضعت للاستعمار، والتي سُمّيت ضمن العلوم الاجتماعية بـ«التعاون مع المحتلّ»، كمفهوم تحليلي موضوعي خالٍ من القيمة السياسية، والذي يُطلَق عليها في الخطاب الوطني بالخيانة والعمالة. وفقاً لعودة الله، لم تكُن فلسطين استثناء، فتاريخياً تعاون بعض الفلسطينيين مع الاستعمار، وهناك من لا يزال يتعاون منهم إلى يومنا هذا. ولذلك، فإنّ تاريخ الاستعمار يحكي لنا أنّ التعاون مع المستعمِرين ليس خارجاً عن المألوف بالنسبة لبُنى الاستعمار والشرط الاستعماري. فلم يكُن الاستعمار ممكناً دون التعاون مع جماعة، عادةً ما تكون تلك الجماعة هي النخبة. وإنْ كان ممكناً دونهم، لم تكُن قدرة الاستعمار على الاستمرار والتغلغل داخل المجتمعات المستعمَرة ممكنةً دونهم. ولذلك، فإنّ الصراع مع المستعمِر هو صراع مع تلك النخبة، والتي لديها من الرؤية والمصالح التي عبّرت عنها من خلال تعاونها، والتي نجحت في بعض الأحيان من تحقيق الهيمنة الاجتماعية لرؤيتها في التعاون؛ أيّ تحويل نظرتها السياسية إلى رؤية سياسية للمجتمع بأكمله أو قطاعات واسعة منه. ووفقاً لعودة الله «إنّ ما يُطلق عليه خيانة عبر التاريخ كانت بالفعل وجهة نظرٍ تعبّر عن رؤية ومصلحة فئةٍ ما، وقد تنجح هذه الفئة في بعض الحالات إلى خلق هيمنةٍ اجتماعيّة، أيّ جعل رؤية هذه الفئة الخاصّة رؤيةً عامّةً أو شبه عامة. وهي عملية تحويل المنظومة القِيَمية ورؤية العالم الخاصّة بفئةٍ اجتماعيةٍ متغلّبةٍ اقتصاديّاً وسياسيّاً إلى وجهة النظر الاجتماعية العامّة، بعد أن تكون هذه الفئة أو التيّار قد حسمت الصراع السياسيّ لصالحها، أيّ نجحت في تحويل تغلّبها السياسيّ إلى تغلّبٍ قِيميّ أيديولوجيّ، مع ضرورة التنبيه إلى أنّ هذه العملية لا يُمكنها الوصول إلى حدّ الإجماع التامّ حولها».

من هنا تأتي أهمية الفئة المتعاونة وشرعيتها لدى قوى الاستعمار، والتي تنبع من قدرتها على السيطرة على المجتمع؛ «وبما أنّ قوّة الفئات المتعاوِنة وشرعيّتها عند المحتلّين تقوم على مدى قدرتها على ضبط المجتمع بما يتلاءم مع مصلحة المستعمِر، فإنّ نظاماً زبائنيّاً ينشأ ويتكثّف حول المتعاوِنين، وتتبلور شبكةٌ من العلاقات التي تشكّل قنواتٍ لتوزيع ريع التعاون. وبهذا، تتوسع الشرائح الاجتماعيّة المرتبطة بهذا النظام شيئاً فشيئاً وتتغلّغل في أنسجة حياة المجتمع، ويصبح استقرار نظام التعاون مصلحةً مجتمعيّةً عامّة؛ أيّ يتحوّل التعاون من علاقة خارجيّة ما بين شريحة مجتمعيّة وسلطة استعماريّة إلى علاقة داخليّة مجتمعيّة في الاقتصاد السياسيّ للمجتمع المُستعمَر». ومن ضمن ما يخلُص إليه عودة الله هو بأنّ العلوم الاجتماعية الفلسطينية، بما تنتجه من معرفةٍ سوسيولوجية لمعالجة ظاهرة التعاون، ترقى إلى التضليل؛ إذ يتمّ التعامل مع هذه الظاهرة في الأطر التحليلية النظرية على أنها تنتمي إلى مقولات علم الاجتماع السياسي التقليدية عن النخبة والزبائنية والكومبرادور والنيوليبرالية، بعيداً عن تأطيرها ضمن مقولة التعاون. [31] 

نجد لجدال عودة صدىً في كتابات «فرانتز فانون»، وخصوصاً في «معذبو الأرض» عند تناوله سؤالاً نظرياً حام حول الدول النامية، وهو: هل يمكن تجاوز مرحلة البرجوازية الوطنية؟ يجيب «فانون» أن ذلك ممكن من خلال الفعل الثوري بدلاً من التفكير المنطقي. فبالنسبة له، لا توجّه البرجوازية الوطنية في الدول النامية طاقاتها نحو الإنتاج والاختراع والإبداع والعمل، بل تنصبّ جميع جهودها على لعب دور الوسيط بينها وبين القوى الاستعمارية؛ فهي تمتلك عقلاً تجارياً عندما يتعلّق الأمر بالوطن. ولذلك، دعا «فانون» إلى تخلّي هذه الطبقة عن دورها الوظيفي، والاتجاه نحو التعلّم من الشعب، ومشاركته المعرفة التقنية والفكرية التي تحصّلت عليها خلال دراستها في المؤسسات الاستعمارية. هذه الفكرة الأخيرة تعكس فكرة «اميلكار كابرال» حول «الانتحار الطبقي» والولادة من جديد كطبقة ثورية لتمثيل التطلّعات العميقة للشعوب التي ينتمون إليها.

يتمحور جدال «فانون» حول مقاربة الدور الذي لعبته البرجوازية الوطنية في الغرب مع ذاك الذي تلعبه البرجوازية الوطنية في الدول النامية. ولكن، يحذّر «فيفيك تشيبر» من الفهم الخاطئ والشائع من قبل منظّري مدرسة ما بعد الاستعمار، خصوصاً في تمجيدهم للبرجوازية، بحيث يحيلون إليها دوراً سياسياً بطولياً. كما يعتبرُ الحديث عن دورها التاريخي، كفاعلٍ في الإتيان بالديمقراطية والليبرالية في العصر الرأسمالي، حديثاً مضلّلاً. فرأس المال لم يسعَ يوماً لإنشاء نظامٍ ليبراليّ في المستعمَرات، كما لم يفعل في أوروبا. وبدلاً من الترويج للحرية والليبرالية، فقد روّجت البرجوازية للتبعية إلى نظام السوق، ساعيةً للهيمنة السياسية بدلاً من المساواة الليبرالية. ويؤكد «تشيبر» على أنّ أي نجاحٍ للديمقراطية يُعزى للبرجوازية هو في الحقيقة نجاح للشعوب لا النخب. وحول ذلك، يخلُص الباحث بشير أبو منّة إلى أنّ «ما قرأه فانون كخيانة اجتماعية في المستعمَرات، لم يكُن في جوهره سوى خاصّيتها المميزة وسلوكها الطبقي في كل مكان». [33]

في الجزائر المستعمَرة، لم تكُن البرجوازية هي الفئة الوحيدة التي لعبت دور الوسيط، فقد لعب الحركيون دوراً محورياً في قتالهم إلى جانب الفرنسيين لقمع الثورة الجزائرية. ودوافع هذا التعاون يمكن أن تكون نابعةً من عددٍ من العوامل، سواءً أكانت اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية. ومهما كانت الدوافع، ثمّة مصفوفة للسلطة سعت لإقناع الجزائريين بالتعاون مع السلطة الاستعمارية، ومن أبرزها تحويل الجزائري من (homo islamicus) إلى (homo economicus). ففي القرنين الثامن والتاسع عشر، تشكّلت فكرة الإنسان الاقتصادي كنموذجٍ للسلوك البشري، وكنقيضٍ لخصائص الحكم العثماني والرعيّة. عزا الفلاسفة الأوروبيون الركود الاقتصادي والسياسي لـ «الاستبداد الشرقي» إلى اقتصاد «المتعة» بدلاً من الإنتاج. وفي القرن التاسع عشر خصوصاً، شهد تدعيم التمثيل الاستشراقي للإسلام على شكل «الإنسان المسلم»، فهذا المصطلح عكس اختلاف المسلمين بشكلٍ جذريّ من الأفراد المتحفزين اقتصادياً والذين جسدوا الذوات الليبرالية للحداثة الأوروبية. وكما تشير «ديفس»، تمّ تحفيز الخطابات المبنية حول الإنسان الاقتصادي والإنسان المسلم من المسؤولين الاستعماريين والاقتصاديين والسياسيين الذين شرعوا بإصلاحاتٍ اقتصادية في الجزائر خلال الفترة الأخيرة من عمر الاستعمار.

بناء الخطابات حول الإنسان الاقتصادي والإنسان المسلم هي نتاج فكرة جماعية، حيث تمثّل الإنسان المثالي الذي يعتنق كلية مبادئ السوق في مقابل القَدَريّة التي تعود للدين الإسلامي لدى الإنسان المسلم بحسب نظرتهم. ومن الصواب القول وفقاً لـ «ديفيس» إنّ المسؤولين الاستعماريين والمخططين الاقتصاديين لم يحملوا رؤى موحّدة للتنمية الاقتصادية أو قدرة المسلمين على المساهمة بالتقدّم المادي. بيد أنّ هذه الخطابات قدّمت لغةً للنقاشات الدائرة حول السياسة الاقتصادية الفرنسية في الجزائر. وفي خلال هذه العملية، صعدت الاقتصادوية كآلية لتمييز التفاوت بين الفرنسيين والجزائريين؛ فمن جهة كان الإنسان الاقتصادي ممثّلاً للتقدم الاقتصادي الأوروبي، في مقابل الإنسان المسلم ممثّلاً للعادات والممارسات الاجتماعية الأصلانية، ليشكّلا إطاراً أساسياً لشكل النقاشات حول السياسات الكولونيالية. 

برز هذا التوتر بين الخطابين في السنوات التي أدّت إلى التحرّر من الاستعمار في الجزائر، وخصوصاً عندما زادت السلطات الفرنسية من جهودها لإدماج الجزائريين في اقتصاد السوق المنتج، والتي بدورها أعادت رسم صورتها من إمبراطورية فرنسية الى دولة-أمّة تخوض مهمّات تحضير. كما أنّ هذا التوتر نابع من التمايز الثنائي بين «عقلانية الغرب» و«روحانية الشرق»، ممّا أدى الى ولادةٍ مهمّة جديدة متمثّلة في إمكانية تحويل الإنسان المسلم إلى الإنسان الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، أبدى مسؤول فرنسي استعماري تفاؤله حول خطة قسنطينة في الحثّ على إحداث تغييراتٍ اجتماعية على نطاقٍ واسع مؤكداً في عام 1961 «أنّه بفضل خطة قسنطينة فإنّ الإنسان الاقتصادي قد وُلد، واستبدل الإنسان المسلم الذي قَبِل مستوى متدنٍ من الحاجات المادية، والذي بدوره لم يشعر بالحاجة للعمل أكثر من اللازم. إنّه يصبح تدريجياً إنساناً اقتصادياً مدفوعاً بحاجاته كما الإنسان الأوروبي الذي بدأ العمل وزاد اهتمامه في تحسين إنتاجيته أو في تحسين مهاراته». [34] 

في السياق الفلسطيني، وبناءً على ما أوردته «لاله خليلي»، فإنّ «إسرائيل»، التي نقّحت من تقنياتها للسيطرة عبر عقودٍ من الاحتلال العسكري، وفي سياق استيعابها للدروس البريطانية في الشرطة الإمبريالية (Imperial Policing)، وإلى جانب التعلّم من التجربة الفرنسية في الجزائر؛ فإنّها أصبحت من المصدّرين لتقنيات ومعارف مكافحة التمرد التي اكتسبتها في فلسطين. وخلاصة تجربتها هي «إنتاج المدني ليس كضرٍر جانبي، بل كموضوعٍ لصناعة الحرب والتأديب القهري وفي نهاية المطاف هدفاً للعنف». وبذلك، تحوّل المدني إلى موضوعٍ لتقنيات السيطرة المعقدة من خلال إقامة تصنيفاتٍ للسكان بين من هو مشتبه به وبين من لا يدخل في إطار الاشتباه والتصنيفات البينية الأخرى بينهما. [35] 

وفي هذا السياق، يجدر التأكيد على أنّ استخدام العنف سمة مميزة لانخراط «إسرائيل» في تعاملها مع الفلسطينيين؛ فالعنف جزء لا يتجزأ من الاستعمار الاستيطاني، إلاّ أنّ العنف هذا قد يرتد من خلال إشعال التطرف السياسي وإيقاظ الوعي الوطني، ويؤدّي إلى تقويض السيطرة والهيمنة الاستعمارية. لذلك، يقترن استخدامه مع استراتيجياتٍ أخرى تركّز على أشكالٍ أخرى من العنف القهري غير الفيزيائي. يطلق «بيير بورديو» على هذه الأشكال من العنف مفهوم العنف الرمزي، والذي يتضمّن نطاقاً واسعاً من الأشكال، يمكن لها أن تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو قانونية. وفي سياق الاستعمار الاستيطاني، فإنّ الهدف الشامل للعنف الرمزي هو إضعاف وتحييد واستيعاب السكان لإجبارهم على الاستسلام للمستعمِر. هذا العنف لا يشبه العنف الفيزيائي الذي «يقوم على الفعل العسكري لسحق العدو المتمرّد، بل هو فعل يؤدّي في نهاية المطاف إلى بناء نظام اجتماعي جديد، لا يكون هناك مكان للتمرد ولا يسمح بإنتاجه بنيوياً». [36]

لكن، وبينما تتقاطع الممارسات السياسية والاقتصادية للفاعلين الدوليين وتتكامل مع تقنيات السيطرة «الإسرائيلية» لتحقيق هدفها الأوحد، وهو الحفاظ على أمن «إسرائيل»، فهي لا تزال بحاجةٍ إلى معرفة بالأراضي الفلسطينية المحتلة. في هذا السياق، يتساءل توفيق حداد «مَن مِن بين المانحين الدوليين من يمكنه فهم العالم المعقد لمنظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل السياسية الفلسطينية، والبنى العشائرية، والمدى الواسع من النخبة الفلسطينية وتنافسها وتاريخها؟»، فكانت إجابته «المساعدة المحلية كانت ضرورية…في تنظيم المعرفة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووضعها في أيادي المجتمع الدولي». [37]

تجلّت الوصاية المحلية في هذا السياق من خلال ثلاث نقاط: الأولى، تضمّنت التدريب والسيطرة على القوات الأمنية للسلطة الفلسطينية. والثانية، تشمل دعم نوعٍ محدّد من النخب في مقابل إقصاء آخرين. أمّا الثالثة، فهي تحييد واستيعاب أفراد وجماعات في المجتمع الفلسطيني لدعم أو الإذعان إلى بردايغم أوسلو للسلام. 

بالنسبة للتجلّي الأول، لعب المجتمع الدولي دوراً حيوياً في تدريب القوات الأمنية الفلسطينية والإشراف عليها، والذي تمحور حول حماية السلطة الفلسطينية ونخبتها، والعمل على إخماد أي عملٍ عسكري تجاه «إسرائيل». في هذا السياق، وصل الإنفاق المالي على الأجهزة الأمنية ما يقارب المليار دولار، ويشكّل ما مجموعه أكثر من ربع ميزانية السلطة الفلسطينية المالية، متجاوزاً ما يُنفق مجتمعاً على الصحة والتعليم والزراعة. وخُصّصت %30 من المساعدات المالية الدولية لقطاع الأمن، بينما يغطي هذا الإنفاق ما يقارب الـ 80 ألف منتسب للأجهزة الأمنية، والتي تعدّ من أعلى نسب أفراد الأمن بالنسبة للسكان، بواقع رجل أمنٍ لكلّ 48 مدني. [38] هذا التأكيد على الدور الأمني تكلّل بما أطلق عليه الجنرال الأمريكي «كيث دايتون» -المنسق الأمني الأمريكي لدى السلطة الفلسطينية- خلق «الفلسطيني الجديد»، مضيئاً على إنجازه بالقول: «ما قمنا بخلقه، وأقول ذلك بتواضع، ما قمنا بخلقه هم رجال جدد…عند عودتهم قد أبدوا الدافع والانضباط والمهنية، وقد أبدوا تغييراً -ولستُ أختلق ذلك- إلى الدرجة التي سألني فيها قادة عسكريون إسرائيليون مراراً: «كم من هؤلاء الفلسطينيين الجدد يمكن لك أن تُنتج؟». [39]

أمّا التجلي الثاني للوصاية في السياق الفلسطيني فهو ما أطلقت عليه الباحثة «ماندي تيرنر» بردايغم «شركاء السلام»، والذي يتشكل من ثلاثة عناصر: الأول هو محاولة مجتمع المانحين والمنظمات الدولية تأييد أو فرض نخب محلية سياسية فلسطينية تعدّ مناسبة. ثانياً، يتمّ تحديد ما هو مناسب وما هو غير مناسب وفقاً لمدى استعدادية النخب الفلسطينية لصنع السلام مع «إسرائيل» كما تعرّفه الأخيرة. وأخيراً، أيّ من النخب السياسية التي لا تعدّ مناسبة سيتمّ تهميشها أو القضاء عليها. ولذلك يعكس هذا البردايغم موضعة خطاب ‘أمن «إسرائيل» أولاً’ واستدخاله تحت ذريعة ضمان فعالية هذا البردايغم. وكنتيجةٍ لذلك، تأتي محاولة المانحين فرض أو دعم النخب «الصحيحة» والمستعدّة لتحقيق السلام مع «إسرائيل» على حساب الفلسطينيين، من ناحية زيادة واتساع رقعة الاستيطان بشكل كبير.

ومع دمج التجلي الثاني والثالث، قد تطفو عناصر مما أُطلق عليه بـ «رأسمالية المحاسيب» خلال تسعينيّات القرن العشرين على السطح في السياق الفلسطيني. وتتضمّن البحث عن الريع، والفساد المالي، والمحسوبية الشخصية، والتي تأخذ جميعها شكل الاحتكارات التقليدية كسمةٍ تعريفية للعلاقة المتواطئة ما بين السلطة الفلسطينية ورجال الأعمال. رسّخت هذه الاحتكارات الطابع الريعي البنيوي للسلطة الفلسطينية. إنّ الظروف التي قادت إليها سياسية في المقام الأول، وهي السعي الحثيث لتثبيت النخبة السياسية للسلطة الفلسطينية ورجال الأعمال مقابل تهميش وتحييد الفاعلين السياسيين غير المنصاعين لبردايغم أوسلو للسلام. فتمّت مأسسة هذه الشبكة المعقدة التي أدارت الاحتكارات في جهاز السلطة، وتمّ وصفها بـ «المجمع الأمني-الاحتكاري» (Security-monopolistic complex). حيث عمدت من خلاله إلى استخدام المحاباة السياسية، لبناء قاعدتها الاجتماعية وممارسة السيطرة عليها، وقمع المنشقين أو الخارجين عن «العرف الوطني»، وتحييد أو شراء من ما زالوا يؤمنون بالكفاح المسلح. 

ونتيجةً لذلك، فإنّ شبكات الاقتصاد السياسي للسلطة الفلسطينية قد أصبحت مرتبطةً بشكلٍ معقد باقتصاد مكافحة التمرد. وعلى الرغم ممّا يشاع بأنّ السلطة الفلسطينية تبنّت النيوليبرالية كحجر زاويةٍ لسياستها الاقتصادية، إلا أنه من الضروري ملاحظة الشكل الخاص لنيوليبرالية السلطة الفلسطينية. فالسياسة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية ابتُكرت على نحو استراتيجي كآليةٍ لصناعة الاستقرار الداخلي، من خلال توفير فرص ريعٍ سياسي وتوسعة قاعدتها الشعبية. وعلى سبيل المثال، بينما تتطلّب النيوليبرالية السائدة عالمياً سياسات التقشف لتقليص القطاع العام، عمدت السلطة الفلسطينية إلى عكس تلك السياسة بشكل مستمر لمواكبة قدرتها على صهر أكبر قدرٍ من الفئات الاجتماعية في علاقتها الزبائنية، لتسمح بشراء الولاءات والحفاظ على السيطرة والاستقرار والإذعان، مع العلم أن ما يقارب من خُمس الفلسطينيين يعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على وظائف السلطة الفلسطينية. [40] 

هذا الموضوع بالتحديد تمّ نقاشه من قبل أنس اقطيط في كتابه، والذي يسبر أغوار الاقتصاد السياسي للإيرادات العامة للسلطة الفلسطينية، من خلال عدسات علم الاجتماع المالي، رغم إطاره النظري القائم على اعتبار السلطة كدولة. يجادل اقطيط بأنّ السلطة الفلسطينية والتي لا تمتلك سيادة أو سيطرة على معابرها، تعتمد على مصدرين أساسيّين للدخل وهما المساعدات الدولية وإيرادات التخليص الضريبية المشرفة عليها «إسرائيل» وفقاً لما نصّت عليه اتفاقية بروتوكول باريس. إذ تقوم «إسرائيل» بمعالجة إيرادات التخليص والإشراف عليها وتحويلها لخزينة السلطة الفلسطينية. بذلك، تجد السلطة نفسها أمام ريعٍ مزدوج، تعتمد فيه على المساعدات المالية الخارجية والضرائب. هذا الريع المزدوج أثّر ويؤثر بشكلٍ كبير على ديناميكيات العلاقة ما بين السلطة الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني؛ فالإنفاق الواسع في مجال المحسوبية وبناء القاعدة الجماهيرية، والقمع الفاعل لتشكيلاتٍ اجتماعية أخرى، جعل من المجتمع في حالةٍ سلبية، ممّا ضمن الانصياع السياسي. كما عززت المساعدات الدولية من نظام المحسوبية هذا، لتصبح الكيفية في رصد وتشغيل وتوزيع هذه المساعدات ضمن نطاق استراتيجية بناء قاعدة السلطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967.

ولذلك، فإنّ الاعتماد على الريع المزدوج للسلطة الفلسطينية قد دفع باتجاه عددٍ من التبعات السياسية التي أعادت تشكيل علاقة المجتمع بالسلطة. وشملت ظهور طبقة من مستفيدي الريع، وبروز النزعة السلطوية ومؤسسات سياسية عاجزة، وحلقة من عدم الثقة والتنافس بين فئات المجتمع تجاه بعضها البعض. فكان تضخم جهاز السلطة البيروقراطي كنتيجةٍ لمحاولتها فرض السيطرة، وعمدت إلى تعزيز شرعيتها السياسية من خلال استيعاب الأفراد في هياكل السلطة، بهدف ضمان أنّ صفقاتها السياسية مع «إسرائيل» والمجتمع الدولي أمر مفروغ منه، نظراً لحيازتها على السيطرة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. علاوةً على ذلك، كان على السلطة الفلسطينية التزام إدماج منظمة التحرير الفلسطينية بهياكل السلطوية الجديدة، وضمان الأمن الوظيفي للعاملين السابقين في منظمة التحرير والذين أتوا من الخارج. بالنسبة لهم، رأوا أن استيعابهم في السلطة الفلسطينية كان مكافأةً لجهودهم السياسية السابقة على نشأة السلطة. فلم يتعلق الأمر بالحكم، بل مثّل نهايةً عادلة لمعاركهم السياسية. من هنا، يظهر بأنّ التوظيف في القطاع العام لم يكُن متأثراً فقط بحاجاتٍ إدارية، بل كانت استراتيجية استيعاب مصمّمة لمبادلة الأمن المالي والوظيفي للعاملين في السلطة بالإذعان السياسي، وهذا بدوره جعل بيروقراطية السلطة تعكس بُنى طبقية ريعية تقليدية. [41]

إلى جانب هذه البنى، طالت استراتيجيات المانحين تحييد مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني على حساب قاعدتها الشعبية. فقد كانت المساعدات المالية أداةً مهمّة في تحويل ما كان يعدّ مجتمعاً مدنياً تمثيلياً راديكالياً إلى مجتمع مهني منزوع السياسة. بالنسبة للمانحين، يمثّل المجتمع المدني الفلسطيني قطاعاتٍ مهمة يمكن لها أن تلعب دوراً في دعم وصناعة الاستقرار ضمن بردايغم السلام الليبرالي على مستوى القاعدة. فربطوا المساعدات المالية بشروطٍ سياسية، ممّا أدى إلى إفقاد المجتمع المدني استقلاله، لتصبح نسبة كبيرة من هياكل المجتمع المدني معتمدةً على التمويل الغربي المشروط، ممّا جعلها تنصاع وتنصهر في الاقتصاد السياسي لمكافحة التمرد، وأدى الى ظهور ما أطلقت عليه ليندا طبر وساري حنفي النخبة الفلسطينية المعولمة. [42]

خاتمة: من نموذج الحداثة المدينيّة إلى نموذج المنطقة الخضراء 

في تحليله الماركسي لعمليات التحضر المدينية الرأسمالية (Capitalist Urbanization)، يقترح «ديفيد هارفي» بأنّ الرأسمالية تنجو من خلال تشكيل واحتلال الفضاء الحضري، كما تعمل بشكلٍ حتمي على قولبة المشهد العام (physical landscape) لتعكس طبيعتها وصورتها. [43] يُمكن لهذا التحليل أن ينطبق بصورةٍ جزئية على الحالة الفلسطينية؛ إذ لا يمكن إطلاق حكم نهائي بأنّ المجتمع الفلسطيني مجتمع رأسمالي. ومع ذلك، فإنّ الاقتصاد السياسي لمكافحة التمرد أعاد تشكيل المناطق الحضرية الفلسطينية على شاكلته ليستمر. وهذا ما أُطلق عليه بـ «فقاعة السلام الاقتصادي»، والتي تظهر بشكل رئيسي في الضفة الغربية، وبشكل خاص في مدينة رام الله. تعكس هذه الفقاعة نظامها الاقتصادي من خلال «طفرة العمران، ومعارض السياسات، والفنادق العالمية، والمطاعم الراقية، وأنظمة تجارب الأسهم الافتراضية والحكومة الإلكترونية». تعطي هذه التطورات الانطباع كما لو أنه تمّ تحقيق المساواة بين «التجارة الحرة والحرية، وبين تملّك منزل وبناء الدولة، وبين مصرف مركزي مستقل والاستقلال السياسي». [44] 

وفي قراءة لـ«فرانتز فانون»، يضيء على الانقسام الواضح والثنائية بين القطاعات الحضرية للمستعمِرين وتلك التي للمستعمَرين، مشيراً إلى أنها لا تكمّل بعضها البعض بل تمتلك تعارضاً جوهرياً فيما بينها. [45] إنّ هذه الفكرة بحدّ ذاتها قد تآكلت في السياق الفلسطيني نظراً للاقتصاد السياسي لمكافحة التمرد وتجلياته الحضرية. فعلى سبيل المثال، وفي المرحلة التي أعقبت عام 2008، تمّ تخفيف القيود على الائتمان البنكي الخاص، وكان على البنوك في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 أن تقدّم %40 من قيمتها كقروض محلية. ونتيجةً لذلك، ارتفعت نسبة القروض من 1.3 مليار دولار في عام 2008 إلى 7.1 مليار دولار في عام 2018، في زيادةٍ تتجاوز الـ %450. ومع ذلك، لم تذهب القروض إلى مشاريع وقطاعات إنتاجية، مع ما نسبته %1 و%6 ذهبت لقطاعيْ الزراعة والتصنيع، بل شكّلت القروض لشراء السيارات والاستهلاك ما يقارب الـ %33 منها. [46] 

يمكن قراءة هذه الحالة بأعين الأسير المفكّر وليد دقة ومفهومه حول الوفرة كتعذيب، في إشارةٍ إلى تجارب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال «الإسرائيلي»، والتي يمكن ربطها بالسجن الكبير الذي يعيش فيه المجتمع الفلسطيني. يقترح دقة بأنّ الوضع كما لو أنّ إدارة السجن تقول للأسرى الفلسطينيين «كلوا واشربوا وانشغلوا بمثل هذه الاحتياجات، المهم أن لا يتحول الأسير الى ذاتٍ يدرك واقعه ونفسه ويفكر بمصيره أو مصير رفاقه». أطلق دقة على هذا الأمر بالشرك والمصيدة، حيث «تحوّلت البحبوحة المادية الى أداة تعذيب»، بالإضافة إلى «أنّ هذا الحال ميّع كل إمكانية لحدوث انتفاضة أو صدام جدي بين الأسرى والسجان، لا سيّما وأنّ الوفرة المادية والبحبوحة النسبية ‘تُخمد’ أسباب المواجهة المباشرة وتميّعها». من هنا، «تتطور ديناميكيات ويتشكّل مناخ نفسي وتربوي يقود الأسير إلى الانتقال بسهولة من النضال التحرري الوطني إلى النضال المطلبي، لكنّ نضاله في هذه الحالة لن يكون موجهاً بالضرورة ضدّ سلطة الاحتلال وإدارة سجونها، وإنّما ضد السلطة الفلسطينية كـ ‘مشغل’ له!». [47]

هذه الطفرة الاقتصادية التي أسس لها الاقتصاد السياسي لمكافحة التمرد، وإحدى تجلياتها المتمثلة بالطفرة العمرانية، تمّ تصويرها كما لو كانت تجديداً واستمراراً للحداثة الحضرية الفلسطينية المنقطعة منذ النكبة. فعلى سبيل المثال، إنّ بحث أستاذة علم الاجتماع ليزا تراكي، الذي جاء بعنوان «الحداثة الحضرية في الهامش: طبقة متوسطة جديدة تعيد اختراع المدينة الفلسطينية»، يلتقط بشكلٍ عبقري الفروق الدقيقة والتغيّرات والأوجه الجديدة لمدينةٍ كمدينة رام الله. بيْد أنّ إطارها التحليلي لهذه الوقائع يمكن اعتباره قاصراً، إذ أنّها توصّفها ضمن مفرداتٍ سوسيولوجية تقليدية مركزةً على نشأة وظهور الطبقة الوسطى وتطلّعاتها بما تشمله من خلق حداثة طبقية. [48]. بالمقابل، تحاجج خلاصة هذا البحث بأنّ الاقتصاد السياسي لمكافحة التمرد هو القاطرة لتشكّل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مستندةً إلى مقاربة خالد عودة الله في نشأة الحداثة المدينية كحداثة استعمارية، والتي هي أقرب ما تكون إلى المنطقة الخضراء التي أنشأها الاحتلال في العراق، كبديلٍ عن سردية الحداثة المدينية التي أجهضتها النكبة. ونختم بقول عودة الله المطوّل:

«تبدو العلوم الاجتماعية الفلسطينية مهووسة بالإعلان عن بزوغ شمس الحداثة المدينية وترى في مدينة رام الله استئنافًا لحداثة مدينية ساحلية غابرة. واتجهت أدبيات العلوم الاجتماعية الفلسطينية إلى رؤية هذا التحوّل كتحوّل حداثيّ ضمن السّياق التاريخيّ للمدينة وخاصّة التركيز على ما منحته مسيحية المدينة من مؤهّل مِرحاب بالحداثة والتعدّد، وتشكل ‘للخيال المدينيّ’ حيث تعلن الذوات المدينية عن ذاتها كذوات حداثية عبر مجموعة من السّميائيات، أو عبر رؤية رام الله كمجال لانبثاق ممارسة سياسية طبيعية. في المقابل ألا يمكن النظر إلى رام الله كإحدى حالات المدينة الاستعمارية: منفذ ومركز محلي للسيادة الاستعمارية الحداثية المعولمة؟ وماذا عن رام الله العنيدة والمتمادية في حسد ‘جارتها’ التي تطلّ عليها من بعيد- أي المدينة الاستعمارية المركز المُسماة ‘تل أبيب’، فتقلّدها في كلّ شيء: فنون العمارة بواجهاتها الزجاجية وديكورات مقاهي النخبة وأماكن اللهو وصولاً إلى متاجرها الحديثة وضواحيها الجديدة. من الممكن رؤية رام الله كمنطقة خضراء مُمتدّة مَحميّة بعقد استعماري جديد لتشكل حيّزًا للتأديب والتأهيل العنيفين للذوات الفلسطينية المستعمَرَة الجديدة، وحيزًا سيكولوجيًا تتعيّن فيه المفاهيم المجرّدة ويحتضن نشوء البراغماتيات وعمليات التنقيح والمراجعات». [49] 

في الختام، ومع مرور أكثر من ثلاثين عاماً على توقيع اتفاقية أوسلو، هذا ما أُريد للشعب الفلسطيني من قبل قوى الهيمنة والاستعمار، ولا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال النجاح المطلق لعمليات التحييد ونزع المقاومة من حاضنتها الشعبية أو سلب الفلسطينيين فعاليتهم، أو تقويضها كنتيجة للاقتصاد السياسي لمكافحة التمرد. فما زلنا نرى منطقاً مغايراً لا يرتبط بعقلية الربح والخسارة، يفتّت الصخر ليصنع سرديةً أخرى وحياةً أخرى ومستقبلاً آخر للأجيال القادمة. فالفجوة ما بين ما هو مخطط له في النظرية وما بين تطبيقاتها العملية، يكمن في أثر الفراشة.