مدخل
قبل البدء بالحديث عن الإعلام في السّياق الفلسطيني وتحليل خطابه ومؤسساته، من الضّروري الإشارة إلى مجموعةٍ من المقدمات الضّرورية، والتي تتعلق أساساً بتحديد السّياق الاجتماعي السياسي لهذا الحديث ولهذه المؤسسة وخطابها. من هنا لا يمكن تجاوز التأكيد على السّياق الاستعماري الاستيطاني “كبنية تحتيّة” تّحدد بشكل أساسي تشكّلَ وتحوّلَ الحالة الاعلاميّة، وتحدد كذلك النموذج التحليلي لهذه الحالة.
- عندما نحدد السياق بالاستعمار الاستيطاني وبمقاومة هذا الاستعمار، فلا نقصد تكرار “كلاشيهات” “تحميل الاحتلال المسؤولية”، ولا الشّعارات ولا التّسابق لنقل الأخبار العاجلة حول الفعل المقاوم، أو ارتقاء الشّهداء، ولا تعني هذه الرؤية بأن المؤسسات والممارسات الاجتماعيّة في فلسطين- الإعلام في هذه الحالة – لا يوجد ما هو مشترك بينها وبين نظيراتها في باقي المجتمعات العربية وغير العربية، وهنا أوّل ما يجب الانتباه إليه هو أنّ تحويل الممارسات الإعلامية واختزالها حصراً بالتقنيات والممارسات الجزئية “أصول ممارسة المهنة”، هو تعبير عن موقف من الاستعمار في فلسطين لا يريد أن يراه لكي يتعايش معه.
يمكننا الإشارة إلى الجوانب التّالية التي تشكّل صورة الممارسة الإعلامية في فلسطين عبر علاقتها بالبنية التحتية: الاستعمار الصّهيونيّ والموقف منه والعلاقة به وهي: الـتأهيل المهني والمعرفي في المؤسسة الأكاديميّة المحليّة وعلاقاتها بنظام المعرفة المُتغلّب في هذا العالم، العصر التقني(آليات الحجب والكشف وصناعة الرأي والاهتمام والاهمال، وصناعة الأحداث في مقابل نقل الأحداث، وهيمنة الصورة) ودكتاتورية الوسيلة “الوسيلة هي الرسالة”، أي أن وسيلة النقل وطبيعتها الماديّة تؤثر على الرسالة والمضمون بدرجات متفاوتة، والتواصلي والإشهاري، الاقتصاد السّياسي للإعلام بعلاقته بالقوى والطبقات الاجتماعيّة صراعاتها وتحالفاتها، والإعلام كوسيلة حربية (الحرب النّفسيّة والحرب المعلوماتيّة)، هذه المحددات تتفاعل فيما بينها على أنّ الحاسمَ فيها هو السّياق الاستعماري لفلسطين ومقاومته.
في المحصلة فإنّ الإعلام كغيره من الأجهزة الاجتماعيّة والسّياسيّة تعبيرٌ عن المجتمع ويؤثر فيه، وبالاستناد إلى أعلاه، فإنّ رؤيتنا للإعلام في فلسطين تتحدد مبدئياً من الموقف العملي المُمارس من الاستعمار الصّهيونيّ مقاوماً أو متواطئاً أو “محايداً”، مع التشديد على كوّن الحياد هو إعلان موقف.
إنّ تقييم أداء المؤسسات والوسائل الإعلاميَة يتحدد أساساً من موقعها وموقفها من الاستعمار الصّهيونيّ. دون أن يقتصر التقييم على النقد والرسالة المضادة، وإنما يتعداه عند الحاجة إلى المقاطعة، فهناك مؤسسات متواطئة فعلياً من خلال ممارستها للحرب النفسية الناعمة، بالإضافة إلى المؤسسات التي تعتمد سياسة تطبيعية معلنة، وهذه تجب مقاطعتها ومجاهدة النفس للتغلب على شهوة النجومية والظهور اللتين تغريان بهما هذه الوسائل لإمكانياتها الهائلة، وهنا من المهم الـتأكيد على أنّ ثورية ووطنية ما يقال لا تتحدد فقط بمضمونه وإنما أيضاً بأين يقال وكيف يقال. ومهنياً من مدى اقترابه أو بعده من نموذج “الإعلام المقاوم”، ويتحدد هذا البعد أو القرب بالنظر إلى مدى تحرره من البنية الاجتماعية الاستعمارية وامتداداتها المحليّة ماديا وأيديولوجيا، ماديا على مستوى التمويل والمصالح، وأيديولوجيا على مستوى الخطاب، ومن ثمّ تطوير رؤية وفلسفة اعلامية تتسق مع هذا التحرر، بحيث تضع المهني في خدمة الوطني دون أن تضحي به.
ومن الضروري أن يتم بلورة مفهوم الموضوعية والمهنية كإجادة للعمل واتقانه ضمن سقف الثوابت الوطنية والحفاظ على عدائية ضد المستعمِر تنعكس في مواقع الاحتكاك معه، فكل موضوعية هي ممارسة تتم ضمن سياق معين، وعادة ما تستخدم الموضوعية كحجة من الطرف القوي للقبول بالأمر الواقع، فعلى سبيل المثال إنّ الموضوعية في رؤية الهبّة الشعبية توصلنا إلى القناعة بقدرة الشعب الفلسطيني على المقاومة الفاعلة ضمن كلّ هذه الظروف القاهرة، وهنا خطورة اختزال حالة المقاومة بالبطولة الخارقة للظروف بقدر ما هي بطولة ضمن الظروف، وبالتالي التحرر من الخطاب المبالِغ في رمزية المقاومة من مثل رمزية الحجر أو رمزية “بيت ايل “. وكذلك فإنّ الموضوعية في تحليل راهن المجتمع الصهيوني في فلسطين إلى معرفة أنّ لكل قوة ضَعف، فمثلا إنّ 20 عاما من مشروع التسوية مع العدوّ ضاعف قوته الاقتصادية وأضعف في الوقت ذاته من قدرته على المواجهة كمجتمع ، فالمقاومة بقدر ما هي تعبير عن وجدان وعاطفة هي أيضاً علم.
بالاستناد على رؤية المهني ضمن الوطني، لا يمكن القبول بمحاولة التشديد على الهوية المهنية للإعلامي في فلسطين كموقع يمنحه الحصانة من المُستعمِر، لأنّ هذا التصرف بالضرورة يشرعن الاستعمار كحالة تتسم بالأخلاقية أمام ذاتها أولًا، وثانيا يشرعن استهداف الاعلامي المشارك في العمل الوطني ويتناقض مع الرسالة الإعلامية التي دائما يتم تكراراها فلسطينيا والتي تتمحور حول أنّ الكل مستهدف.
- لا تدّعي هذه الورقة المسحَ الشّامل للوسائل والوسائط الإعلامية وإنما تُقدِّمُ ملاحظاتٍ أوليّة على السّلوك والممارسة الإعلامية وخاصّة فيما يتعلق بالهبة الشّعبية الحالية.
وعندما نتحدث اليوم عن بيئة إعلامية في فلسطين فإننا نتعامل مع بيئة معقدة، ومتداخلة ودينامية، تصعب معالجتها بشمولية ضمن هذه الورقة، خاصّة مع تنوع وسائل نقل المعلومات من مرئية ومسموعة ومكتوبة، وتداخل خوارزميات “الفايسبوك” و”التويتر” في هذه البيئة، ناهيك عن قدرات الدول في توظيفها للرسائل الإعلامية لخدمة مصالحها. عدا عن مظاهر التّعقيد والتّشابك، فإن هذه البيئة الإعلامية تنشط في عالم السّرعة، وعالم توافر المعلومات خلال لحظات، الأمر الذي يضع الإعلام أمام تحديات التصارع والتسابق على إعلان وصياغة الخبر. وتضخم السّاحة الإعلامية في فلسطين، بسبب الطفرة في عدد المؤسسات الإعلامية، وثانياً بسبب شيوع أيديولوجيا “صوّر خلي العالم يشوف”، و”فضح جرائم إسرائيل”، وهي ايديولوجيا تفهم الصراع كحملة علاقات عامّة. فلسطين تعيش حالة من فائض التّصوير وفائض الإعلام، مما أدى إلى فائضٍ في الكشف، وخلقِ حالةٍ مضيافةٍ للصحافة، لا تتوجس كثيرا من استغلال الصّحافة كغطاء مخابراتي وعملياتي .
ولا تعني غلبة الروح النقديّة في هذه الورقة، انتفاء ما هو إيجابي في هذا الأداء، أو إغفال الظروف القاهره الميدانية والاجتماعيّة. كما لا تهدف هذه الورقة إلى وضع تحليلٍ أكاديميٍّ ضمن دراسات الإعلام، بقدر ما هي ملتزمة بروحية “البحث المّناضل أو المحارب”، حيث الجهد المعرفيّ هو امتدادٌ للاشتباك الميدانيّ يُعبِّرُ عنه ويساندُهُ، ولا يفصلُ ما بين المعرفة وما هو سياسي، وذلك دون أن تتحوّل المعرفة إلى وعظ وتجييش، وهي معرفة تُخاطب مجتمعَها أولاً، بعد أن أحسنت الإصغاءَ لهذا المجتمع الذي تحبّ وتعشق كشرط أساسي وموضوعي لصحة أية معرفة تّنتج حوله.
(وما نقصده بالإعلام الفلسطيني في هذه الورقة هو مجموع المؤسسات والوسائل والممارسات الفلسطينية المشار إليها في هذه الورقة دون التعميم والحصر)
تحاول هذه الورقة التي نضعها بين أيديكم ملاحظات أوليّة على أداء الإعلام الفلسطيني أثناء الهبة الفلسطينية الحالية (أيلول – تشرين الأول 2015)، ووضع هذه الإضاءة ضمن السياق العام الاستعماري الاستيطاني، وعلاقة هذا الأداء بالسياقات السياسية والاقتصادية المختلفة، من مثل الولاءات الفصائلية والمال السّياسيّ، الإشكاليات المهنية المتمثلة في افتقار الكثير من وسائل الإعلام والإعلاميين أدوات التحليل وأدوات صياغة خطاب إعلامي وطني.
الإعلام الفلسطيني وسياقاته:
تتعدد الوسائل الإعلامية في فلسطين، ويتنوّع خطابها بناءً على عدّة عوامل، وتعدد البيئة التي ظهرت فيها هذه الوسائل الإعلامية هي السّبب الأساسي وراء التنوع في الخطاب. بمعنى آخر، إن اختلاف ملامح الخطاب الإعلامي من وسيلة/مؤسسة إلى أخرى نابع بالدرجة الأولى من اختلاف المشاريع السّياسيّة التي تأسست في كنفها وتعبر عنها هذه المؤسسة أو تلك.
وتتقسم هذه الوسائل إلى عدة أقسام؛ الإعلام الحزبيّ الفصائليّ، الإعلام الحكوميّ، الإعلام الخاصّ والمستند في تأسيسه على رأس المال المحليّ كاستثمار، بالإضافة إلى الإعلام المموّل أجنبياً. تعبّر كلُّ مؤسسة عن خطاب مشروعها السّياسيّ الذي انبثقت منه، ويبدو ذلك متجلياً في مستويات عدّة، أوضحها اختلاف المفردات والمصطلحات المستخدمة لوصف حدث ما، أو طريقة صياغة الخبر، عدا عن الاختلاف في أولويات الأخبار من حيث أهميتها والموضوعات والمساحات وصناعة القادة والمؤثرين.
وقد نشأت الكثير من هذه المؤسسات الإعلامية الفلسطينية في بيئة هيمن عليها إفرازات خطاب اتفاقيات أوسلو، التي حددت دور الإعلام بالعلاقة مع السّلطة في سياق عملية “بناء المؤسسات” و”المحاسبة ومكافحة الفساد والمساءلة”. كما استدخلت في هذه البيئة الإعلامية مفاهيم مثل “السّلطة الرابعة” المعمول به في الدول الليبرالية والديموقراطية. وكانت هذه البيئة إحدى تجليات ونتائج تحوّل حركة التّحرر الوطنيّ الفلسطيني إلى ىسلطة مؤسسات سياسية، فتحوّل الإعلام المركزيّ للثورة الذي كان يحمل مهمة التعبئة والحديث باسم الثورة إلى هيئة إذاعة وتلفزيون رسمية، وذراع إعلامي لحركة “فتح” واللجنة المركزيّة لها.
أما في فلسطين المحتلة عام 1948 فتتكون البيئة الإعلامية من الإعلام الحزبيّ (الحركة الإسلاميّة، التجمع، الجبهة….)، والإعلام الخاص الرأسمالي، بالإضافة إلى ظاهرة لافتة وهي انتشار مواقع إعلامية محلية للقرى والبلدات، تنقل وتغطي هذه المواقع الاحداث المحليّة وتعزز خلق هويات فرعيّة. كما أن هناك ظاهرة آخذة بالانتشار هي الإذاعات التي تبث من الخليل وجبل الخليل، من إنشاء أهالي النقب، موجهة إلى أهلنا في النقب. ويعتمد الخطاب الإعلامي في فلسطين المحتلة عام 1948 بشكل عامّ على الخطاب القانوني، مع التركيز على مواضيع “العنصرية، وغياب المساواة مع المستوطنين الصهاينة”. وبعض هذه المؤسسات والمواقع تتعامل مع ما يجري في الضفة والقدس والقطاع على أنه يجري في “دولة أخرى”، فأحد هذه المواقع مثلاً يخصص زواية “فلسطينيات” للحديث عن الضفة والقطاع. وكأن ما يجري في الناصرة وأم الفحم ليس فلسطينياً.
وبالرجوع إلى البيئة الإعلامية في الضّفة الغربيّة، فإنّ وسائل الإعلام غير الرسمية المستندة إلى رأس المال الخاصّ والمستفيدة من التمويل الأجنبي، تبنت هي كذلك نهج خطاب “سلطة المؤسسات”، وحاولت لعب دور “المعارضة الديموقراطية”.
أما الفصائل الفلسطينية فقد اعتمدت في وسائلها الإعلامية على بثّ الخطاب الحزبيّ الموّجه أساساً نحو جمهورها، عدا عن بثّ المناكفات السّياسيّة مع بقية الفصائل. وتعاني معظم المؤسسات الإعلامية الحزبيّة من فشلٍ في خلق حالةِ نقدٍ ذاتيّ داخل جمهورها والذي (أي الجمهور) يُحدّد تفاعله مع الرسالة الإعلامية ( قبولاً أو رفضاً) بالنظر إلى هويتها (اسم القناة أو الموقع أو الكاتب). ومن ثمّ يتخذ هذه التفاعل طابع المناكفة والبحث عن “الفضائح” وتناقض المواقف عند “الخصوم” والـتذكير بالتاريخ النضالي للفصيل، والكثير مما يطلق عليه في الثقافة السياسية الفصائلية “بالمزايدات”. وعادة ما تغيب النقاشات الجادة والتي تفصل بين ما يقال ومن يقول، وبالنتيجة تغيب روحية النقد الذاتيّ ما بين جمهورها، ويبقى التحشيد وبناء الهوية الفصائلية “القبلية” هو سيد الموقف، عدا محاولة البحث عن أرضية مشتركة للعمل الوطني.
ولا يمكننا التّطرق إلى الخارطة والبيئة المشكلة للإعلام الفلسطيني دون التحدث عن صعود الأجهزة الإعلامية العربيّة والتي ارتبطت بمصالح وسياسات دول معينة أو فئات اجتماعيّة مختلفة، وقد شكلت شبكة الجزيرة الإخبارية في بداية انطلاقتها نقلةَ نوعيّةً في الجهاز الإعلامي العربيّ، فهي أول محطة تلفزيونية إخبارية اتخذّت من المحيط العربيّ الواسع جمهوراً لها، وهي من أوائل القنوات التي وفرت للمشاهد 24 ساعة من الأخبار والتحليلات والبرامج والأفلام ذات البعد السّياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ.
وقد جعل النجاح الذي حظيت بها الجزيرة قضيةَ استنساخها مسألة وقت. فقد تسارع بعدها ظهور القنوات التلفزيونية مثل قنوات العربية والميادين والحدث والعالم وروسيا اليوم والحرّة، وغيرها من القنوات التي تخدم سياسات الدول التي تموّلها. وتتباين مواقف وسياسات هذه الوسائل تبعا للسياسة الخارجية لهذه الدول وعادة ما تنعكس صراعاتها على سياستها الإعلامية في السّاحة الفلسطينية وهي لاعبٌ أساسيٌّ في السّاحة الإعلامية المحليّة، بل وأصبحت هذه الدّول تفرخ مؤسسات إعلامية محلية تابعة لها.
وقدّ تفاعلت هذه المؤسسات بطرق متفاوتة مع الهبّة الشعبية، تراوحت ما بين: الدعم والاسناد والتبني الكامل بما ويتسق مع الموقف السياسي وأجنداته، والتبني الماكر الذي يريد متابعة الحدث بانتظار ما ستؤول إليه الأمور واتضاح الموقف السياسي لمن تمثله هذه الوسائل، مع بثّ رسائل اعلامية تحذر من طرق باب المجهول وتُذكر بالدمار الذي حلّ بالمجتمع الفلسطيني نتيجة للأفعال غير المدروسة، “والتبني الاستثماري” كحدث اعلامي يشكل هماً واهتماماً للجمهور وفرصة لرفع عدد المتابعين.
إن أي عملية تتبعٍ ودراسةٍ للحيز الإعلامي والتواصلي الإلكترونيّ تمثل تحدياً جدياً، نظراً للطبيعة فائقة التعقيد والتشابك والدينامية العالية لهذا الحيّز. وقد شهد العقدُ الأخيرُ صعودَ وسائل الإعلام الاجتماعيّ كأداة إعلامية سريعة وتفاعلية، وخاصّة بعد “الثورات العربية”، فهي متاحة بيد أيّ شخص، بغض النظر عن تخصصه، هذا يعني أننا نعيش في عالم يمكن لأي فرد فيه يملك هاتفاً “ذكياً” أن يمارس دوراً إعلامياً وصحفياً.
وتلعب وسائل التواصل الاجتماعيّ دوراً هائلاً في نقل المعلومات وسرعة انتشارها. وتتأثر مضامين مستخدمي هذه الوسائل بما يجري في السّاحة الفلسطينية بشكلٍ مباشرٍ، بل أصبحت مصدراً أساسياً لوسائل الإعلام المؤسساتيّ، وتتجاور في هذا الحيز التواصلي الوظيفة الإعلامية والوظيفة التعبوية والإرشادية العملية.
وقد أصبحت هذه الوسائل في دائرة الاتهام من قبل أجهزة الأمن الصهيونية، بأنها مساهمٌ رئيس في “التحريض”، وخاصة فيما يتعلق بتداول صوّر شهداء وأبطال العمليات الفدائية، ونشر وتداول صور وفيديوهات “تحريضية” كاقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى وكذلك مشاهد الاعتداءات والاعتقالات بحق الفلسطينيين في القدس وبالأخص المرابطات، والاعدامات الميدانية، على أنّ الاهتمام الأمني الصهيوني بها في هذه الهبّة الشعبية منصبّ أساساً على كونها مصدر شبه حصري للمعلومات المخابراتية حول “النوايا المبيتة للأفراد” للقيام بأعمال مقاومة، حيّث تقوم صفحات ” الفيسبوك ” للمقاومين مقام الوصية المصورة أو المكتوبة في العمل المقاوم الفصائلي.
ملاحظات أوليّة على الحالة الإعلامية :
الشّهداء
لطالما ارتبكت الثّقافة الفلسطينية أمام الشّهيد وحدث الشهادة، كان الشّهيد يحيل دوما إلى غيره؛ مناسبة لاستثمار ما، إما لصالح الفصيل أو مؤسسة حقوق الانسان أو الإعلام، وكان حدث الشهادة مناسبة دائمة لظهور توتر ما بين الشّهيد الإنسان والشّهيد البطل، فدائياً أم ضحيّة، وما بين الشّهيد فرداً والشّهيد ملكاً للجماعة الوطنية، وما بين الاحتفاء وما بين “يريدونني أن أموت لكي يمدحوني”. يستبيح الإعلام الشّهيد، وقد يكون الشّهيد خجولا في حياته انطوائياً لا يحب الأضواء. وشيئا فشيئا “تتطوّر آلية ميكانيكية اعلاميّة” للتعامل مع الشّهيد: الإصابة إلى موقع الاصابة إلى حالته واعلان الشهادة قبل أوانها ومن ثمّ التراجع أو التأكيد، والتسابق إلى أهل الشهيد واستنطاقهم بما يشبه عمل المحقق، والارتباك حين لا تشبه أجوبتهم ما تريده المؤسسة بطولة أم ضحية. يتحول الشهيد وأهله إلى مادة اعلامية باردة ببرودة قسمات وجه المذيع أو المذيعة، المراسل أو المراسلة، والهندام المُبالغ بأناقته.
أمام هذا الارتباك “والابتذال”- ما أقسى هذه الكلمة في حضرة الشهادة- تصبح عملية صياغة رؤية اعلامية ترتقي إلى مقام الشهادة ضرورة ملحة، على أن تراعي هذه الرؤية قيمة الشهادة كحدث جلل ومهيب، يفرض اتزانا وجدية وهيبة في التعامل الاعلامي معه: التروي وعدم أولوية السبّق الصحفي، التأكد من معرفة أهل الشهيد بالخبر، وقف التدفق الاعلامي عند اذاعة الخبر، مراعاة حرمة جسد الشهيد، ، بناء لخبر الشهادة بالرجوع أساسا إلى وصية الشهداء إن وجدت، أو حديث أهله وأقرب الناس اليه دون “مونتاج” وقص واعادة صياغة. هذا في اللحظة الآنية، أمّا على المدى البعيد فتحدد الجديّة في التعاطي الإعلامي أساسا بالوفاء للشهداء، واتساق قرارات المؤسسة/الوسيلة مع هذا الوفاء، الوفاء في لحظة القرار والاختيار: الأَخذ والردّ، الطمع والتعفف، القبول والرفض، الأمل واليأس. الوفاء ومن ثمّ الفهم، فعادة ما يكون أكثر الناس إصرارا على فهم علة الشهادة وخلفياتها الاجتماعية ودوافعها النفسية هم أولئك المشغولون بالتخطيط لقتل الشّهيد القادم .
الإعلام والأمن المجتمعيّ والإلكترونيّ:
“الأمن المجتمعيّ” هو حالةُ وعيٍّ وممارسة تتحدد بكون المجتمع الفلسطيني مهدد وجودياً، إذ أن المشروع الصّهيونيّ لا يكتمل إلا بالقضاء على هذا المجتمع أو تدجينه ونزع قدرته على المقاومة، بل وتحويله إلى مشروع اقتصادي يموّل نفقات استعماره بنفسه بانتظار الظرف المناسب لترحيله. كمجتمع مهدد وفرصة بقائه الوحيدة هي المقاومة الاستنزافية لعدوه بحيّث يجعل المشروع الصهيوني دائم الإنتاج للأزمات الداخليّة، من المنطقي والضروري حماية القدرة على المقاومة، ولأن هذه القدرة مرتبطة جوهرياً بالقدرة على السريّة والحجب عن العين الاستعمارية، تصبح إثارة حسّ الستر والحجب عملاً أساسياً خاصة في العمل الاعلامي، ومن هنا من المهم الحفاظ على حس “التوجس من الغريب” والانتباه إلى من يلح في معرفة التفاصيل، وبالضرورة عدم التبرع في الكشف والتصوير والإظهار، هنا ينبغي الإشارة إلى استغلال أجهزة الاستخبارات الصّهيونيّة في الثلاثينات- أثناء تحضيرها لتهجير القرى – كرم الضيافة للولوج إلى القرى لمعرفة تفاصيل طبوغرافية واجتماعيّة تحولت لاحقا إلى مشروع ” ملفات القرى” والذي أرشد ونظمّ ورشّد العمل العسكري الصّهيونيّ في النكبة. ولأنّ منطق الإعلام الرئيس هو الكشف، فمن الضروري أن يتحول ” الأمن المجتمعيّ ” مكوناً أساسياً في المهنية الإعلامية، بحيث يقام توازن بين الإعلام وبين ضرره. وينعكس على الممارسات الإعلامية، إنّ أكثر ما يحتاجه الإعلام الفلسطينيّ اليوم هو “عقيدة أمنية اجتماعيّة” توازن ما بين نقل الواقع، وعدم الوقوع في أفخاخ مشهديات يتم إخراجها في غرف عمليات قوات الجيش والمخابرات الصّهيونيّة، وبالتالي المساهمة غير المقصودة في الحرب النفسية على المجتمع الفلسطيني. إن ما نحاول طرحه هو مفهوم “جمعي” لا يتم اختزاله هنا، بل يبقى رهينة تطورات السّاحة والأداء والاستفادة من التجربة والخطأ.
في عصر التواصل الاجتماعيّ وما حفزه من تفجّر لشهوة التصوير والكشف والبوّح، أصبح الناس يتبرعون بتقديم المعلومات والبيانات، وبالتالي أصبحت عملية جمع البيانات أكثر يسرا ولهذا سارعت الاجهزة الأمنيّة في العالم لإنشاء وحدات لجمع البيانات من المصادر المفتوحة (Open Source Intelligence) وبالطبع كان العدوّ الصّهيونيّ سبّاقا في هذا المجال. وبالنظر للعدد الهائل للرسائل المتداوله عبر هذه المواقع فقد تمّت أتمتة هذه التقنيات وتزويدها بمكوّن ذكاء صناعي يمكنها من التعلم وتحسين أدائها أثناء الجمع.
والمتابع للقراءات النقديّة الصّهيونيّة لعمل أجهزة الأمن الصّهيونيّة يلاحظ تكرار التشديد على ضرورة توسيع نطاق جمع المعلومات لتشمل النواحي الاجتماعيّة والاقتصادية والثقافية ولا تقتصر على النشاطات السياسية، وأصبحت مراكز أبحاث العدو تركز تقاريراً دورية حول الاتجاهات والمكونات العامة لهذا النشاط التواصلي.
وفي المقابل يمنح الحيز التواصلي الالكتروني فرصة للعمل المضاد أي “حرب العصابات الرقمية “ والمقصود بحرب العصابات الرقمية هو الانغماس في مواقع التواصل عند العدوّ وتقمص شخصيات عند العدو في الصفحات والمنتديات وغيرها وبثّ حرب نفسية مدروسة لا تقوم على الصدامية المباشرة ولا السباب، أو تاكيد الحق والانتصار وانما تبني سلاحها/ رسالتها من خلال تقمص شخصية قريبة من الواقعية وهنا يمكن على سبيل المثال نسخ شخصية موجود عبر المراقبة الطويلة لسلوكها الافتراضي وبناء معجم للتواصل بناء على هذه المراقبة مع تضمين إشارات ودلائل واقعية تشير إلى مكان سكن ما او معرفة بتفاصيل محليية لمنطقة ما، بثّ رسائل تستفيد من التوترات والأزمات الداخلية في المجتمع الصهيوني .
ويجب التنويه كذلك إلى أننا شهدنا خلال هذه الهبة تجاوزاً صارخاً من قبل بعض المصورين الذين قاموا بتصوير وجوه بعض المشاركين في المواجهات، بزاوية التقاط قريبة “close up”. وفي هذا الإطار، تلعب الصّورة دوراً كبيراً في الحروب والمواجهات. في المقابل نستحضر صورة الجنود الصّهاينة وهم يصرخون طالبين الرحمة في عملية ” الموقع العسكري ناحل عوز” والأثر الإيجابي الذي تركته تلك الصّورة في نفوس الفلسطينيين. في مقابل ذلك، يمكن استحضار كثرة الصّور والمرئيات التي اتصلت بعمليات القصف من قتل وتدمير في مشهدية تؤثر في مجرى الحرب وتخلق أحياناً ردود أفعال معاكسة للمراد، أي أن تلك الصّور تلعب دوراً سلبياً بعلاقة الحاضنة الشعبية مع قوى المقاومة.
وفي الهبة الشّعبية الأخيرة تناقلت وسائل الإعلام بشكل متكرر صور عملية اختطاف شبان فلسطينيين على يد مستعربين أثناء المواجهات المندلعة على المدخل الشّمالي لمدينة البيرة. وهنا يتعارض حب الإعلام للإثارة ونقل الصّورة مع مفهوم الأمن الاجتماعيّ الذي نقصده هنا، مع إدراكنا أنّ تلك الصّور كانت ستخرج لا محال.
إنّ الهدف الأساسي لوحدات المستعربين ليس فقط اعتقال من يشارك في المواجهات، إنما هو بدرجة أساسية خلق حالة من الشّك بين المتظاهرين، وخلق رادع نفسيّ أمام انضمام فئة جديدة للمواجهات. ولذلك يجب على الإعلام في الحدّ الأدنى وضع الأمور في سياقها، والحدّ من عرض الصور دون توضيح سياقها وهدفها.
من هوّ المخاطب؟
إنّ تحديد المخاطب أو المتلقي (أو المشارك) من ألف باء العمل الإعلامي، وهنا من المهم التفصيل بين مخاطبة المجتمع الفلسطيني، أو الصّهيونيّ أو العالمي أو العربي، فالخطاب الموجه إلى المجتمع يختلف في شكله ولغته ومفرداته عن الخطاب الموجه للعدو أو المجتمع العربي أو الدولي، وهنا يتم تقييم هذا الخطاب وتحضيره ضمن المهمة التي يضعها الإعلام لنفسه تجاه كل فئة من المتلقين له، والمسألة هنا تتعدى الطريقة والمفردة المستخدمة، إلى الهدف المرجو من وراء هذا الخطاب.
في الإعلام الرسمي عادة ما يتم استخدام مصطلح توعية الناس على اعتبار الناس كائنات مجردة من الوعي، وهنا من المهم الانتباه إلى دورة إنتاج المعرفة في المجتمع بعلاقتها مع الناس. فبالضرورة يمتلك الناس وعياً تراكمياً وذاكرةً جمعيةً، وعلاقة الإعلام مع الناس يجب أن لا تقتصر على التوعية وإنما أيضاً ان تتحول المنصة الإعلامية لتعبر عن وعي المجتمع، وهذا لا يتم بالضرورة كما هي العادة باصطناع الوجود بين الناس والقرب منهم، وإنما أيضاً سماعهم وتحويل ما نسمعه ونلتقطه إلى مكون من مكونات الرسالة الإعلامية.
وإذا تحدثنا عن ممارسة إعلامية تعرّف نفسها كوطنية، يصبح العبور من الخبر إلى صناعة الموقف بناءً على الموقف المجتمعيّ هو المطلوب، وهنا تأتي مسألة مهمة تتعلق بتحقيق التراكم والاستمرارية (ما معنى المقاومة بعد أن تتوقف الأخبار العاجلة أو تخف وتيرتها؟)
دعونا نستخدم الحقيقة التالية: بأن المواجهة الحالية كانت بؤرتها القدس وفلسطين المحتلة 1948 ماذا تقول لنا هذه الحقيقة عن مقولات مثل ” الأسرلة “، وما هو متطلبات هذه الحقيقة فيما يتعلق بمعرفتنا بالأمكنة وناسها بعيدا عن التعميمات والرمزيات، من مثل معرفتنا بالقدس فيما وراء المسجد الاقصى المبارك.
يظنّ بعض الصحفيين أن تعريف المهنية الصحفية يقتضي منه أن يدع انتماءه الوطني لفلسطين جانباً ويغطي ما يحدث فيه من منطلق صحفيّ بحت، وهذا بطبيعة الحال ليس صحفياً في خدمة قضيته ووطنه، إنما يعرف المهنية بتعريف عالمي لا يراعي خصوصية كلّ شعب وقضية ولا يراعي أن مهنيته بالسياق الفلسطيني تختلف عن سياق هولندا او السويد.وهنا يقع الإعلاميون في فخ يسموّنه “كشف الجرائم”، وهو مصطلح يُشكّل الايدولوجية النّاظمة لجزء لا بأس به من طبقة الإعلاميين الفلسطينيين، والذي يأتي في إطار “كشف الحقيقة واستجلاب التعاطف العالمي”. وتتم عقلنة هذه الإيدولوجية من خلال القول أن “العالم يقف ضدّنا لأن الحقيقة مغيّبة عنه، وأننا إذا استطعنا تصوير أو نقل الحقيقة وإخراجها للعالم، سيشكل التعاطف العالميّ رافعةً للتحرر”.
في سياق التشديد على الحياد الذي تنتهجه بعض المؤسسات الإعلامية، أتت عملية الشهيد إياد عواودة لتكشف عن النهج الممارس من قبل نقابة الصحفيين الفلسطينيين، التي ترى مهنتها من منظور “الحياد” أو “المهنية” في محاولة للحفاظ على حفنة من الامتيازات التي تنبع من كونهم صحفيين، وردة الفعل على هذا الموقف من قبل اعلاميين يعرفون ذاتهم المهنية ضمن سياق معركة التحرر الوطني، فخرج
بيانان احدهما بتوقيع نقابة الصحفيين، يتنصل من عملية الشهيد عواودة، محاولة تبرئة نفسها من السترة العاكسة التي ارتداها كتمويه، وأعلنت في بيانها أنها محايدة ليس لها صلة بما يحدث. خرج بيان آخر يرفض بيان النقابة.
الصراع الدائر حول “مصداقية” الرواية الصهيونية في بعض عمليات الطعن، ومحاولة الصحافة الفلسطينية إنكار الفعل يأتي من خطاب تعتمده بعض أركان المؤسسات الإعلامية بعكس صورة الفلسطيني الضحية أمام “العالم”، وهنا يقصد به العالم “الغربي”، هذه الصورة التي يريدها هذا الإعلام وتلهف أصحاب هذا الخطاب لإنكار الفعل المقاوم هي ما تفسر بيانات تنصلها أمام العالم والعدو من عملية الشهيد إياد العواودة، التي أظهرت صورة تحمل بلاغةً ومشهداً ملحمياً يسجّل في تاريخ العمل الفدائي الفلسطيني.
وأما عن مخاطبة العالم، فعادة ما يعرّف العالم بأمريكا وأوروبا أساساً، والطبقة المتنفذه في داخل هذه الدول، أن هذا التعريف للعالم مبني على موقف سياسي ونفسي، يختصر العالم بالعالم الرأسمالي وبالطبقة المتنفذه فيه، وكذلك الأمر عندما نتوجه للعالم العربي، فلا نتخيل أن نوجه خطاباً لأهل السودان على أساس دورهم التاريخي والحالي المهم في المقاومة، ولا شعب الجزائر الاكثر تفاعلا مع القضية الفلسطينية، فلا يجوز التعامل مع العالم العربي كوحدة واحدة، وفي عصر حروب التدمير الذاتي العربية وما رافقها من تراجع الوعي والاهتمام بمركزية القضية الفلسطينية، يجب البحث عن اختراقات في هذا الجدار،ـ التقاط الحركات الشعبية التضامنية والعمل عليها ومعها، وترتبط هذه النقطة بما سبقها إذ أن خطاب البكائيات عادة ما يوّظف لاستدرار عطف “الغرب”، وكأن الغرب متابع يوميّ للإعلام الفلسطيني وما ينشر فيه. وينطلق الكثير من الصحفيين و وسائل الإعلام من أرضية تبني خطاب الضحية في مقابل خطاب المقاوم، فنرى أن السّمة العامّة التي تطبع تقارير ذلك الإعلام هي سمة “نقل المعاناة”، أو “رصد الانتهاكات”، دون أن يكون هناك تقارير تخاطب وعي المجتمع وتبث فيه الصمود ومعاني البقاء.
وأما مخاطبة المجتمع الصّهيونيّ، فشكلها المنطقي والفاعل هو أن تتخذ شكل الحرب النفسية والمعلوماتية، البعيدة عن المبالغات والأكاذيب، والمبنية على المعرفة بالعدو (هنالك أزمة مزمنة ما بين المعرفي والنضالي في الحالة الفلسطينية) أن نتحرر من خرافة القوى المحبّة للسلام (من يحب السلام في استعمار استيطاني عليه أن يعلن هذا الحب خارج فلسطين) ونتوجه إلى مكونات المجتمع الصّهيونيّ برسائل عدة تتنوع حسب الفئة الاجتماعيّة والاثنية والعمرية والمناطقية.
الإعلام الصّهيونيّ:
إن الإعلام الصّهيونيّ بتناقضاته وصراعاته الداخليّة مثله مثل باقي مكونات المجتمع الصّهيونيّ، هو وليد المنظومة الاستعمارية التي نشأ فيها، وجزء بنيوي منها، وتعبير عن أزمات هذه المنظومة وتجربتها التاريخية المتمحورة حول فعل الاستيطان وتحولات وظيفة المشروع الصّهيونيّ في المحيط العربي الإسلاميّ، وعلاقته مع موارده البشرية الاستيطانية خصوصاً الجاليات اليهودية في العالم وتحديدا أمريكا وأوروبا.
وهذا لا يغني بالتأكيد عن فهم الإعلام الصّهيونيّ بعلاقته مع مكوناته الاجتماعيّة الداخليّة، سواء كانت هذه العلاقة صناعة الاجماع وهندسة الهوية الاستيطانية الجامعة، أو إدارة التعدد ضمن حيّز تواصلي ليبرالي وضمن العلاقة مع الرأسمال، كلّ ذلك يتم ضمن قاعدة أساسية هي العلاقة مع الأمن.
وهنا يجب التذكير بخطورة معرفة المجتمع الصّهيونيّ من خلال إعلامه حصرا، فالإعلام نافذه في جدار بالنسبة للمجتمع الصّهيونيّ، وتلك المعرفة على أهميتها تظل محكومة بحدّ أدنى من المعرفة الاجتماعيّة والاقتصادية والسّياسيّة للمجتمع الصّهيونيّ ومكوناته. وهنا يمكن الإشارة إلى غياب جهد بحثي ميداني للمجتمع الصّهيونيّ ويمكن أن يضطلع بهذا الجهد الطلاب والباحثين الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948 والذين للأسف الشديد يكاد ينحصر انتاجهم البحثيّ في الجامعات الصّهيونيّة حول مجتمعاتهم المحليّة .
وبالرغم من التعددية، يبقى الإعلام الصّهيونيّ تحت سيطرة ونفوذ قوة اجتماعيّة مركزيّة من شريحتين أساسيتين: عائلات اقتصادية يمكن عدّها على أصابع اليد والتي تملك شركات نشر وصحف وتلفزيون وغيرها من وسائل إعلامية، وشريحة تتشكل من المتنفذين في الأجهزة الأمنيّة والعسكرية الصّهيونيّة ومن الشّبكات المحيطة بها، وهي التي تسيطر على تعريف الوجود الصّهيونيّ وضروراته الأمنيّة ما يضمن أيضاً مصالحها وموقعها في المجتمع الصّهيونيّ.
هنالك عدة مستويات من الإشكاليات في تعامل الإعلام الفلسطيني والعربي مع الإعلام الصّهيونيّ. الأولى هي اشكالية الترجمة المباشرة وادخال مضامين ومصطلحات سياسية ولغوية صهيونية إلى حيّز التداول الفلسطيني، وصولا إلى اتاحة المجال “للبروبوغندا” الصّهيونيّة للدخول إلى “غرف الجلوس العربية” من خلال استضافة الناطقين بلسان جيش العدوّ ووزارة الخارجية الصّهيونيّة وخبراء العالم العربي، وهنا نؤكدّ على حقيقة أنّ كلّ صهيوني يجيد اللغة العربية بطلاقة بالضرورة تحصّل على هذه المهارة من خلال خدمته في أجهزة المخابرات الصّهيونيّة أو مراكز الأبحاث المرتبطة بهذه الاجهزة.
في إطار “عمليات مكافحة التمرد”، والتي تشكل الحرب النفسية فيها جزءاً أساسياً، تلعب المؤسسة الأمنية الصهيونية هذا الدور مستفيدة من كثير من الأدوات التي تتداخل مع الإعلام. ففي عصر المعلومات ومع انتشار التلفاز ومحطات الاخبار المتواصلة والانترنت وغيرها من وسائل مع الإعلام بمختلف أنماطه من مرئي ومكتوب ومسموع اصبحت الحرب النفسية مرتبطة ارتباطا عضوياً مع الاجهزة الاعلامية. وفي هذا المجال قد يتحوّل الإعلامي الفلسطيني المغرور بعبريته المتينة إلى مراسل عسكري صهيوني. وهنا نستحضر تقرير صهيوني عن وحدة تحقيق ميداني تعمل وراء الحدود في الجيش الصّهيونيّ، تمّ بثه على قناة محليّة مترجما بصوت خبير فلسطيني “مشهور” بالشأن الصّهيونيّ، حيث خلط هذا الخبير بين مقاطع تمثيلية في تدريب هذه الوحدة والحقيقة، فخرجت الصورة وكأن هذه الوحدة تقوم بالتحقيق مع مشتبهين في لبنان ومصر مع أنّ المقطع كان هو محاكاة لواقع متخيل وليس حقيقة.
أما الإشكالية الأخرى فتنبع من رحم التحالفات السّياسيّة ما بين طبقة النخب السّياسيّة الفلسطينية وما يسمى بالتيار اليساري الصّهيونيّ، الذي لا يعارض اقامة “دولة” فلسطينية، فنجد أن بعض أجهزة الإعلام الفلسطيني تسلط الضوء بشكل واضح على كتاب يساريين أمثال “غيدعون ليفي” و “اميرة هاس” بالرغم من ان صحيفة هآرتس التي يكتبان فيها يقرأها فقط 7% من قراء الصحف في المجتمع الصّهيونيّ، وان الكتاب المذكورون اعلاه لا يتمتعون بأي شعبية تذكر داخل المجتمع الصّهيونيّ .
ولا يقتصر دور هذا الإعلام كجهاز حرب نفسية ومعلوماتية ضد الفلسطينيين والعرب وإنما أيضاً هو موجه للمجتمع الصّهيونيّ للتأثير عليه من قبل النخبة الأمنيّة المتحالفة مع الإعلام في مسائل تتعلق بمصالح هذه النخبة من مثل الصراع على “ميزانيات وزارة الدفاع الصّهيونيّة” أو تعبيرا عن رؤية هذه النخبة للجمهور الصّهيونيّ قاصرا عن معرفة مصلحته الأمنيّة و لا يعرف حقيقة ما يدور حوله في هذا العالم، والإشارة إلى هذه الدور الداخليّ لا يعني بالنسبة لنا كفلسطينيين أن المجتمع الصّهيونيّ ضحية لنخبة متسلطه أو ممارسات سلطويّة، لأن هذا التناقض بالنسبة للمجتمع الصّهيونيّ هو تناقض ثانوي بالنسبة للتناقض الاستعماري الرئيسي مع الفلسطينيين، بلّ أنّ هؤلاء “المهمشين” في المجتمع الصّهيونيّ هم الفئة الاجتماعية الرئيسية الحاملة للأيديولوجيا الصّهيونيّة الصلبة. إضافة على ذلك، من المهم ملاحظة الدينامية العالية لهذا المشروع في محاولة معالجة مشكلاته النفسية، يلعب هذا الاعلام دور مهم من خلال استضافة متخصصين نفسيين وصولا إلى استضافة شخصيات إعلامية متقاعدة لعب ظهورها الإعلامي اهمية في تهدئة حالات عصيبة والمثال الكلاسيكي هنا “نحمان شاي ” الناطق السابق باسم الجبهة الداخليّة أثناء حرب الخليج الاولى 1991 والقصف العراقي الصاروخي على المدن الصّهيونيّة والذي أطلق عليه لاحقا لقب ” المهدئ القومي “.
الخلاصة بأن التعامل مع الإعلام الصّهيونيّ عليه أن يأخذ بالاعتبار الملاحظات السابقة والواقع المركبّ لهذه المؤسسة دون أن يعني ذلك الشلل أمامها وعدم الاستفادة منه في صراعنا الوجودي مع العدوّ، دون أن تتحوّل هذه الاستفادة إلى مصدر لصور معممة ونمطية حول المجتمع الصّهيونيّ من مثل ” الصّهيونيّ الجبان” او “الصهيوني القادر على كل شيء”.
بناء المعجم الإعلامي:
لا يقتصر أي مشروع إعلامي جادّ ويدّعي القيام بمهمة وطنية على نقل الاحداث وانما بناء معجم من المفاهيم والمصطلحات والتي تعبر عن الحدث وتعطيه معنى، وبالضرورة لا تقف هذه المفاهيم عند مهمة التوصيف وانما تسيس اللغة ولتشكل هذه الكلمات في مجملها تأطيرا لما يجري ضمن معركة التحرر الوطني.
وعملية بناء المعجم الإعلامي المقاوم في السّياق الفلسطيني تتم ضمن الصراع مع “الهندسة المفاهيمية” لقوى التواطؤ وتزييف الوعي بمستوياتها المختلفة، والصراع الموازي مع الجهاز المفاهيمي للاستعمار الصّهيونيّ، وهنا لا بدّ من التشديد على أنّ عملية صياغة المفاهيم تتمّ من خلال تسمية ما يجري في الواقع، وليست تعبيرا عن قدرة بلاغيّة في استخدام الكلمات، وشكلها الأبشع في الثقافة الفلسطينية البلاغة المنتصرة في الواقع المهزوم .
وكمثال هلّ نسمي ما يجري “انتفاضة ” والتسمية هنا استحضار بلاغي وتعبير عن رغبة يعاندها الواقع الميداني، وتطرح العديد من الاشكاليات ماذا لو توقف الاشتباك أو خفّت وتيرته وماذا عن النهايات المأساوية للانتفاضيتين السابقتين سياسياً ما يسميه البعض ” أثر الانتفاضة “، ومثال آخر ماذا تعني “القدس ” كمفهوم إعلامي هل هي المسجد الاقصى، وكيف لهذا المفهوم أن يعبر عن الاشتباك الحالي في بعده المكاني بحيث يحوي باب حطة وحارة السعدية وسلوان والعيساوية والطور وجبل المكبر، وكذلك الأمر فيما يتعلق بفلسطين المحتلة 1948 وتفاصيل مكانها وناسها، من الواضح انّ التعريف الحيّ من خلال التعبير عن ما يجري على الأرض يربك التعريفات المتداول في الجهاز المفاهيم لمشروع الهزيمة والجهاز المفاهيمي الصّهيونيّ.
- وهنا يمكن الإشارة للمفاهيم التالية كأمثلة حيّة صيغت من وحيّ الهبّة الحالية:
1. “ميليشيات المستوطنين” وليس “قطعان المستوطنين “، إذ تحيل كلمة القطعان إلى الغوغائية والبهائمية واللاعقلانية، بينما أنّ حقيقة دورهم الاستعماري الراهن، هي أقرب إلى الأفعال الإرهابية المنظمة للعصابات الصّهيونيّة ما قبل العام 1948، ويقيم فصلا ما بينهم كجهاز استعماري وباقي المجتمع الصّهيونيّ.
2. المستوطن هو غير الفلسطيني ما بين النهر والبحر.
3. “الاستعمار الاستيطاني الصّهيونيّ وليس نظام الابارتهايد أو الاحتلال.
4. يجب تسمية جميع اماكن التجمعات الصّهيونيّة بالمستوطنات أو المستعمرات وعدم التفرقة ما بين المستعمرات في الاراضي المحتلة عام ١٩٦٧ وعام ١٩٤٨، بالحد الادنى يجب ذكر القرى والمدن التي اقيمت عليها هذه المستعمرات. مثال: اندلعت مواجهات على مدخل مدينة البيرة الشمالي-منطقة البالوع وليس على مدخل مستوطنة “بيت ايل”.
في الختام في حالة الحديث عن اعلام مقاوم، لا يكفي وصف هذا الاعلام بالمقاوم، كتعبير عن موقف سياسي أو انتماء فصائلي، بقدر ما هي قضية متعلقة أساسًا ببلورة نظرية في الإعلام المقاوم، بحيث تقدم هذه النظرية تشخيصاً للحالة الفلسطينية في سياقها الاستعماري، قادرة على فهم العدوّ وتمتلك برنامج عمل لا يعتمد على الموسمية وانما يقوم على رؤية طويلة الأمد.
متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي، يتوجب نَسب المادة إلى دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي–فلسطين ، يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية – يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص .