مع كل ممارسة عنفٍ يمارسها الفلسطينيون، يظهر لنا العديد من المنتقدين والمُدينين، سواء كانوا في الداخل أو الخارج، متّكئين في إدانتهم على ما تبقّى من قيم ومفاهيم حداثية، وعلى مبادئ الإنسان والإنسانية. اليوم، ومع هذا العدوان الاستعماري الجديد، يُدفن ما بقي من هذه القيم مع جثث الضحايا في فلسطين. لذا، فإن لحظة فلسطين اليوم ليست مجرّد حدث عابر سينتهي مع انتهاء الألم والموت، بل ستكون لحظة يُعلَن فيها موت الحداثة وقيمها. إلا أن موت الحداثة الآن، هو حدث عابر، ولا يسعى هذا المقال إلى تأصيله معرفياً.  

وقعت الكتابات التي تتعامل مع العنف الفلسطيني في ثلاث فئات؛ الفئة الأولى مُستمدّة من إطار أورومركزي، حيث يُصوَّر الفلسطيني كإرهابي أو كـ«حيوانٍ بشري» متعطّش للدماء، ويُظهر «إسرائيل» كضحيّة تدافع عن نفسها أمام المعتدي-الفلسطيني. في حين تقدّم الفئة الثانية طرحاً أكثر «توازناً»؛ إذ تدين العنف من كلا الجانبين، مفترضةً التماثل بين عنف الدولة (كعنفٍ بنيوي) وعنف المقاومة (كعنفٍ عشوائي ولو بدا منظّماً). أمّا الفئة الثالثة، وهي الأكثر «نقديّةً»، فتنتقد العنف البنيوي الذي يمارسه المستعمِر الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وهو سرد يروي قوّة الاستعمار وظلمه، ولكنّه يفشل في سرد رواية الفلسطيني أو رؤيته. وفي ضوء الحجة التي سأطرحها هنا، فإن المنظور الأخير يستوعب فكرة فلسطين، ولكن ليس الفلسطينيين، ويرى الفلسطينيين مكتملين كضحايا وليس كمقاومين ساعين للتحقّق.

يستند هذا المقال على تجربة مستمرّة للعيش في الألم، وتحاول فهم طبيعة أن يكون الإنسان مستعمَراً من جهة وأن يسعى للحرّية من جهة أخرى. وتقدّم تأملاتٍ أوّلية حول الأسئلة الرئيسية المتعلّقة بهذا الجدل: أن تكون مستعمَراً وأن تسعى للتحرّر. يركّز المقال على رؤية راهنيّة لما يحدث في فلسطين الآن. فيسلّط الضوء على بعض الخبرات الرئيسية للعيش في الألم من جهة، ويناقش العنف الفلسطيني كجزءٍ من «رغبة عمليّة» أكبر لتحقيق الحرية من جهةٍ أخرى. إذ لا يمكن فهم ممارسة العنف الفلسطيني إلا من خلال العلاقة الجدلية بين أن تكون مستعمَراً وأن تصبح حراً. إنّما هدفه التأمّل في ممارسات العنف الفلسطينية في سياق الاستعمار الاستيطاني كممارسات يصعب على التاريخ فهمها، لكن يمكن تناولها من خلال مَفْهمة اقتصاد الرغبة، الرغبة في التحقّق/التشكّل/الاكتمال. 

في أن تكون مستعمَراً 

هناك الكثير ممّا يمكن قوله حول تجربة العيش كمستعمَر، لكن سأركّز فهمي على معنى أن تكون جسداً مستعمَراً كعتبة للتحليل، عن تجسد الاستعمار في الجسد بلا وعي تحت نظام استعماري. في بلاد الحواجز والتقسيمات المكانية الاستعمارية، لا يمكن تخيّل أجسادنا إلا من خلال نقاط التفتيش والحواجز، والبطاقات الشخصية، والتصاريح (ثالوث السيطرة الاستعمارية)، بالإضافة إلى الموت. إن عدم قدرتنا على تخيّل المكان إلا من خلال هذا الثالوث يعكس المدى الذي يتجسّد به في أجسادنا وتصوّراتنا عن الحياة. هذا الثالوث ليس مجرّد أداة للسيطرة على الجسد الفلسطيني، إنّما يُنقش في المكان أيضاً. يُحدّد الأطباء الجنس عند الولادة، إذا كان الجنين ذكراً أم أنثى، وتُنقش هويّتنا الجنسية على أجسادنا. وبنفس الطريقة يقوم الاستعمار الإسرائيلي بذلك، حيث يسجّل إمكانيّاتنا المكانية على أجسادنا فور ولادتنا. ومن خلال «ثالوث السيطرة»، تعمل الآلية على خلق وإنتاج أفراد وحقائق استعمارية مكانية، فمثلاً تعكس مصطلحات مثل: الضفة الغربية (ضفّاوي) وغزة (غزاوي) ومقدسي وفلسطينيّو الداخل وفلسطينيّو اللجوء، العلاقة المعقّدة بين الأجساد المستعمَرة والأماكن الاستعمارية. 

يرى «هنري لوفيفر» أن الفضاء ليس إلا نقشًا للزمن في العالم، وبالفعل يمكن القول إنّ الفضاء ليس إلا نقشاً للاحتمالات الزمانية المكانية في الأجساد المستعمَرة، كما توضح شيرين رزاق، فإنّ المكان هو عملية غير متساوية من نقش السلطة، الذي يُعيد إنتاج نفسه دون انقطاع في خلق فئات مكانية قمعية تُنقش على الأجساد المستعمَرة. إن الاستعمار الاستيطاني منذ الحقبة الاستعمارية الأولى، منطقه هو المحو والتهجير، أو سلسلة من عمليات النقل، لكن ما يميّز النسخة الصهيونية للاستعمار الاستيطاني هو إنتاج المستعمَر كذوات\مواضيع جسدية ميتة في المكان. 

كما لا ينبغي النظر إلى الفلسطينيين على أنهم محض أجساد مكانية، أو أنهم فقط يعيشون في مساحات استعمارية ثابتة، بل إنهم يجسّدون تلك المساحات. إن وعي هذا التجسيد، أو مكانيّة الجسد، يتواجد من خلال التفاعل مع موقف معيّن، وليس من خلال موقعه في مكان ثابت. تلك المواقف هي الهندسة الاستعمارية للمخطّط الجسدي المستعمَر، حيث تسعى إلى نزع الوكالة عن تملك الأجساد المستعمَرة. وتشير هذه الأجساد إلى النفي، بل إلى أنواعٍ مختلفة منه، والتي تمّ تحديدها بأشكال مختلفة من السيطرة تنفّذها القوة الاستعمارية «الإسرائيلية» على شتّى الفضاءات الاستعمارية.

ومع ذلك، النقطة المركزية هنا، ليست في الخوض في مناقشة مفصّلة حول الفضاءات الاستعمارية المختلفة وأشكال السيطرة الاستعمارية المتنوّعة، بل في إدراك أن إحساس الذات المستعمَرة بالمكان والإيقاعات الجسدية، سواءً كان داخل المساحات الاستعمارية أو خارجها، يعكس في الواقع كيفية اختراق القوّة الاستعمارية وتعريفها وهيكلتها.

تبذل القوّة الاستعمارية جهدها لإنتاج أجسادٍ مستعمَرة هشّة وواهنة ومُزعزعة، إلى الحدّ الذي يمكن فيه أن تدرك جسدك على أنه المكان المثالي لممارسة السلطة والتفتيش والرصاص، أو ببساطة المكان المثالي للموت. يضع النظام الاستعماري الأجساد الفلسطينية في خانة «غير الموجودة»، ويجسّد هذا «اللاوجود» نفسه ويتكثّف في الجسد، ممّا يعني أن الأجساد الفلسطينية غير موجودة في وجودها ذاته. لقد تحرّرت الأجساد الفلسطينية من الوجود وجسّدت إمكانية الموت. تميّز كل من التقسيمات المكانية والأجساد الهشّة تجربة الأجساد المستعمَرة، سواء كان ذلك واضحاً في موقفٍ ما، أو ضمنياً في الحياة اليومية. بهذه الطريقة، يقوم الواقع الاستعماري بتحييد الوجود المستقرّ لأجساد المستعمَرين.

في السعي للتحرّر 

يشير «جان بول سارتر» ويؤكّد عليه فيصل درّاج إلى أن الإنسان ليس أبداً كما يظهر؛ إنه يتجاوز كل تحديد باستمرار، وعاجز عن الاستقرار في هوية ثابتة. ينطلق الوجود من حالة الإنكار للواقع، إذ لا يمكن فهم الوجود إلا كمشروع مفتوح على إمكانيّات للمستقبل. يُعدّ الرجال والنساء أنماطاً حقيقية للوجود، مشكّكون في ذواتهم حيث يكونون جزءاً من تكامل الوجود في العالم الذي يتواجدون فيه. إن «الوجود في ذاته» يدلّ على سلبية مطلقة، خارج نطاق المعنى، بينما يشير مفهوم «العالم» إلى نظام من المعاني والتفسيرات المحدّدة. إن الآخرية المطلقة للوعي ليست العالم، بل الوجود في ذاته فقط. بعبارةٍ أخرى، يمثّل العالم نتاج النفي الجدلي التركيبي للوجود في ذاته والوجود لذاته. ومع ذلك، فإنّ هذا النفي للوجود في ذاته من أجل «لذاته» (الحرية الوجودية) لا يُفهم فقط من خلال الوعي، ولكن أيضاً من حيث التطبيق العملي. بالتالي، فإنّ القول بأنّ حالات النفي هي عملية في المقام الأول، حيث يكتسب كل منها محتواه المحدّد فيما يتعلّق بالسياق التاريخي المتغيّر، والذي بدوره يساعد في إعادة تشكيل العالم من خلال هذا النفي المستمرّ. 

بناءً على ما يعنيه استعمار الجسد، تحديداً عندما يُوسم الجسد المستعمَر بالعدم والموت، تُظهر وقائع الحالة الاستعمارية التي تنفي بشكلٍ منهجي المستعمَر، كما أشار «فرانز فانون» أنها «تُجبر المستعمَرين على مساءلة أنفسهم باستمرار: من أنا في الواقع؟». يسلّط هذا السؤال الضوء على التعقيد الجدلي الاستعماري للوجود في حدّ ذاته، والوجود من أجل ذاته، وواقع الحالة الاستعمارية التي يوضع المستعمَر فيها على أنه «غير موجود» من جهة، وذاتية الأجساد المستعمرة التي تتحدّى الواقع الاستعماري المزيّف من خلال طرح الجزء الآخر من السؤال «من أنا؟»، وهو ما يمثّل جدلية بين العدم والحضور الجسدي والنفسي الموجود.

من المهم أن نلاحظ هنا أن هذه العلاقة الجدلية تتجسّد على المستوى الجسدي. وفي هذا السياق، استنتج «فانون» أن المستعمَر لا يمكنه إلّا أن يكون عصابياً، فهو مقيّد ومحاصر جسدياً، «أول ما تتعلمّه الذات المستعمَرة هو البقاء في مكانها وعدم تجاوز حدودها. ومن هنا تأتي أحلام المستعمَر، أحلاماً عضلية، أحلام الفعل، أحلام الحيوية العدوانية. أحلم أنني أقفز وأسبح وأجري وأتسلّق. أحلم أنني أنفجر ضاحكًا، أو أقفز فوق نهرٍ وتطاردني مجموعة من السيارات التي لا تلحق بي أبدًا». حلمٌ بجسدٍ حرّ ومن أجله، أو عملية للتحرّر تبدأ -استناداً إلى معرفة الضرورة- بتحرير الجسد المستعمَر من وضمن الواقع الاستعماري المصطنع، إلى شيء جديد.

ليس الهدف هو مناقشة تأريخ الإنسانية الجديدة التي صوّرها «فانون»، بل التأكيد على فعل العنف في لحظته الفعلية، باعتباره فعلًا يُدرك الجدلية بين أن تكون مستعمَراً وأن تصبح حرّاً جسدياً، أي فكرة الصيرورة والتشكّل من خلال العنف الثوري. إنّ عنف المستعمر، بهذا المعنى، هو فعل صيرورة لحظية، لحظات تشكّل، لحظات تحرّر كصيرورة. «التشكّل/التحقّق»، كما يقول «جيل دولوز»، هو الأمل الثوري الوحيد للإنسان و«الطريقة الوحيدة للتخلّص من العار أو الرد على ما لا يُطاق» حيث نتعامل مع أحداث العنف ليس كما تحقّقت في ظروف محدّدة، أو كما حدثت تاريخياً، ولكن الطريقة التي تحدث بها الأمور، الأحداث نفسها أو ما تصبح عليه، من أجل خلق شيءٍ جديد.

يمثّل العنف الذي يحدث في لحظته الفعلية انقلاباً على السلطة الاستعمارية، إذ يقوّض الأجساد الثابتة التي منحتها السلطة الاستعمارية للمستعمَرين باعتبارها الحيّز المكاني المحتمل الذي يجب التصرّف بناءً عليه. بإيجاز، يقوّض عنف المستعمَر كلاً من القوّة الاستعمارية والأجساد المستعمَرة، وهكذا يكون عنفه «نقياً» وفورياً، ولا تتداخل وسائله وغاياته. العنف يتجاوز الغاية، ومظهر من مظاهر الغضب والرغبة في التحرّر، وفكرة الانتقام التي تسعى إلى تحقيق العدالة خارج نطاق القانون الاستعماري، أو حتى خارج نطاق الهدف السياسي. الغضب والانتقام ينبعان من الحزن والألم العميق الناتج عن فقدان الوجود في ذاته، وفقدان وكالة الجسد قبل كل شيء. إن فعل العنف من ناحية، يحرّر ويستعيد، ومن ناحية أخرى، يدلّ على إمكانيّة تحقيق العدالة.

إن الرغبة، كما يجادل «دولوز»، هي منتِجة، ومنتَجها هو حقيقي في حدّ ذاته وملموس. والحرّية في ضوء ذلك، ليست رغبةً مفاهيمية أو مثالية في التشكّل/التحقّق، بل هي صيرورة عملية وفورية، تكون فيها لحظات العنف تعبيراً خالصاً عنها. بعبارةٍ أخرى، إنّ الرغبة في أن تصبح حراً ليست مجرّد هدف، بل هي المصدر الجوهري لفعل العنف.

في الختام، على عكس العنف الاستعماري البنيوي، يكون عنف المستعمَر عشوائياً، حتى لو بدا أحيانًا غير ذلك. ليس هدفه سنّ القوانين، بل تدميرها، إذ يمثّل عنفاً فورياً ومؤقتاً، حتى لو كان عنفاً استراتيجياً أو منظماً في أطرٍ شبه عسكرية، إلا أنه عنف تدميري لنظام المستعمرة. إن عنف المستعمَر هو قطيعة جذرية مع التجربة المعاشة للاستعمار، وهو عنف يزعج ويدحض ويرفض نسيج القوّة الاستعمارية وأشكال السيطرة التي تفرضها على الجسد. وبهذه الحالة، تصبح ممارسة العنف «إلزامية» من أجل نفي النفى الاستعماري لتحقيق العدالة، حين يستحيل تحقيقها بوسائل أخرى.