في الثاني من نيسان 2018، شددّتُ الرحال من القدس إلى عوجا الحفير من ديار بئر السبع، والتي تقع على بعد 77 كم جنوب بئر السبع المدينة. وكعادتي ما إنْ أبدأ السير في دربٍ من دروب البلاد، حتى تبدأ الأفكار بالتداعي، وبالتحديد حول علاقتنا مع نصف فلسطين المنسيّ؛ بئر السبع.
(ما أقصده ببئر السبع القضاء الممتد من جبال الخليل شمالاً إلى خليج العقبة جنوباً، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط وسيناء، ومن الشرق البحر الميت ووادي عربة، ما يُطلق عليه اسم النقب)
كيف يمكن لمعرفتنا وتصوُّرنا لفلسطين، أن يختلفا إذا نظرنا إلى فلسطين بصرياً ومعرفياً من جهة الجنوب من بئر السبع؟ إنّه سؤالٌ مربكٌ ومستفزٌّ لصورة فلسطين في الذهن المركبة بكثافةٍ في الوسط والشمال، من القدس إلى الجليل، والفقيرة بالمحتوى الجنوبي! في لحظاتٍ كثيرةٍ أثناء التجوال في بئر السبع، والسفر في أسفار تاريخه، كنت أصل إلى قناعة بأن خارطة فلسطين في أذهاننا مقلوبة!
وينطبق الشيء ذاته على صورة النكبة في ذاكرتنا الجمعية، والتي تتكثّف حول معركة القسطل ودير ياسين وسقوط مدن الساحل، وتغيب عنها ( الذاكرة الجمعية) بئر السبع تماماً.
بحرُ قمحٍ ومواويلُ حزينةٌ
ما إنْ وصلتُ مشارف بئر السبع الشمالية، حتى بدأت السير في بحرٍ من القمح، وتذكرتُ ما نقله سلمان أبو ستة عن “القس تومبسون” الذي زار ديار بئر السبع عام 1853، وصاح مندهشاً عندما رأى الحقول: “قمح، قمح، بحرٌ من القمح”.(1)
حسب إحصائيات “منظمة العاملين في الفلاحة” الصهيونية (ארגון עובדי הפלחה)، فإن مساحة الأرض المزروعة بالقمح في بئر السبع حوالي 400 ألف دونم (نصف مساحة حقول الحنطة في ما تسمّى “إسرائيل”) تُزرع بعلاً، وتتراوح إنتاجية الدونم الواحد ما بين 250 كغم من الحنطة في موسم الأمطار الجيدة، و50 كغم في مواسم الجفاف.(2)
وعلى ذكر القمح، أُعرّج على بداية علاقتي الروحيّة ببئر السبع، إذا كنت أرافق أميّ طفلاً في زيارات الأسرى في سجن نفحة الصحراوي. كانت باصات “الصليب الأحمر” تنطلق من البيرة من عند مطحنة الرفيدي (هُدمت بعد أوسلو)، والتي كنا نحمل إليها قمحنا الذي كنا نفلحه في قريتنا لطحنه وجرشه، كنّا نزور خضر ابن خالي، والذي كان يقضي حكماً بالسجن 9 سنوات، بعد زرعه عبوةً ناسفًة في قالب خبز “بيرمان” في القدس.
كانت رحلةً صعبةً، خصوصاً عند العودة، حيث يجتمع التعب مع لوعة الفراق، فتنطلق المواويل الحزينة “بتقطِّع نياط القلب”، التي لا تزال تدور في رأسي حتى اليوم وبعد مرور عشرات السنين.
في سماء العوجا: اللقالق تعود إلى الأوطان
بعد ساعتين ونصف (حوالي الساعة الواحدة ظهراً)، وصلتُ العوجا، كان سربٌ من اللقالق ( طير أبو سعد) يعبُر سماءً صافيةً فوق أطلال المكان في رحلة الإياب إلى الأوطان، فانبعث صوت فيروز يزيد الشجن:
فيا قلب مهلاً و لا ترتم على درب عودتنا موهناً
يعزّ علينا غداً أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا
العوجا: الاسمُ وشذراتٌ من تاريخٍ قديمٍِ مُقيمٍ
تقع قرية العوجا (عوجا الحفير)، على بعد 77 كم جنوب غرب مدينة بئر السبع، و181 كم عن القدس و191 كم عن الاسماعيلية على قناة السويس. كما تقع على بعد 3 كم من الحدود المصرية الفلسطينية، ولا يفصلها عنها (الحدود) سوى جبل أمّ الحواويط، وهي من ديار قبيلة العزازمة، ودُعيت بالعوجا نسبةً إلى واديها “وادي العوجا”، الذي يُعدّ كثير التعرجات، ليُسمّى أيضاً بــ”الأعوج”.(3)
وفي زماٍن مضى، كانت قبيلة العزازمة تُسمّي الوادي “وادي البساتين”، كما يُورِد المستشرق والجاسوس الإنجليزي المقتول “إدوارد هنري بالمر”، والذي زار العوجا ووصفها في العام 1866، إذ قدّم في كتابه “صحراء الخروج” (4) وصفاً دقيقاً للعوجا، مُدعّماً برسومات جميلة لآثارها.
( قُتِل المستشرق “بالمر”، وهو في طريقه إلى مهمةٍ تجسسيةٍ خاصةٍ بين قبائل سيناء، منتحلاً شخصية أفندي باسم الشيخ عبد الله، وذلك إبان أحداث الثورة العُرابية ضد الإنجليز سنة 1882. أرسله الإنجليز مُحمّلاً بالذهب لشراء ولاء شيوخ القبائل في وادي سدر في سيناء، كي لا يلتحقوا بالثورة ويقوموا بحماية قناة السويس من الثوار.. وقد اشتهر بين الإنجليز بقدرته “السحرية” على كسب قلوب البدو والتأثير عليهم إلى أن ابتلعته صحراء سيناء).(5)
أما تسميتها بـ”عوجا الحفير”، فيرجع إلى العهد العثماني، إذ يقول عارف العارف “إنّ الأتراك عندما قرروا إقامة ناحية إدارية (مركز قضاء) في الحفير في العام 1908(شرق العوجا بعشرة كيلومترات)، فإن أكرم بك، متصرف القدس، وجد أن موقع الحفير غير مناسب لهذه الغاية، فقام بنقلها إلى العوجا، ولكنه خاف مخالفة الأوامر العليا، فأبرق بأنه “عملاً بالأمر السلطاني افتتح قائمقامية قضاء “العوجاء- الحفير” التابع لسنجق القدس.” (6)
فانظر كيف تعبث السلطات بالأسماء، وكيف خلّد التاريخ بمكره أثرَ خوفِ مرؤوسٍ من رئيسه!
تأسيساً على ما سبق، يكون الاسم الصحيح هو العوجا أو العوجة، وأمّا الاسم القديم للعوجا فهو “نصتان” أو “نصّانا” بحسب المؤرخ العلامة مصطفى العبادي. وقد استولى الصهاينة على الاسم القديم، فأسموا مستعمرتهم الرابضة على أرض العوجا بـ”نتسانا”، والتي سيأتي ذكرها.
تُعدّ العوجا اسماً شائعاً في بلدانية فلسطين؛ مثل: خربة العوجا الفوقا والعوجا التحتا على وادي العوجا شمال شرق أريحا، ووادي العوجا في مرج بن عامر، ونهر العوجا ( أبي فطرس) وهو نهر يافا الذي يصب شمالها في بحرها، (7) وقرية العوجا ما بين اللد والطيرة التي ذكرها ابن شاهين الظاهري.
لطالما سُحِرتُ بأسرار أسماء الأمكنة، ومتعة الخيال في الربط بين الاسم وشخصية المكان عندي لا تضاهيها أيّ متعة، لقناعتي بأنّ تسمية الأمكنة في بلادنا فلسطين، من حيل الأسلاف في أنسنة المكان، تنفخ في الأخير الروح، فيكون الحبُّ والحنينُ والكرهُ والنفورُ؛ أي تسبق علاقة الإنسان بالمكان تسميته، وذلك على النقيض من تسمية المستعمِرين، حيث التسميةُ وسيلةٌ لبناء العلاقة بالمكان.
تُعتبر العوجا من الديار العامرة على مر العصور، إلى أن جاء الصهاينة وقطعوا هذا الاستمرار التاريخي. عَرَّفَها العرب بـ”مدينة الأعوج”، وسمّوا َتلَّها “جبل القلعة” و”جبل المعسكر”. ذكرها المقريزي (8) في خططه ( الخطط المقريزية)، وذكر قلعتها ويسميها “قلعة الأعوج”، ويذكر بقلعتها جبّاً (بئرًا) “بعيد المهوى يبلغ عمقه نحو مائة ذراع”.
وترتفع على تل العوجا بقايا حصن نبطي غير بعيد عن طريق البخور والعطور من اليمن إلى ميناء غزّة، وهي من سلسلة الحواضر النبطية في بلادنا فلسطين ( عبدة، سبيطة، مشرفه، الخلصة، رحيبة، كرنب). وفيها تمرّ طريقٌ تاريخيةٌ من القدس إلى مصر، عبر بيت لحم والخليل وبئر السبع ، فالعوجا، ومن ثمّ سيناء، فمصر.
هامَ المؤرخون في بردياتها (أوراق البردي)، والتي سمّوها “برديات نصان” ( الاسم اليوناني لعوجا الحفير)، وهي عدد كبير من الوثائق التي عَثَرت عليها بعثةٌ بريطانيةٌ في سنة 1936 على تل العوجا. تعود مجموعةٌ منها إلى عهد الخلفاء الراشدين والفترة الأمويّة، نشرها كريمر في العام 1956 وهي من الحالات النادرة التي يُعثَر فيها على بردياتٍ خارج مصر. (9)
العوجا: مصر ومَصير فلسطين
تُعدّ العوجا بوابة فلسطين إلى مصر، ومصر إلى فلسطين عبر العصور والأزمنة. أدّى قربها من الحدود المصرية الفلسطينية إلى أن تكون محلَّ طمع الإنجليز بعد احتلالهم مصرَ، إذ أرسلت بريطانيا فرق البحاثة والمكتشفين إلى سيناء وفلسطين لمسحها. وهنا برز دور “جيننجز براملي”، خبير سيناء الأول في الإمبراطورية البريطانية، والذي قضى حوالي 16 عاماً دارساً وباحثاً وكاتباً في سيناء وعن أهلها. (10)
كانت أطماع بريطانيا في جنوب فلسطين تزداد وضوحاً، يدل عليها الصراعُ على ترسيم الحدود بين فلسطين العثمانية ومصر تحت الاحتلال البريطاني. في هذا السياق التاريخي، جاء تحرُّك الأتراك لتعزيز مكانة العوجا وتحويلها إلى مركز إداري، ووصلها بالطريق المُعبَّد إلى بئر السبع المدينة، ومدّ سكة القطار إليها، فضلاً عن بناء دُوْرٍ لموظفي الحكومة، ومستشفى، ومعسكراتٍ ومهاجعَ للجند، ومخازن ومحال تجارية، ونقطة للدرك والبرق، إضافةً إلى حفر الآبار العميقة المزودة بمضخات.
يصف ضابطٌ بريطانيٌّ العوجا بأنّها مدينة مزدهرة ومركزٌ إداريٌّ وتجاريٌّ نشطٌ قبيل الحرب العالمية الأولى. كما يحضر هنا دور عوجا الحفير كمركزٍ للسلطة في مسعى الأتراك لفرض سيطرتهم على القبائل البدوية.
من “حرب الترعة” إلى وعد بلفور
“في عام 1914 حثَّ الأتراكُ العربانَ على التطوع لفتح مصر، فتطوع منهم نحو ألف وأربعمائة رجل بين فارس وهجان، اشتركوا كلهم في الحملة التي سيقت لافتتاح مصر، والتي أسموها حرب الترعة أو جردة القنال”. (11)
في أواخر العام 1914 انطلقت من “عوجا الحفير” الحملة العسكرية العثمانية الألمانية، بهدف احتلال قناة السويس، والتي مُنيت بفشلٍ ذريعٍ. سيكون لهذه الحملة، في ما بعد، أثرٌ كبيرٌ على مستقبل فلسطين والتحالف الإمبريالي البريطاني والصهيوني لاستعمارها، مُعبَّراً عنه بوعد بلفور.
وسواء كانت “حرب الترعة” حملةً عسكريةً فاشلةً بسبب سوء التخطيط والتنفيذ (طائرات الاستطلاع الجوي البريطانية كانت قد كشفتها مبكراً)، أو كانت منذ البداية مجرد مناورة دعائية ساذجة لتحريض المصريين على الثورة ضد الاحتلال الانجليزي، فإنها ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في تعزيز النظرة البريطانية الاستراتيجية لفلسطين، وجنوبها تحديداً، “كضفةٍ شرقيٍة” لقناة السويس، وكمنطقةٍ حاجزةٍ ومصدِّ” عن القناة.
مع نجاح القوات العثمانية بعبور صحراء سيناء من وسطها، والوصول إلى الإسماعيلية إلى البحيرات المرة، سقطت نظرية صحراء سيناء كحاجز دفاعي طبيعي لا يمكن اختراقه في العقل العسكري الإنجليزي، وكان على خط الدفاع الجديد عن القناة أن يصبح مرتفعات بئر السبع وجبال الخليل بعدها.
التقط الصهاينة، منذ البداية، أهمية فلسطين الدفاعية عن مصر والسويس، وصولاً إلى درة تاج الإمبراطورية؛ الهند. ففي رسالةٍ شخصيةٍ بعثها حاييم وايزمان في العام 1915 إلى رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج، المتحمّس للجبهة الشرقية وضرورة “تحرير القدس”، قال وايزمان: “إنّ وجود كيان يهودي قوي على ضفة مصر يمثل حاجزاً فعّالاً ضد أي خطر قادم من اتجاه الشمال، وحارساً أميناً لقناة السويس”. وبذلك، كانت كلُّ مقدمات وعد بلفور في طريقها للاكتمال. (12)
تفجير خط سكة حديد العوجا- بئر السبع يفتح الطريق إلى القدس
بعد فشل الإنجليز في الدخول إلى فلسطين من “بوابة غزة” في معركتي غزّة الأولى والثانية في آذار ونيسان من العام 1916، دخلت العمليات العسكرية على خط الجبهة الممتد من مدينة بئر السبع إلى غزة في طريق مسدود. فشل كلٌّ من الطرفين، الإنجليز والأتراك، في تحقيق إنجازاتٍ عسكريةٍ تشكل اختراقاً لحالة الجمود.
في أواخر شهر أيار، شنّت القوات البريطانية عملية تفجير وتخريب خط سكة الحديد العثمانية ما بين مدينة بئر السبع والعوجا؛ 21 كم من سكة الحديد تمّ تخريبه، كما نُسفت 6 جسور. تشير عدة دراسات في التاريخ العسكري لجبهة غزة- بئر السبع إلى أنّ عملية نسف وتخريب سكة الحديد (وإن كانت محدودة الأهداف والأهمية، إلا أنها كانت تهدف أساساً إلى رفع معنويات القوات البريطانية، والتأثير على قدرة الجيش العثماني على نقل قواته نحو الجنوب).
لعبت تلك العملية دوراً مهماً في إنضاج التحول نحو الخيار الشرقي؛ نحو اعتبار مدينة بئر السبع مدخلاً للقدس، في التفكير العسكري البريطاني، وذلك بعد فشل الخيار الغربي في الهجوم على غزّة عبر طريق الساحل التقليدي.
خلال إعداد وتنفيذ عملية نسف السكّة، تحصّلت القوات البريطانية على معلوماتٍ استخباريةٍ نوعيةٍ عن القوات التركية ومسرح العمليات، ما ساهم بحسم الهجوم الكاسح المباغت الذي قاده أللنبي في 31 تشرين الأول 1917 على مدينة بئر السبع، وبالتالي كسر خط الدفاع التركي الممتدّ ما بين غزة وبئر السبع، ليدخل أللنبي القدس في 11 كانون الأول 1917، حاملاً معه المشروع الصهيوني إلى فلسطين. (13)
على “تل العوجا”، جلستُ أتتبع مصائر فلسطين تعبُر لاهثةً أمامي، مذهولاً بتقاطع دروب التاريخ في هذه البقعة القصية المنسيّة المفتوحة على الجهات والاحتمالات.
عوجا الحفير تحت الاستعمار الإنجليزي-الصهيوني:
بعد الاحتلال الإنجليزي، أوصى اللورد بلومر- المفوض السامي البريطاني في فلسطين- بإعادة إعمار عوجا الحفير، ضمن مخطط مستقبلي لإنشاء ميناء بري-بحري يربط ما بين غزة (أو حيفا) والعقبة كممرٍ بديلٍ عن قناة السويس (14) (يبدو أن قناة السويس لعنة فلسطين الدائمة).
أما ما جرى “إعماره” فعلاً في العوجا فكان مخفراً للشرطة ومطاراً وسجناً. كما أقام الإنجليز مطاراً عسكرياً صغيراً في العام 1925 (15)، اُستخدم للاستطلاع الجوي، ومراقبة تحركات القبائل البدوية عبر الحدود وأعمال “حفظ الأمن”.
وما دمنا ذكرنا مطار العوجا، فنورد ما قاله الباحث إسماعيل بن عياد الترباني، إذ إنّه “في عام 1930 قام المناضل عيد الصانع الترباني ورفاقه بمهاجمة قاعدة الطيران في عوجا الحفير، واشتبكوا مع جند الحراسة، ودامت المعركة لساعاتٍ استطاعوا على إثرها الحصولَ على غنائم من الإبل المحملة بالأسلحة، التي فرَّ أصحابها من ميدان المعركة، وذلك قبل أن تُفرِغ حمولتها، والتي كان مصدرها ثكنات الجيش البريطاني في سيناء”. (16)
كما أقام الإنجليز سجن عوجا الحفير الصحراوي (عرفه أهل البلاد بمنفى عوجة الحفير)، وذلك ضمن جهودهم لقمع ثورة الـ 1936. اعتقلوا إدارياً في ذاك السجن العشراتِ من قيادات الحركة الوطنية في ثورة العام 1936. وقد عقد معتقلو الحركة الوطنية مؤتمراً وطنياً من وراء قضبانه، وجَّهوا في ختامه رسالةً إلى الشعب الفلسطيني والأمة العربية، وذلك بتاريخ 7 حزيران 1936، وهذا مطلعها:
“من وراء قضبان الأسر في معتقل عوجة الحفير في صحراء النقب، موطن العز والشرف والكرامة، نزجي التحية للمجاهدين والمجاهدات من أبناء هذه الأمة في سبيل العز والشرف والكرامة… يا للعار، يا للعار، أيصبح اليهود حكاماً في بلاد العرب، وسادةً في ديار الاسلام؟ إنها والله لسُـبـَّـةُ العمرِ ومذلةُ الدهرِ”. (17)
وفي 12 حزيران1936 نشرت صحيفة “فلسطين” اليافيّة تقريراً عن حال المعتقلين، ونصَّ رسالةٍ احتجاجيّةٍ للمندوب السامي موقّعةٍ باسم لجنة المبعدين في عوجا الحفير، وقد اختتمت الصحيفة تقريرها بتحية شعرية للمبعدين من الشاعر محمود نديم الأفغاني:
عوجا الحفير تحية من معشر هبطوا بوادك ثائرين كباراً
عقدوا اليمين بأنهم لن ينثَنوا عن حقهم أو يصبحوا آثاراً (18)
(في العام 1988، في الانتفاضة الأولى، أنشأ العدوّ الصهيوني أكبر معتقلاته في بلادنا فلسطين؛ وهو معتقل “كتسيعوت” (أنصار 3)، بمساحة 400ألف متر مربع على أراضي عوجا الحفير، وذلك في ذات المكان الذي أنشأ الإنجليز فيه معتقل عوجا الحفير لقمع الثورة الفلسطينية الكبرى. تتواتر الشهادات بأن الصهاينة منذ الخمسينيات استخدموا المكان ساحةً لإعدام الأسرى المصريين خلال العدوان الثلاثي على مصر). (19)
تحت الاحتلال الإنجليزي، كانت عوجا الحفير قريةً صغيرةً. وحسب إحصاء نفوس فلسطين للعام 1931، فقد تكونت القرية من 9 بيوت وسكنها 29 نسمة، (20) ووصفها “عارف العارف” في العام 1933 بقرية صغيرة لا يوجد فيها سوى مخفر. (21)
وفي العشرينيات، وتحت غطاء مشروع “المشتل اليهودي للأشجار” في بئر السبع، والذي أُريد له أن يكون قاعدةً لانطلاق النشاط الاستيطاني في بئر السبع، حاول الصهاينة بناء مستوطنة للجنود اليهود الذين قاتلوا مع الجيش البريطاني في تل عراد، بالإضافة إلى بناء مستوطنة في عوجا الحفير لمصلحة ما سُميت بمنظمة “بير شيفا الجديد”( بئر السبع الجديد)، (22) ولكن باءت كل هذه المحاولات بالفشل.
نكبة العوجا
كانت العوجا ضمن المنطقة العربية بحسب قرار التقسيم، وفي كانون الأول 1947، وقبل انسحاب الجيش الإنجليزي من بئر السبع، سَلَّم رجال البوليس الفلسطيني في محطة عوجا الحفير 12 بندقيةً إنجليزيةً وخمسة صناديق من العتاد إلى المناضلين، وادّعوا أمام الانجليز بأنها قد سُرقت من مجهولين. (23)
وفي 15 أيار 1948 كَمِنَ الصهاينة لشاحنة عربية قادمة من العوجا، فحرقوها وقتلوا 25 من ركابها. (24) بعد دخول الجيش المصري إلى فلسطين في ذات اليوم، أرسل قائد المتطوعين المصريين في حرب فلسطين، البطلُ أحمد عبد العزيز، حاميةً بقيادة البكباشي زكريا الورداني، لترابط في العوجا لتأمين طريق الإمداد للقوات المصرية. (25)
استمرت المعارك حول العوجا خلال ما عُرِفت بمعارك النقب الثانية، بدايةً من 22 كانون الأول 1948(عملية حوريف)، (26) والتي كانت تهدف إلى القضاء على الجيش المصري والمتطوعين في النقب (قضاء بئر السبع). أعلن بن غوريون، في 25 كانون ثاني، عن القضاء على جميع “الغزاة” المصريين في بئر السبع واحتلال العوجا، بعد معركةٍ شرسةٍ خسر فيها الصهاينة عشرات القتلى؛ في مقدمتهم “دوف الأشقر” الإرهابي المحترف والناشط في عصابة ليحي الإرهابية منذ العام 1941.
(صَنَع الصهاينة من “دوف الأشقر” (يعكوف جرنك) أسطورةً، (27) وأطلقوا عليه ألقاباً عدةً؛ منها “روبن هود” و”مرعب الانتداب”، وكُتِبَ عنه كتابٌ بعنوان “أسطورة دوف الأشقر”، فضلاً عن عددٍ كبيرٍ من المقالات، تتحدث عن تاريخ عملياته ضد الإنجليز. يُعدُّ إكثار الصهاينة من التأريخ وتخليد ذكرى محاربيهم ضد الانجليز حيلةً معرفيةً مفضوحةً لبناء هوية للمشروع الصهيوني (الذي رعاه الانجليز) كمشروع تحرر وطني من احتلال اجنبي. كما عُرِف الإرهابي “دوف الأشقر” ببراعته في السطو على البنوك، وخاصةً عملية السطو الشهيرة على بنك باركليز لتمويل العصابات الصهيونية)
بعد محادثات رودوس1949، وُضِعت العوجا تحت وصاية الأمم المتحدة وأُعلِنت منطقةً منزوعةَ السلاح، ومنطقةً محايدةً، وذلك بعد أن وصلت المفاوضات بين مصر والصهاينة إلى طريقٍ مسدودٍ، بعد تعنّت الصهاينة في مطلبهم بوضع قوّة دفاعية في العوجا لحماية بئر السبع من أيِّ هجومٍ مصريٍّ مباغتِ.
بالمقابل، أصرّ الجانب المصري على ضرورة عودة العوجا للسيادة المصرية، لكنه سرعان ما تغيّر الموقف الرسمي المصري حول منطقة العوجا (مساحتها 260كيلومتراً مربعاً) بعد “تدخل” أمريكي مباشر، فتخلّت مصر عن مطلبها بعودتها للسيادة المصرية. تمّ ذلك إثر اجتماع مسؤول أمريكي مع السفير المصري في واشنطن، وَعَدَ فيه المسؤول الأمريكي بزيادة واردات القطن المصري، وبمساعدات اقتصادية وثقافية وتقنية مقابل العوجا. (28)
في 17 آب 1950 شنّ الجيش الصهيوني عملية وصفها بـ”الانتقاميّة” على مضارب العزازمة في العوجا، فقتل وحرق 13 شهيداً وجرح العشرات، وطرد 4000 من العزازمة إلى سيناء المصرية. يقول الحاج حسن العزازمة: (29)
“في عام 1948( يقصد بعد العام 1948) كانت منطقة واد الحفير وواد الأبيض مناطق بها قوات دولية، ومنها دخل الإسرائيليون إلى مضاربنا، حيث حرقوا بيوتنا المصنوعة من الشعر وقتلوا الأطفال والنساء وبعض الرجال الذين لم يستطيعوا الهرب، مشيراً إلى أنهم وجدوا العديد من الأطفال محروقين، وكان من بينهم الطفل سلامة سليمان العزازمة “ابن طوقان” إضافةً إلى الماشية والأغنام التي تمت إبادتها”. (30)
بقيت العوجا “منطقةً محايدةً” و”منزوعةَ السلاحِ”، تحتوي على مقرٍ للأمم المتحدة إلى جانب موقعٍ للعدو الصهيوني والجيش المصري، وذلك من العام 1949 حتى ليلة 3 تشرين الثاني 1955. في تلك الليلة، شنّ الصهاينة هجوماً صاعقاً ليلياً على منطقة العوجا، أطلقوا عليه” البركان”. (31) انتهى هذا الهجوم بضم منطقة العوجا كلّها إلى حدود ما تُسمّى بـ”إسرائيل”، واعترفت مصر رسمياً بالسيادة الصهيونية عليها في اتفاقية السلام مع الصهاينة في العام 1979.
“أرييه لوبا إلياب” مُعمّر النقب بعد “خراب” الفتح العربي الإسلامي!
في استعمالهم التاريخَ وعلمَ الآثار سلاحين للسيطرة على الأرض، وكأيديولوجيا علميةٍ للاستيطان، يرفع الصهاينة مقولة “خراب” النقب المزدهر بعد الفتح العربي الإسلامي لفلسطين، ويستشهدون بنتائج الحفريات الأثرية للتدليل على ادعائهم المزيّف، فيقولون: إنّ الكشوف الأثرية تؤكد انقطاع الاستمرارية العمرانية في العديد من المراكز الحضارية بعد نهاية الفترة البيزنطية في فلسطين، وذلك في القرن السابع الميلادي. وهذا الادعاء فنّدته دراساتٌ عديدةٌ بناءً على شواهد أثرية. (32)
ضمن هذا السياق، يعتبر الصهاينة العوجا أحدَ هذه المراكز الحضرية المزدهرة التي ذبلت بعد التحرير العربي الإسلامي لبلادنا فلسطين. ومن ثمّ يَحتفون بمستعمرة “نيتسانا”، والتي “نهضت” على أنقاض العوجا وأهلها العزازمة الذين لا تزال قبورهم المنسيَة تعاند الزمان؛ كعودة الحياة لـ”نيتسانا” البيزنطية، بعد 1300 عام من الموت والخراب.
خلال التخطيط لمستعمرة “نيتسانا”، اعترضت سلطة الآثار الصهيونية على المخطط الهيكلي للمستعمرة الجديدة بحجة أن المستعمرة تنهض على تل أثري، صاح بهم المستوطن “لوبا إلياب”: “دلّوني على تلٍّ خالٍ من قطع الفخار والعملة القديمة في هذه البلاد”، وتابع: “بل على العكس، فإنّ الاستيطان الصهيوني المعاصر على المواقع الأثرية له ميزاته، الحفريات توفر فرصاً للعمل، وتخلق إحساساً بالفخر عند المعاصرين الذين يشعرون بأنهم استمرارٌ للوجود الحضاري السابق في ذات المكان، كما أنّ الحفريات الأثرية أداةٌ تربويةٌ ممتازةٌ لربط الجيل الشاب مع ماضيه ومستقبله”. (33)
من هذه الروح الاستعمارية المتقدة، وُلِدت القرية الشبابية التربوية الاستيطانية على أرض العوجا، التي تؤهِّل الجيل الشاب لدخول الجيش الصهيوني، وتُقدِّم مجموعةً من البرامج التعليمية لبناء الشخصية القيادية الصهيونية، ومعرفة “أرض إسرائيل”، وتعليم اللغة العبرية للمستوطنين الجدد.وهذه المدرسة من أكثر المؤسسات الصهيونية نجاحاً في جذب المستوطنين الشباب الجدد إلى فلسطين.
في العام 2007، أطلق شارون خطة تعزيز الاستيطان على خط الحدود مع مصر، ومن ضمن هذه الخطة إقامة مستوطنة ثانية على أراضي العوجا باسم ” نتسنيت”، ما زال مخططها في مرحلة الأخذ والرد مع ما تُسمّى سلطة الآثار الصهيونية. (34)
عودة إلى التل؛ إلى أول الرحلة
قبيل الغروب، وبعد إطلالةٍ من جبل أمّ الحواويط على الحدود المصرية، على الخط المرسوم في الرمال، نزلتُ من الجبل وصعدت تلَّ العوجا، لألقي تحية الوداع على العوجا. مشاعرُ مختلطةٌ؛ حزن الفقد الُمضاعَف الذي لم يُعطَ حقه من البكاء، ونشوةٌ مردُّها إلى الامتلاء بالمكان الذي زاد من الشعور بالذنب إزاءه؛ المكان الضائع مِنا وفينا. وشعورٌ بالحنين.
إنّه الحنين إلى أمي التي حملتني معها صغيراً إلى هذه الديار، وحنين العربي الدائم إلى الموطن الأول؛ إلى أول الحكاية، إلى جزيرة العرب التي لازالت روائح عطور وبخور قوافلها تُقيم في المكان.
………………..
الهوامش
1) انظر: http://www.plands.org/ar/articles-speeches/articles/2008/half-forgotten-palestine,-spend-beersheba-where-t
2)http://www.falcha.co.il/
3) الدباغ، مصطفى. بلادنا فلسطين.كفر قرع: دار الهدى. 1991، ج1، 466.
4) Palmer,edward.Desert of Exodus.New York: Harper & Brothers.1872.
5) Walter Besant (1883) Edward Henry Palmer, Palestine Exploration Quarterly
15:1, 4-7
6) العارف، عارف. تاريخ بئرالسبع وقبائلها. القاهرة: مكتبة مدبولي، 1999، 64.
7) عرّاف، شكري. المواقع الجغرافية في فلسطين: الأسماء العربية والتسميات العبرية. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2004. و خمّار، قسطنطين: أسماء المواقع والمعالم الطبيعية والبشرية الجغرافية المعروفة في فلسطين حتى العام 1948. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980، 174.
8) المقريزي، تقي الدين. كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. بيروت: دار الكتب العلمية. الجزء الأول 347.
9) KRAEMER، GASPER.Excavations at Nessana, Volume 3. Princeton: Princeton University Press.1958
10) http://diwan.ahram.org.eg/News/1834429.aspx
11) العارف،عارف. تاريخ بئر السبع وقبائلها. القاهرة: مكتبة مدبولي، 1999، 250.
12) William M. Mathew (2013) The Balfour Declaration and the Palestine Mandate,
1917–1923: British Imperialist Imperatives, British Journal of Middle Eastern Studies, 40:3,
231-250
13) Yigal Sheffy (1999) The origins of the British breakthrough into South
Palestine: The Anzac raid on the ottoman railway, 1917, The Journal of Strategic Studies, 22:1,
124-147
14) Yitzhak Gil-Har. “Boundaries Delimitation: Palestine and Trans-Jordan.” Middle Eastern Studies, vol. 36, no. 1, 2000, pp. 68–81
15) רמיאש, רבקה.כנפי האימפריה.ירושלים:כרמל. 120,2017. (رمياش، ركفا. أجنحة الإمبراطورية. القدس: الكرمل. 2017، 120).
16)http://trabeenayyat.blogspot.co.il/2016/04/1922-1932.html
17) انظر: جريدة الدستور الأردنية، 26 آب، 2010. ص 31.
18) انظر جريدة فلسطين: الجمعة 12حزيران 1936.
19) حول كتسيعوت تاريخه وسيرته، انظر: المتوكل طه، رمل الأفعى:سيرة كتسيعوت-أنصار3. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2010.
20) ملز،أ.إحصاء نفوس فلسطين. القدس، 1932
21) العارف، عارف. تاريخ بئر السبع وقبائلها. القاهرة: مكتبة مدبولي، 1999، 61.
22) Yitzhak Gil‐Har (1992) The South‐Eastern limits of Palestine at the end of Ottoman rule, Middle Eastern Studies, 28:3, 559-564.
23) العارف، عارف, النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود. .بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.2012،ج 2، 162.
24) نفس المصدر السابق، 164.
25) العارف،عارف. النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.2012،ج 1، 395-396.
26) حول عملية حوريف، انظر “مواقع حرب الاستقلال” : http://moreshet-map.org.il/step-5/%D7%9E%D7%91%D7%A6%D7%A2-%D7%97%D7%95%D7%A8%D7%91-%D7%92%D7%96%D7%A8%D7%94-%D7%9E%D7%A8%D7%9B%D7%96%D7%99%D7%AA/
27) انظر: בן-תור, נחמיה. אגדת דב הבלונדיני מלח”י. הוצאת יאיר, 2013. (نحميا، بن تور. أسطورة دوف الأشقر من ليحي. يائير للنشر. 2013).
28) Waage, H. H. “The Winner Takes All: The 1949 Island of Rhodes Armistice Negotiations Revisited.” The Middle East Journal, vol. 65 no. 2, 2011, pp. 279-304
29) السعدي، غازي. من ملفات الإرهاب الصهيوني في فلسطين(2). عمان: دار الجليل للنشر.2016، 103.
30) http://www.palestineremembered.com/GeoPoints/_Awja_Hafir_PS_824/Article_8122.html .
31) لوصفٍ مختصرٍ للهجوم، ومدعّمٍ بالخرائط، انظر موقع قوات المظليين الصهيونية: http://202.org.il/Pages/tagmul/peulot/sabcha.php
32) انظر: عويس، مازن. شبكات الطرق في فلسطين في الفترة الإسلامية المبكرة -النقب حالة دراسة (رسالة ماجستير).جامعة بيرزيت. 2008.
33) https://www.haaretz.co.il/literature/book-week/.premium-1.2644229
34) http://mapateva.org.il/pdf/harhamran/OhadBenDayan.pdf