مقصدنا الأساسيّ في هذا المقال أن نشتبك مع سؤالين: كيف ولماذا انضوت القدس في مشروع استعماريّ؟ (والتي بدورها تعبّر عن فلسطين أيضًا)، والإشارة إلى مشروع استعماريّ هي بالضرورة إشارة إلى مشروعٍ حداثيّ؛ إذ إنّ ولوج القُدس إلى ما نسمّيه زمناً حداثيّاً وإلى تشكيلات الحداثة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة جعلها هدفًا للمحو والإلغاء، وهكذا كانت عملية تحققها في الحداثة هي في ذات الوقت عملية محوها. [1]

لذا يتوجّب علينا بدايةً اختيار نقطة وزمن وفترة نستهلّ منها، لننظر من هناك إلى تتابع الأحداث التي أضحت القدس على إثرها محتلّة. حصل ذلك في القرن التاسع عشر، الذي نستطيع أن نعتبرهُ قرن ولوج القدس (وفلسطين عامّة) إلى المشروع الحداثيّ/ الاستعماريّ، وأقتبس:

«تميّز القرن التاسع عشر بكونه تقاطعًا استكشافيًا، حالة عتبيّة ينظرُ من يقف عليها مستشرفًا إمكانيّات القادم، حيثُ غلّفت البعض غمامة اللهفة لانبثاقاتٍ جديدة، وثمّة آخرون، غلّفتهم غمامة التخوّف من هذا الجديد، والأغلب تغلّف بكلتيهما، في حين تغلّف الكل بما راكمه التاريخ من أبنية، بالإضافة إلى ما حدّدته الأرض فيه وعليه. لحظة الاستكشاف هذه كانت تراكمات صنعت تحوّلات في البنى الداخليّة في تفاعلاتها مع قرنٍ زمنيّ من الاتصال المتنوّع والمتقطّع، المكثّف والغامض، مع تشكيلات مختلفة من القوى الاستعماريّة الأوروبيّة، هذا الاتصال الذي كان جانبًا وتعبيرًا عن تحوّلات في البنى الاجتماعيّة الاقتصاديّة المختلفة… إلّا أن القطع بشكله العلنيّ لم يكن لهُ أن يُحسم إلّا عسكريًا مع نهاية الحرب العالميّة الأولى». [2]

يضعنا الاقتباس، في السياق المتشكّل مع مطلع القرن التاسع عشر، وأودّ اختيار مرحلة فاصلة، تلك التي وقعت فيها القدس تحت الحكم العثماني من جديد بعدما استعادتها السلطات بتدخّل استعماري؛ أي بدفعٍ من الإمبراطوريّات الأوروبيّة، إذ إننا – ومن هُنا تحديدًا – نستطيع رصد التحوّل الجاري؛ حيث الإمبراطوريّة العثمانيّة لم تعد كما كانت بعد صعود القوّة المصرية تحت قيادة محمّد علي باشا، وأصبحت بحاجةٍ إلى الركون على القوّة المتراكمة للإمبراطوريّات.

لذا اقترحت هذه النقطة تحديدًا، ومن مرورنا في النصّ على تتابع الأحداث التاريخيّة منذ عام 1840، نلاحظ تداخل القوّة والطموح الكولونيالي في صُلب الحياة الاجتماعيّة/ الاقتصاديّة للقدس، وبالتالي اختراقها كمدينة، وتحويلها إلى شيء تتناوله المعرفة والقوّة الأوروبية، البريطانية تحديدًا كما سنرى إثر التطوّرات والحسم العسكري الحاصل في عام 1917، تحوّلت إلى«هديةٍ» يُقدّمها رئيس الوزراء البريطاني، «ديفيد لويد جورج” إلى الشعب الإنجليزي مع حلول عيد الميلاد في العام ذاته؛ إذ تحوّلت القدس إلى غرضٍ استعماري مادّي تحت سيطرة الإمبراطوريّة وتحكّمها. [3]

خلفية تاريخية: عودة العثماني إلى الحكم مهزوماً

«كانت عودة الحكم العثماني إلى القدس في شتاء 1840، شأناً صاخباً؛ إذ بدأت القيادة القديمة- الحديثة على الفور في إعادة بناء المدينة وتدعيم أسوارها خوفًا من شيوخ الريف إثر تصاعد نفوذهم بشكل ملحوظ في عهد المصريين. ورُفعت الأسوار المحيطة بالمدينة، وبدا كما لو أن الانقسام بين المدينة والقرى المحيطة، سيستمرّ دونَ تغيير». [4]

لم ينتهِ التحوّل الجاري الحداثي في منطقة سوريّة إثر عودة الحُكم العثماني إلى القدس بقوّة المدافع البحرية الأوروبية، ولكنّه أخذ مساراتٍ ربمّا لم تكن ضمن نوايا سلطة محمّد علي باشا، والابن إبراهيم باشا، إذ إن إنشاء الملامح الحداثيّة في النظام والبيئة المعيشيّة والمعماريّة للقُدس، علاوة على الزيادة في عدد التجّار والسفراء والأعمال الأوروبيّة داخل المدينة، منحت أيضًا شعورًا قوميًا عند العرب داخل فلسطين. 

لماذا إذن جاءت العودة مهزومةً؟ لأن العثمانيّ لم يستطع من خلال العودة أن يعكس مثلًا أو يستجيب لهذه التحوّلات، وإعاقة النفوذ المتصاعد للإمبراطوريّات الأوروبيّة، بل اهتمّ فقط في القضايا المحليّة والحفاظ على استقرارٍ بين العائلات والعشائر والشيوخ سواء المدينيّة أو الريفيّة في القدس. إذن لدينا جانبين متشابكين في الواقع يعزّز كل منهما الآخر، نودّ الإحاطة بهما لفهم تشكّل الهزيمة، أولاً: أسَس العثمانيّ لحكمه في القدس من خلال السياسة المحليّة واعتمادًا على عائلة قويّة ومستقرّة إزاء متمرّدين من الريف، وعزّز اتباع سياسة «فرّق تسد» بينَ العائلات والعشائر، ويأتي ذلك في سياق نموّ مدينة القدس التي وصل عدد سكّانها آنذاك 20 ألف. وثانياً: أصبحت مدينة القدس هدفًا استعماريًا أوروبيًا لمختلف الإمبراطوريّات، على رأسها بريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا، وقد تصاعدت على هذا الأساس المخاطر على القدس وتعدّدت طرق السيطرة، إلى أن استطاعَ البريطانيّ كسب المعركة في عام 1917.

وتبعًا لسياسة «فرّق تسّد»، أنشأت الإصلاحات العثمانيّة مناصب جديدة، كما أعادت هيكلة الإدارة فيما يخصّ لواء القدس، والتي تمثّلت في ربط العثمانيين لواء القدس بـ «إيالة صيدا»، ومع ذلك حافظ لواء القدس على وحدته الإدارية حتى عام 1872، العام الذي أنشأت فيه متصرفيّة القدس والتي أصبحت على إثره كاملة الاستقلاليّة. وفي هذا السياق، فإنّ قضاء القدس يتألف من: المدينة، ومن نواحي بني زيد التي تعادل 24 قرية؛ ثمّ نواحي بني سالم التي تعادل 12 قرية؛ فضلاً عن بني مالك والتي تحوي 23 قرية؛ وبني حسن 9 قرى؛ إضافةً إلى الوادية وفيها 10 قرى؛ وبني حارث المؤلفة من 17 قرية؛ وأخيراً؛ البيرة وجبل القدس، والتي تضمّ 21 قرية

ونيتجةً للإصلاحات، احتدمت صراعات جديدة بين العائلات الكبرى في القدس، خصوصًا بعد إنشاء المجلس الإداريّ في القدس، والمسمى «سنجق» (تعني مجلس الإدارة باللغة العربية). مثال على ذلك، سعى الحسين إحدى كبار عائلة الحسيني إلى «ضمّ» المجلس الجديد إلى سيطرة العائلة، وتصبح عائلة «الحسينيّ» مالكة جميع مراكز القوة الثلاثة في القدس المجلس والإفتاء ومنصب شيخ الحرم، ووجب التنويه على أن المخطّط لم يدم. [6]  

تمكّنت عائلات أخرى منافسة لعائلة الحسيني مثل الخالديين والعلميين من الاستيلاء لفترة على بعض مراكز القوّة في المدينة. كما نفت الإمبراطورية بعضًا من الرجال البارزين من عائلة الحسينيّ إلى دمشق أو اسطنبول، وشكّل ذلك تدهورًا غير مسبوق للعائلة. إلّا أن التدهور السياسيّ لم يؤثر على رفاهيتها الاقتصادية، بل على العكس من ذلك؛ بدا أنه يوفّر حافزًا للنمو الأكثر ثراءً، وقد وفرت التعويضات الحكومية السخية للوظائف التي فقدتها خلال الحكم المصري والتوسع في مصنع الصابون ومطاحن الدقيق للأسرة المربح والأمن اللازم. ويعود ذلك إلى العلاقات الجيّدة للعائلة مع مراكز القوّة في الإمبراطوريّة التي وفّرت لهم تعويضات سخيّة، كما لم تُصادَر أملاك العائلة، وقد منحهم ذلك المشاركة في معاملات تجاريّة امتدّت إلى خارج المدينة أو حتى المنطقة ووسعت ثروة الأسرة. [7]

وفي القرى المحيطة للمدينة والريف، تولّدت احتجاجات وتحديات للسياسات العثمانيّة في القُدس من قبل عائلة أبو غوش، وتحولت الاحتجاجات لفترة من الوقت إلى سلسلةٍ من التمردات. ومع ذلك، لم تتمكن عائلة أبو غوش هذه المرة من الاعتماد على العائلات الحضرية، فيما نجح العثمانيون في ضرب التمرّد من خلال الاعتماد على تحالفاتٍ قويّة مع عائلاتٍ خارج القدس، التي تحمل العداء لعائلة أبو غوش، بشأن قضايا الضرائب والأراضي. ويبيّن «إيلان بابيه» في هذا الصدد، أن العائلات المدينيّة قد دفعت تجاه السياسات العثمانيّة داخل القدس. وكما نرى بعد مرور عقدين فقط، عادت عائلة الحسينيّ مرةً أخرى إلى مراكز القوّة في القدس؛ سياسيًا واجتماعيًا، إثر استخدامها المتوازن لجميع الوسائل التقليديّة بالإضافة إلى التلاؤم مع الشروط الحداثيّة التي بدأت صياغة شكل مدينة القُدس، إذ إنّهم قاموا بخلق علاقاتٍ جيّدة مع طبقة الأعيان بسبب قوّتها الاقتصاديّة التي نشأت في ظلّ الظروف والسياقات الحديثة للإمبراطوريّة العثمانيّة بعد مجموعة الإصلاحات التي قامت بها، وبالموازاة، استطاعت استمالة عشائر وقبائل عبر وسائل تقليديّة وتحالفات. [8]

ونرى مثالًا على ذلك، تقاضت عشيرة أبو غوش في محيط القدس ما يعادل خمسين ألف قرش سنويًا للحفاظ على الهدوء في منطقتهم، وتحوّلت العشيرة إلى قوة حقيقية، إلا أن التوازن الحاصل الذي تدفعه الإمبراطوريّة بين الريف والمدينة، بشتى الوسائل المتاحة، يبيّن لنا الانهماك الداخليّ للإمبراطوريّة، والتصدّعات الناشئة.  

عن نهايات القدس العثمانيّة: تشكّل المتصرفيّة

بعد الخلفية الأولية إزاء التشكيلات الاجتماعية والسياسية في القدس، من المهمّ ذكر العامل الأساسيّ صاحب الأثر الهائل على تاريخ القدس في محيطها الجيوسياسيّ، وتحوّلها إلى هدفٍ للاستعمار، إذ إن عمليّة تحوّل فلسطين إلى متصرفيّة مستقلّة في نهايات القرن التاسع عشر – والتي تبعتها أربع أقضيّة؛ قضاء يافا، وقضاء غزة، وقضاء الخليل، وقضاء بئر السبع ثمّ تبعها كذلك قضاء الناصرة في عام 1909 – جعل منها هدفًا محدّدًا وواضح المعالم، أيّ فلسطين، للمستعمِر، كما سنتقصّى ذلك.

منذ عودة العثمانيين، أصبحت القدس والمدن العثمانيّة مساحةً جديدةً لاستكشاف قناصل المستعمرين، وقد وصل القنصل البريطاني الأول، «ويليام تانر يونغ»، إلى القدس عام 1838، وأدرك منذ البداية أنّ وجهاء المدينة هم مجموعة معادية لمصالح بلاده وله شخصيًا. وحاول البريطانيون مرارًا التدّخل في شؤون القدس، حسبما نعلم أن قناصل المستعمرين، لم تؤدِّ مهامًا دبلوماسيّة فقط، ولكنّها مثّلت الصفوف الأمامية للاستعمار. بعد مرور بعض الوقت، أدرك المقدسيّون عمومًا، عائلاتٍ وأعياناً، أن القناصل تزداد قوةً مع مرور الوقت. وفي غضون عقد وحسب من قدومهم إلى القدس أصبحوا قوةً لديها أذرع وشبكة علاقات، لا يمكن مواجهتها إلا بتحالفاتٍ متماسكة. وجسّد القنصل البريطاني «جيمس فين»، الاستعلاء الأبيض والاستشراق الأوروبي في أنصع ملامحه؛ إذ إنه تمركز في القدس بين عامي 1845 و1863، ويبيّن «إيلان بابيه» أن القنصل «جيمس فين»، تحوّل إلى الشخصيّات الأكثر بروزًا في السرديّة الصهيونيّة للقدس، ويروى أنه كان كارهًا للإسلام ككلّ وأعيان القدس على وجه الخصوص، ولم يتعلم التحدث باللغة العربية أبدًا وتواصل مع المقدسيين عبر المترجم فقط، وكان مثيرًا للمشكلات بشكلٍ دائم. [9]

وفي هذا الصدد، لا يمكننا اعتبار تصاعُد قوّة القناصل الأوروبيين مشكلة سياسيّة وحسب، بل إنها تعبّر كذلك عن تغيّرات اجتماعية واقتصادية، والخاسر الرئيسي على إثر هذه القوّة للقناصل، هو المجتمع الزراعي الفلسطيني -أي معظم السكان- الذي اضطر إلى التحول من الزراعة للاستهلاك الشخصي، أي إلى العمل المأجور والرواتب النقدية. وبالمقابل ازدادت قوّة العائلات المقدسيّة الكبيرة، حيث أنّ عداءها أو استنفارها ضدّ القناصل سياسيًا، لم يتسّع لعداء التغيّرات الاجتماعيّة بسبب الربح المحتمل الذي تجنيه.

وتمكنت طبقة التجّار – والتي اقتصرت سابقًا على الطوائف المسيحيّة واليهوديّة فقط، وتبعها عائلات مسلمة كبيرة – من تداول مراكز القوّة في المدينة؛ إذ أصبحت تتوسّط علاقات الفلاحين والعالم، من خلال تصدير المواد الخام أو عن طريق استيراد السلع من المصانع الأوروبيّة.

وقرب نهاية القرن، توسّعت الوسائل الماليّة للربح السريع من خلال بداية عهد المضاربة والتعامل في العقارات، بما في ذلك ممتلكات المجلس الديني الإسلامي. وبادر رباح الحسيني وهو إحدى الشخصيّات البارزة في هذه الفترة، إلى توسيع ممتلكات العائلة في القرى المجاورة وشراء الأراضي. بالتالي، نجح رباح الحسيني في جمع ثرواتٍ هائلة عبر التغييرات السريعة الجارية، والمرتبطة بقوّة في كلّ العوامل التي ذكرناها؛ الريف والمدينة والقناصل الأوروبيين؛ فضلاً عن توسّع التجارة وانحدار الزراعة. ثمّ تأتي خطوة توسيع المدينة (خارج الأسوار) ونقل مساكن العائلة بعيدًا عن الحرم والأماكن الدينيّة، إلى خارجها، وخصوصًا في ظلّ الازدحام والكثافة السكانيّة المتزايدة في المدينة. [10]

ومن المهمّ النظر إلى عمليّة التوسّع خارج الأسوار على أنّها تشكيل اجتماعي سياسي واقتصادي؛ إذ إن المنزل الكبير بالقرب من مسجد الشيخ جرّاح الذي بناه رباح لنفسه، جعلهُ أولّ حسينيّ يعيش خارج المدينة، ويتبع ذلك توسع الأحياء والمباني، ويُضاف إلى ذلك الأحياء اليهوديّة، وساهم جميعها في تغيير طابع المدينة، ونرى أنه في عهد السلطان العثماني عبد العزيز (1861- 1876)، ارتفعت أعداد المباني والمنازل بشكلٍ دراماتيكي، بما ذلك شراء الأوروبيّ للأراضي، ومساهمتها في توسيع الطرق وبناء شوارع، وإن كان ذلك تحت الغطاء العثمانيّ.

إلّا أن هذه العمليّة هي جُزء لا يتجزّأ من ازدياد قوّة القناصل، وتمهيدًا لاستعمارها: «والأهم من ذلك كان التدخل الأوروبي المباشر في فلسطين، وخاصة مشاركة بريطانيا وروسيا وفرنسا وبروسيا (الإمبراطوريّة الألمانيّة) بذلك. ورغم أن المصالح الاقتصادية للأوروبيين في فلسطين محدودة نوعًا ما، كما هو حال مصلحة الإمبراطوريّة العثمانيّة، إلا أن تطلّعات الأوروبيين الثقافية والدينية والسياسية كانت أكبر بكثير في الأرض المقدسة». [11] مع التشديد على أنّه منذ بداية الهجرة اليهودية من أوروبا، على نطاقٍ واسع، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أصبحت الجالية اليهودية الأشكنازيّة ذات تأثير أكبر على عمليّات الانتقال الجارية في المدينة خارج الأسوار. وتلقّى الأشكناز إعانات كبيرة من مجتمعاتهم المحلية في أوروبا الوسطى والشرقية، مما زوّد الاقتصاد المحلي بتدفقٍ مستمرّ من النقد، وساهموا بشكلٍ واسع في أنشطة البناء المذكورة أعلاه. [12]

في هذا السياق، يمكننا فهم إنشاء «مقاطعة فلسطينية موحدة»، والتي سميّت بمتصرفيّة القدس، حيثُ أن مسألة التأسيس حملت أبعادًا مرتبطة في التحديّات الاستعماريّة التي أصبحت في هاجس عمليّة صنع القرار العثمانيّ؛ وبرز نهجان قبيل تأسيسها والتخطيط لحُكم مدينة القُدس والأقضية التي بجانبها؛ إذ برز تيّار المحافظين الذي يحيطون «الصدر الأعظم» محمود نديم، الذي تولّى المنصب في عام 1871، وقد دعموا ولاية فلسطينية موحدة. بالمقابل دعا تيّار الإصلاحيين الليبراليين الذي أحاطوا الصدر الأعظم التالي مدحت باشا في عام 1872 إلى التقسيم الإداري للقدس؛ ورأى الموقف المحافظ أنّ مسألة تعزيز السيادة العثمانية على كل فلسطين تتأتّى من خلال إنشاء مقاطعة موحدة بقوة في قبضة حاكم قوي مقيم في القدس.

إلا أن نظرة التيّار الإصلاحي، وهي الأقرب إلى الصواب على الأقلّ كما اتضح تاريخيًا، أن تأسيس مقاطعة واحدة لما يسميه الأوروبيون «الأرض المقدّسة» أي جمع كلّ من سنجق القدس والأقضية المحيطة؛ من شماليّ القدس حتى جنوبها، ستحّولها إلى هدفٍ سائغ للمستعمِر، وتزيد من التدخّلات الخارجيّة؛ إذ إنه وبمساعدة القنصليّات في القدس، سيتمكّن الأجانب (من مستوطنين ومهاجرين) والمبشرين من التحرّك بحريّة داخل هذه المقاطعة وسيكون من الصعب السيطرة عليهم. لذا فإنّ إبقاء القُدس مقسّمة إداريًا، ولا تجمعها أية صلة إداريّة وسياسيّة مع الأقضية التي تحيط بها سيصعّب الحركة على الأوروبيين، كما ستتيح للعثمانيين إعاقة الخطر الاستعماريّ. ومن جانبٍ آخر، فإن إعلان متصرفيّة القدس ذات الإدارة المستقلّة، ومن وجهة نظر القناصل الأوروبيين، وخاصّة البريطانيّ؛ هي خطوة إداريّة- سياسيّة ذات آثار إيجابية ومرغوبٌ بها. [13]

الحسم العسكريّ البريطانيّ تمهيداً لـ «يروشلايم»

دفعت معظم القنصليّات الأجنبيّة في القُدس مواطنيها اليهود للهجرة والاستيطان في فلسطين، ضمن التغطية القانونيّة «الامتيازات» كمواطنين أجانب، وبرزت القنصليّة البريطانيّة في دفع مخطّط الهجرة اليهوديّة، من خلال تأسيس أجسام وجمعيّات تدعم الهجرة، وعلى رأسها الجمعيّات المسيحيّة (والصهيونيّة). ويأتي ذلك ضمن «الحل النهائي» للمسألة اليهودية، وفقًا للمنظور البريطاني، والذي يقتضي طرد اليهود من أوروبا، والتخلّص من المجموعات السكانيّة التي تحوّلت إلى «فائض»، وخصوصًا بعد تصنيفها في أدنى السلّم العرقي، بعد هيمنة التنظيم والتخطيط الرأسماليّ/ الحداثيّ/ العرقيّ للمجتمعات الأوروبيّة. [14]    

لذا أصبحت مسألة الحسم العسكريّ البريطانيّ، كما سنراها مع نهاية الحرب العالميّة هي مسألة وقت، والتي ارتبطت أيضًا في إطلاق وعد بلفور، كنتيجةٍ للاستثمار والجهد الأوروبيّ عمومًا والبريطانيّ على وجه الخصوص في التحوّلات التي جرت على مدار ما يقارب القرن منذ عودة الحكم العثماني إلى فلسطين. في نهاية عام 1917، والتي صادفت نهاية الحكم العثماني وبداية الاحتلال البريطاني للقدس والذي لم يكن مجرّد استبدال نظام، إنّما يعبّر عن مرحلةٍ جديدة ستمرّ على القدس وفلسطين كاملة، أيّ مرحلة من الإلغاء والمحو لمدينة القُدس، تمهيدًا لمدينة المستوطنين «يروشلايم».

إضافةً إلى الأبعاد الثقافية والدينية، أخذت فلسطين أبعادًا استراتيجية وسياسية واقتصادية في الحرب العالمية الأولى بسبب الحدود مع مصر، التي اعتبرها العثمانيون والألمان أرضًا معادية، بالتالي تحوّلت عملية التعبئة التي تجري في فلسطين والقدس آنذاك إلى مسألةٍ حيويّة، خصوصًا مع تدهور موارد الإمبراطورية المالية مع الاضطراب الحاصل في التجارة، وشكّلت ضربةً قوية للعثمانيين والاقتصاد (كان ذلك جميعُه حصيلة التحوّلات التي طرأت على الإمبراطوريّة العثمانيّة حينما اعتمدت بشكلٍ رئيس على التجارة مع الأوروبيين كعماد الاقتصاد، بدلًا من تطوير صناعة ثقيلة).

أما في الجانب البريطاني، ومع التغيير في القيادة في أواخر عام 1916 وتولّي «ديفيد لويد جورج» الذي ينتمي إلى الحزب الليبرالي، منصب رئيس الوزراء، يهمّنا الاتجاه السياسيّ العسكريّ الذي تبناه «لويد جورج»؛ وهو حسم الجبهة الشرقية، من خلال وضع الجهود العسكرية في فلسطين وبلاد ما بين النهرين من شأنه أن يغيّر مسار الحرب. 

وحسب هذا الاتجاه، فإنّ تحقيق نصرٍ أسرع وأكثر حسماً في أوروبا، يكون ممكناً فقط حينما نقوم بهزيمة قوّات المركز العثمانيّ والألمانيّ في المنطقة العربيّة، ونعالج هذا الموضوع كلّياً. ووفقًا لرؤية «لويد جورج» العملية والمعنوية أنّ احتلال القدس سيرفع من معنويات الأمة البريطانيّة. وبالفعل، برز احتلال المدينة على أنّه فعل استعصى على الأوروبيين منذ هزيمة الحملات الصليبيّة (أو الحملات الفرنجيّة كما سمّيت في التراث العربيّ والاسلاميّ) على القُدس، لذا تُوّجت سيرورة احتلالها في دعاية الحرب، على أنّها فعل دينيّ وفعل سياسيّ وفعل حضاريّ، يدلّ على انتصار التشكيلات الأوروبيّة الحداثيّة (والكونيّة) أمام التشكيلات التقليديّة. [15]