تسعى هذه الدراسة إلى بناء مدخل لفهم ظاهرة العمليات الذرّية، أيْ تلك العمليّات الفلسطينية التي تحدث دون وجود محرّكات تنظيمية حزبية تنظّمها وتوجّهها. وتتخذ الدراسة من العمليات الذرّية مدخلاً بيداغوجياً لتشريحٍ سياسي-اقتصادي للمجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية تحديداً، ولكن هذا لا يعني أنَّ التحليل لا يطال جغرافيات أخرى أكثر اتساعاً. كما وتتّخذ من الفعل الذرّي أساساً في ادّعائها المركزي القائل إنَّ هذا الفعل فعل عوارضيّ نافٍ لأزمات فلسطينية متراكمة، أهمّها استمرار وتوغل الاستعمار الصهيوني، وتحوّل استراتيجيات بعض بواقي الحركة الوطنية إلى استراتيجيا التعاون مع الاستعمار، وضعف القدرة على التنظيم الجماعي لأسباب معقدة ومتداخلة، لعلَّ أبرزها: مكافحة تنظيم-السلطة الفلسطينية- لأفعال المقاومة؛ ووجود تروما التنظيم التاريخية في المجتمع الفلسطيني؛ وكليّة شبح الخيانة في الضفة الغربية المرتبطة بالرقابة. ولكن ما يغذّي نشأة الفعل الذرّي المقاوم هو مخيال جمعي نشِط مشكَّل من أحلام اليقظة الثورية والفانتازيا، وفضاء افتراضي-واقعي يساهم بتغذية معاني الفعل، وصوره وتعاقبيته. تطرق الورقة لهذا المجال “الواقعي الموضوعي”، إو إلى الكيانات الخيالية التي تمتلك جسداً ولكنها لا تمتلك وجوداً في محاولة تشريح العديد من هذه المدخلات التي ساهمت في تذرير الفعل المقاوم أو في نشأته.  تسعى الدراسة أيضاً إلى فهم أطوار المقاومة المستجدَّة بالعقد الأخير من حراكاتٍ، مروراً بالعمليات الذريّة، ووصولاً إلى إعادة تشكّل الكتل البشرية العفوية، وأخيراً عودة التنظيم إلى مرحلته الجنينية في شمال الضفة الغربية. تجادل الدراسة في أنَّ مشاعيّة المقاومة لا تنفي قدرتها على التجذر والتشجّر، بل هي ضرورية لخلق وازدهار هذا التشجّر. كما وتبحث في محاولات الاحتلال إعاقة وإجهاض المقاومة والسياسات التي انتهجها الأخير. لا تدعى الدراسة تغطيةً شاملةً لكل إمكانيات البحث، فهذا يتطلب جهداً أوسع لإدخال عناصر أخرى في هذا النقاش، أهمها: دور الذاكرة الاجتماعية، ومركزية الثأر، ونموذج البطولة وأهميته، وغيرها من مداخل ومناهج مهمّة في هذه التجربة المفصلية في التاريخ الفلسطيني. وبالرغم من إهمالها، إلا أن الهبّات الكبرى في العقد الأخير، وصعود التنظيم البؤري الدفاعي في شمال الضفة الغربية لم يكن ليكونّ دون ولادة الفعل الذري. [1] 

استهلال: سؤال التنظيم وميثولوجيا الواقعية

شكّل اليوم الثاني من تموز، من العام 2014 لحظةً فارقة، وهو اليوم الذي قد حرق فيه مجموعة من المستوطنين الشهيدَ محمد أبو خضير، من حيّ شعفاط في القدس.  ليست لحظةً فارقةً فحسب لأنّها تحولت لفاتحةٍ لحربٍ أظهرت مدى عمق التغيّر والتطور الذي طال بنية المقاومة في سهل غزة الساحلي، بل لأنّه يوجد في حيثيات الأحداث التي حصلت في هذا العام توطئةً طويلةً لما سيحصل في العام اللاحق، أي في نهاية الشهر التاسع من العام 2015، حين تتابعت الأحداث، فتحوّلت أفعال المقاومة إلى حالة مكثّفة سرعان ما اكتسبت مصافَ الهبّة بما تعنيه من كثافةِ الفعل الرافض واتخاذه أطواراً مستجدّة. لم تتحوّل الهبّة إلى انتفاضة عارِمة تضمّ شرائحَ وطبقاتٍ واسعة من المجتمع الفلسطيني، ولم تبقَ الهبّة دون بيانها السياسي والحدَثي الرافض للهزيمة، والمرصّع بدماء الشهداء. بيانٌ نستشفّه بالوصايا المتتابعة في فضاء الهبّة وتوالي أحداثها التي اتخذت شكل الفعل المباشر من مسافة الصفر وزمن الصفر. وبين الأعوام 2015-2021، وبالرغم من تباين الإحصائيات التي تسعى إلى قياس كثافة الفعل في الهبّة، فإنّ غالبية التقديرات تشير إلى أنّ ظاهرة العمليات الفردية تقارب الـ 450 عمليةً أسفرت عن استشهاد أكثر من 362 فلسطينياً، وعن مقتل أكثر من 68 «إسرائيلياً». [2] وقد ساهمت هبّة السكاكين في إعادة بناء منظومات العداء مع البنية الاستعمارية، ما أحيا بدوره أشكالاً نضالية أخرى وساهم في التمهيد لها، وأحيانا ً ما كانت تلك العمليات تحديداً بمثابة الشرارة التي أوقدت النار في قوة الكتل البشرية الكُبرى- المتمثلة في التظاهرات والتمردات الشعبية. 

 كان لهذه الهبّة دورٌ هامٌ في إعادة شبح المقاومة لفضاءات الاحتكاك مع المستوطن والجندي في القدس والطرق الالتفافية، وبالتالي إلى دورها في صياغة ردود أفعال متعددة من قِبل البنية الاستعمارية، ما ساهم بتوليد الهبّات الشعبية التي استدعت حضوراً جماهيرياً واسعاً. لهذا لا يمكن إغفال أهمية هذه الهبة، أولاً في كونها أحد أشكال التمرد الفاعل في الزمن الحاضر، وثانياً في دورها الفاعل في صياغة صيرورة من التمرّدات والهبّات التي تلتها، كهبّة الأسباط وهبّة باب حطّة، وهبّة رمضان في العام 2021، وصولاً إلى تشكّل حالات تنظيمية بؤرية في شمال الضفة الغربية. وبالرغم مما سبق، إلا أنّ النقاش السياسي والاجتماعي الفلسطيني الذي صاحب هذا النوع من الفعل الذرّي تخلّله العديد من التباينات، خاصّة بالرفض العقلاني المنفعي لهذا الشكل من الفعل، لما يتضمنه تحديداً من تجاوزٍ للتكتلات السياسية التنظيمية القائمة؛ أيْ تباين نابع من الادّعاء القائل إنّ هذا الشكل من الفعل يفتقر للقدرة على الربط ما بين الأهداف الممكنة سياسياً والأدوات والتضحيات والتكتيكات التي تمكّن عملية الوصول إلى تلك الأهداف، ما يمكن تسميته بنقض الفعل على قاعدة “افتقاره” لمنطق وعائد استراتيجي، أو لمنطق منفعي سياسي. [3]

لا بدَّ هنا من التعريج على أحد النقاط الأكثر أهميةً في هذا الصدد، وهو مسمّى الهبّة نفسها والتي اتخذت تسمية ًمضطربة في إطار هبّة العمليات “الفردية”، إذ  لا بدَّ من التفرقة بين مستوى ظهور الفعل نفسه، أي لحظة تحققه، وبين العناصر المختلفة التي تغذي هذا التشكل. فالفرد أو المفرد جسم كلي غير قابل للتجزيء، بل تُحيل الفردية أو الفرد إلى ما لا يمكن مقارنته بشيء آخر. الفرد متفرد أيضاً، والفرد يقدِم على الفعل بالمنطق الفردي دون اكتراث بالإرادة الجماعية، خاصّةً وأنَّ الإحالة هنا تنحو تجاه شكل الفعل بلحظة ظهوره، أي فرديته، بمعنى أنها تفتقر للجماعية، أو أنها تفتقر لإرادة جماعية، بشكل أكثر دقة. وهنا مكمن أساسي في محاولة تصوير الهبّة على أنّها “فائض” و”شطط” شبابي. وهذا لا شكَّ مسّمى يسعى إلى صعلكة هبّة العمليات الذريّة، أي جعلها تبدو وكأنّها “انفلات طاقات شبابية” و”بديل غير واقعي” عن غياب التنظيم السياسي المقاوم. 

لا يمكن هنا الحديث عن فردية منزوعة عن كتلة أوسع منها (على سبيل المثال ولا الحصر): عن خيال وفانتازيا العنف الجمعي المضاد، وعن السعي الدائم والمتعاقب لإيجاد منفذٍ وخلاصٍ من استعمار متوغلٍ ومتوسع، وعن دور الفقد والصداقة في خلق أفق لأفعال جديدة، وصولاً إلى كوْن الفعل نفسه وليد صلات وروابط اجتماعية متعددة لا يمكن حصرها كلياً، ووليد علاقات متعددة. أو بالأحرى هو وليد ما تولّده القوى والسلطات الاستعمارية القائمة من إمكانيات لتشكل علاقات حميمية واجتماعية، وما تتضمّنه أيضاً من محو لأنماط وأطوار وأشكال من العلاقات الإنسانية الأخرى. وبالتالي الفعل المقاوم يساهم في كشف وفضح الاستعمار لما يتضمنه الأخير من قدرة على تفكيك أشكال معينة من الروابط الاجتماعية، وإعادة بناء تلك العلاقات الاجتماعية بآليات تخدم استدامته. على سبيل المثال كون الفعل ذرياً يحيل إلى قدرة الاستعمار على حظر أنماط محددة من العلاقات الاجتماعية، مثل الصداقات السياسية، أو وضع العديد من المعيقات في وجه تشكل روابط ثقة سياسية. إذن، الاستعمار يمتلك منظومات مضادّة لخلق الروابط الاجتماعية أو بالأحرى يمتلك آلياتٍ و تقنيات لِ “بناء وفكّ الارتباطات الاجتماعية”. وهنا تحديداً ًيمكننا الاستعانة بـ جورجو أغامبين بقوله إنَّ الدولة، “ليست مؤسَّسة على رابط اجتماعي تكون هي المعبّرة عنه، بل إنّ الدولة قائمة على الانفكاك عن ما تحظره من الروابط والعلاقات، وحلّه”.[4] بتعبير آخر، الدولة ليست كما تظهر في نظريات العقد الاجتماعي كراعيةِ مساوَمةٍ قائمة على تبادلية نفعية بين المجتمع ومؤسسة الحكم نفسها، كنتاج تفاوض بين أطراف سابقة لنشأة الدولة، بل إنَّ الدولة تدخل في صلب تشكل العلاقات الممكنة وفي طرق وآليات تشكلها، وفيما تتيحه من تفكك عنها، وفيما لا تتيحه من طرق وآليات الانفكاك. 

لهذا نستعين بمسمّى هبة العمليات الذرية كإشارة لشكل الظهور، أي ظهور الفعل كما أوردناه سابقاً في لحظة تحققه. ولماذا الذري؟ وهنا تحديداً تحيل الذريّة إلى عدة قضايا مترابطة، أولاها يرتبط بشكل ظهور الفعل الذي يعوّل على انحراف يحدث في مسار حركة ما، وهذا ما يمكن عكسه على أي خروج عن المألوف في نقاط الاحتكاك مع المنظومة الاستعمارية. هذه الحركة الذرّية لا يمكن التنبؤ بها، وهي بالتالي تُحاكي مقولة الفيلسوف والشاعر الروماني لوكريتيوس في نظرية الميل (Clinamen) التي تبحث في سبل ولادة الطبيعة من خلال “الحركة التي تولد انحرافاً غير متوقع” والتي تعبّر بالنسبة للوكريتيوس عن الإرادة الحرة الكامنة في الكائنات الحية والأشياء.[5] بهذا المنطق، فإنّ هذه الحركة غير المتوقعة، والمفاجئة، وهذا الميل، أو هذا الانحراف هو أساس الإرادة الحرة التي تساهم، من جهة، في تشكّل الأشياء، ومن جهة أخرى تساهم في تحولاتها وتغيّرها وتبدلّها. إنّ إجابة لوكريتيوس على سؤال: لماذا انحرفت الذرة ولم تبقَ في حالة سقوط حرّ، يبدو بسيطاً، ذلك لأنّ هذه الحركة هي الإرادة الحرّة بشكلها المطلق، وهي صياغة لاحتمالات وممكنات تتمرد على السقوط الحر اللا-نهائي والمنتظَم. فبالنسبة للوكريتيوس فإنَّ الكلينامين (Clinamen) هو تغيّر بسيط وعفوي في الاتجاه خلال مسار الذرّة نحو أسفل الفراغ، ولو لم تحدث هذه الحركة غير المتوقعة لبقيت الذرات تسقط بالفراغ، برتابة، ولبقيت في حالة سقوط حرّ دون أن ينتج عن هذا الارتطام فضاء جديد من الاحتمالات، وبالتالي فضاء يتخذ شكل الفضاء. بتعبير آخر، لولا الكلينامين لبقيت الذرات بحالة انفصال دائم عن بعضها البعض و لبقيت تتساقط دون أن تخلق شيئاً من ارتطامها.  

أمّا ثاني القضايا التي تحيل إليها الذريّة،  فهي عملية التذرير الاجتماعي الخارجية القائمة من خلال السلطة السياسية والاقتصادية في المجتمع الفلسطيني الحديث، بمعنى عملية تحويل الكتل الاجتماعية كالطبقات والشرائح والعائلات الممتدة والروابط القروية وتلك المرتبطة بفضاءات حضرية أو على هوامشها، وخاصة قدرتها على صياغة فعل جمعي.. إلى ذرّات منفصلة مُراقبة، ومحاصرة، وخائفة مردوعة وغير قادرة أو غير راغبة في توليد التنظيم السياسي والعسكري.[6] وعليه، فإنّ الذرّي هنا يشير إلى الحركة غير المتوقعة التي تؤدي إلى ارتطام ذرّي يحمل معه احتمالات ولاداتٍ وإبداعاتٍ غير محدودة، وكذلك يشير بالمعنى السوسيولوجي إلى عملية التفكك والانحلال الاجتماعي التي تقوم بها السلطة السياسية والاقتصادية. 

لهذا يشكل الفعل الذرّي بيداغوجيا نستطيع من خلالها تتبع مساريْن: ما هي المفاعيل التي تساهم في صياغة شكل الفعل؟ وما الذي يقوله لنا الفعل عن شكل ونوع الانفكاك والانحلال الحاصلة في المجتمع الفلسطيني؟ بذا يشكّل الفعل الذرّي نفسه محطةً هامة في إمكانيّة بناء خريطة نقدية للواقع الفلسطيني في الزمن الحالي. 

لم يخلُ النقض/النقد لهبّة العمليات الذرية من التصوّرات السياسية لأصحابه، ما بين الحماس لظهور الفعل الذرّي، وما بين قبول حذِر أو رفض مطلق له. ويمكن القول إنّ لحظة نشأة الفعل وظهوره هي أيضاً لحظة انكشاف على الآليات المتعددة التي ساهمت في خلق الشكل الحالي للفعل بما فيها الانهماك في الحديث عن سؤال التنظيم والدفع به للواجهة. فمن جهة أظهرت الهبة القدرة المتجددة للإرادة الفلسطينية على الظهور بالرغم من التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي طرأت على المجتمع الفلسطيني عقب أفول الانتفاضة الثانية. كما وأظهرت، من جهة أخرى، الدورَ المركزي لجيل جديد يبحث عن حلول لأزمات فلسطينية لم تنتهِ، بما فيها أزمة أدوات وتكتيكات المواجهة في لحظة زمنية يغيب عنها التنظيم الحزبي الثوري، بل يحضر فيها تضخمّ تنظيمي بالقطب الآخر من المعادلة السياسية، أي في القوى السياسية التي تسعى إلى إحباط ومنع واحتواء الفعل المقاوم.

ومن المهم هنا، بل من الضروري، التأكيد على عدّة نواحٍ هامة في التحليل وجوانب مهمة يمكن استخلاصها من تجربة هبّة العمليات “الذريّة. 

أولاً، إنّ غياب التنظيم الحزبي لا يعني غياب التنظيم. لا يمكن فصل التنظيم السياسي عن مجموع القوى الضاغطة المشكّله له بالأساس، فالتنظيم ليس كتلة خارجية أو طارئة أو منسلخة عن التحولات الاجتماعية، بل إنّ التنظيم يعبّر عن التناقضات المتعددة التي تدخل في عملية صياغة شكله وطرق وآليات إدارة التوترات المتعددة الكامنة في داخله. لذا فإنَّ غياب الحزب السياسي الثوري لا يعني أنَّ الهبّة غير منظمّة أو أنّها لا تشكل بحدّ ذاتها نمطاً من أنماط التنظيم. وما تفرزه هبةّ السكاكين والسيارات والعمليات الذَرّية إجمالاً وغيرها من هبات جماهيرية أوسع، إنما هي أنماط من الفعل السياسي التي لا يمكن بوتقتها كلياً في إطار العفوية، ولا يمكن إحالتها أيضاً إلى تنظيم سياسي-ماوي أو لينيني أو جيفاري أو إسلامي-ثوري هرمي منضبط. نحن أمام شكلٍ هجين من التنظيم الاجتماعي المولَّد للفعل الذرّي، وهذا الشكل له العديد من مواضع القوة كما هو مولدّ للعديد من الإشكاليات والمعضلات. وهو ارتطام ذرّي بالبنية الاستعمارية مبني على تحول الجمعي السياسي في هذه اللحظة التاريخية نحو فضاء افتراضي، فضاء قائم على الفانتازيا والمحاكاة والذاكرة والمتاح. وهذا معناه أنَّ الجمعي كامنٌ في الافتراضي بينما الحدثي يبقى ذري، ولكنّه أيضاً حدث يساهم في بناء ما يعقبه. 

وبالرغم من أهمية ما سبق إلا أنّه لا يمكننا الاختباء خلف مسمّى الهجانة، ونتغافل عن هذه الثنائية التي تظهر أمامنا كمسألة ذات أهمية، أي ثنائية العفوي والمنظَّم، أو ثنائية المشاعي والمتجذر أو المتشجّر. من الضروري هنا إيضاح أنّ العفوية لا تعني “اللا-ترابط” أو “اللا-تنظيم”، فهي ليست في علاقة تضادّ ونفي مع ما هو منظَّم. بل على العكس من ذلك، فالعفوية تحمل في داخلها إمكانية التنظيم الحزبي نفسه، فما يُمكِّن الفعل الجماعي أو الذرّي من الظهور هو نفسه أيضاً ما يتيح المجال أمام تشكل أسئلةٍ على شاكلة: ما هي أفضل السبل والوسائل لبناء القوة وتنظيمها؟ وبالتالي ما هي أفضل السبل لإقامة أدوات تنسيقية لمواجهة التحديات السياسية المشتركة؟ والأهم لربما أنّه لا يمكن لنا تصوّر حالة عفوية فوضوية دون أي ترابط أو أي تنسيق أو تضافر تشاركي-جماعي وتوافق تواصلي بين الذوات المؤسِّسة لتلك الأشكال من الفعل، أي أنَّ العفوي نفسه يحمل في طياته ما هو منظَّم، فظهور العفوي هو ما يحيل إلى إمكانية ظهور المنظَّم نفسه، وهو  الهوّة التي تتسّع وتتشكل من خلالها إمكانية التنظيم المُتشجر. 

فكما يقدم ألكساندر بوجدانوف (Alexander Bogdanov) فإنَّ الفوضى الكاملة تصورٌ لا معنى له، وبالتالي لا يمكن تخيّل فوضى أو عفوية بمعناها المطلق. وما يهمنا هنا خاصة في مقاربة بوجدانوف أنّه قدم رؤية تؤكد على إمكانية فهم الظواهر من خلال القوانين التنظيمية التي تحتكم إليها تلك الظواهر، بما فيها الظواهر الاجتماعية والطبيعية. ما يرمي إليه بوجدانوف أساساً هو محاولة فهم الجزئيات بما فيها نشأة الفعل السياسي من خلال علاقة تلك الجزئيات بالكليات، وخاصّة الكليانية البيئية التي تؤثر بالجزئيات وتتأثر بها، مشكلاً بالتالي نمطين من البنى؛ نمط تنظيمي يسعى إلى الترتيب والتنسيق والتماثل أي الظهور بمظهر المنظَّم، وآخر منظّم ولكن في جوهره سيرورة من التشويش ومن تفكيك وهدم أنظمة سياسية منظمة. فكما يقول بوجدانوف: “الفوضى الكاملة مفهوم لا معنى له. في الواقع، هو مفهوم يتطابق مع فكرة اللاوجود العاري. أن تفكر بالانفصال واللا-تواصل المطلق هو فقط ممكن على مستوى الكلام.” [7]

إذن، هذان المفهومان ليسا بعلاقة تضادّ بقدر ما أنّنا نتحدث عن إحالات سياسية ذات معنى محدّد ضمن سياق الزمن الحالي: يحيل مفهوم العفوي إلى غياب الحزب السياسي والعسكري في الضفة الغربية، بينما يحيل المنظم إلى وجود هذا الحزب أو التنظيم الثوري. وهناك نزعة وميل غريب في الأدبيات والقراءات السياسية التي تحاول حصر مفهوم التنظيم بمفهوم الحزب السياسي. وهذه الغرابة مضاعفة في فلسطين، لأنَّه في طيات العديد من العمليات الذرية هناك رفض للحزبية المفرطة التي عانت منها الساحة السياسية الفلسطينية، ورفض لتقاعس الأحزاب عن أدوراها المرتبطة في إعلاء المقاومة نهجاً. بهذا المعنى، كانت الهبّة أيضاً دعوة للأحزاب للعودة إلى حشد إمكانيات المقاومة وإعادة إنتاجها في الزمن الحالي.

بالإضافة إلى ما سبق، فالعفوي يحيل إلى المؤقت والطارئ والحدثي، بينما يحيل المنظَّم إلى القدرة على الاستمرارية خاصّة القدرة على إنتاج وإعادة إنتاج الفعل وتغذيته بتقنيات وتصاميم مستجدّة، ورفد الفعل نفسه بخطابات سياسية توضح مقاصده، أي خطابات تشير إلى ما يرمي إليه الفعل أو إلى ما يجعله ضرورياً وممكناً. وهنا تحديداً تكمن المفارقة في أنّه ورغم كوْن هبّة العمليات الذرية قد افتقرت إلى رأس قيادي يقودها، أي إلى الهرم السياسي الذي يُحدد زمن الفعل، ومن ثم يحدد زمن إيقافه كما في حروب غزة مثلاً، إلا أنَّ الهبة استطاعت اجتراح تعاقب زمني، وفي بعض الأحيان تحويل هذا التعاقب إلى سيل من العمليات المتزامنة. 

العفوي ليس إلا نتاج ما نقوم به جماعياً، وليس إلا إحدى النتاجات الاجتماعية الصادرة عن بيئة اجتماعية معقدة تحتكّ، وتتعاون، وتتقابل وتتنافس فيما بينها. هذا، في الواقع، هو بالضبط سبب أهمية مسألة التنظيم، لأنّها تتعلق بمشكلة توسيع وتنسيق ونشر القدرة الجماعية على الفعل والعمل السياسي. بهذا المعنى الهبات الفلسطينية التي ولدت في العشر سنوات الأخيرة ليست إلا محاولات مختلفة لإصدار إنتاجات مختلفة من الفعل الذي يتطلب إرادة سياسية، أي أنّها هبات تحاول، من جهةٍ، إيقافَ قطار التوسع الاستعماري وتغلغلها المستمر في الأرض والفضاء، ومن جهة أخرى، تحاول اختبار مكامن القوة التي تهدِم وتفكَّك وتعطِب البنية الاستعمارية. ولكن هذا الفعل هو نتاج بيئة متكاملة ترتبط من خلال شبكات اجتماعية وحفر جذموري يصل بين عديد من نقاط الالتقاء الاجتماعي والسياسي والمشاعري. بمعنى أن الفعل العفوي هو أيضاً نتاج احتكاك متزامن بين العديد من نقاط اللقاء والعقد داخل بيئة مشاعية متناثرة في فضاء واسع. 

وبعيداً عن التجريد، فالتنظيم بالمعنى المشاعي هو المؤسسة التعليمية والعائلية المنتجة للمقاوِم، وهو البيئة المادية الاستعمارية التي تستدعي المقاومة، وهو احتكاك بين طبقات وشرائح سياسية مختلفة تعاوناً وتنافساً وتمايزاً. وهو يكمن أيضاً في مجموعة من الوسائط التواصلية والتي تغذّيها الصورة والأغنية والصوت والحدث والذاكرة، أي بنى افتراضية، أو “افتراضية واقعية” تغذي وتعزز من الذاكرة الاجتماعية المقاومة وتستَحضرها بالحاضر. وهو أيضاً صراعات وتناقضات طبقية ورمزية وجندرية اجتماعية داخلية تفضي لفعل مقاوم موجَّه للمجتمع الاستعماري. بمعنى أنّه، ونعني التنظيم، مجموعات مختلفة من “العقد” ونقاط اللقاء التي تفضي إلى منتَج مقاوم. بهذا المعنى تحديداً لا يمكن القفز عن الهبّات في العقد الأخير دون تناولها ضمن بيئة سياسية تمتلك فاعلين وفاعلات متعدّدين، وتمتلك تفاعلات لا-نهائية تفضي إلى الحدث والأحداث المقاومة، بمعنى أنه لا تقرأ الهبّات دون رؤية التنظيم كبيئة إيكولوجية يمكنها أيضاً إنتاج التنظيم العسكري-السياسي. وهذا، في بعض الأحيان، أهم ما يفتقر له التحليل السياسي الفلسطيني القائم على التنافس الصفري، فهو لا يرى قيمة التنافس خاصّة فيما يتيحه من إنتاج وابتكار وتطوير تصاميم جديدة للفعل الفلسطيني المقاوم. فالتفكير الإيكولوجي يمنح قراءة مغايرة قليلاً عن محاولات فهم الحالة الفلسطينية كأحزاب تمتلك إيدولوجيات متناحرة دون نقاط التقاء، ودون أن يكون التنافس نفسه إنتاجياً. 

كما أن َّهبة العمليات الذرية استطاعت في الكثير من الأحيان توضيح مرماها العام من خلال وصايا بعض الشهداء وكتابتهم وتفسيرهم لمقاصدهم ودوافعهم، أو بالحدّ الأدنى تفسير المخرج الاجتماعي الرمزي لتلك المقاصد. وقد يكون من المهم التنويه إلى أهمية “المقاصد” لأنّه قد تخلل هبّة العمليات الذرية العديدَ من المحاولات لإقحام معاجم تأويلية للحدث، تتناول الحدث على أنّه “خلاص فردي” أو محاولة انتحار منفصلة عن السياق الاستعماري، أو منفصلة عما يمكن تسميته بالخطابات الوطنية بمختلف أشكالها وأنماط ظهورها السياسية في تسويغ وتبرير القيام بالفعل.[8] أي في النظر إلى الهبّة على أنها انتحار آتٍ على خلفية اجتماعية وتفتقر لمقاصد وطنية. 

إنَّ هبّة العمليات الذرية تحيل إلى غياب التنظيم السياسي الثوري وليس إلى غياب التنسيق والترتيب والتعاقب، كما وتحيل إلى الدور المركزي للمَجال الرمزي والمجال الخيالي في تعزيز القدرة الاجتماعية على توليد الفعل السياسي الجمعي. وبالتالي، تطرح علينا الهبة شكلا ًجديداً من التنظيم، لا يمكن هنا محاولة حصره كلياً في إطار واحد. سنحاول تبيان بعض معالمه المختلفة وتبيان العلاقة بين هذا الشكل من الفعل وأشكال أخرى.

ثانياً، وجدت الهبّات سبلاً للفعل في ظلّ صعوبة وغياب إمكانية التنظيم بشكله “التقليدي-الحزبي”. إنَّ النقاشات التي تُخاض حول التنظيم عادة ما تحاول الإجابة على سؤال: ما هو الشكل الأفضل للتنظيم؟ وبالتالي تخضع تلك النقاشات إلى ثنائيات تحليلية ومعيارية على شكل التنظيم الأفقي مقابل العمودي، أو أهمية التنوّع مقابل مدى التماثل داخل التنظيم، والانضباط مقابل القدرة والمساحة المتاحة للإبداع. ولكنّها عادة ما تغفل أنّه ليس هناك شكل مثالي للتنظيم، وأنّ كل الأشكال تحمل في طيّاتها معضلات وتوترات متعددة تنتج بالتالي مخاطر وتحديات مختلفة ومتنوعة. 

إنّ كل نمط من التنظيم هو نمط مشحون الإشكاليات، وكل نمط من التنظيم أيضاً يمتلك جوانبَ قوة ومواقع ضعف. هنا يصبح السؤال سؤالاً معيارياً يحيل إلى ما يجب أن يكون، دون التطرق إلى ما هو كامن في الواقع. أي يحيل إلى معيارية مرتجاة أو متوقعة تقفز عن أمرين، أولاً: تقفز عن فكرة أنَّ الخصم أو العدو أيضاً يمتلك القدرة على، والرغبة في ممارسة ما يحول دون تشكل التنظيم السياسي الحزبي- اعتقال، ورقابة واغتيال وغيرها-. ما سبقَ يقودنا للقول إنّ الهبّة كانت الفسحة التي حضر من خلالها سؤال التنظيم في الحاضر، معبّراً عن نقص وفقر وحاجة سياسية، وربما عن هوّة بين ما هو متاح وما هو ممكن أو مرغوب. ولكنّها أيضاً طرحت سبلاً للفعل في ظل هذا الغياب، وهذا السبيل لم يكن دون عمليات الإنتاج التي تخللها أيضاً: التنسيق والترتيب والصناعة والتحريض والتأويل. 

وهنا لا بدّ ألّا نفصل بين عدّة أنماط من الفعل، فلم تكن هبّة العمليات الذرية كشكل فاعل في الزمن الحاضر منسلخ تماماً عن الأشكال الأخرى التي صعدت، من حملاتٍ سياسية أصبحت هبّات، كهبة براڤر، مروراً بهبّة العمليات الذرية، ووصولاً إلى هباّت كبرى كباب الأسباط وباب حطّة وهبّة رمضان العام 2021 والعام 2022. 

ثالثاً، تعتبر المقاومة منظومة مناعية، فلطالما تمحور البحث في التنظيم السياسي حول محاولات قياس مدى نجاعة التنظيم في تحقيق أهدافه المعلنة، أو مدى قدرته على تنسيق الجهود الجماعية لخلق آليات للتدخل الناجح في الواقع، خاصّة من قبل قوى سياسية كانت تسعى إلى التدخل وتغيير هذا الواقع. هناك تاريخ وإرث طويل من النقاشات التي تتناول مسألة التنظيم، والعديد من التجارب التاريخية التي تتناول ماهية التنظيم، بما فيها تجربة اليسار العالمي – طلائعية وهرمية لينين والتنظيم الشعبي الماوي، وبؤرية جيفارا وديمقراطية وتشاركية لوكسمبورغ- والجدل ما بين الإصلاح والثورة وما بين العنف واللاعنف، وما بين فضاءات الثورة (الريف والمدينة)، وما بين الذوات الثورية (فلاح مقابل عامل) وما بين فكر طلائعي هرمي، وما بين التنظيم كحياة بديلة تؤسس لآليات اتخاذ قرارات تشاركية-أفقية لا تستند على علاقة تراتبية ما بين القائد والقاعدة.  

ما يجمع بين هذه الروافد المختلفة المهمّة لمفهوم التنظيم أنّها عبّرت بالغالب عن صراع تيارات سياسية على “السلطة”، بما فيها الرؤية للسلطة على أنّها شيء خارج الذات يمكن الاستحواذ عليه وتوظيفه. وبالتالي تكمن أهمية التنظيم في أنّه ماكينة تمكّن عملية التعاون الاجتماعي بغاية الاستحواذ على السلطة السياسية، وضمن هذا المنطق يمكن موضعة التنظيم على أنه وسيط ميكانيكي للاستحواذ ونيل السلطة والاحتفاظ بها. 

هناك شقّان من الأهمية بمكان الإشارة لهما هنا: الأول يتعلق بأنَّ المقاومة الفلسطينية خاصّة في بزوغها الأنطولوجي، أي السابق لأشكالها الأيديولوجية المعروفة والتي هي أقرب لما يسميه كارل شميت بالمقاوم المحلي أو الأرضي(Telluric)، بمعنى أنَّ العداء الذي يمتلكه هذا النوع من المقاومة يملك حدًا فضائياً واضح المعالم، فهو بحالة دفاع مستميت عن علاقته المباشرة مع الأرض دون وسائط فكرية أو سياسية، أي الأرض بكونها علاقة نجاة مادية يتأسس عليها إمكانية بزوغ الثقافة. [9] ومن المهم هنا رؤية المقاومة وأنماط تشكلها في سياق استعماري إحلالي على أنّها تعبر عن حقيقة هذا الاستعمار خاصّة وأنهّا عادة ما تتمثل وتظهر على الحدّ المتغير والمتوسع ما بين بنية الاستعمار وما بين المجتمع الفلسطيني، كما كان ظاهراً في هبّة العمليات الذرية، أي استهداف تلك العمليات بشكل خاصّ  الطرقَ ومحطات الباصات ومسارات خطوطها نحو القدس كفضاء آخر يتكثف فيه صراع التوسع الاستعماري والبقاء والصمود الفلسطيني برمزيته الدينية والاجتماعية المركزية. ما يهمنَا هنا هو أنَّ المقاومة في الحالة الفلسطينية خاّصة على التخوم الفاصلة بين المستعمِر والمستعمَر والتي هي أقرب للمنظومة المناعية، تتكون كفعل مُعزِّز للحصانة في وجه عملية التوغل والتوسع الإحلالي.

هذا لا ينفي أنَّ العديد من الأيدولوجيات السياسية استطاعت إيجاد تربة خصبة في فلسطين، بما فيها أيديولوجيا ترتبط بنمط آخر من المقاوم الذي يتناوله شميت، أي المقاوم المتحرك، والذي يمتلك عداءاً مطلقاً لا يحده فضاء أو مكان محدد، وقد كان لهذه الأيدولوجيات امتدادها في لحظة فقدان الأرض، أي عقب لحظة التطهير العرقي الواسع في سنوات النكبة والتي تكثّفت بمقولة الشهيد وديع حداد “وراء العدو في كل مكان”.[10] ولأنّ المقاومة تتخذ هذا الشكل الأنطولوجي الأولي، أي قتالها على علاقة غير منقطعة مع الأرض كجهاز مناعة وحصانة، فهي أيضاً لا تحمل بالكثير من الأحيان المحمولَ التحليلي العالي الذي يغذي محاولات تفسير بزوغها، خاصة وأنّها سيرورة لا تنقطع في ظل الضغط والقلق الوجودي الذي تغذيه بنية الاستعمار الاستيطاني ومَنطقها الإحلالي الذي يسعى إلى قطع أو نفي الإنسان الفلسطيني عن علاقته المباشرة مع الأرض. أي أن صفتها المناعية تنبع من نشأتها المتولدة بشكل تلقائي بمجرد وجود جسد دخيل متمثل بالاستعمار.

رابعاً، إنَّ غياب التنظيم نتج عن تفكك البنى التنظيمية التقليدية بسبب سياسات اقتصادية-سياسية “براغماتية”. لا يمكن لنا الحديث عن تذرير الفعل المقاوم دون الحديث أيضاً عن أسباب غياب أو تغييب التنظيم ودون أن نتناوله ضمن سياق التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى التي حصلت منذ أفول الانتفاضة الثانية، خاصة مع انتصار تيار سياسي أطلق على نفسه تيار “الواقعية-البراغماتية”، وهو التيار الذي صعد في ظل تصفية تيار المقاومة في الضفة الغربية تحديداً من خلال سياسات الاعتقال والاغتيال. بكلمات أخرى، فإنَّ هبة السكاكين والعمليات الذرية كانت بلا شك عارضاً من عوارض هذا الغياب والتغييب للتنظيم السياسي الثوري، بل تحويل التنظيم في الضفة الغربية إلى “سلطة أصلانية”، كما وصفها محمود ممداني، التي تعمل ضمن بنية تعاون أمني مع الاستعمار.

ولا بدَّ هنا من محاولة تفكيك البُعد الميثولوجي في استلاب هذا التيار لمفهوم “الواقعية”، أي الميثولوجية التأسيسية للمدرسة الواقعية-البراغماتية الفلسطينية. بمعنى أنَّ ادّعاء هذا التيار السياسي، المتمثل في برجوازية منظمة التحرير والرأسمال الفلسطيني ورجالات الأمن،  إنّه يمتلك القدرة على رؤية الواقع دون أي شوائب أو زوائد إيدولوجية، وأنّ قدرته تلك هي التي تجعل منه مؤهلاً لبناء منظومات سياسية أصلانية وقيادة تلك السلطة. يمكن لنا هنا تحديداً القول إنَّ هذه القراءة هي قراءة ميثولوجية بحد ذاتها، وتؤسس لفانتازيا الواقعية، وليست واقعية موضوعية مجردة من الأحلام والقفزات الإيمانية، فإيديولوجيتها تكمن بادّعائها إمكانية الولوج للواقع دون أي وسيط إيديولوجي. ومن ناحية أخرى، تنكر الطبقة الحاكمة أيضاً تحيّزها الطبقي والاجتماعي الكامن في بناء معجم “الواقعية” السياسية في فلسطين والذي يُمهد للتعاون الأمني والاقتصادي مع استعمار استيطاني إحلالي على أسس المنفعة الاقتصادية لتلك النخب الضيقة. وكأن “الواقعية” في رؤية هذا التيار هي واقعية موضوعية يمكن لنا اكتشافها بعد أن نتخلص من الزوائد والأحلام السياسية الكبرى: الاستقلال وتحقيق المصير والتحرير والعودة وغيرها من أحلام كوّنت أساس الهوية الفلسطينية الحديثة، كهوية معلقة ودفاعية.

ومن هنا علينا توخي الميثولوجيا التي تقارب على فتيشية في هذا النمط من الفكر السياسي، ألا وهي ميثولوجيا إمكانية استمرار التعاون البنيوي ومُراكمة رأسمال في ظلال “استعمار استيطاني إحلالي”، والتي في جوهرها ابتعادٌ عن واقعية ماهية البنية الاستعمارية، إي سعيه لاجتثاث الفلسطيني. علاوة على ما سبق، تكمن خطورة الواقعية الفلسطينية في أنّها تقدم نفسها على أنّها تستطيع أن تفرق بين ما هو ممكن سياسياً وما يستحيل، وبالتالي تستطيع أن تناور في ظل تلك الحقائق الموضوعية المباشرة على ما هو ممكن. وهنا بالتحديد تكمن قوتها الأيديولوجية في أنّها تدعي أنّ كل ما يمكن تحقيقه قد تحقق، وأنَّ أيّ تصورات مستقبلية هي محض خيالات طفولية، فلا تمتلك تلك السلطة عوامل القوة التي تستطيع فرض واقع الدولة المنتظرة، ولا تمتلك النبوءات الدينية، ولا القدرة على استشراف المستقبل أو حتى أن تلزمنا بما هو قائم، فحتى القائم نفسه يتآكل ويتقلص.[11] بتعابير أخرى، السلطة قادرة على بناء ميثولوجيا تقديم الواقع على أسس واقعية. وهذا بالتحديد ما شكّلته أوسلو بالنسبة لتيار عريض من الطبقة البرجوازية داخل منظمة التحرير. فمثلاً، تتجلّى عملية التآكل البطيء لقوة وسلطة وبنية الحكم الذاتي نفسه، كما حصل في السنوات الأخيرة ،من خلال انخفاض نسب التمويل للسلطة، والتوقف عن ضخّ دعمها لقطاع غزة واتّخاذ مسافات من قضايا الفلسطينيين في الشتات، والتقلّص في قدرة عمل المجتمع المدني الفلسطيني، والمناورة في ملفات تمويل الأسرى وعوائل الشهداء، وقطع العديد من المستحقات المالية لأسر مناضلة. تشير كل تلك القضايا إلى قبول السلطة بتَقلصها، بحيث قبلت حتّى بأنْ يتقلص ادّعائها امتلاكَ مشروع وطني.  بالطبع هذا لا يعني أنهّا لا تحتاز مصالح ومردودات من إدارة عملية التقلص والتآكل الذاتي، ذلك أنّ تآكل البنية يتحقق مقابل منافع للأفراد القائمين على تلك البنية، ومُضحّين بها. 

إذن، السلطة هي بنية في حالة تفكك وإعادة بناء دائم التقلّص، بحيث يكون القتال على ما يسمى “بالأمر-الواقع” هو بالفعل قتال على سيرورة من التقلّص والتمزّق والتآكل. لهذا كانت هبّة العمليات الذريّة مهمة على مستوى إعادة تعريف الممكن سياسياَ، من خلال إحداث فسحة فيما هو ممكن تكتيكياً، وفيما ولّدته تلك الهبات أيضاً من عواملَ مهمة: أظهرت، أولاً، الإرادة القتالية الحية التي ما زال ينبض بها المجتمع الفلسطيني. وأصدرت، خطاباً سياسياً نافذاً وناقداً لسياسات النخبة الفلسطينية، ونذكر هنا وصايا باسل الأعرج وبهاء عليان، وسلسلة طويلة من الشهداء والأسرى. وأحدثت الهبة تحولاً في معمارية الاستعمار خاصّة فيما يمكن موضعته على أنّه الحد الجديد للمواجهة على الطرق والمفارق نقاط الاحتكاك الأساسية في الضفة الغربية، وبالتالي ساهم هذا التدخل المعماري إلى تحفيز استحضار وابتكار أدوات جديدة في المواجهة تتراءى اليوم من خلال الخلايا المنظّمة والمسلّحة التي بدأت تنتشر في مناطق مختلفة خاصّة في شمال الضفة الغربية ورام الله. 

وأخيراً، إن أردنا تتبع ما هو منظَّم في هبَّة العمليات الذرية فعلينا تتبع طرق وتقنيات قمع الهبة، فهي تخلف وراءها عدة مداخل معرفية مهمة: أولاً، كيف قرأت البنية الاستعمارية هذا النمط من التمرد؟ وكيف حاولت معالجة هذه الظاهرة؟ ولكن الأهم إحالتها إلى ما هو مركب ومعقد من حيث فهمنا لظاهرة المقاومة الذرية وشكلها وأثرها ونشأتها.

خامساً، المقاومة في الهبة كانت في مجملها حالة تعاقبية موجية دون قيادة. لا يمكن القفز عن أنَّ أساس ما تفتقر له الهبات المتتالية هي قيادة سياسية واضحة المعالم تُعبر عنها، وتشتبك بها، ولربما أيضاً تساهم في تنظيمها وتطويرها بالمعنى التكتيكي والعَملي والسياسي. هناك روافد تنظيمية مختلفة تساهم في الهبّات، ولكن بقيت الهبة دون قيادة.  يمكن القول إنّ غياب التنظيم عادة ما يحيل إلى غياب القيادة أو التنظيم الهرمي المنضبط خلف قيادة طلائعية ثورية. وقد كشفت الهبة عن أزمة تعتري الطبقة الوسطى الفلسطينية وقدرتها على إنتاج القادة، وأزمة توسعها وتضخمها من خلال تضخّم الوظيفة الحكومية والقطاع الخاص المرتبط بالشركات الخدماتية الكبرى. ولكنَّها أيضاً أزمات مختلفة ترتبط بالتروما التاريخية للتنظيم السياسي والتجارب التي أبعدت أجيالاً كاملة عن التفكر والتأمل والاشتباك بالسياسة، وأزمة تمركزها حول الحياة الخاصة وانشغالها وإشغالها بمجموعة متعاظمة من متطلبات الحياة المادية، وأزمة فقدانها الأمل في السياسة كموقع لتحقيق الأحلام الكبرى. 

ولا يمكن كذلك الحال إغفال عدة عوامل تقف مانعاً أمام نشأة قيادية سياسية، أهمها سهولة الاعتقال والاغتيال، و غياب الثقة الاجتماعية بمفهوم القائد إجمالاً بعد سنين من نماذج ترجمة مفهوم القيادة إلى تجارة سياسية أو إلى موقع تفاوضي يضعها بموقع مساومة مع الاستعمار. هذه العلاقة المتوترة مع مفهوم القائد وتجلياته السياسية الإمبريقية في الحياة السياسية الفلسطينية أحالت إلى محاولات سعي دائم لقطع الرأس في الحركات السياسية والهبات المختلفة التي صعدت في العقد الأخير. هناك القيادة بمعناها النموذجي، أي الشهيد الذي يصبح قدوة، أو الأسير وأبو الشهيد الذي يصبح صوتاًِ سياسياً ضميرياً. وهناك الدور القيادي الموزع، وأدوار يستطيع لعبها العديد من الأشخاص ويستطيعون تدويرها. ولكن القائد بمعناه السياسي الرمزي والعملي يغيب عن المقاومة بشكل عام في الضفة الغربية تحديداً. ولا بدَّ أن نقول أنَّ هذا الغياب لم يكن تاماً، ولا نهائياً.  

سادساً، تجب الإشارة إلى أهمية الانطلاق من واقع الهبة في التأطير لها فكرياً. فعند الحديث عن التنظيم، تشكل هبّة العمليات الذرية حالة خاصة من حيث كونها أولاً خارج الأدبيات العالمية التي تتناول أشكال الرفض السياسي لارتباط الهبّة بالعنف الثوري، وبالتالي إلى كونها حالة لا تتسق مع الحساسيات الليبرالية واليسارية في الشمال العالمي. أما ثانياً فلأنّها تشكل أحد التجسيدات ل”شكل” الفعل الأفقي المفتقر للهرميّة الحزبيّة ولكن في سياق استعماري عنيف يستدعي العنف. 

وهنا تحديداً تكمن أهمية دراسة شكل وطبيعة الفعل المقاوم في الزمن الحاضر كونه لا ينطلق من “أساسات نظرية” تُسقَط جُزافاً على الواقع الاجتماعي والسياسي الفلسطيني، ولكنه يبني تصوراته من خلال إحالة الفعل الناشئ إلى الدراسة، وبالتالي إلى بناء صورة تحليلية تنطلق من الفعل نفسه. ففي سياق هبّة اتّخذت شكلاً يراوح بالفضاء الما-بيني، أي ما بين العفوية والتنظيم، فإنَّ الحديث عن معنىً واضحٍ ذا دلالات سياسية واضحة هو حديثٌ يختزل الفعل ويوحده رغم تعدد معانيه المختلفة التي نستطيع التماسها واستخراجها مما يمكن تسميته علم اجتماع الحدث؛ أي تشريح الحدث بعلاقته مع الفضاء والزمان والمجتمع والإنسان. وهذا يتطلب نمطاً آخر من الأبحاث، بل لربما نمطاً آخر من السرد السياسي خاصة الأدبي والشعري والفني،  بمعنى إخضاع الحدث أو جزئياته لقِراءة تحليلية موسعة.

 وعليه، يؤشر شحّ المواد التي تتناول “هبة السكاكين” إلى القصور والإهمال البحثي في عملية إخضاع هذه الظاهرة لمحاولات بحثية توظف فيها منهجيات بحثية متعددة ومتداخلة تسعى للإجابة على أسئلة متعددة، بما فيها: العلاقة بين التغيرات في البنية الاجتماعية الفلسطينية خاصة على إثر أفول الانتفاضة الثانية ودور تلك التغيرات وعمليات تكثيفها في اتخاذ الفعل المقاوم شكلاً ذريّاً (Atomized Action) وموجياً؟ بتعبير آخر، لماذا ظهر الفعل المقاوم ولماذا اتّخذ الشكل الذي اتّخذه؟ وما الذي تكشفه نشأة الفعل عن سوسيولوجيا إنتاجه؟ وكيف يعكس الفعل رفضاً للتحولات المتسارعة التي طرأت على المجتمع الفلسطيني خاصّة على مستوى الإحساس بالتفكك القيمي السياسي؟ 

وعلى صعيد آخر، فعلينا الحفر فيما هو أبعد من العلاقة الاستعمارية كأساس لفهم ما الذي نبني عليه التحليل لشكل الفعل المقاوم في الزمن الحاضر، أي إلى محاولة صياغة رؤية نقدية نظرية تجمع بين التغلغل الرأسمالي والعلاقة الاستعمارية من جهة، والجمع بين هذه التحولات في البنية الاجتماعية والاقتصادية والحياة الداخلية للذات والجسد الفلسطيني، من جهة أخرى، بما فيها أهمية الروابط كالعائلة والصداقة ومحمُولاتها الهامة في عملية إنتاج تعاقبية الفعل في هبة العمليات الذرية. أو كما سنقدم أيضا  “الفضاء المخيالي” للمستعمَر، هذا الفضاء التي تغذيه أحلام اليقظة والفانتازيا والتي تشكل بنية حميمية تساهم في عملية التأقلم مع البنى الخارجية العنيفة، ولكنها تساهم في بناء مخيال سابق للإمكانيات المحتملة وسبل وأدوات تحدي هده البني الخارجية. بمعنى أنَّ الفعل كصورة متخيلة – فانتازيا أو حلم يقظة- يقع بفضاء يجمع بين الواقع والخيال، ما يمكن تسميته ب“خيال موضوعي“. الأمر الذي يقود، إلى بناء هيكل تشريحي للهبة يستحضر الفانتازيا في تكوين الفعل كأساس في فهم شكل الهبة وصيرورتها. ولكن أيضا يتيح تحليل دور الذاكرة، والصورة، والاغنية، والإشاعات، والرمزيات المختلفة التي تعلو جدران مادية ملموسة، وأخرى افتراضية أو مرتبطة بمجال خيالي. هذا النمط من الخيال الموضوعي يحيل إلى ما قدمه ماركس حول فتشية السلعة، بمعنى تلك الأمور “التي تمتلك جسد ولكنها لا تمتلك وجود مادي”.[12]  ومن المهم هنا التأكيد على أنّ هذا الخيال الموضوعي هو ليس عبارة عن أوهام ذاتية تصدح بها ذوات فلسطينية منهكة باستعمار وصراع طويل الأمد، وليس عبارة عن وسيط بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي يتلاشى بمجرد وقوع حدث ما. بمعنى أن هذه الكيانات الخيالية هي مكون جوهري في بناء ما نطلق عليه مفاهيميا الواقع الذاتي والواقع الموضوعي، وهي تمتلك القدرة على الربط ما بينهما، وأحيانا في خلق دائرة قصر بينهما.[13] ويمكن القول إن البحث بالأساس ينطلق في سعي لفهم هذه البنى التي تمتلك جسد ولكنها لا تمتلك وجوداً ماديً، إي الفانتازيا وأثر البنية البيروقراطية للسلطة الفلسطينية، وشبح المتعاون والرقابة، وغيرها. 

وبطبيعة الحال لا يمكن الحديث عن تذرير الفعل دون تناول هذا التذرير من خلال تشريح عمليتين متوازيتين: عملية بناء وتعزيز بنية الاقتصاد السياسي في السياق الفلسطيني؛ والتفسخ الطارئ على الثقة الاجتماعية بما تولده من إمكانيات واحتمالات ثورية منظمة. عمليتان تم تكثيفهما عقب الانتفاضة الثانية، وبالتالي أنتجتا تحولات اجتماعية حادّة وساهمتا في تسريع عملية التذرير الاجتماعي بل في تكثيف الشكل السلطوي الاستبدادي للسلطة الفلسطينية أيضاً. وهنا نستعرض مجموعة من الإحالات لهذا العمليات المتوازية حول أشكال التنظيم والاستهلاك والرقابة.

تشكل هذه القراءة المتعددة الأبعاد أساساً لفهم الاختلال في شكل الفعل الذري، كونه عارضاً للمدخلات الاجتماعية والسياسية التي تساهم في إنتاجه، بمعنى أنّه يتشكل كحالة تضادية مع تلك التحولات الاجتماعية ساعيا لنَفيها ولكن معبراً عن اختلالاتها أيضاً. وهنا يكمن التوتر داخل هذا الشكل من الفعل، فهو من ناحية إنتاج اجتماعي يعبر عن كون التكتيك نفسه انعكاس للبنية، ولكنّه انعكاس زائد وعرضي لها، بمعنى أنه يشكل أيضاً تجاوزاً لها.  

الشكل العام للهبّة: الإتاحة  والتعاقب والصداقة

تحوّل أشكال المواجهة وأساليبها المتاحة وتخطّيها

منذ توقيع اتفاقيات أوسلو تعاظمت إشكالية التكتيك والاستراتيجية الممكنة في المواجهة مع الاحتلال. فعملية الفصل الفضائي بين الفلسطيني والاحتلال عقب أوسلو جرّدت تكتيكات الانتفاضة الأولى الأساسية من نجاعتها، فالمزج ما بين استراتيجيات عدم التعاون والاشتباك الحميمي داخل المدن، كما كانت في الانتفاضة الأولى لم يعد مجديا ً ومؤثراً في ظل وجود السلطة الفلسطينية كسلطة حكم ذاتي في مناطق ألف مشكلة بذلك ساتراً وعازلاً بين الفلسطينيين والاحتلال. بالفعل، خلقت الترتيبات الفضائية الجديدة عاملاً هاماً في بحث الفلسطيني عن أدوات جديدة للمواجهة بأشكال متنوعة، تضمنت القنبلة البشرية واستخدام السلاح الخفيف في الطرق المشتركة مع المستوطنين، وتطوير العبوات الناسفة ومحاولات الاغتيال والسيارات المتفجرة والاشتباكات المسلحة على تخوم ما يسمى بمناطق “أ”.

كان العمل التنظيمي في سنوات التسعينيات في أوَجه، خاصّة في إطار حركات الإسلام السياسي التي اغتنمت فرصة انسحاب الاحتلال من المناطق الفلسطينية لتعزيز حضورها الاجتماعي والسياسي، ما ساهم في خلق بؤر شبه حرة لممارسة العمل التنظيمي السياسي، بما فيه إنشاء تنظيمات عسكرية عنقودية وهرمية تمتلك قدرات الابتكار والتصنيع للعديد من تصاميم الفعل المقاوم.[14]

لسنا هنا بمحض إعطاء تاريخ مفصل لتطوّر العمل التنظيمي في الأراضي المحتلة، بما فيه تناول أثر ودور دخول منظّمة التحرير عقب توقيع اتفاقيات أوسلو على اختلاق أدوات جديدة في العمل العسكري، وتوافر السلاح وغيرها من العوامل.. على أهمية هذا البحث الجينيالوجي في تاريخ التنظيم في فلسطين. إنّما ما يهم لأغراضنا في هذه الدراسة هو كيف ساهمت تلك العوامل في تحديد معالم وشكل المواجهة في الانتفاضة الثانية، وبالتالي أيضاً إلى نتائج تلك الانتفاضة، خاصة توسعة بؤر العمل التنظيمي العسكري في غزة من خلال الانسحاب «الإسرائيلي» الأحادي وتحرر القطاع من سلطة الاعتقال، والقضاء شبه الكامل على ذلك العمل في سياق الضفة الغربية بعد الاجتياحات لمدن وقرى الضفة في العام 2002-2003. وقد كان لانتفاضة الأقصى  [15](الثانية) دور هام في احتواء تيار المقاومة في الضفة الغربية وإرهاقه كحالة منظّمة، بما فيها حواضنه المباشرة من مؤسسات العمل الخيري والاجتماعي. وقد أدّى تغييب تلك التنظيمات وإلحاق تنظيم فتح بالأجهزة الأمنية إلى فراغ سياسي على مستوى تيارات المواجهة والمقاومة، ما مكّن تيارات سياسية أخرى كالبراغماتية الواقعية من الصعود والاستيلاء على أعلى هرم منظمة التحرير، وإعادة بثّ الروح في مشروع السلطة بحلّتها الجديدة. وسنتطرق إلى هذا التشكل الجديد للسلطة لاحقاً. 

إذن صعدت الهبّة في ظلّ فراغ تنظيمي على مستوى قوى وتيارات المقاومة، وهو فراغ على عدّة أصعدة: الانفكاك الجيلي التعاقبي المباشر بين مرحلة تاريخية وأخرى بسبب الاعتقال والاغتيال، والاستيلاء على فضاءات شكّلت وسيطاً مهماً لعملية التنظيم السياسي الثوري (الجوامع والنوادي والجمعيات الخيرية والرياضية) ضمن حرب مواقع مع السلطة الفلسطينية، وإعادة بناء سلطة الاعتقال (الإسرائيلية) من خلال اجتياح مناطق ألف (أ) وتسهيل دخول وخروج الجيش عليها. كما وكانت أولى تلك البرامج إعادة تنظيم بنية الأجهزة الأمنية الفلسطينية من خلال برامج  تدريب جديد  اقترنت باسم دايتون. 

بهذا المعنى، كان على الإرادة أن تبحث عن تصاميمها الجديدة للفعل المقاوم ولم يكن أمامها من إمكانيات سوى أن توظف المُتاح، بما يعنيه ذلك من قابلية توسع الفعل وانتشاره. لهذا، ارتبطت الذات المقاومة بعلاقة وثيقة بالأداة المباشرة البسيطة، خاصة في غياب القدرات الجماعية على ابتكار التصاميم الجديدة للفعل المقاوم. لهذا توطدت علاقة الإنسان بالمتاح وحوّل الإنسان هذا المتاح—السكين والسيارة والحجر—إلى الأدوات الأكثر شيوعاً في الفعل، متخذاً من المواقع الأكثر احتكاكاً مع المستعمِر وجهة الفعل وموقعه. وهنا تكمن قوة وضعف أو إشكاليات هذه الهبة في أنّها و بالرغم من قدرتها على مباغتة استقرار البنية الاستعمارية ومفاجأتها في زمانية ومكانية ظهورها، إلا أنَّ مواقع ظهورها أصبحت بالغالب روتينية ومكررة، وبالتالي أصبحت إمكانية بناء تدخلات هندسية لمواقع الاستهداف، أساساً في منع استمرارها وتطورها. يمكن فقط النظر على التدخلات الهندسية «الإسرائيلية» وتتبعها لفهم كيف تحولت تلك الفضاءات التي تكررت فيها الأفعال إلى محطات إعدام تتضمن انتزاع فاعلية الأدوات المتاحة خاصة السيارة والسكين. 

هذا لا يعني أنَّ الهبة اقتصرت على المتاح، بل تعدته إلى التصنيع والابتكار والتطوير، بما حملته الهبة من نزوح نحو “الكارلو”، والسلاح والبنى الصناعية التي مهّدت له.[16] ولا يمكن لنا حصر الهب~ة بنموذج واحد، بل بعدة نماذج، تتعاقب، وتُحاكي بعضها،  وأحياناً تنقد ما سبقها وتبنى عليه. بهذا المعنى فإنَّ تعاقب الأحداث  ليس خطاً أحادياً دائرياً تكرارياً ومنغلقاً على نفسه، بل إنّه تكرار يحمل ما هو مغاير في كل حدث، إنّه نمط من أنماط “المُحاكاة-المستجدة”، وبتعبير آخر إنّه شكل  من أشكال التكرار المولّد للجديد. وقد تكون التسمية التي نطلقها على الحدث المقاوم في المعجم الفلسطيني تحيل إلى الثنائية المفهمية التي يتضمنها أي حدث مقاوم. فاصطلاح “عملية” أكبر دليل على تعدد المعاني المركبة لمفهمة هذا النمط من الأحداث، فمن ناحية تُحيل العملية إلى حدث ذي حدود زمنية واضحة المعالم له بداية وله نهاية، ولكنّها بالوقت نفسه تحيل إلى كونها جزءاً من صيرورة منبثقة لا يمكن حصرها أو تحديد قالب زمني لها. أي أنَّها انبثاق وانبعاث يخرج على شكل تدفق. هذا المعنى الثنائي للعملية يُحيل إلى ما هو معقد في شكل الفعل الفلسطيني تاريخياً بل ويحيل إلى طبيعة الاصطلاح وما يحيل إليه من شقيْن، أي إلى كونه نتاج مجموعة معقدة من المُدخلات، وبالتالي إلى كونه نمطاً من أنماط الصياغة المتواترة التي تأخذ ما سبقها عاملاً فيما تأتي به من جديد ومن قديم-جديد، وإلى ما تحيل إليه من انفتاح دائم على قدرة هذا النمط من الحدث على إعادة إنتاج نفسه زمنياً. وعليه فإنّ العملية ليست فقط تدخلاً محدوداً ومنغلقاً زمنياً، بل هي تدخلٌ يحمل في طيّاته الحدود الزمنية الخاصة به، ولكنَّه أيضاً يحيل إلى ما يأتي بعده، وإلى كونه جزءاً من سيرورة انبثاق سابقة، كما إلى كونه احتمالاً مستقبلياً ممكناً. 

دور الصداقة في صفة “تعاقبية الأُخرية-الحميمية” للعمليات الذرية

هناك عدة مميزات لهبّة العمليات الذرية أهمّها قدرتها العالية على إنتاج الفعل المكثف والمتعاقب والذي تمظهر على شكل موجات متلاحقة تتصاعد وتخفت وهكذا دواليك. وقد تكون إحدى الأمور العجيبة هي الأبحاث الإمبريقية التي صاغتها المراكز البحثية القريبة من المؤسسة الأمنية الصهيونية والتي أقرّت بأنَّ ظهور فعل واحد يزيد من فرص حدوث آخر بمقدار 250٪، وبالتالي هناك ضرورة لفهم هذا الرابط التعاقبي بنشأة توالد الفعل المفتقر للتنسيق المسبق أو للتنظيم الهرمي أو العنقودي المولد للتعاقب؟[17] أو ما هو الفضاء الذي يمهّد للتعاقبية؟ ما هو الوسيط الذي ينشئ التعاقبية بغياب الوسيط التنظيمي الهرمي أو العنقودي؟ هذا الوسيط المتلاشي بعد حدوث التعاقب نفسه. ولا يمكن هنا المرور عن التصور الجيولوجي التشريحي الذي نقدمه من كوْن الهبة تتمظهر على شكل موجات، فهذه الصورة الجيولوجية تحيل إلى ما ينفي فردية/ فرادنية الفعل بمقاصده وبعملية ظهوره وبقدرته على الالتحام مع ذرات أخرى مشكلاً تكتلاً مَوْجياً. 

ولهذا الظهور الزلزالي المَوْجاتي أساسات عاطفية واجتماعية وتنظيمية بما فيها ما سنطلق عليه “تعاقبية الأُخرية-الحميمية” وهي تلك التي تنبع من تعاقب الأصدقاء والأقرباء على الفعل الذرّي، كما هو ظاهر في العديد من العمليات في الهبَّة.  يشكل مفهوم الصداقة هنا أهميةً قصوى في عملية إنتاج تعاقبية الفعل الفلسطيني، وقد تنبّهت دولة الاحتلال وجهازها الاستخباري لذلك منذ بدايات الهبّة، وقامت بإخضاع المحيط الاجتماعي القريب لأيّ منفذ أو منفّذي العمليات إلى الرقابة الخاصة للحيلولة دون أيّ تعاقبية تنبع من الدوائر تلك.[18]  تبدو الصداقة مسألة ذات أهمية قصوى ليس فقط في بناء تعاقبية الفعل وظهوره على شكل موجات، ولكن لها  دور هام في تفكيك سردية فردية الفعل. 

تكاد تكون الصداقة هي الأساس الذي يمكَّن عملية رؤيتنا لذواتنا من خلال أعين الآخر-الحميمي، الآخر كامرأة، والصديق “كأنا-أخرى” كما يؤطِّرها أرسطو. فكما يعلّل جاك دريدا، قد تكون الرغبة الجوهرية في بنية الصداقة هي تلك الرغبة أو الأمل المشترك بتخطّي الموت، ولكنهّ أيضاً يؤكد أنَّ بنية الصداقة نفسها دائما ما تتضمن إمكانية موت أحد طرفي الصداقة، وبالتالي كل صداقة مرتبطة بهشاشة الموت، وإمكانية الحداد.[19] بهذا المعنى تحديداً هناك عنصران مهمان في فهمنا لتعاقبية الحدث المقاوم وارتباطه بالصداقة: الأول يتعلق بأنَّ الصداقة كبنية تساهم في بناء المعرفة الحميمية للذات، والثاني يصف الصداقة كمحاولة بائسة لتخطي الموت، بل كبنية لموت أحد طرفي الصداقة وما تتركه من ضرورة الحداد على الفراق. يصف دريدا بنية الصداقة بالآتي: أن يكون لديك صديق، وأن تنظر إليه، وأن تتبعه بعينيك …. هو أن تعرف…  أنَّ أحدكم، حتماً، سوف ً يرى الآخرَ يموت… سيأتي اليوم الذي لن يرى واحد منا نفسه وهو يرى الآخر.”[20] فموت الصديق بالنسبة إلى دريدا يعكس اختفاء عالم، بل انتهائه، فالموت لا يأخذ منّا فقط حياةً تعيش داخل هذا العالم الواسع، ولا يأخذ منّا فقط لحظاتنا الممكنة مع الصديق الغائب، بل يأخذ منّا شخصاً يفتح العالم لنا، وبالتالي فإنَّ موت الصديق هو موت هذا الانفتاح. ما يهمّنا هنا ليس بالضرورة ما يراه دريدا ذا أهمية في بنية الصداقة نفسها، وهو كوْن الحداد جزء مكوّن للصداقة منذ لحظة نشأتها، وكوْن الحداد عملاً يتضمن انغلاق العالم وانتهائه، خاصة أنَّ دريدا يؤكد على تمايز كل صديق، بل تمايز كل علاقة. ما يهمنا هنا وبالتحديد في سياق الهبة، بل لربما في سياق التجربة الفلسطينية هو برفض البعض القيامَ بعمل الحداد، وأن يموت مع الصديق أو عقب الصديق.

استشهاد الصديق وقيامه بالفعل هو انفتاح الأنا على إمكانية تضحيتها، أي حميمية القرب للتضحية ومعانيها الاجتماعية ورمزياتها السياسية تعني انفتاح الصديق الناجي على إمكانية تضحيته هو. ولأنَّ الصداقة هي علاقة حرة تجمعنا بالآخر الحميمي، فإنَّ موت الصديق على يد نقيض الصديق، أيْ العدو، هو أيضاً حدث تأسيسي في عملية إنتاج التعاقبية، لأنَّ الوفاء المطلق للصديق في التجربة الفلسطينية لا يكتفي بعملية “تأبينه” ولا الاكتفاء بإعلان الحداد، أو التعايش مع أحاسيس الذنب والحزن لغياب الصديق، بل يأتي أيضاً من خلال رفض القيام بعمل الحداد نفسه. فمن جهة، استشهاد الصديق، خاصة استشهاده القتالي الفاعل هو انفتاحٌ على إمكانية الفعل، ولكنَّه أيضاً يحمل إمكانية الانغلاق على عمل الحداد. هذا الانفتاح-المغلق يؤدي إلى تعاقبية تساهم في استمرارية وتكثيف الفعل الفلسطيني المقاوم كما حصل في العديد من الحالات بالهبَّة منذ العام 2015. وهو، من جهة أخرى، وسيط يتلاشى بمجرد حدوث الحدث التالي للحدث أو الأحداث التأسيسية السابقة، وهذا الوسيط الحميمي، من “أنا-أخرى” تغلق انفتاحاً على العالم، وتفتح أفق التضحية والموت. 

باختصار، تشكّلت الهبّة في ظل ثلاثيّة مهمة؛ أولاها، التعويل على الإرادة وعلى المتاح مُسقطة بذلك سطوة الأدوات. ثانيها، أتت الهبّة في ظل غياب وتغييب التنظيم السياسي الثوري، ونمت في ظل ترابطية العلاقات الحميمية التي ساهمت في تأسيس بعد مهم من تعاقبية الفعل إلى جانب القناعات السياسية لمنفذي العمليات ومقاصدهم من القيام بتلك الأفعال. أما ثالثها، فيتعلق بعنصر هام سنتطرق له تالياً، وهو عنصر الفانتازيا وأحلام اليقظة الثورية، واختلاط الافتراضي بالواقعي في تفسير العلاقة بين تعاقبية الأحداث، خاصّة وأنَّ التعاقبية لا تحدث فقط من خلال القرب الحميمي، ولكنَّها أيضاً نتاج فضاء خيالي مشترك يجمع الغريب بالغريب. 

الفانتازيا كفضاء اجتماعي مقاوم

كما تطرقنا سابقاً، تمظهرت الهبّة على هيئة موجات متقطعة تتباين فيها الكثافة والحدّة، ولكنّها تظهر بما ليس فيه أيّ لَبس الدورَ الهام والمركزي لما يمكن فهمه على أنَّه انفلات وتحلل من “المقاومة الداخلية” لدى كل منفّذ، أي المقاومة الداخلية التي تقف كمانع أمام تحويل الفعل المقاوم من احتمال إلى تحقق في الواقع، أو تحويل الفعل مما هو كامن إلى ما هو ظاهر، ومحولاً الفانتازيا إلى حدث. فكما يعلّل جورجيو أغامبين في نقاشه الموسَّع حول الفعل الإبداعي أنَّ المقاومة تكمن في العلاقة الداخلية التي تنتج الفعل الإبداعي، أي أنَّ الفعل الابداعي بتحققه يتضمن إمكانية عدم حدوثه أو يتضمن احتمال ألا-يتحقق، وبالتالي المقاومة -بمعناها الداخلي- هي محطة أساسية في إنتاج الفعل التي تفضي إلى حالتين؛ إمكانية ألّا يحدث الفعل، وإمكانية أن يتحقق. أغامبين بالتالي يضع عقبة-عتبة مهمة في وجه إمكانية بناء الفعل، أنه حتى في ظهوره وتحققه هو يعكس احتمال ألا يظهر.

ففي مقاربة أغامبين تساهم المقاومة الداخلية في عملية إنتاج الفعل الإبداعي على المستوى الجمالي، فهي تمثل العقبة-العتبة على طريق انفتاح الفعل الإبداعي الذي يُبنى على أخطاء عملية الإنتاج نفسها. بهذا المعنى، مثلاً، ما يمنع الكاتب من الكتابة هو المولّد الإبداعي للكتابة، وما يمنع الفعل السياسي من الظهور هو بحدّ ذاته المولد الإبداعي لما ينتج الفعل المقاوم.[21] ما يطلق عليه الصهاينة “الردع” هو المدخل الأساسي في عملية إنتاج الشكل الإبداعي للفعل المقاوم، فشكل ونمط وبنية الردع هو ما يفضي إلى محاولات تجاوزها ومقاومتها.

هذه العلاقة المركَّبة ما بين احتمال حدوث الفعل واحتمال بقائه رهين َالاحتمال هو أساسُ الانطلاق التحليلي لطبيعة الفعل الذي يأتي في سياق اجتماعي متخم بالموانع والضوابط، بل من الموانع التي تعزز من احتمالات ألا يتحقق الفعل. فما يجمع الفعل في الهبة الحالية هو تعبيره عن فانتازيا تنشأ بلحظة اللقاء العنيف مع المستعمِر وهي فانتازيا نشطة واعية لذاتها وأقرب إلى “أحلام اليقظة” التي يجد فيها المستعمَر نفسه مُدخِلاً لكل البيانات الحسية الملموسة، ومحوّلاً إياها إلى مادة للتفكير في كيفية اختراق وإعطاب وإضرار المنظومة الاستعمارية، وما تمثّله من بنية هندسية وأجساد متناثرة وأسلحة مسلطة على الجسد الفلسطيني. بتعبير آخر، فإنّ الفانتازيا هي أولى التصورات لإمكانية تجاوز البنية وتفكيك هيمنتها. وبهذا المعنى تحديداً، فالفانتازيا أحيانا ما تكون استراتيجيةَ تأقلمٍ وهروب من واقع متخم ومشبع برمزيات السطوة على الجسد، ولكنَّها في الوقت ذاته الوسيطُ المشترك الذي يمهَّد ويمكَّن التعاقبية للفعل وتمظهرها على شكل موجيّ، إذ إنها تعبّر عن فانتزيا اجتماعية تتولَّد من خلال سطوة الرمزيات المختلفة التي يولّدها المستعمر. كما تقول جاكلين روز في معالجتها لدور الفانتازيا:” إذا كانت الفانتازيا فضاءاً خاصّاً فقط… ومهما كانت محتوياته فاحشة، فإنَّه سيكون عاجزًا عن التأثير في العالم المحيط أو تغييره”.[22]

ما تلمح إليه روز هو أنَّ الفانتازيا لها دور هام، ليس فقط كحالة داخلية تنشأ كما يعلَّل الكثيرون كنمط من أنماط الهروب من الواقع، بل لأنَّها تعبَّر أيضاً عن منشأ خارج عن الذات نفسها، وعن كونها نمطاً من أنماط التفكير المتأثرة بالعديد من الضغوطات المحسوسة، وبالتالي ارتباطها بولادة اجتماعية تساهم في خلق خيال/فانتازيا مشتركة. فالفانتازيا لها موقع أنطولوجي بالعلاقة مع الذات، فهي تلعب دوراً هاماً في الحركات الاجتماعية والسياسية التي تسعى لتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي، وهذا لا ينفي أنَّها قد تكون أيضاً مهرَباً واستراتيجية تأقلم وتقبّل لهذا الواقع العنيف أيضاً. ما ندّعيه هنا، هو أنَّ اللقاء بين المستعمِر والمستعمَر يؤسّس لحالة فانتازيا نشِطة عند المستعمَر، فانتازيا تستدعي الفاعلية في مواجهة المحو والاقتلاع الاستعماري. لهذا يستطيع الفعل المقاوم التعبير عن رفض جماعي، لأنَّه يتأسس على فانتازيا مشتركة وإن اتَّخذ حميميةً خاصة عند كل فرد. بالطبع إنّ جود الفانتازيا نفسها لا يعني بالضرورة نشأة الفعل، فما تتطلبه نشأة الفعل هو العديد من المدخلات التي تحيل إلى “انفلات” المقاومة الداخلية لعدم القيام بالفعل، أي قدرة الفاعل على تجاوز تلك الموانع الرادعة، التي تساهم في نشأة شكله ومدى نجاعته. 

وهذا تحديداً ما يحصل في العديد من الحالات خاصَّةً تلك التي تحرّكها مجموعة من المشاعر، بما فيها تلك التي ترتبط بالانتقام أو بالحب أو بالفقدان أو بمحاولة ترجمة قيم معينة وتحويلها إلى تدخلات في الواقع تتخذ من الفعل البطولي النهائي طريقاً  نحو ملحمية التوكيد على حقيقة وأصالة الفعل نفسه.[23] في هذا تحديداً، نجد مثلاً أنَّ كتابات بعض الشهداء في الهبة لعبت دوراً هاماً في تحديد خطابها السياسي العام والذي لم يقف عند الفعل، بل حاول التأسيس لنقد اجتماعي داخلي يتضمن الوعي بمفارقة توافر السلاح بيد السلطة الفلسطينية وتوظيف السكاكين أو الأسلحة المصنعة محلياً في الفعل.[24] فمثلاً يكتب عمر العبد في وصيته عن “عار الفتن وعار استدعاء السكين” في عمليته بينما يُستخدم السلاح في إطلاق نار عمودي بالمناسبات الاجتماعية المختلفة. وقد قدَّمت الهبَّة مجموعة واسعة من الوصايا التي سأتطرق لها بخاتمة هذا المقال، في محاولة للإضاءة على ما خلَّفه الشهداء من أثر تعليل وتفسير لماهية أفعالهم. 

علاوة على ما سبق، يمكن فهم نشأة الفعل في العام 2015 تحديداً من خلال العلاقة مع الحرب في غزة، فقد ساهمت حرب العام 2014 في تنشيط هذا الخيال المقاوم من خلال العمليات النوعية التي سعت إلى الالتحام المباشر مع قوات الجيش على تخوم غزة من مسافة الصفر، والتي خُصَّص لها العديد من الأدوات بما فيها وحدات خاصة وأنفاق وعمليات تسلل دقيقة. هذا العمليات تم تصويرها بكاميرا GO-PRO ومن زاوية نظر الخاصة لحامل الكاميرا “POV”. 

تقول شركة Go-Pro إنهّا صنعت هذه الكاميرا “لتحرر الناس وتمكنهم من الاحتفاء باللحظة، ولتُلهم الآخرين ليحذووا حذوها”.[25] لا تخلُ هذه العبارات من إيديولوجية تُعلي من أهمية النشوة، بل من أهمية عدم الانهماك بأيّ فعل خارج عن فعل الاستمتاع باللحظة نفسها، والإحالة هنا لفعل التصوير الذي يلتقط التجربة بكليَّتها الشعورية من زاوية نظر الإنسان الذي يخوض التجربة. بمعنى آخر، صعدت كاميرا ال GO-Pro ليس لتلتقط اللحظة من زاوية نظر المتفرج، فحسب، ولكن لتلتقط التجربة نفسها من زاوية نظر الفاعل. 

صورة من عمليات المقاومة الفلسطينية في غزة تظهر تصوير من زاوية نظر الفاعل/المقاوم.

تبقى الأمور مبهمة هنا، بمعنى هل يمكننا خلق رابط سببي واضح ما بين عمليات المقاومة في غزة ونشأة العمليات في الضفة الغربية وتسارعها؟ هذا الرابط يبقى مشوشاً بعض الشيء، ولكن هذا لا يعني أنّه غير موجود، فما سطّرته عمليات المقاومة في غزة هو القدرة على الوصول إلى جسد الجندي العدو من خلال الطوبوغرافيا-الأنفاق، وما تضمّنه ذلك من بنى تحتية عسكرية معقدة، بينما تتناثر أجساد الجنود على المفترقات المختلفة في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل. أي أنَّه ومن حيث الإتاحة فهناك شكلان لها، الأول: هو  استخدام ما هو متاح من أدوات وتحويلها إلى سلاح، والثاني  يتضمن الإتاحة الكامنة بسهولة الوصول النسبي إلى جسد العدو. باختصار، وكأنَّ التجربة التي سطّرتها المقاومة في غزة في حرب عام 2014 أشعلت الرغبة بمحاكاة التجربة “والحذو حذوها”، بما هو متاح في بقية أنحاء فلسطين.  

وهناك مدخل آخر نتوسّله لفهم دور الفانتازيا من خلال النظر إلى مجموعة التدخلات الهندسية التي تعززت في ظل هبة العمليات الذرّية، وساهمت في تغيير شكل وطبيعة مفارق الطرق في الضفة الغربية والقدس أيضاً. كانت إحدى أولى التدخلات الهندسية هي بناء نمط من أنماط الحواجز التي يستطيع فيها المستوطن الوقوف خلفها دون أن يتعرض لخطر الدهس.

هذه العوازل الصفراء تساهم في قطع خيال الدهس وتحييد قدرة السيارة على الوصول إلى الأجساد، وبالتالي يمكن فهمها على أنهَّا قواطع مادية، إلا أنَّها تستهدف “الخيال النشط للسيارات المارة”. بالإضافة إلى تلك القواطع تم تشييد غرف حديدية يقبع الجنود خلفها تحمي من الرصاص وتوفر للجندي الذي يحرس نقاطَ حمايةٍ عند مواقف المواصلات. وتغذّي أيضاً الشعور بأنَّ إطلاق النار يقابله إطلاق نار، وأنَّ فريق الإعدام جاهز للقيام بعمليات الإعدام حتى تلك التي قتلك خطأ مستوطنين. فمن جهة تمثل هذه المنصات والأبراج المستجدّة محاولة لحماية جسد الجندي، ولكنَّها بنفس الوقت مسعى لتذكير الذات المشتعلة “بأحلام اليقظة” وفانتازيا الممكن بواقعية الموت حين أيَّ مواجهة محتملة.

صورة تظهر عمليات التحصين على المفارق ومحطات الوقوف في الضفة الغربية على إثر هبة العمليات الذرية.

وقد أدّت عملية عاصم البرغوثي في العام 2019 إلى تكثيف التصورات المرتبطة بمواقف الباصات خاصّة على المفرق الذي نفَّذ فيه عمليته التي أودت بحياة ثلاثة جنود.  ففي موقف مستوطنة جڤعات إساف المقامة على أراضي مجموعة من البلدات الفلسطينية، أُجري إعادة ترتيب للفضاء بحيث وصلت المخيلة الاستعمارية لدرجة بناء غرفة حديدية شاملة حول موقف الباصات، بحيث يجد المستوطن نفسه داخل هذه الغرفة مع فوّهات تتيح للمستوطن رؤية الشارع وحركة السيارات. وقد أدى وضع هذه الغرفة الحديدية إلى احتجاج المستوطنين، بما فيها قيادات استيطانية، ووصل الأمر حدّ وصف نفتالي بينيت، رئيس الحكومة الحالي، لهذه الغرف على أنَّها تمثل “استسلاماً وهزيمة” أمام الفلسطينيين. وانتهى الأمر بإزالة هذه الغرفة الحديدية.[26]

صورة لصندوق حماية تم وضعه في موقف باص مستوطنة جفعات أساف عقب عملية عاصم البرغوثي والتي أدت إلى احتجاجات من قبل المستوطنين.

وقد نشير إلى أمرين تسارعا عقب الانتفاضة الثانية؛ أولًا: التوسع الديمغرافي والمادي للاستعمار في الضفة وما يعنيه هذا أيضاً من تمدد في جغرافيا الطرق، ليس فقط على صعيد السيارات وآليات التنقل، ولكن أيضاً على صعيد محطات الوقوف والمفارق الرئيسية ومحطات الوقود ومراكز التسوق «الاسرائيلية». وقد تُرجم الهدوء النسبي على الطرق إلى توغل فاعل للاستيطان في هذه الأحيزة الجديدة ما أنتج حدوداً جديدة للمواجهة مع الاستعمار، وهي الحدود المرتبطة بالمفارق ومواقع تنزيل وتحميل الركاب من خلال وسائل النقل العام والخاص. وهي مشاهد غابت في سنوات الانتفاضة الأولى وصولاً إلى الثانية. وهكذا فإنّ تشكل هذه المفارق، بما فيها معالمها، وحضور المستوطن فيها، وإعادة رسم مجالها اللغوي من خلال اللافتات والإشارات.. الحدَّ المستجد في محاولات تطبيع المستوطنة، وبالتالي خروج أوّلي للمستوطن خارج القلعة الاستيطانية في الضفة الغربية. لهذا مثّلت الغرفة الحديدية انغلاقاً وعودة خلف حدود القلعة بهيئة غرفة حماية حديدية، ما شكل بالنسبة لقيادات المستوطنين هزيمة او “رمزيات الهزيمة” أمام الفعل الفلسطيني.  ثانيا، هناك أهمية لديمغرافيا الاستيطان الحالي، فهي تعكس زيادة ملحوظة عن زمن الانتفاضتين. ففي بداية الانتفاضة الثانية كان هناك ما لا يزيد عن 200 ألف مستوطن في الضفة الغربية، أما اليوم فأعداد المستوطنين وصلت الى 450 ألف مستوطن. الرقم لا يعكس أعداد المستوطنين بمحيط القدس والذي يصل إلى 300 ألف مستوطن إضافي. هذا التوسع الديمغرافي يعكس من جهة أهمية الهدوء النسبي الذي شهدته الضفة الغربية في إتاحة عملية نقل المستوطنين إلى الضفة الغربية، ولكنه أيضاً يعني إرهاق المنظومة الأمنية بحماية المزيد من المستوطنين وشريان الاستيطان المتصلة بالطرق.   

وقد نذكر هنا أيضاً تدخلات أخرى فضائية قامت بها قوات الاحتلال في السنين الماضية، بما فيها وضع سواتر إسمنتية تفصل بين الأحياء العربية في القدس والمدينة الأوسع، وإصرار بدلية القدس على رفد تلك السواتر بمقولة تؤكد على مؤقتيتها في هبّة الشهيد أبو خضير، ومحاولات وضع بوابات حديدية أدت إلى هبةّ الأسباط، ومحاولات وضع حواجز حديدية في رمضان والتي أدّت، كذا الأمر، إلى انتفاضٍ عمَّ فلسطين التاريخية والشتات في العام 2021. [27] شكّلت هذه التدخلات المعمارية والهندسية اللاحقة، وبالعديد من الأحيان، أساساً لعمليات ذرية لخلق الظروف السياسات الاستعمارية، للانتفاض الشامل وإلى إقحام الكتل  البشرية في الصراع السياسي.

التدخلات في حيز باب العامود تضمنت بناء ثلاثة أبراج مراقبة. وقد كان باب العامود أحد أهم مواقع الاستهداف المكررة في هبة العمليات الذرية، وكان عناصر الشرطة أهم الأهداف لها. لهذه تشكل هذه الأبراج محاولةً لحماية الشرطة، قبل أن تلعب دوراً في الرقابة وعسكرة القلب الاجتماعي النابض للفلسطيني في القدس.

ما يشار إليه مما سبق، هو أنَّه وبالرغم من السعي لبناء أشكال متنوعة من الحدود/الحدّ فإنَّ عملية اللقاء مع الاستعمار ما زالت مشحونة بالتوتر وما زالت تؤدي إلى حالة أقرب للهستيريا كما يؤطّرها فرانتز فانون.[28] [29] باختصار، تشكّل هذه المحطات والمفارق التي عادة ما يكون موقعها خارج المستوطنة موقعاً أساسياً للفعل الفلسطيني. ولذلك تُستهدف لأنَّها المواقع التي تنشط فيها أحلام اليقظة والفانتازيا الفلسطينية. 

وبالرغم مما سبق، إلا أنّه وكما ذكرنا سابقاً، شكّلت تكرارية الاستهداف بالأدوات المتاحة- بالسكين والسيارة- ضعفاً في بنية هذه التكتيكات، ذلك أنّه قد أصبح من السهل بناء مجموعة من التدخلات المعمارية التي ساهمت في إفراغ فعالية الفعل المبني على المتاح من فاعليته، من خلال مجموعة من التدخلات كإعادة البناء الهندسي، كأبراج وغرف للجنود والشرطة وترتيبات فضائية مختلفة تساهم في “تحييد” الفعل إمّا قبل اتّخاذ القرار أو عقب اتخاذه. بالختام، هناك العديد مما يُمكن أن يقال عن هذه البنى الهندسية التي تتفاعل مع الفعل المقاوم، فمن جهة هي أدوات مادية تسعى لقتل الفعل الفلسطيني المقاوم، ولكنَّها من جهة أخرى نقش وحفر فلسطيني في شكل المستوطنة وشكل بنيتها التحتية، أي أنّها علامة فلسطينية محفورة في شكل المستوطنة. 

أثر البنية: البيروقراطية والسلطة بحلّتها الجديدة

ما انفكّت تحضر “أوسلو” كمحطة تاريخية هامة تحيل إلى الانقطاع والتحول والتغير الذي أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية. وهناك عدة مداخل لنقد/نقض أوسلو ومحاولات فهم طبيعة وشكل التغيرات التي طرأت عقب توقيع اتفاقيات أوسلو، يمكن تقسيمها على الأسس التالية: أولاً هناك النقد الخفيف لأوسلو كحالة احتيال تفاوضي تجاوزت المفاوضات في مدريد ولم تحقق الحدَّ الأدنى المطلوب لإنشاء دولة فلسطينية بما فيها تأجيل ما يسمى بقضايا الوضع النهائي كالقدس واللاجئين والاستيطان.[30] ثانياً، هناك مدرسة حاولت تأطير التغيرات في أوسلو من زاوية الاقتصاد السياسي المتحول وخاصّة في بناء فضاء اقتصادي فلسطيني ضمن فضاء اقتصادي «إسرائيلي» أوسع، ولكن يملك بعض الاستقلالية في بعض الجوانب المحدَّدة خاصة في مجال السياسات الضريبية وبعض جوانب السياسات المالية والتجارية.[31] ثالثاً، هناك من يرتكز في نقده أوسلو على التحول نحو تأبيد المرحلية في الفكر السياسي الفلسطيني والتخلي عن التحرير كمفهوم ناظم ساهم في بناء الحالة الوجدانية والسياسية للحركة الوطنية في بداياتها، أي السعي لتحرير فلسطين. و هذا النمط من نقض أوسلو هو نقض ليس لشكل الاتفاقية، بل لمدلولاتها الرمزية والأيديولوجية والتاريخية بحيث يتم بوتقتها في إطار كونها استسلاماً أو خيانة أو كليهما.[32]

وبالرغم من أهمية الأطروحات السابقة، إلا أنّ الدراسات التي تتعاطى مع أوسلو على أنّها عملية تحوّل في التراكيب الاجتماعية والطبقية، بما يعنيه تأسيس سلطة تمتلك بيروقراطية مدنية وأمنية ما زالت شحيحة. فهنا يقفز معظم التناول التحليلي والبحثي للمجتمع الفلسطيني ما-بعد أوسلو على التعقيدات الاجتماعية التي ولَّدتها الأخيرة بما فيها: ولادة طبقة مهنية متضخمة، وطبيعة الشكل التنظيمي والهرمي لهذه الطبقة المنظمة، لما فيه من استقطاب طبقي ناشئ ما بين الرأسمال الفلسطيني الصاعد والمتنوع وغير المتجانس، والطبقة الوسطى المهنية الملتصقة إمّا ببيروقراطية السلطة أو بالمجتمع المدني، وبين طبقات عاملة تعوّل إما على السوق المحلي أو على سوق العمالة في الداخل الفلسطيني المحتل. 

 لا يمكن اختزال أوسلو بمسمىّ عملية السلام، ولا يمكن أيضاً رؤيتها فقط من زاوية تغلغل النيو-ليبرالية كإيديولوجية سياسية ملاصقة للرأسمالية المتأخرة، بل  علينا تحليل أوسلو من خلال ما ولّدته من حدود فاصلة ومبهمة ما بين “السلطة/الدولة” وما بين المجتمع، وبالتالي فإنَّ أيَّ محاولة لفهم تاريخ الفلسطيني منذ الاتفاقيات التي أسّست للسلطة، عليها أن تتناول هذه الحدود وتحولّاتها أخذاً بعين الاعتبار المركّبات التالية: الشرائح والطبقات الاجتماعية التي تلعب أدواراً وظيفية في بنية البيروقراطية المتضخمة (الطبقة الإدارية، والموظفين وعناصر الأمن وقيادات الأجهزة)، والشرائح الاجتماعية والطبقات التي أُبعدت عن البيروقراطية خاصّةً بعد أفول الانتفاضة الثانية، وتلك  التي تبوأت دوراً فاعلاً في إدارة السوق.  بمعنى آخر، علينا بناء تاريخ للصراع على البيروقراطية نفسها، بما فيها السؤال القائل: كيف ساهم تنظيم فتح في الانتفاضة الثانية في  تقويض الطبقة البيروقراطية داخل السلطة؟ بل وكيف وظّفه الرئيس ياسر عرفات كتنظيم خارج مؤسسة الدولة يساهم في تقويض بنية الدولة نفسها؟

وهذا يستند بطبيعة الحال على النقد الذي قدّمه تيموثي ميتشيل لما أطلق عليه المدخل الدولاتي في تفسير العلاقة بين المجتمع والدولة وعلى ضرورة فهم الدولة كحالة خارجية وداخلية في آن، خاصّة بعلاقتها مع تطوير أنماط من التنظيم الاجتماعي وما يحمله هذا التنظيم من تقسيمات جديدة للفضاء، على سبيل المثال: تطوير منظومات جديدة من السجون والمقرات الأمنية والوزارات والمجتمع المدني، والتي تخضع إلى تنظيم اجتماعي هرمي يمتلك طبقة إدارية تقوم بإرساء القواعد العامة للمنظومة البيروقراطية وإطارها القانوني.

 بالطبع لا يغفل تيموثي ميتشل أهميةَ تجاوز القراءات التحليلية التي تنطلق من رأس الهرم إلى القاعدة، بحيث تشكل القاعدة ما لا يتعدى الأداة في منظومة ميكانيكية لا تمتلك فيها سوى الامتثال. وهذا التوازن بين السلطة والمقاومة عند ميتشل ينبع من الطبيعة الثنائية للبنى الدولاتية نفسها كونها داخل وخارج الذات في آنٍ معاً، وبالتالي فإنّ هذه العلاقة بين الداخل والخارج هي علاقة قد تحيل إلى الاغتراب والاستغلال والتحايل والمقاومة والتماثل وغيرها من ردود الأفعال المعقدّة الممكنة بين المجتمع وبين البنية أو التصورات الخاصة للأفراد المشكِّلين للبنية نفسها. فهو لا يفترض بنية خارجية دون كونها بالأساس نوعاً من أنواع الأثر البنيوي، أي أنَّه لا يوجد بالواقع خارج الذات بنية ميكانيكية مسقطة وذات معالم واضحة تؤشر للأفراد بما هو متوقع منهم، بل تتشكل البنية من مجموعة من العوامل الضاغطة واللاعبين المشكَّلين لها، والمشكلين للتصورات حولها. ما يوجد في الواقع هو أثر البنية، أي التصورات التي يحملها الأفراد حول تفسير وتأويل البنية، فكما يقول ميتشل: 

“إنَّ التحديد الدقيق للفضاء والوظيفة التي تميز المؤسسات الحديثة، وتنسيق هذه الوظائف في ترتيبات هرمية، وتنظيم الإشراف والمراقبة، وتحديد الوقت في الجداول الزمنية والبرامج كلها، تساهم في بناء عالم يتراءى على أنّه غير مكون من مجموعة معقدة من الممارسات الاجتماعية، ولكن من خلال نظام ثنائي: من ناحية، الأفراد وأنشطتهم، ومن ناحية أخرى، كبنية ثابتة وخاملة موقعها بطريقة ما منفصلة عن الأفراد أنفسهم، بل تستبقهم وتشكل إطاراً عاماً لحياتهم. في الواقع، يمكن اعتبار فكرة المؤسسة ذاتها، على أنَّها إطار مجرّد منفصل عن الممارسات الخاصّة التي تساهم المؤسسة في تأطيرها، وعلى أنهّا نتاج مجموع هذه التقنيات”.[33]

بالفعل، أوسلو عبارة عن حالة تنظيم اجتماعي جديد تتداخل فيها الحدود بين السلطة وما بين المجتمع الأوسع، بحيث يشكل هذا التداخل نفسه حالةً من الالتباس حول موقع ودور وشكل السلطة الجديدة كبنية ترتسم بكونها من جهة تتخذ شكلاً خارجياً عنيفاً بالعلاقة مع المجتمع، ولكنّها بالوقت نفسه تتداخل مع شرائحه الاجتماعية وتعيد ترتيب شرائحه الطبقية. بمعنى رؤية السلطة كبنية خارجية، خاصّة في محمولها الإيديولوجي، ولكنها بنية داخلية خاصة في قدرتها على إعادة تنظيم الحياة اليومية، وببناء قاعدة ولاء للسلطة نفسها. يكمن أثر البنية في التصورات التي يخلقها الأفراد والقوى الفاعلة حول المتوقع منها في ظل منظومة استعمارية تقوّض البيروقراطية وتهددّها وتقلّصها وتمنع عنها مجالات سياساتية- مالية وتجارية وسيطرة على الموارد- وبالوقت نفسه تمنح الأفراد المشكلين لهذه البيروقراطية الأمان المادي والاستقرار الزمني في تلقي الرواتب. 

علاوة على ما ورد، من المهم التذكير بأنَّ أيَّ فهم دقيق للتحولات في شكل ووظيفة السلطة الفلسطينية والرؤى المتصارعة حول شكل هذه السلطة، عليها أن تأخذ التفاعل ما بين البيروقراطية الاستعمارية والبيروقراطية الفلسطينية ضمن مجموعة أوسع من الصراعات الحزبية والمناطقية والتوازنات الاجتماعية المختلفة التي ساهمت في تشكيلها وفي بناء صيرورة من التحولات فيها.

بهذا المعنى، قد يكون أهم عنصر في التغير الذي طرأ عقب اتفاقيات أوسلو هو نشأة بيروقراطية حديثة بما تمتلكه من شبكات اجتماعية وصراعات داخلية، بل ما تحيل إليه من تشكل هذا العالم الثنائي، أي السلطة والمجتمع، والسلطة والأفراد والطبقات المشكلين لهذه السلطة، ومن التصورات المتخيلة حول المتوقع من الأفراد المشكلين للبنية قبل البنية. وبالرغم من أهمية التسعينيات في تأسيس الهيكل الأساسي لبيروقراطية السلطة إلا أنّه لا يمكن إغفال مدى عمق التحول الذي طرأ عقب أفول الانتفاضة الثانية، أي في نشأة السلطة بنسختها الجديدة. 

ليس من باب المصادفة أن يكون العام 2012هو سنة تتويج مشروع الدولة الذي قاده الاقتصادي في البنك الدولي والعائد إلى فلسطين بإيعاز ودعم أمريكي، سلام فياض، بهذا العام أعلن المانح الأوروبي والمؤسسات الدولية الداعمة لبنية السلطة الفلسطينية جاهزة للتحول إلى مصاف الدولة.[34] لم تكن الفياضّية نواة تفكير الرجل وحده، كما لم تكن مجرد تعليمات تقوم بإصدارها مكاتب البنك الدولي والمؤسسات المالية العالمية الكُبرى. لقد كانت الفياضية مشروع انتشال وتشييد لنخبة جديدة، ويمكن مفهمتها على أنّها مشروع طبقي مُنظَّم لإعادة تشكيل دورة الإنتاج الفلسطيني بما يخدم الرأسمال الفلسطيني والنخب السياسية والأمنية التي تدير السلطة الفلسطينية. بالفعل امتلكت هذه الطبقة مثقفيها، وأدواتها التنظيمية وعلاقتها الجيو-سياسية، ففي الوقت الذي تمت فيه تصفية تيار المقاومة بشخوصه وقياداته وتنظيماته العسكرية، استحوذت النخبة السياسية الجديدة على مقاليد السلطة وتحولت من هوامش النخب في فترة الانتفاضات الكُبرى إلى الواجهة. لقد جسّد فياض مفصلاً أساسياً في “الحركة الاجتماعية” النيو-ليبرالية بل كان رأس حربتها وعنواناً جديداً لصيرورة تاريخية نبعت من الصراع القائم منذ نشأة الحالة الفلسطينية بالعلاقة مع البُنية الاستعمارية وما تخلفه من استقطاب بين قطب التعاون مع الاستعمار وقطب المقاومة له.

تجسّد هذا الاستقطاب عقب أفول الانتفاضة الثانية بالتفسّخ الجغرافي ومآلاته السياسية، ما بين قطاع غزة التي انتصر فيها تيار المقاومة المحمول على حركات الإسلام السياسي، وما بين اضمحلال تيار المقاومة في الضفّة وانتصار التيار البراغماتي-الواقعي في حركة فتح – من خلال الدبابة «الإسرائيلية» – وتبوئه الواجهة السياسية على إثر “اغتيال” الراحل ياسر عرفات. لقد كانت أركان “الثورة-المضادة” جاهزة للانقضاض على مفاصل السلطة المركزية في رام الله، وتحويل الانتصار العسكري الصهيوني في الضفة الغربية بما فيها من تصفية لبؤر المقاومة وشخوصها، إلى صياغة مشروع جديد يُستكمل فيه مشروع أوسلو وما حمله من ثلاثية: تحويل حركة تحرير وطني إلى شبه-كيان تمثيلي يلعب دوراً وظيفياً أمنياً، والتعاطي مع منظمة التحرير كجسر للتطبيع بين العدو والعالم العربي، والحفاظ على وتوسعة مصالح الرأسمال الفلسطيني والمكتسبات الاقتصادية التي حققتها النخبة الحاكمة. 

وهكذا انتشلت “الحركة الاجتماعية النيو-ليبرالية” ما تبقى من روح المواجهة على إثر أفول الانتفاضة الثانية وحوّلتها نحو طاقة وأمل بناء الدولة، بما عناه من تمرير لمشروعين متوازيين. كان أولاهما مشروع إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية بما يخدم دورها الصاعد كقوة ضاربة تستطيع احتواء ومكافحة التمرد، أي في قدرة تلك الأجهزة اتقانَ “دور العضلات” في قمع نشأة مقاومة منظمة في الضفة الغربية. أما ثانيهما فتمثّل بعنصر الإتاحة في الاقتصاد وما أنتجه من استقطاب طبقي ساهم في خلق تجاذبات اجتماعية جديدة مشرذمة من البنى التضامنية الفلسطينية الداخلية المبنية على تاريخ طويل من التكاتف الداخلي والعداء المشترك، بل وجعلت من السوق وإيديولوجياته الموقعَ الأهمّ لتطوير الذات الفلسطينية بما يحيله السوق لكوْن التنافس والتسليع هما القيم الإنسانية الأسمى. لهذا لن يكون هناك حل سحري  لما يسمى الانقسام السياسي الفلسطيني، فهو ليس خلافاً على تكتيك سياسي يمكن إعادة بناء التوافق عليه، بل هو إعادة تعريف العدو من الصديق، وبالتالي هو تحديد مستجدّ للمجال والزمن السياسي في كل من الضفة وغزة، كما أنّه يقابل بين ديستوبيا التعاون مع الاستعمار وتشاؤل المقاومة. 

في العقد ونيّف الماضي تم تطوير تقنيات تحكّم مستجدة تساهم في لجم بيروقراطية السلطة وفي إرساء المتوقع منها من قبل المستعمِر، وأحياناً في ظل تماهي شبه تام من قبل الطبقة الإدارية لتلك البيروقراطية. ومن مجموع تلك السياسات: اللا-استقرار الزمني، الدخول الدوري في أزمات سياسية ومالية، وسلب البيروقراطية، خاصّة بشقها المدني، من قوّتها السياسية من خلال القمع المباشر أيضاً. فعلى سبيل المثال، لا يمكننا فصل أزمة الرواتب المتكررة أو المتتابعة في السلطة عن علاقة هذه الأزمة بخلق منظومات التماثل/الإذعان داخل البيروقراطية، وقد يكون نموذج تفكيك نقابة الموظفين بعد إنشائها بهدف محاربة وإفشال تجربة حركة حماس في إدارة الحكومة في عام 2006 أحدَ الأمثلة التي تستطيع الإضاءة على شكل العلاقة بين الطبقة الإدارية للبيروقراطية وما بين البيروقراطي نفسه. فقد كان لنقابة الموظفين دورٌ هامٌ عندما نشأت كأداة وظَّفتها النخب السياسية الفلسطينية المرتبطة بمنظمة التحرير بمحاولات تقييد نفوذ حركة حماس داخل السلطة الفلسطينية، ولكن بعد فوز الأخيرة في الانتخابات التشريعية، كان لا بدَّ من جسم نقابي يتم توظيفه لخلق أزمات إدارية استهدفت إفشال التجربة الحكومية الجديدة والإبقاء على السلطة كامتداد اجتماعي لشبكات ريعية تديرها الطبقة الإدارية للسلطة الفلسطينية في رام الله. المفارقة أنَّه وباللحظة التي تحولت تلك النقابات للعمل على تحصيل حقوق الموظف بما فيها العمل على وقف سياسات تأجيل دفع المستحقات المالية وغيرها من إجراءات متعددة، تم توظيف المؤسسة الأمنية للجم وقمع نقابات الموظفين وإعلانها نقابة غير-قانونية واعتقال القائمين عليها، ووصل الأمر إلى حدّ التعدي الجسدي على أولئك الشخوص في العام 2014.[35]

فكما يشير توفيق حداد، لم تكن تجربة المؤسسات الدولية النابعة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي خاليةً من مفاهيم “كالهندسة الاجتماعية”، ومحاولة الأخيرة بناء شبكات ريعية-اقتصادية تستطيع من خلالها بناء سلطة فلسطينية قادرة على تحمل الأعباء الأمنية المرتبطة بقمع المقاومة. وقد دخلت تلك الاعتبارات تحديداً في تحديد الشبكات الاجتماعية التي يمكن دعمها وتوفير ضخّ مالي ورأس مال اجتماعي لها، وتحديد الشبكات التي يجب محاربتها واحتوائها، أي في انتقاء تلك المؤسسات والشبكات التي أظهرت استعدادها لتكثيف عملية تحويل السلطة من أداة لتحقيق دولة إلى كون الأداة نفسها غاية، وبالتالي إلى إمكانية المساومة على شكل وهدف الأداة. بهذا المعنى كان من السهل بعد تصفية تيار المقاومة إرساء معادلة جديدة بحيث تتحول السلطة من مشروع بناء دولة إلى مشروع سلطة أصلانية. وقد تكون هذه العملية بالذات هي التي وظفتها الباحثة دانا الكرد في سعيها لتبيان موقع السلطة الفلسطينية كوكيل للاستعمار وكسلطة “أصلانية” تسعى لنهش البنى الاجتماعية القادرة على توليد الكتل السياسية المقاومة، والتي تتضمن بحسب قراءتها التشابك العالي بين الطبقة البرجوازية والسياسية الوسيطة في فلسطين وبين المانح والاحتلال، ومجموعة من الممارسات بما فيها بنائها لشبكات نفعية، وإنتاج الكتلة الاجتماعية التي لديها  مصلحة من استمرار التعاون مع الاحتلال، واحتواء المجتمع المدني الفلسطيني. ما لم تعكسه كلياً الكرد في بحثها هو أمرين؛ أولاً: الحاجة إلى إعادة تعريف العدو من الصديق بحيث تعرف النخب علاقتها مع المجتمع الفلسطيني على أساس عداء طبقي وسياسي مرَّ من خلال ما أطلق عليه “الانقسام السياسي”، ولكن أيضاً إلى الحرب التي تخوضها النخب الفلسطينية الوسيطة على جميع التكتلات السياسية والاجتماعية المطلبية والسياسية، والتي يمكن لها أن تتحول لبديل إمّا في وساطتها مع الاستعمار أو كبديل أيديولوجي وطني يعيد إلى الواجهة سؤال المواجهة مع الاستعمار. بهذا المعنى هذه عملية تسعى إلى تفتيت الروابط الاجتماعية وتذريرها أيضاً، وتسعى إلى أن تكون هي التكتّل الاجتماعي الوحيد المنظَّم. وثانياً، إن َّإعادة تعريف العدو من الصديق على أسس حزبية فصائلية، قاد إلى أن يصبح الخصم الداخلي هو العدو الحقيقي الذي تمارس السلطة عليه حرباً سياسية وامنية دائمة، بينما يتم تحويل الاحتلال كعدو بعيد ومبهم، وكعدو لا  يمكن ضدّه ممارسة سياسات الحرب التي يولدها تعريفه كعدو.

بينما قد موضَع َحداد العديد هذه التغيرات من خلال التركيز على الشرخ ما بين الادّعاءات النظرية للمؤسسات الدولية، وما بين فشلها في بناء الدولة دون الأخذ بشكل كافٍ  أهمية ودور “البرقرطة” كأساس لبناء سياسي أصلاني يشابه من حيث منطقه “السلطة الأصلانية” بتعابير محمود ممداني، مع فارق مهم هو أنَّ السلطة الأصلانية بالحالة الفلسطينية بُنيت أساساً على التحالف بين الطبقة البرجوازية والبيروقراطية لمنظمة التحرير والاستعمار. أي أنّها نتاج زواج مصالح سعى إلى تحويل حركة التحرير الوطني إلى سلطة أصلانية، وليست قائمة على شرعيات سياسية تقليدية مبنية على العشيرة أو الطائفة أو غيرها من تلك الأشكال. وقد كان للانتفاضة الثانية دور  كبير في إعادة تحديد الأولويات المرتبطة بالبيروقراطية وعملها والشبكات التي ستلعب دوراً واضحاً في المرحلة التي تلت الانتفاضة.[36] [37]  وقد أدّت مجموع السياسات المختلفة، على شاكلة: إحالة جزء كبير من عناصر الأمن والموظفين إلى التقاعد المبكر، ومحاولات تقليص البيروقراطية ومن ثم إعادة إنتاجها بشكل موسَّع ولكن بكادر مختلف، وإعادة تنظيم صفوف الأمن من خلال عقيدة أمنية جديدة ارتكزت على تعزيز العداء لحركة حماس على حساب العداء للاحتلال، وتعليل دور الأمن على قاعدة المواجهة مع المجتمع الفلسطيني تحت ستار الانقسام السياسي.. أدّت  إلى تغيرات ملموسة في أثر البنية، أي في تصورات الأفراد المشكِّلين للبنية، باختلاف أدوارهم لماهية البنية نفسها وما هو متوقع منهم، وبالتالي إلى التوتر المتصاعد بين الطبقة الإدارية للسلطة والبيروقراطية الأوسع حول هذا “المتوقع”. وهذا تحديداً ما نستطيع لمسه في التظاهرات التي طالبت بمحاسبة قتلة الشهيد نزار بنات، وخاصّة رفض العديد من العناصر في الجهاز الأمني الفلسطيني المشاركة في عمليات القمع التي حصلت في المنارة، مقابل قبول وتحمّس وإذعان آخرين.[38]  

لا يمكننا هنا التطرق بشكل تفصيلي إلى العديد من السياسات التي تساهم في استباق وإجهاض إمكانيات خلق وإبداع وبناء التنظيم القادر على مواجهة التوغل والتوسع الاستعماري. ولكن ما كان جوهرياً فيما ورد هو الإضاءة على ما أسميناه أثر البنية، ليس فقط كعملية تعيد ضبط وترتيب العلاقات الاجتماعية، وما هو ممكن فيها وما هو غير ممكن، ولكن أيضاً الإضاءة على ما هو أصلاً منظَّم وطبيعة وشكل وأثر هذه البنية التنظيمية خاصّة فيما تفترض أنّه “متوقع” منها. بتعابير أخرى، إنَّ تحييد شرائح اجتماعية وخاصة الطبقة الوسطى المرتبطة بأدوات تنظيم البيروقراطية، أو الطبقات العاملة من خلال منظومات التحكم بالحركة خاصة بقدرة تنظيم وتحديد من يدخل الداخل الفلسطيني المحتل للعمل ومن لا يمكنه.. يساهم في خلق مجتمع حيادي فيما يرتبط بقتال البنية الاستعمارية وتوسعها، أي خلق مجتمع يبنى البنية التي ستنفيه، بمعنى أنّه مجتمع واسع من الفاعلين المنفصلين عن الفعل المقاوم وبالوقت نفسه هو مجتمع براغماتي يحوّل مقولة “العيش” إلى مقولة إيديولوجية تنافس مقولة المقاومة. 

فالتقنيات التي توظَّف في عملية تقويض البيروقراطية الفلسطينية والعمال، بما فيها صراعات القوى داخل البيروقراطية على مواقع القوة المختلفة، وعلاقة البيروقراطية بنظيرتها الاستعمارية.. تشكّل بذلك امتداداً للأخيرة وموفرةً العتبة التي تمكن اختراق الطبقات الاجتماعية الفلسطينية وبناء شرائح جديدة تمتلك علاقة معقدة مع تصوراتها حول البنية وما تتوقعه منها. باختصار، يتطلب وجود واستمرارية هذه السلطة وطبقتها الإدارية – القيادات السياسية والأمنية والرأسمالية —غيابَ وتغييب القدرة الاجتماعية على توليد التنظيم المقاوم.  

الرقابة والثقة المهزوزة

يكفي في الحالة الفلسطينية النظر إلى المعجم المتغير والمتضخم الذي يحيط بأشكال التعاون/العمالة المرتبطة إمّا ببنية السلطة أو ببنية الاحتلال نفسه أو بالعلاقة بينهما، لنجدَ مثلاً اصطلاحات، من قبيل: المطبّع، العميل، الجاسوس، العصفور، الاعتراف، التنسيق الأمني، الخيانة، المندوب والتعاون البنيوي وغيرها، كاصطلاحات لها دلالات وإحالات مختلفة، ولكنَّها جميعاً تدور في فلك محاولات صياغة مفهمةٍ لأشكال التعاون مع الاستعمار إمّا تلك المباشرة أو تلك التي تتخذ أشكالاً أخرى أكثر  تعقيداً. وبعض الاصطلاحات تصدر عن أيديولوجيات النخب الحاكمة وأصبحت جزءاً من المعجم السياسي الفلسطيني كالتنسيق الأمني أو الالتزام بالاتفاقات الثنائية كمثال آخر. ولكن ما يهمنا هنا ليس تحليل هذا التنوع الهائل في الاصطلاحات وما تحيل إليه من أشكال متعددة من التعاون التي تتطلب بدورها اصطلاحات متعددة من تحديد شكل وحديّة وكثافة التعاون مع الاستعمار ودرجة القبول الاجتماعي لهذا الشكل أو ذاك، بل يهمنا أثر هذا الاتساع الاصطلاحي على طغيان الشعور بأنَّ أشكال هذا التعاون أصبحت جزءاً جوهرياً من النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وبالتالي إلى كلية تواجد (omnipresence) التعاون بأطواره المتعددة الذي يتخذ حالةً أقرب لكلية الوجود. فكما تقول حنا أرندت في كتابها حول العنف: 

“لقد لوحظ في كثير من الأحيان أنَّ فعالية الإرهاب تعتمد بشكل شبه كامل على درجة التذرير الاجتماعي، واختفاء كل نوع من أنواع المعارضة المنظمة، وهو الأمر الذي يجب تحقيقه قبل أن تتحرر قوة الإرهاب المطلقة. هذا التذرير – وهو اصطلاح أكاديمي وباهت ولا يلتقط كلية الرعب الذي يحيل إليه- يصان ويتكثف من خلال وجود المخبر في كل مكان، والذي قد يكون حرفيًا حاضراً ضمن كل العلاقات الممكنة، لأنَّ المخبر لم يعد مجرّد إنسان يمتهن نقل المعلومات ويقبض بمقابلٍ راتباً من الشرطة، ولكنَّه تحول إلى إمكانية أن يكون (المخبر) هو كل شخص تلتقي به.”[39]

وقد تكون إحدى أهم التعليلات المتداولة لعمليات التذرير الاجتماعي هي بالتحديد تفكّك الثقة الاجتماعية المولّدة للتنظيمات الجماعية. وبالطبع لا نقصد تفكّك “الثقة” كمؤسسة هامة ترتبط بالتداول في السوق أو ببناء العائلات على سبيل المثال، ولكن بمعناها السياسي والاجتماعي المستهدف من قبل ثنائية أمنية فلسطينية و«إسرائيلية».  ما تشير اليه أرندت هو شبح الخيانة الذي يطوف ويحوم حول كل لقاء اجتماعي، وبالتالي، هذا الوجود الكلّي للمخبر لا يعني أنَّ المجتمع تحوّل إلى مجتمع من المخبرين، بقدر ما يعني أنَّ شبح “الخيانة” يحيط بكل لقاء. بهذا السياق، تتآكل بسهولة القدرة على التنظيم، وتتصاعد أنماط من الأفكار التهكمية بقدرة الذوات الفلسطينية على التجمع وتنسيق الجهود وبناء الاستراتيجيات المشتركة. بالإضافة إلى ما سبق، لا يمكن إخفاء الربط بين بنية البيروقراطية التي تقسّم الأعمال وتبني هذا الانسلاخ ما بين الفعل والفاعل، وما بين نشأة وتطوّر الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي استطاعت التوسع داخل المجتمع وتحويل آلاف العناصر لبناء سلطة أصلانيّة وحمايتها.[40] ولهذا نجد اليوم أنَّ الجهة الأكثر تنظيماً هي السلطة نفسها، وهو التيار الذي يعتاش على مكافحة المقاومة وإمكانية نشأتها.

ولكن لا يمكن تعليل التذرير فقط من خلال التركيز على دور المخبر وأنماطه وأطواره في السياق الفلسطيني بما فيه تطور بنية مخبرية كاملة تتمثل بالسلطة الفلسطينية. فهناك عنصرٌ آخر قد دخل في السنوات العشرين الماضية وهو توسعّ ما سنطلق عليه “استعماريّة الرقابة”. في إحدى المقابلات البحثيّة التي ترتبط ببحث آخر أُعِدَّ حول الانتفاضة الثانية، يذكر أحد الأسرى السابقين أهمية الهاتف بالنسبة لجهاز المخابرات، ويخصّ بالذكر كيف حاول ضابط المخابرات إقناعه بضرورة اقتناء هاتف ذكي من النوع الذي يمتلك خصائص الدخول للإنترنت، وأنَّ وجود هذا الهاتف سيبعد عنه كل شكوك لدى المخابرات حول تحركاته، وبالتالي ستتركه المخابرات وحده ولن يتعرض للاعتقال الإداري المتكرر الذي عانى منه على مدى سنوات طويلة.[41] ناهيك عن الحديث المتكرر من قبل العديد من المناضلين والأسرى المحررين عن كوْن “الهاتف المحمول” جاسوساً تحمله معك إلى كل مكان.[42]

ما يهمنا هنا تحديداً هو طبيعة العلاقة ما بين الإنسان والآلة، وبالأخصّ شكل وطبيعة هذه العلاقة التي ترتسم بكونها أقرب لفخ ّمعسول. بالفعل، تحولت أدوات التواصل، والبنى التحتية، وأدوات اللهو إلى مصفوفة معقدة مصدّرة لبيانات مختلفة تشي بتدفق معلوماتي هائل يصل جهاز المخابرات «الإسرائيلي». فمن جهة تشكّل الأداة حاجة اجتماعية للتواصل، وأصبحت بالفعل نقطةً بين العديد من النقاط التي تصدر بيانات يتم حفظها وتحليلها في محاولات لفهم هذه البيانات وتصنيفها والبحث عن علامات محددة تفضي إلى تحييد المخاطر الأمنية. فما هو جوهري في عمل هذه المصفوفة هو ما تمكّنه من ثلاثيّة مهمة، تتمثل أولاً ببناء مركز تجميع معلومات هائل يسهّل هندسة السياسات الاقتصادية والاجتماعية ويُعقّدها بالوقت ذاته، وتتمثل ثانياً في مساهمة هذه المنظومة الرقابية بنقل عمليات “تحسيس الوجود” إلى كل أنماط الاحتكاك بين الفلسطيني والتقنية، وبالتالي إلى تحصين وتعزيز منظومات الردع المبنيّة على كليّة الرقابة. أمّا ثالثاً فتتمثل في مساهمة هذه المنظومة الرقابيّة في إيجاد واكتشاف الأهداف وتحييدها استباقاً لفعلٍ ما أو عقبَ فعلٍ مقاوم (ونجاعتها تكمن بالغالب في العنصر الأخير).

 وهنا لا بدَّ من وقفة تعريفية جنيالوجية هامة لشكل الرقابة الحديثة المعقَّد، ونستند عليها من خلال قراءة جورجيو شاميو لطبيعة الفضاء الرقابي الجديد، خاصّةً المستند على تجميع أكبر عدد ممكن من البيانات وإخضاعها لعمليات الحفظ والتصنيف.[43]  

ولكن المهم أيضاً الوقوف على نقطة هامة ترتبط بمقاربة شاميو التي تنطلق من التوترات الرقابية في مجتمعات الشمال العالمي، وما بين كون فلسطين حالة من “الاستثناء” بتعابير جورجيو أغامبين، بحيث لا يشكل التوتر بين الأمن والحرية عقبةً أمام اتّساع المجال الرقابي الاستعماري في فلسطين لكوْن السلطة السيادية تتخذ شكلاً معادياً للوجود الفلسطيني، بمعنى أنَّه لا يوجد العديد من “الأصوات” التي تحاول لجم الرقابة الاستعمارية وتطورها في الضفة الغربية. ففي فلسطين مختبر تتاح فيه كل الممارسات التي تخضع في بلدان ومجتمعات أخرى إلى عمليات لجم.[44] فعلى سبيل مثال، لاقت سياسات كالاقتحام الليلي لبيوت الفلسطينيين نقداً من صحيفة هآرتس، خاصة لتلك البيوت التي لا يقطنها “مخربون” بحسب تعبير الصحيفة. علّلت الصحيفة عدم ضرورة هكذا نوع من العمليات إلى كون المجال الرقابي الحديث يغني عن التماسّ المباشر مع السكان الفلسطينيين وإزعاجهم بالليل، وبالفعل وافقت البيروقراطية الاستعمارية التابعة للجيش على وقف هذه العمليات والاكتفاء بتوظيف أدوات الرقابة الحداثية لأنّها تتضمن هذا العنصر من “تحسيس الوجود” ولكن بقالب غير مباشر ودون تدخل ليلي سافر.[45]  هذا بالفعل هو أقصى ما يمكن للنقد من داخل المجتمع الصهيوني أن يولدّه من حيث التعديل في سياسات معينة في ظل وجود أدوات تقنية أخرى أكثر كفاءة ًوأكثر شموليةً وبالتالي تغني عن الأولى. فإنّ السياق الاستعماري في فلسطين هو سياق إتاحة رقابية شبه شاملة ودون ضوابط حقيقية، بل وتوظَّف فيها أدوات رقابية متعددة وهجينة: الأبراج والكاميرات وأجهزة التقاط الصوت وأجهزة الرقابة الاجتماعية والتعذيب لاستخراج البيانات وبناء أنماط مختلفة من قواعد البيانات التي تغذي الفضاء الرقابي كسجلّ السكان وغيرها من الممارسات الهامّة في عملية فرز السكان وتقسيمهم الإداري، وبهذه الحالة أيضاً تقسيمهم الأمني-ومدى خطورتهم على البنية الاستعمارية. وسنعود لهذا لاحقاً في معرض حديثنا عن العلاقة بين مجموعة من السياسات التي تطورت في ظلّ الهبّة والتي سعت إلى مكافحة الشكل الجديد من الفعل الفلسطيني المقاوم. فلسطين في هذا الصدد هي مختبر وفضاء وحالة متقدمة من فرض سياسات الرقابة وممارستها وتبيان نتائجها الإمبيريقية، وبالتالي تسليعها وبيعها كما حدث في سياق برنامج بيسغوس مثلاً. 

وكما يشير جورجيو شاميو، يكفي النظر إلى المسمّى اللاتيني الذي أطلقته وكالة الأمن القومي الأمريكي على برنامج الرقابة الأول الذي ابتكرته في خضمّ الحرب الباردة، فقد أطلقت مسمى “المعرفة هي سلطة” (scientia potentia est) في محاولة للربط بين الرقابة والسلطة، ودور الرقابة كتقنية هامة بل جوهرية في عملية بناء سلطة الإمبراطورية نفسها واستمراريتها. وما تمنحه منظومات الرقابة الحديثة ليس بالأمر البسيط، فهي من جهة تتيح تسليع التواصل الإنساني كما قامت شركات التواصل الاجتماعي، ومن جهة أخرى تتيح اختراق هذا التسليع. بل وتقحم شبح الخيانة بكليّة العلاقات الاجتماعية دون الحاجة إلى الوسيط الإنساني المرتبط بالمخبر البشري. وهذا السعي نحو الوصول إلى معرفة كليّة الشبكات الاجتماعية والسياسية وتوجهات الأفراد والجماعات السياسية، بل حتى عوالمهم الداخلية من خلال التعويل على مدارس التحليل النفسي، ساهمَ في تعظيم القدرات المخابراتية في ظل التوسّع الديمغرافي الفلسطيني وتعقّد الواقع الاجتماعي الفلسطيني. بمعنى أنّه كان ضرورياّ في استدامة قدرات متابعة ح حثيثة للمجتمع الفلسطيني وتغيراته وخاصّة أنَّه لم يعد مجتمعاً مكوناً في الأراضي المحتلة من عدة مئات الآلاف، وأصبح مجتمعاً واسعاً ومركباً يصل إلى ما يقارب الثلاثة ملايين.

يقدم شاميو أصول الرقابة المبنية على ما يسمى بالبيانات الضخمة من خلال البحث في جينيالوجيا ومصادر تشكلها بالتاريخ الحديث، ويعود إلى حرب الغوّاصات في الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد للمواجهة في المحيط الأطلسي بين الغوّاصات الألمانية والسفن البحرية الأمريكية والبريطانية. ولا يختلف مفهوم الرقابة في العوالم الرقمية عن المعضلة التي واجهت قوات البحرية الأمريكية التي أرادت ابتكار أجهزة تحوّل الصوت إلى تمثيل صوري يستطيع فيه المراقب والمحلل التفرقة بين أشكال الصوت المختلفة في المحيط، والوصول بشكل دقيق إلى أصوات المحركات الخاصة بالغواصات، وبالتالي تحديد موقعه الدقيق. وقد ساهمت منظومة السونار بحلّ هذه المعضلة، فهي استطاعت تحويل الأصوات إلى شكل صوري يفرّق بين أنواع تلك الأصوات، وبالتالي استطاعت إعطاء معطيات دقيقة حول الغواصات ومواقع تواجدها داخل محيط من الأصوات المختلفة، موفرةً القدرة على استهداف الغواصات. 

يطلق شاميو مسمى “العدو المحيطي” على عملية استخراج المعلومات الدقيقة التي تحتاجها أجهزة الاستخبارات لإنتاج الهدف ومن ثم تحديد الطريقة لاستهدافه. إذن، لا تكمن المفارقة في شحّ المعلومة في عالم الرقابة الاستعمارية المعتمد على ما يصدره الناس أنفسهم من معلومات وصور ومواقع وتفاصيل بنكية، ولكنها تكمن في تدفقها الهائل. وبالتالي يكمن دور المخابرات في القيام بعملية تفرقة بين العلامات التي تؤشر إلى الخطر وتلك التي لا تفضي إلى أيَّ خطر ضمن محيطٍ من البيانات، خاصةً إذا ما كان أساس العمل المخابراتي هو استباق ومنع الحدث. وبهذا المعنى، فالفضاء الرقابي أيضاً  هو فضاءٌ رمزي مليء بالإشارات والعلامات والدلالات التي تحتاج إلى عمليات تنقيح وتحليل وتصنيف. وتكمن نجاعة هذا النظام في القدرة على العودة إلى الوراء بعد الفعل نفسه وحدوثه، أكثر من القدرة على استباق حدوث الحدث نفسه. فكما يقول شاميو هناك حدود للتشبيه بين عالم السونار الذي يعتمد على الإصدار الميكانيكي لأصوات الغوّاصات وما بين العوالم الاجتماعية: “قامت الأدمغة التي تم تدريبها في خضمّ الحرب الباردة بين تشبيه خاطئ من خلال سعيهم للمطابقة بين نموذج ميكانيكي (إشارة محرك الغواصة، كإشارة ثابتة وضرورية) على عوالم البشر (غير متجانس ومتعدد الأشكال وقادر على التكيف ومليء بالغايات السياسية المختلفة)“[46]

ما أراد شاميو  قوله وما تظهره التجربة هو إنَّ الرقابة تساهم في خلق واقع اجتماعي جديد وتساهم أيضاً في بناء ذوات جديدة. وبالحالة الفلسطينية إلى إضفاء طبقة أخرى على المراقب لكونه مراقبا، وبالتالي إلى تكثيف عمليات التذرير الاجتماعي بما فيها تعقيد قدرة بناء وتنسيق الجهود، وبالرغم من أنَّ “المعرفة سلطة” بحسب شعار وكالة الأمن القومي الأمريكي، ولكنها لا تفضي إلى سلطة المعرفة المطلقة، بل أحياناً إلى سلطة الأداة الرقابية على المراقب والمُراقب. الرقابة إذن هي نظام “تمثيل” وتحتاج بالتالي إلى تقنيات متعددة ترفد القدرة على تحليل الكم الهائل من البيانات بما فيها كيف يتم تصوير تلك البيانات ونقلها كمحمول رمزي مكثف لعين المراقب. وهناك بالمعنى الأنطولوجي شرخ أو هوّة ما بين الواقع وما بين طرق وأدوات تصوير هذا الواقع، وهذا الشرخ أيضاً يشكل جزءاً من التحدّي في مجالات الرقابة والحرب عموماً، أي إذا نظرنا من منظور المراقب كيف نحوّل البيانات الكلية إلى مادة تصويرية مكثفة وبسيطة تستطيع التقاط الواقع المعقّد وتحويله إلى بيانات مرئية. 

لهذا كانت الهبة قادرة على تخطّي منظومات الرقابة وتجاوزها من خلال زمنية الفعل، أي عفويته الصفرية في العديد من الأحيان، ولكن أيضاً من خلال التنوع الاجتماعي والسياسي للمنفّذين، إذ نجد مثلا أنَّ غالبية الأبحاث التي صدرت عن المؤسسات البحثية الصهيونية سعت إلى تحويل “الذئب المجهول” إلى “الذئب المعروف مسبقاً”.[47] ولم تلقَ  أجهزة الاستخبارات العديد من النجاحات في وقف العمليات قبل حدوثها في هبة العمليات الذرية لهذه الأسباب تحديداَ، لأنّها بالمجمل عمليات لم تتطلب تنسيقاً عالياً قبل حدوثها، لأنّها نبعت في العديد من الأحيان من فئات اجتماعية لا تخضع لرقابة خاصّة، وأنّها استخدمت فضاءات الاحتكاك والأدوات المتاحة للقيام بالفعل المقاوم. 

وعلى مستوىً آخر، ساهمت استعمارية الرقابة بتكثيف عمليات التذرير الاجتماعي، بمنطقٍ غير منفصل عن منطق “المخبر”كونها حاضرةً بشكل واسع في غالبية اللقاءات الاجتماعية. لقد أصبح الهاتف المحمول مثلاً حاجة اجتماعية وآلةً يستخدمها الغالبية العظمى من السكان. وفي تقرير إحصائي لمجلة ديجيتال، يقدّر عدد مستخدمي الهواتف المحمولة في فلسطين ب4.35 مليون ويشكل هذا الرقم حوالي 85٪ من مجموع السكان في الضفة الغربية وغزة. هذه الشبكة الواسعة من الهواتف المحمولة بما تحمله من ميكروفونات وكاميرات وما تصدره من بيانات تساهم في عملية الرقابة الاجتماعية الموسَّعة والتي تستطيع توثيق وتسجيل الغالبية العظمى من أشكال التواصل البشري. 

كما يشير العديد من الأسرى للمعضلة الكامنة في استخدام الهاتف، فمن جهة كل أشكال التنظيم تحتاج إلى عمليات تواصل، ولكن هذا التواصل بحدّ ذاته هو “قدم أخيل” والذي يؤدي في العديد من الأحيان إلى الاعتقال وأحياناً لعمليات الاغتيال. هذا التوتر ما بين الفعالية التنظيمية والتواصل هي إحدى أهم مكامن التوتر في البنى التنظيمية الفلسطينية التي حاولت ابتداع طرق للفصل بين الرسالة والمرسل بما فيها: النقاط الميتة، التلثّم في اللقاءات، أو الحديث من خلال جدار أو حاجب وغيرها من الممارسات التي تسعى لحماية المرسِل من المرسَل اليه، وبالتالي حمايتهم معاً. فدخول الهاتف وأشكال الرقابة الحديثة يلقي على عاتق التنظيمات الاجتماعية والسياسية تحدياً واسعاً، فمن جهة يساهم هذا الفضاء الافتراضي في خلق أنماط من التواصل الجديدة ولكنّه من جهة أخرى وسيلة لتواصل رقمي يخضع لعمليات الأرشفة. 

يساهم هذان الشبحان في بناء جدران من اللا-ثقة في العمل السياسي الفلسطيني ويخضعان الفرد الفلسطيني لشعور عارم بأنَّ أسراره الحميمية وعلاقاته المتشعبة كلها محفوظة في فضاء رقابي معقد، تتضمن حركة جسده، وأفكاره الخاصة التي يشاركها على المنصات المتعددة. تساهم هذه السلطة الرقابية ببناء الذات الفلسطينية وتعثّر جهود التنظيم الاجتماعي والسياسي، وتؤدي إلى توحيد الجهود في تكتلات اجتماعية هرمية تؤدي إلى مشاعية سياسية متشعبة تشبه من حيث بنيتها الجذمور الديلوزي. بمعنى آخر، نجد أمام عمليات التذرير الاجتماعي السعيّ الجمعي للإبقاء على ذات اجتماعية تحارب التذرير وتسعى إلى إيجاد الحلول لمعضلات الثقة المتآكلة من خلال التشعب والحفر الأفقي بدلاً من البناء العمودي. 

وهذا المشاع مبنى على العديد من الروافد أهمها: ضرورة وجود العنف المضادّ في سياق عنيف وإحلالي، ودور الذاكرة الاجتماعية في إعلاء نماذج البطولة وإعادة إنتاجها في الزمن الحاضر، ودور الصورة وحركة الصورة التي تعلو على الجدران الفعلية والافتراضية في تشكيل “فضاء” خارج الذات ومتصلٍ بها بالوقت نفسه، ومساهم في خلق أرض مشاعية خصبة لإمكانية تحقق الفعل. يمكننا هنا التركيز على هذا الفضاء الافتراضي كموقع حقيقي ولكن غير محققّ، أو إلى تحققه كشيء مُحاط بصور ضبابية افتراضية.[48] يقترح ديلوز بهذه المفهمة الضبابية للافتراضي بأنَّ أيَّ تحقق أو أيَّ شيء فعلي لا يمكن عزله عن واقع غير-فردانيّ أو فردي، أي أنَّ هناك فضاء ما قبل فردي منفصل وبالوقت ذاته متفاعل مع ما يُمكن الاطلاق عليه مسمّى “الواقعي”. بالأساس، ما نسعى إليه هنا تحديداً، هو رؤية كيف يمكن لما هو افتراضي، لهذا الفضاء الما-قبل فردي أن يكون الأرضية التي تتأسس عليها الأفكار والأشياء والأحداث؟

فكما أنَّ نظام الرقابة هو نظام تمثيلي يحمل دلالات معينة لمن يسعى أن يحوّل الرقابة لمنظومة سيطرة، فإنَّ هذا الفضاء الافتراضي من الصور والخيال والذاكرة والكتابة هو أيضاَ فضاء تمثيلي واقعي يحمل دلالات لمن يملك إرادة تحويل المقاومة إلى فعل قابل للتحقق في الواقع. فهناك علاقة حميمية تجمع ما بين الخيال، والمنظومة الرمزية التي تغذّي الخيال، وما بين الفعل السياسي نفسه. هذا الفضاء السياسي المشاعي هو انعكاس لعمليات التذرير ومحاولة تجاوزه أيضاً، ولكنه كما يخلق فاعلين داخله يخلق أيضاً مجتمعاً فرجوياً بعلاقته مع الفعل المقاوم، ويخلق مجتمعاً ينظر إلى الفعل كمشهد خارجي، ولكنه لا يقوم بالضرورة بعملية تذويب لهذا المشهد في عملية صياغة فعاليته الجماعية. فالفرجوية تنبع من التعقيد الاجتماعي والتقسيمات الزمنية الحياتية التي تجعل كل من مشهد المقاومة ومشهد استمرار الحياة والاستقطاب بينهما حالةً دائمةً تعيد إنتاج نفسها. فحتّى في الهبّات الكبرى التي سطّرتها القدس والداخل والضفة بما فيها هبّة رمضان في عام ٢٠٢١، كان الفعل الجمعي المبنى على الكتلة يخرج ولكن سرعان ما يتلاشى خلال أسابيع، ليس فقط لأنَّ التنظيم السياسي يغيب عنه، ولكن أيضاً لأنَّ الحياة الاجتماعية نفسها تتضمن طبقات من التنظيم المرتبط بالسوق والمهن والوظائف والعمل والبيروقراطيات المختلفة.

محاولات مكافحة الفانتازيا: من اقتلاع الجذور لكسر الامواج

كانت أولى الردود الصهيونية لهبّة العمليات الذرّية ملتبسة فهي نبعت من حيث لم تتوقع المنظومة الأمنية وكشفت موقعاً هاماً في ضعف منظومتها الرقابية وتعويلها على أشكال السيطرة غير-المباشرة من خلال العلاقة مع السلطة الفلسطينية. فكيف تبني استراتيجية مواجهة مع عدو يمكن أن يظهر في أيّ لحظة ودون أن يترك أثراً وعلامات مسبقة تشير إلى إمكانية قيامه بالفعل.[49] وما هو جلي أنَّ هبّة العمليات الذرية أو “الذئاب المنفردة” كما تسمّيها مراكز الأبحاث الصهيونية أظهرت الهوّة بين مجموع الأدوات التي تمتلكها البيروقراطية الاستعمارية وما بين ظاهرة جديدة تتجاوز العديد من تلك الأدوات. هذا التخبط  أعادَ سؤال “ما العمل؟” في أروقة الأجهزة الأمنية إلى الواجهة بما فيه أيضاً سؤال: كيف نكشف “الذئب المنفرد” ونحوّل شبحه إلى معطىً نستطيع معالجته؟ وما الآليات الممكنة ضمن الأدوات المتاحة لبناء استراتيجية تسعى إلى اقتلاع جذور الفعل نفسه؟ أي سلب الفلسطيني فانتازيا الفاعلية في وجه الآلة الاستعمارية، وسلبه أيضاً رغبته بالفعل.[50]

وقد تطرّقنا إلى بعض التدخلات الهندسية التي حاولت المنظومة استدخالها في محاولة قطع صفرية الفعل الزمنية، وأخرى حاولت رفع منسوب “الردع” من خلال رفع منسوب العقاب اللاحق للفعل. بهذا المعنى كانت غالبية التدخلات في حيّز سلب الفعل فعاليته في لحظة ظهوره خاصّة وأنّ الفعل اتّخذ شكلاً روتينياً مستهدفاً المواقع ذاتها، وبما أمكن بناء ما يمكن تسميته ب “حاجز دخول” إنْ صحَّ التعبير بحيث يكون هناك محاولات رفع منسوب الألم اللاحق لأيّ فعل، بحيث تكون هذه الإجراءات العقابية تنقيحاً للعدد الذي يبدي استعداداً للقيام بتنفيذ هكذا عمليات. 

بالطبع لا تخلو  هذه الأدوات التأديبية من بعد عقابي  انتقامي  لا يرتبط بأيّ حال من الأحوال بأيّ نظرية أمنية نفعية حول قتل الفعل أو بناء الردع. وإذن فهناك ثلاثة عناصر أساسية: أولا، محاولات استباق (رقابة على المحيط المباشر للمنفذين، وعمل المخابرات المعتاد كالرقابة على خطوط الاتصال مع التنظيمات وتجار الأسلحة وغيرها)، ثانيا، محاولات نزع فاعلية الفعل من خلال تدخلات فضائية ومعمارية، وثالثا، منظومات عقابية لاحقة لزيادة ثمن القيام بأي فعل، وبالتالي بناء الردع أو فلترة عدد المنفذين المحتملين. 

كنا قد تطرقنا إلى أنَّ التدخلات في الفضاء لا تعني عدم وجود مجموعة من التدخلات الأخرى التي سعت المنظومة الأمنية لاستحداثها، ومنها: أولاًـ رفع مستوى الضخ ّالمالي للسلطة الفلسطينية في العام 2015-2016 وللمجتمع المدني الفلسطيني العامل في القدس وغيرها من المناطق بحيث شهد الدعم الخارجي ولمدة عام ارتفاعاً واضحاً. ثانياً، إنّ محاولة استحداث الأزمات السياسية في بنية السلطة من خلال ربط استمرار الضخّ المالي بوقف المستحقات المالية لعوائل الشهداء والأسرى فيه إعادة تأكيد على هشاشة الوظيفة وراتبها ضمن دورة أزمات تساهم في خلق الشعور باللا-يقين ما يساهم في خلق تماهٍ  وتماثل أعلى بين البيروقراطي والطبقة الإدارية للبيروقراطية، كما أنها تمنح السلطة الفلسطينية معركة يمكن لها أن تميط فيها أمد التعاون الأمني والاقتصادي مع العدو من خلالها.  ثالثاً، يتم بناء استراتيجية للتدخل في الحيّز الافتراضي الفلسطيني من خلال عسكرة هذا الحيز إمّا من خلال توسعة سياسات الاعتقال لمن يشاركون خواطرَ وصوراً وأفكاراً اعتبرتها المنظومة الأمنية “تحريضية”، أو من خلال بناء شبكة وصفحات علنيّة وأخرى مموّهة تحتكّ بشكل مباشر مع المحتوى الفلسطيني، وتحاول اختراق هذا المحتوى من خلال بناء استراتيجيات خطابية متعددة، بما فيها التشكيك في السرديات الوطنية للفعل ومحاولات بناء معجم نفسي يربط الفعل بمنطلقات شخصية ذاتية لا تمتلك علاقة مباشرة مع منظومات العنف المولَّد للعنف المضاد. وقد يكون الشعاران الأكثر أهميةً والتي رفعتهما تلك الصفحات، هما: “بدنا نعيش” وبدنا ولادنا”.[51] هذا بالإضافة إلى بناء علاقة أوثق مع صفحات التواصل الاجتماعية تلك، وإخضاع المحتوى لرقابة عالية لتصبح فلسطين مختبراً لشركات كفيسبوك وتويتر وغيرهما وخاضعة لعمليات الرقابة الخطابية التي وظفتها الشركات تلك في العديد من الدول والفضاءات السياسية الأخرى خاصّة على مستوى تقنين الخطاب السياسي المسموح فيه في هذا الفضاء.[52] 

بالفعل شكّلت أدوات التواصل الاجتماعي عنواناً عريضاً ومهماً، وعدواً يمكن للأجهزة الأمنية الإسرائيلية توجيه سهامِها نحوه في ظلّ عدم وجود عدوها المنظم المعتاد. فلم تسعفها شبكات العمالة ولا تعاون الأجهزة الأمنية الفلسطينية في اجتراح أدوات لمكافحة الهبّة أو إيجاد عنوان واضح يمكن توجيه سهامها تجاهه. لذلك كان لهذا المجال حصّة كبيرة من أدوات التدخل المستحدثة في مكافحة الفانتازيا/الهبّة بما فيها شعور تلك الأجهزة بأنَّ عدم تواجدها في الحيز الافتراضي الفلسطيني يحرر ذلك الفضاء من تأثيرها. وعلى عكس افتراض هليل كوهين في تحليله الخطابي لصفحات المخابرات الإسرائيلية المستحدثة، فليس الهدف من تلك الصفحات “كسب عقول وأفئدة” الفلسطينيين، بل هي امتداد لسياسات “تحسيس الوجود”، بما فيها المحتوى السياسي الضحل لهذه السياسات والمتواجد في كافّة الفضاءات التي يمارس فيها الفلسطيني حياته اليومية، بما فيها الفضاء الافتراضي المتمثل بمواقع التواصل الاجتماعي.[53] يوضح هليل كوهين المركبات المختلفة لعمليات التأثير النفسي (عمليات التأثير النفسي أو الحرب النفسية) التي استحدثها الاحتلال ضمن مصفوفة من الأدوات العاملة في هذا المجال والتي تتضمن: المتحدث الرسمي باللغة العربية باسم جيش الاحتلال، وصفحات الإدارة المدنية (الحاكم العسكري)، وصفحات جهاز المخابرات وغيرها من الصفحات التي قد تمتلك عنصراً واضحاً يشير إلى من يُديرها، وبالطبع هي صفحات خفيّة لا تشير إلى من يُديرها.[54] وبالطبع لا تشكل هذه الصفحات ورسائلها السياسية انفصالاً عن الهاسبرا الصهيونية منذ نشأة [55]الحركة الصهيونية، بل هي امتداد طبيعي  لها بما في ذلك حضورها في وسائط مختلفة-الجرائد والستالايت والبيانات ووسائل التواصل الاجتماعي. وبالرغم من أنّ كوهين في مقاله يرتكز أساساً على محاولات نقاش محتوى الهاسبرا بما فيه الخطاب السياسي الكامن فيه إلا أنّه لا يتعاطى بشكل كافٍ  مع كون هذه الصفحات بالأساس تعبيراً عن فشلٍ أولي في اجتراح أدوات تمكّن من مكافحة هبّة العمليات الذرية، ولكن الأهم من ذلك أنّها لا تزيد عن عملية إظهار “الوجود” العسكري لتذكير الفلسطيني أنَّ هذا الفضاء ليس فضاءاً حرّاً، بل تذكيره بما يمكن أن نطلق عليه سهولة الإتاحة في التواصل مع ضباط المنطقة. أي أنّها بطريقة أخرى موقع  هام  لموضعة الخيانة وشبحها في حيز الافتراضي الفلسطيني. هذا بالإضافة إلى بناء مجموعة من التدخلات الخطابية التي هدفت إلى تفكيك السرديات الوطنية التي فسرت وعلّلت وساهمت في إضفاء شرعية سياسية على الفعل المقاوم الذرّي والتي تمظهرت في بناء تواجد “إسرائيلي” معسكَر على صفحات التواصل الاجتماعي، ومن ثم تعزيز التوجهات الذريّة الاقتصادية التي باتت تشكل عنواناً مهماً في عمليات السيطرة من خلال فتح أبواب “الرزقة” أو العمل في الداخل المحتل من خلال بناء منظومات “السلطة الحيوية” (Bio-Power) ومن ثم توظيف تلك السلطة في حملات محو “المنع الأمني”.[56] فما تمثله الشريحة “الممنوعة أمنياً” هو كونها الشريحة التي تمتلك القابلية الأعلى لبناء تكتلات اجتماعية تنظيمية تمتلك حوافز وخبرات إعادة بناء التنظيم الثوري، على الأقل بحسب التصنيف الأمني «الإسرائيلي». فهي تتضمن غالبية الأسرى المحرَّرين، والعديد من أقارب وأصدقاء المناضلين والشهداء، كما أنّها تضم العديد من المُحزّبين في الفصائل الفلسطينية المختلفة ممن لم يُعتقل سابقاً، وقطاعات عمرية واجتماعية تمتلك قابلية المساهمة في التنظيم. وبما أنَّها الشريحة الأكثر قابلية ًعلى بناء التنظيم، ففتح “باب الرزقة” وإعطاء تلك الشريحة فرصة “لتنظيف السجل الأمني” وما يعنيه ذلك من إمكانيات العمل والتحصيل المادي، فإنَّ سياسة رفع المنع الأمني أتت لبناء رادع إضافي أمام تلك الشريحة وايهامها بإمكانية تحسين ظروفها المادية. وبالتالي العمل على خلق ما يكفي من حوافز طاردة لانضمام هذه الشريحة للهبّة أو وضع ثقلها في بناء التنظيمات. 

كما عملت المنظومة الأمنية على استخدام مكثَّف للعنف في عمليات قتل منفّذي العمليات والتنكيل بهم واعتقال جثثهم وصولاً إلى هدم منازل المنفذين أو منازل عائلاتهم، أي توظيف سلطة الحياة والموت (Necropolitics) كما يعلّلها أشيل مبمبي، بما فيها سلطة الاعتقال ما بعد الموت بهدف منع الجنازات كحدث جماهيري جامع واستفتاء شعبي  يرسم خطوط المواجهة خاصّة في القدس.[57] وكما يشير خالد عودة الله يشكّل وضع الجثث في الثلاجات وبقائها في حرارة منخفضة جداً وفي وضعيات مختلفة شكلاً من أشكال التنكيل لجسد الشهيد، وكانتقام حداثي ليبرالي من خلال وضع جسده في ثلاجات الموتى لفترات طويلة وفي درجات حرارة تترك الجسد بحالة متيبسة.[58]  

ما تشير إليه مجموع هذه السياسات أولاً وقبل كل شيء هو هجانة النظام العقابي في السياق الصهيوني ومرونته العالية، و يشير أيضاً إلى البنية التحتية الهندسية والاجتماعية والسياسية التي تمكّن من استحداث أدوات مختلفة، بمعنى وجود هيكل قابل للتعديل والبناء الهجين عليه ضمن الظروف والتطورات على الأرض. ولكن هذه التدخلات أيضاً حاولت على عكس ادّعاء بعض أفراد المنظومة العسكرية الصهيونية ليس إلى اقتلاع الجذور فحسب بل وإلى منع عملية التشجير، أي إلى منع تحوّل ظاهرة العمليات الذريّة إلى ظاهرة تنظيمية قادرة على استحداث أدوات أكثر نجاعة وتأثيراً، لأنَّ نشأة هكذا تنظيمات تشكل خطراً على السلطة وعلى الوضع القائم في الضفة الغربية بما فيها الهدوء النسبي التي تشهده منذ الانتفاضة الثانية.

خاتمة

ما يهمّنا هنا هو أنّ سياسات مكافحة التمرد لم تكن ناجعةً بل أحياناً ما أدّت إلى عكس منطق السياسات، أي محاولات منع حدوث الحدث المقاوم. كما وشكّلت تلك التدخلات الاستعمارية حافزاً لتشكل تكتلات اجتماعية مقاومة. ففي هبّة الأسباط مثلاً والتي ضمّت شرائح اجتماعية مقدسية عريضة كانت محاولة وضع البوابات الحديديّة محاولةً لحماية أفراد الشرطة القابعين في منطقة الحرم الشريف على إثر عملية أبناء الجبّارين التي أودَت بحياة شرطيين «إسرائيليين». وقد كان لهذا التدخل المعماري الأمني تبعات وخيمة إذ بدلاً من أن تحمي البواباتُ الشرطةَ، أصبحت الشرطةُ تحمي البواباتِ الحديدية، كما أشار إلى ذلك الباحث خالد عودة الله. وما تقوله لنا هذه الحادثة هو إنَّ العديد من التدخلات المستحدثَة في الأنظمة الأمنية هي بالفعل أدوات تخلق توترها الخاصّ وتؤدي في العديد من الأحيان إلى عواقب غير محسومة، وبالتالي تؤدي إلى تحفيز الكتلة المنتفضة التي حاولت سياسات مكافحة الهبة مكافحتها. 

يمكن لنا في هذا الباب رصد العديد من التدخلات والعديد من القضايا الهامة بما فيها سياسة احتجاز الجثامين، والكيفية التي قاوم فيها الفلسطيني هذا الاحتجاز خاصّة في مواقع كالخليل والولجة، ما أدّى إلى تسليمها.[59] يمكن أيضاً التوغل أكثر في البحث حول سياسات التحفيز (الجزرة) بما فيها المدى الذي كانت فيه حملات رفع المنع الأمني ناجعة. ولكن ما يهمنا التركيز عليه هو التالي؛ فمنذ العام 2012 وحديّة العنف الفلسطيني الموجَّه نحو الاستعمار تزداد بعد أن وصل مشروع أوسلو إلى نهايته خاصّة في ظل فشله في بناء خيالٍ يحاكي مستقبلاً مقبولاً للفلسطيني. وبالفعل، هناك أكثر من سبع أحداث مفصلية بما فيها خمس هبّات وثلاثة حروب – الأسباط، وباب حطة، والعمليات الذرية، وهبة رمضان عام 2021 وهبة أبو خضير عام 2014 وحرب توحيد الساحات 2022- والتي تشير دون لبس إلى ازدياد شراسة المواجهة في الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني المحتل.  وقد تكمن المفارقة في أنَّ العديد من السياسات التي حاول العدو رسمها بما فيها محاولات ادّعاء “اقتلاع الجذور”، قد ساهمت في إشعال تلك الانتفاضات بدلاً من إخمادها. 

ومن الواضح أيضاً أنَّه في الآونة الأخيرة بدأت تتشكل معالم حالة منظمة ولو بشكل جنيني في مناطق شمال الضفة الغربية وغيرها كما أظهرت عملية عين بوبين مشيرةً إلى انتقالٍ في نمط الفعل الفلسطيني وطبيعته وانتشاره، إلى اتخاذه شكلاً مسلحاً منظماً مرتبطاً بتنظيمات سياسية يسارية ووطنية مختلفة، ومنظماً ضمن مجموعات وخلايا صغيرة. وقد أدّت تلك العمليات المنظَّمة إلى معجم تدخليّ جديد أعاد صياغة المواجهة في الضفة بما فيها استهداف مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني ومحاولة تقليص المساحة المتاحة للعمل المدني. وقد ساهمت التدخلات الهندسية في الطرق الالتفافية إلى عمليات البحث عن أدوات جديدة ذات قدرات أوسع، وبالتالي وبالرغم من عدم ارتباط هذه الظاهرة فقط بالعوائق الموضوعة أمام العمل الذرّي، إلا أنها تشير إلى أنّه وبدلاً من أن يقتلع الاحتلال الجذورَ، فإنّ تدخلاته أيضاً ساهمت في بناء التربة الأساس للعديد من الأشكال التنظيمية المستجدّة. ما يهمنا هنا هو أنَّ طرق حفر الفلسطيني لم تعد فقط تهتم بعمليات التشجير والتي تحيل إلى البنية الهرمية السياسية والعلاقة بين القاعدة والقيادة، بل على العكس من ذلك، فإنّ طرق الحفر تأخذ شكلاً أفقياً تناور خارج منطق الاستعمار وبيروقراطيته وتجد منفذها إلى السطح ضمن مشاعية فاعلة تهدف بالحدّ الأدنى – خاصة في ديستوبيا الخيانة- على أن تحافظ على وتيرة منخفضة من المواجهة والردع المتبادل. 

وجدت المقاومة موقعاَ جديداَ للتشجير في شمال الضفة الغربية وخاصة في مناطقَ ذاتِ فضاءٍ ديمغرافي ومعماري مكتظّ. وقد اتخذت المقاومة أطوارّ فعلٍ تستحضر فيها أشكالاً بؤرية جديدة من خلال السيطرة على المخيمات، كجنين وبلاطة وعسكر، ومناطق حضرية مكتظة كالبلدة القديمة في نابلس. فبعد تجربة الجبهة الشعبية التي ارتبطت بعمليات إطلاق النار وفي تفجير العبوات المصنعة، بدأت حركات سياسية أخرى العمل أيضاً على إعادة بناء حضورها التنظيمي العسكري. وقد كانت أهم تلك المحاولات محاولة الجهاد الإسلامي الالتحامَ مع محاولات شباّن أعادت المقاومة إلى فضاءاتٍ غابت عنها في شمال الضفة الغربية، وتعزيزها من خلال رفدها بإمكانيات مادية وعسكرية وتدريبية.  لهذا ما نراه اليوم من تطوّر مطّرد لكتائب عسكرية ذات تدريب محدود وإدخال أسلحة جديدة يشير إلى بداية نشأة بؤرٍ صغيرة خارج سيطرة السلطة والاحتلال، بؤرٍ دفاعيةٍ تسعى إلى بناء بيئة تغذي الفعل بابتكارات وصناعات جديدة. ومن غير المستغرب أنّه وبدل اقتلاع الأمواج، أصبح الحديث الصهيوني عن كسر الأمواج بعد أن فشلت في اقتلاع الجذور، وبعد أن نجح الجذمور في أن يجدَ منفذاً للخروج من الباطن إلى الظاهر بأطوارَ وطرقٍ مختلفة. 

حاشية: الفعل المقاوم والبطولة

تنتمي الهبّات والانتفاضات والثورات إلى التاريخ ولكن في الوقتِ نفسه، تشكّلُ الهبات والانتفاضات محاولةً للتمرد على منطق غائية التاريخ. هذه المحاولة للإفلات والانفلات من ثقل التاريخ تأتي في سياق فلسطيني مُتخمٍ بسرديات الهزيمة والعجز، بل ويأتي في ظل منظور أيديولوجي لنخبة حاكمة حوّلت العجز إلى صيغة مُطلقة وحوّلت العدو إلى سلطة/قوة مطلقة. أيْ تعزيز العجز المُطلق في مواجهة سلطة/قوة مُطلقة. أتت الهبة لتؤكدَ على نسبية العجز وعلى نسبية تقنيات السيطرة وقدرتها على بسط السيطرة وتطويع المجتمع الفلسطيني. بهذا المعنى قرعت الهبة أبواب الزمن القائم ودحضت العجز كمقولة سياسية يتم تقديمها منمقةً بأنماط وأطوار متعددة.  

تتجلى بوضوح إذن حقيقة واحدة وهي أنَّ التعاون مع المستعِمر، والتطويع الناعم المرتبط بالسوق، والتضخّم في البيروقراطية الفلسطينية القائمة على شبكات الريع، والتغلغل التقني في الحياة اليومية وما يعنيه من قدرات غير معهودة في تقنيات المراقبة والقتل والاعتقال، لم تستطع تركيع أفراد (وحديثاً جماعات منظمة) وجدوا أجوبتهم في مقولة قديمة ما زالت تنبت في الحاضر، وهي مقولة الرفض. 

يُمكن القول إنّه لا يوجد قوة أو سلطة قادرة على جعل الفعل المقاوم مستحيلاً. كما لا يُمكن تفسير هذا التمرد بشكل وافٍ، ولا يُمكن، بشكل كامل، تفسير خيارات أفراد أو مجموعات أو حتى شعوب تعي أنَّ الموت نصيبها إذا ما قالت “لا” وتصرّ على قوله فعلاً في الحاضر. انهال مئات من “الشهداء” على الشوارع الالتفافية وفي مواقع الاحتكاك وعلى أبواب القدس وطرقها لتقول “لا”، فاتحةَ الإمكانيات ووانفتاحَ التاريخ على بدائله. هذا هو سؤال الحاضر المستمر في سياقنا الفلسطيني ولربما العربي الأوسع أيضاً، إذ كيف يُمكن لنا التفكير بالحرية والثورة والتغيير في سياق أطروحة السلطة الفلسطينية وتيارات التعاون إجمالاً في العالم العربي والتي ترى عجزاً مطلقاً في مواجهة سلطة/قوة مُطلقة؟ و ترى عجزها مدخلاً لتبرير تعاونها وتسويغه وتراه جسراً نحو الحفاظ على مكتسبات اقتصادية ضيّقة مقدّمة لنا النجاة “كأيديولوجيا”؟ أو لربما في سياقنا السؤال هو: كيف نمنع الانحدار نحو العدمية كموقف اجتماعي وشكلٍ من أشكال التعاطي مع المستقبل؟ أي في خلق رؤية ديستوبية من المستقبل نقبل بها بما تُحيل إليه من سردية التهاوي والتفكك، وتقبل أيضاً بأنَّ القادم أسوأ.

تشكل هبّة المتاح والعمليات الذرية طوراً جديداً من البطولة، أي البطل في علاقته التواصلية مع المجتمع، وليس كنتاج بنية سياسية منظمة تؤطّر الفعل وترفِده بتمويل وتدريب وتوجيه وتثقيف. لذا، نجد البطل الجديد مهموماً بالدفاع عن فكرة البطولة نفسها وعن قدرتنا على توليد البطل، كما يقوم باسل الأعرج بذلك من خلال استحضار مجموعة متنوعة من الأمثلة أو كما قدم لنا بدمائه. 

بهذا المعنى تحديداً فإنّ الهبّة هي هبّة البدايات، وهي نزعة الإحالة نحو البطولة مجردةً من ملحقاتها السياسية ومتشابكة معها في آن، فهي ترتبط برمزية وسردية المجاهد والشهيد والفدائي والاستشهادي، ولكنّها لا تقترن بهم فقط.  تستحضر الهبّة أطواراً متعددة من التضحية الفاعلة التي أنتجها التحام الفلسطيني مع البنية الاستعمارية على مدى أكثر من قرن، ولكنَّها تتجاوز تلك النماذج من خلال العودة إلى أنطولوجيا التضحية، أي إلى البطولة بلحظةِ ولادتها في مجابهة البنية الاستعمارية. لهذا لا تقدّم لنا الهبّة مشروعاً مكتملاً، فهي تتمظهر كصفعة تحفر أثرها في مؤسسة أمنية تكابرت على إثر أفول الانتفاضة الثانية، وتصفية تيار المقاومة في الضفة الغربية، وصفعة تأملية تطلقها صوب المجتمع المُتماهي إجمالاً مع عمليات الإخضاع المتعددة، طارحةً لنا التأمل والتفكّر والحوار مدخلاً نحو إعادة صياغة البوصلة في زمن تبعثرها، بما فيها توجيه نقد لنخب حاكمة امتهنت التعاون مع العدو.  لهذا ما زلنا قادرين على خلق سرديات البطولة وما زال البطل يعود بهيئة جديدة، طارحاً نقداً “اجتماعياً داخلياً”، فهو نقد تتخلله تضحية نهائية وبطولية، وليس نقداً متعالياً أو متكبراً، وبالتالي ليس منفصلاً أو يحيل إلى الانفصال أو الهجران عن المجتمع. 

بهذا الصدد، لطالما شكلت أحاديث وهواجس وأيدولوجيات الشهداء محاولة لصياغة ادّعاء ومحاججة سياسية في فضاء فلسطين المكتظ بالمشاريع المتنافسة بالتصورات المختلفة حول مستقبلية فلسطين. في الهبة شهداء كُثر وسرديات وقصص متعددة لا يمكن اختزالها بمبنىً عام واحد أو ادّعاء شامل. هذه التعددية هي بحدّ ذاتها ما يجعل من الهبة حدثاً جمعياً، وما يحيل إلى “المعقد” وغير القابل للتفسير كلياً، وإلى سحر الفعل ومآلاته، وإلى أهمية عدم انتزاع السياسي منه. ويمكن ببساطة القول بضرورة أن نمنح الشهيد آذاناً صاغية وقادرة على التأمل فيما تعنيه هذه البطولة، وبما يمثّله الحدث من عوارض لأزمات سياسية واجتماعية عميقة مرّ ويمر بها المجتمع الفلسطيني. باختصار، قدّمت لنا الهبة نموذجاً حميمياً في التضحية يُعلي من مسافة الصفر في أزمنة القتل عن بُعد، واتّخذت من المتاح وسيطاً نحو البطولة ونحو تأصيل الفعل ورفده بمعاني التضحية مشكلةً بذلك نقداً اجتماعياً وسياسياً داخلياً ساهم في بناء التكتلات الكبرى التي شاهدناها في الأعوام الثمانية الماضية.  إنّها تكتلاتٌ أصبحت اليوم كتائبَ مصغرة سيطرت على بعض البؤر في الضفة الغربية، وبالتأكيد للحكاية تتمّة.