يسلّط الباحث قسّام معدي في هذا المقال الضوء على تجربتين مميّزتين في البناء الاجتماعي التحرّري، وهما ثورة 1936 في كاتالونيا والانتفاضة الأولى عام 1987، ويقتفي سنين البناء الصامت للبنى الاجتماعية.

“نحن لا يخيفنا الركام، لأننا نحمل عالماً جديداً داخلنا.

وهذا العالم، يكبر في هذه اللحظة …”

“بوينافينتورا دورّوتي”، قائد الجيش الشعبي في ثورة 1936 في كاتالونيا

مقدّمة

عندما نفكر في الانتفاضة الأولى، يسيطر على مُخيّلتنا الحنين إلى تفاصيل الحدث نفسه: الحجارة تتطاير لأوّل مرةٍ في القرية، المتاريس ترتفع بأيادي الأهالي لتسدّ الشوارع أمام سيارات الاحتلال، الكتابة على الجدران، المسيرات الحاشدة، البيانات تتناقل من يدٍ إلى يدٍ، الأعلام تُرفرِفُ على أسلاك الكهرباء … قد يستذكر البعض ممّن عاشوا تلك الأيام اللحظاتِ الحاسمة وكثافة تفاصيل حدوث كلّ شيءٍ:

 

كيف انتظمت اللجنة الشعبية في الحي، كيف انخرط الجميع، من كلّ الأعمار، فجأةً، في أعمال الانتفاضة، من التطوُّع لتنظيف الشارع إلى ملء زجاجات المولوتوف، وكيف ظهرت، هكذا، من اللاشيء، فِرَقُ الشباب المتنقلين عبر البساتين، كي يوصِلوا الخبز والدواء إلى البيوت، في ليالي منع التجوال الطويلة. الحدث نفسُه يتحوّل إلى قصّةٍ مُعجِزةٍ، وكأنه خرج من تلافيف الضباب ذات كانونٍ، حيث لم يتوقّعه، وحيث لم يحسب حسابه أحد.

لكنّ الحقيقة غير ذلك، ولئنّ أكبر مقتلٍ يُمكن أن تُصاب به أيّة ثورةٍ هو أن تتحوّل إلى ذكرى مُتحجّرةٍ عن حدث، تُخرَجُ من الخزانة لأداء طقسٍ فيتيشيٍّ سنويٍّ، ثم تُعاد إلى النسيان. فحدث الانتفاضة، ومهما علا شأنه، لم يكن وليد لحظة غضبٍ، ولا حتى تراكم غضبٍ شعبيٍّ على مرّ سنين الاحتلال والنكبة السابقة له فحسب. بل إنّ الانتفاضة كانت أشبه برغيفٍ طازجٍ، لم يخرُج من الفرن إلا بعد سنين في جوفه، يستوي على نارٍ هادئةٍ. سنينٌ من التكوين الصامت لبنىً اجتماعيةٍ استطاعت أن تحمل انتفاضة شعبٍ لا قيادة له على أرضه، ومُحاصَرٍ من المُستعمِر في كلّ نواحيّ عيشه. بنىً اجتماعيةٌ استطاعت بعد أسابيع من انطلاق نار الانتفاضة في هشيم الأرض المحتلة، أن تتحوّل إلى أسُس إدارةٍ ذاتيةٍ فعّالةٍ، وجماعيةٍ، وقادرةٍ على الاستمرار، لعدّة سنواتٍ، مُحوّلةً الانتفاضة من مُجرّد هبّة غضبٍ، إلى إحدى أغنى التجارب في تاريخ الفلسطينيين الحديث على أرضهم.

التخمير الذي سبق

إنّ العمل التطوُّعي والجماعي الذي بدأ يتطوّر في فلسطين منذ بداية السبعينيات، ساعياً لفتح مجالاتٍ من المشاركة لأكبر عددٍ ممكنٍ من الناس، ومن كافة الفئات والأعمار، في التأثير في حياتهم الجماعية، جعل النسيج الاجتماعيّ جاهزاً للتصدّي لمسائل وطنيةٍ ذات طابعٍ سياسيٍّ. فهذه التشكُّلات الشعبية التي تكوّنت بشكلٍ خاصٍّ حول مبادرات العمل التطوعي، والتي اتخذت شكلاً تنظيمياً واضحاً ابتداءً من عام 1980، كانت فاعلاً أساسياً في عملية التصدّي لمشروع روابط القرى خلال الثمانينيات.

هكذا، وبحلول عام 1987، لم يكُن المجتمع الفلسطيني، في القرية والمخيم والمدينة، مستعداً لخوض مواجهةٍ مفتوحةٍ مع الاحتلال فحسب، بل إنّ نسبةً كبيرةً من أفراده كانوا قد خبروا، ولو لمرةٍ واحدةٍ على الأقل، العمل الجماعي والتطوعي المنظّم ذا الأبعاد السياسية؛ إذ كانت عملية البناء السابق للانتفاضة منجماً من الدروس، بقدر ما هي الانتفاضة نفسها. غير إنّ أول ما ينبغي دراسته في هذه التجربة، كونها هي نفسها ليست وليدة ظروفٍ استثنائيةٍ، ولا هي استثناءٌ تاريخيٌّ، كما يروّج بعض الساعين إلى حبس الانتفاضة في خانة اليوتوبيا. بل إنّ الانتفاضة الفلسطينية وما سبقها يمكن أن تُفهم كحلقةٍ في سلسلةٍ طويلةٍ من تجارب الشعوب في البناء الاجتماعيّ التحرُّري، وتراكم هذه المعرفة عبر الزمن. إنّ فهم هذا البعد التاريخي المتواصل لتجربة البناء الصامت السابق لأيّة تجربةٍ تحرُّريةٍ، يتطلّب أن نُزيح للحظةٍ منظار المحلية وحدود الظروف المباشرة للزمان والمكان، لنرى تاريخ تحرُّر الشعوب كعمليةٍ مستمرةٍ، تبرز فيها حلقاتٌ تذكّر ببعضها.

الثورة الإسبانية ونهوض الطبقة العاملة

قبل ذلك الثامن من كانون الفلسطيني بنصف قرنٍ، وعلى الطرف الآخر من البحر المتوسط، كان شعبٌ آخرُ يسطّر صفحةً ملتهبةً من تاريخه، ما بين الحربين العالميتين وفي خضمّ صعود القوى الفاشية على ركام الحرب العالمية الأولى، وعلى أبواب الثانية. في اللحظة التي كانت فيها الشعوب الخارجة من ركام الامبراطوريات المهزومة مُحمّلةً بثقل أربعة ملايين من القتلى، وفي الوقت الذي كانت فيه أزمة الكساد العظيم تحرق الأرض أمام القوى الشعبوية بخطابها العنصري، لم يكن أحدٌ يتوقع أن يحدث أيّ شيءٍ يستحق الذكر في بلدٍ مثل إسبانيا. غير أنّ ذلك بالضبط هو الذي حصل، كان انتصار القوى التقدّمية في الانتخابات البلدية الإسبانية عام 1931 قد دفع الملك “ألفونسو” الثالث عشر إلى مغادرة البلاد، وكانت الجمهورية الإسبانية الثانية قد أعلنت عن قيامها عام 1933، وكان التوتر الاجتماعيّ في إسبانيا قد وصل أشُدّه، بين قوىً تحرُّريةٍ، على رأسها الحركة العمّالية، تطالب الجمهورية بالذهاب قُدُماً نحو سياسات تحوُّلٍ ثوريٍّ كالإصلاح الزراعي، وقوىً يمينيةٍ تصعّد معارضتها للجمهورية وتحشد قوّتها، من خلال تسليح الأحزاب الفاشية بدعمٍ من رجال الإقطاع ورؤوس الأموال والكنيسة الكاثوليكية الإسبانية.

وفي 17 تموز 1936، أعلن الجنرال “فرانسيسكو فرانكو” عن تمرُّده على حكومة الجمهورية، ودعا الجيش في كلّ مواقعه إلى الانقلاب. تخبّطت الحكومة الجمهورية في ردّة فعلها، فأعلنت استقالتها ثلاث مراتٍ في يومٍ واحدٍ، ورفضت إعطاء السلاح للشعب، الذي وجد نفسه وحيداً أمام القوى الفاشية التي بدأت تسيطر على الأراضي الإسبانية بمرتزقةٍ أتى بهم “فرانكو” من المغرب، [1] وبميليشيات “الكتائب” الفاشية، وبأطنانٍ من العربات العسكرية والدبابات المورّدة من شركة “هنري فورد” الأمريكية. [2]

وفي تلك اللحظات بالذات، في خِضمّ الانهيار الذي اجتاح معنويات الشعب الإسباني المتروك لمصيره، حصل في كاتالونيا ما لم يتوقّعه أحدٌ؛ اجتاح الآلاف من المواطنين في برشلونة مخازن السلاح وأوقفوا انقلاب الجيش قبل أن يتحرّك من معسكراته. وفي ظلّ غياب أيّة حكومةٍ، أضحت المدينة، بعد إفشال الشعب انقلاب الجيش فيها، خارج أيّ سلطةٍ. كانت القوة الأبرز في تنظيم أمور الحياة في برشلونة هي اتحاد النقابات الأكبر حجماً، الاتحاد الوطنيّ للعمال (CNT). كان الاتحاد في تلك اللحظة يضمُّ أكثر من مليون ونصف المليون منتسبٍ، وكان القوة الاجتماعية الأكثر انتشاراً، خاصّةً في برشلونة؛ أهمّ مدينةٍ صناعيةٍ في إسبانيا. بادر العمال المنتسبون للاتحاد للسيطرة على المصانع وتحويلها إلى تعاونياتٍ، في الوقت الذي هرب فيه معظم رجال الأعمال والمدراء من المدينة، فيما انتشرت حركة التحوُّل التعاونية لتشمل صناعات النسيج، والمعدن، والجلود، وشركات النقل والمواصلات، والطاقة، والفنادق، والمطاعم، وحتى المسارح ودور السينما التي باتت تُدار مباشرةً، وبشكلٍ جماعيٍّ، من قبل الفنانين والفنيّين أنفسهم. وبحسب المؤرّخين، فقد تمّ تحويل أكثر من 75 بالمئة من مصانع برشلونة إلى الإدارة الذاتية والتعاونية. أمّا عسكرياً، تقاطر المتطوعون بالآلاف إلى صفوف الميليشيا الشعبية التي أعلن اتحاد العمال عن تشكيلها، والتي خرجت من برشلونة لصدّ الزحف الفاشي في الأرياف الكاتالونية، ونجحت في أيامٍ قليلةٍ في بسط سيطرتها على معظم قرى الإقليم، في طريقها إلى مدينة سرقسطة، لصدّ قوات “فرانكو” هناك. [3]

وفي كلّ قريةٍ مرّوا بها، كان متطوّعو الميليشيا الشعبية يزيلون السياج الفاصل بين الأراضي الزراعية، ويقتحمون مباني البلدية ويحرقون صكوك الملكية، ويرفعون العلم الأحمر والأسود عليها، معلنين السلطة الشعبية في إسبانيا. وبشكلٍ مُفاجئٍ لكلّ التوقعات، فقد تمّ في كلّ مناطق سيطرة الميليشيا الشعبية تشغيل كلّ القوى العاملة، ومواصلة الإنتاج الزراعي والصناعي، دون تسجيل أيّ تراجعٍ في الكمية أو النوعية. كما تمّ تحسين ظروف الحياة لمئات الآلاف من المواطنين، الذين حصل بعضهم لأول مرّةٍ على ثلاث وجباتٍ يوميةٍ. وتمّ افتتاح مدارس نقابيةٍ، حيث لم تكن موجودةً، وانخرط جميع الأطفال في التعليم البديل الذي عمل الاتحاد العمالي على تطويره منذ أكثر من عشرين سنة.

لم يكُن في كاتالونيا، ولا في عاصمتها برشلونة، أيّ جهةٍ مركزيةٍ تقود الثورة. لم يكن هناك زعيمٌ، ولم يكن هناك أيّ حزبٍ أو قوّةٍ سياسيةٍ تدير الأحداث. كان انفجاراً عفوياً جاء كردّة فعلٍ على الانقلاب الفاشي الذي قاده “فرانكو”، ووضع جماهيراً من الإسبان البسطاء أمام مهمّة السيطرة على شؤون حياتهم اليومية وقيادة المقاومة ضدّ الزحف الفاشي. ظاهرةٌ غير معتادةٍ لثورةٍ خارجةٍ عن المعتاد، جذبت الآلاف من المتطوعين من كافة أنحاء العالم للذهاب إلى كاتالونيا ومواكبة الثورة مباشرةً، والانخراط في كافّة أعمالها، لا سيّما القتالية. أحد هؤلاء كان الكاتب البريطانيّ “جورج أورويل”، الذي وصل برشلونة كصحفيٍّ في لحظةٍ كانت فيها الثورة في أوجها، في كانون الأول 1936، وانخرط سريعاً في صفوف المقاتلين، حيث مكث حتى نهاية الحرب الأهلية في 1939. ثلاث سنواتٍ كتب خلالها “أورويل” نصّاً بعنوان “تكريمٌ لكاتالونيا”، تضمّن أحد أندر التوثيقات وأدقّها لمُجريات الثورة، جاء فيه:

    “نظرياً، كانت تسود المساواة المُطلقة، وعملياً، كان الأمر يقترب من ذلك كثيراً. كان عددٌ كبيرٌ من مظاهر الحياة المُعتادة قد توقّف عن الوجود. التقسيم الطبقيّ المعتاد كان قد اختفى، ولم يكُن هناك سوى نحن والفلاحون، ولم يعترف أحدٌ بالآخر سيّداً له (…) في برشلونة، كانت المرة الأولى التي أرى فيها مدينةً تُسيطر فيها الطبقة العاملة. استولى العمّال على كلّ المباني من كلّ الأحجام، وكانوا يُلبسونها أعلاماً حمراء وسوداء. كانت المتاجر والمقاهي كلها قد علقت لافتاتٍ تقول إنّه تمّ تحويلها إلى الملكية الجماعية. حتّى ماسحي الأحذية كانوا قد انتظموا في إداراتٍ جماعيةٍ وقاموا بتلوين صناديقهم بالأحمر والأسود. النادلون وعاملو المتاجر كانوا ينظرون مباشرةً في عينيك ويعاملونك كأندادٍ على قدم المساواة. كانت صيغ المخاطبة الطبقية قد اختفت، ولم يعد أحدٌ يقول “سيد” أو “حضرتك”، بل كان الجميع يدعون بعضهم “رفيق” و”رفيقة”.

كما كان البقشيش ممنوعاً من قبل العاملين أنفسهم، وكانت تجربتي الأولى عملياً هي تلقّي محاضرةٍ من أحد مديري الفنادق لمحاولتي إعطاء بقشيشٍ لفتى يحمل الحقائب. لم تكُن هناك سياراتٌ خاصّةٌ، فقد تمّ تحويلها جميعاً إلى الإدارة الجماعية، وكانت جميع القطارات الخفيفة وسيارات الأجرة والكثير من وسائل النقل الأخرى قد لُوّنت بالأحمر والأسود. كانت الملصقات الثورية منتشرةً في كلّ مكانٍ، كأنّها تشتعل من على الجدران بألوانٍ نظيفةٍ جعلت الإعلانات القليلة المتبقية أشبه ببقايا الوحل. (…) في المظهر الخارجي، كانت هذه المدينة قد اختفت منها الطبقات الغنية عملياً. فباستثناء عددٍ صغيرٍ من النساء والأجانب، لم يكن هناك أحدٌ يرتدي الملابس الأنيقة. عملياً ارتدى الجميع ملابس العُمّال الخشنة، أو نوعاً ما من أصناف الزيّ الموحّد للميليشيات. كلّ هذا كان غريباً، وكان هناك الكثير ممّا لم أفهمه، وفي بعض الجوانب ما لم يعجبني. لكنني أدركتُ على الفور أنّها حالةٌ تستحقّ القتال من أجلها”. [4]

لماذا كاتالونيا؟

لعقودٍ، كانت الكثافة الرومانسية لأحداث ثورة كاتالونيا هي الصورة الغالبة على مؤرّخيها ودارسيها. معظم الروايات التاريخية تبدأ من تمّوز 1936، مع بدء الهبة الشعبية التي أفشلت الانقلاب في برشلونة، كما لو أنّ ذلك الحدث، وما تلته من أحداثٍ، وُلدت من لحظةٍ مُعجزةٍ أثناء مرورها اليتيم في التاريخ فوق سماء كاتالونيا. وعلى الرغم من توفّر المصادر حول عملية البناء الصامت الطويلة التي أوصلت الجماهير الإسبانية إلى تلك اللحظة الفارقة من تاريخ العالم المعاصر، إلا أنّ سنين الديكتاتورية الأربعين الطويلة التي تلت انتصار “فرانكو” حالت دون دراستها من قبل الكثيرين. كما أنّ الحرب العالمية الثانية، وعقود الحرب الباردة التي امتدّت بعدها، حوّلت ثورة كاتالونيا إلى ذكرى سحيقةٍ بعيدةٍ عن اهتمام الكثير من المفكّرين والدارسين. غير أنّ الاهتمام بهذه التجربة عاد في منتصف الثمانينيات، ليزداد في العشرين سنةٍ الأخيرة، ليشمل جذور الثورة في إسبانيا، والبناء الصامت الذي تضمّنته.

أوّل ما يبرز في دراسة البناء الصامت السابق لأيّة حركةٍ تحرُّريةٍ مُنظّمةٍ، هو ابتداؤها من الظروف الحياتية المباشرة للناس، وانطلاقاً من ثقافاتها وإرثها التحرُّري الخاصّ. ففي إسبانيا، كانت النزعة الاستقلالية وأشكال التضامن الجماعيّ متجذّرةً في الأرياف، نتيجة قرونٍ من الكفاح المتواصل ضدّ سطوة الإقطاع والملكية والكنيسة. ولفهم ذلك، لا بدّ من فهم طبيعة تشكّل الطبقة العاملة في إسبانيا، والمرتبط بتشكّل إسبانيا الحديثة نفسها. فغداة خروج العرب من الأندلس، مطلع القرن السادس عشر، كانت ملكية الأراضي قد توزّعت بين رجال الكنيسة والنبلاء الذين خاضوا الحرب ضدّ الحكم العربي الإسلامي، بشكلٍ وضع الأساس المادّي لما ستؤول عليه إسبانيا.

فقد كان الملوك الكاثوليكيون يكافئون النبلاء لقاء خدمتهم في الحرب بإعطائهم الأراضي، وكان معظم هؤلاء يسعى لضمان حصّته من المكافأة سريعاً، خشية ألّا ينجحوا في طرد العرب من كامل الأرض الإسبانية، ولا تبقى أرضٌ لهم. أدّى هذا إلى اقتسام الأراضي التي تمّ طرد العرب منها أولاً، في الشمال، بين ملّاكٍ كثر، ما تولّد عنه ملكياتٍ صغيرةٍ نسبياً، فيما كانت الملكيات في الجنوب أكبر حجماً، نظراً لأنّ عدد النبلاء الذين لم يحصلوا على حصّتهم بعد في المرحلة المتأخّرة من الحرب كان قليلاً. [5] كان رجال الكنيسة ممّن حصلوا على حصّتهم من الأرض من يد الملوك الإسبان في الجنوب أيضاً، قبل أن تتنزع تلك الملكيات منهم عام 1841 على يد الأمير “بالدوميرو دي اسبارتيرو”، ليعطيها للنبلاء أيضاً، في خضمّ التنافس على السلطة بين الدولة والكنيسة التي بدأت تفقد سطوتها منتصف القرن التاسع عشر. [6]

كانت الثورة الصناعية قد وصلت إسبانيا مطلع القرن التاسع عشر وأثارت حماسة الملّاك الصغار في الشمال، فيما لم تحظَ بإعجاب الملّاك الكبار في الجنوب، الذين وجدوا مصدر سلطتهم في ملكياتهم الزراعية الضخمة. هؤلاء الإقطاعيين وجدوا أنفسهم في حلقةٍ مُفرغةٍ من الصراعات المتكرّرة مع الفلاحين، الذين بدأوا يرفضون العمل لهم، ويطالبون بتحسين ظروف معيشتهم بشكل أكثر تكراراً وأشدّ تنظيماً منذ نهاية القرن الثامن عشر، ممّا دفع بالملكة “إيزابيل” الثانية في منتصف القرن التاسع عشر إلى تشكيل قوى الحرس المدنيّ لقمع احتجاجات الفلاحين، وهي جهاز الأمن الرئيسي في إسبانيا إلى اليوم.

دفعت هذه الظروف المعيشة القاسية لأهالي الأرياف إلى التوجّه نحو ممارسة التعاون التشاركي، وتقاسم الموارد، كشكلٍ أوليٍّ للإدارة الذاتية الجماعية في القرى، حتى ترسّخت تلك الممارسات في عاداتهم، وعزّزت لديهم الإحساس بالاستقلالية التي ارتبطت بالشرف لعدّة أجيالٍ، خاصّةً في الأندلس وفالينسيا. [7] كان يحصل هذا فيما كانت برشلونة تتحوّل إلى أهمّ بؤرة للتصنيع في إسبانيا، وأكبر مُولّدٍ للثروة الرأسمالية. تكرّس هذا الواقع مع اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ بقيت إسبانيا على الحياد، ممّا أعطاها ميزةً كمُورّدٍ للبضائع، [8] فتكاثرت المصانع فيها. ومع انتهاء الحرب وإقفال الكثير من المصانع وفصل آلاف العمال، كانت قد تشكلت في كاتالونيا بالذات طبقةٌ عاملةٌ مكوّنةٌ من أبناء الفلّاحين المهاجرين من الأرياف، والذين حملوا معهم نزعة رفض الخضوع للسلطة وعادات التضامن الجماعي المتوارثة.

كان هذا هو الأساس المادّي للثقافة المحلية، الأصلانية، للمادّة الاجتماعية التي ستُبنى عليها بصمتٍ، وخلال عقودٍ طويلةٍ، ركائز الثورة التي خرجت للنور في منتصف العقد الثالث من القرن العشرين.

البدائل العمّالية

شدّد المفكّر والمناضل الفلسطيني حنا ميخائيل على نقد الفكر المادّي التقليدي القائم على كون البُنى الفوقية للمجتمع، أيّ المكونات غير المادّية كالثقافة والفن والدين والسياسة، وخاصةً السياسة، انعكاساً للبُنى التحتية، أيّ الظروف المادّية خاصةً العلاقات الاقتصادية والتقسيمات الاجتماعية الناتجة عنها. فرأى ميخائيل أنّ الأفكار عندما تدخل المجتمع عبر التنظيم الثوري، فإنّها تؤثر أيضاً في بُناه التحتية وكيفية تشكّلها. تقع هذه العملية الجدلية في مركز عملية البناء الاجتماعي. وإن كان “غرامشي” قد ركّز على دور أدوات صناعة الثقافة من موقع السلطة، خاصّةً التعليم، فإنّ الحركة العمالية في إسبانيا ركّزت، منذ نهاية القرن التاسع عشر، على إخراج الثقافة الرسمية  السائدة من حياة مجتمع المنتسبين إليها، من خلال استبدالها بصناعة ثقافةٍ بديلة. كان هذا أحد الأسباب الرئيسية لصدام الحركة العمّالية في إسبانيا، في كلّ ثوراتها، مباشرةً مع الكنيسة الكاثوليكية، التي جعلت من نفسها ركيزةً أساسيةً للنظام السياسي والاقتصادي القائم، من خلال سيطرتها المُطلقة على التعليم آنذاك. ويمكن القول إنّ عملية البناء الصامت في إسبانيا بدأت من خلال تكوين بؤرٍ لحياةٍ اجتماعيةٍ بديلةٍ للطبقة العاملة، توفّر مساحةً لبناء ثقافةٍ بديلة. لكنّ هذه الجهود لم تكُن دائماً منظّمة، وإنّما اعتمدت على مبادراتٍ منفصلة، كان تنظيمها في جسمٍ واحدٍ جزءاً من عملية البناء نفسها.

ففي عام 1868، ونتيجةً لأزمةٍ اقتصاديةٍ حادّةٍ وقعت فيها إسبانيا، بدأ العُمّال في تنظيم أنفسهم في نقاباتٍ مستقلّةٍ على مستوىً محليّ. في الأندلس، تركّز هذا التنظيم في الريف، حيث ظهرت جمعيات التضامن الزراعي المنظّمة، والتي راحت تخوض الإضرابات على مستوىً جغرافيٍّ أوسع من ذي قبل. [9] أمّا في برشلونة، فقد تكاثرت لجان العُمّال بشكلٍ مطّرد، وانتشرت في كافة القطاعات الإنتاجية. كانت الطبقة العاملة غائبةً تماماً عن العملية السياسية، ما حذى بعددٍ من الاشتراكيين الإسبان إلى تأسيس الحزب الاشتراكي الإسباني عام 1879 معتبرين أنّ دوره يكمن في تمثيل الطبقة العاملة في المعادلة السياسية. لكنّ الاشتراكيين واجهوا معضلةً صعبةً، وهي أنهم هم أنفسهم، في غالبيتهم، لم يكونوا عمالاً، وكان ينقصهم الامتداد الشعبيّ داخل الطبقة العاملة لتكون علاقتهم بها أكثر من مجرد شعارٍ نظريٍّ. ولحلّ هذه المعضلة، أسّس الحزب الاشتراكي عام 1888 ذراعه العماليّ  [10]  “الاتحاد العام للعمل” (UGT)، الذي انتشر بسرعةٍ في أرياف الأندلس وقشتالة وفالينسيا، لكنّه بقي قليل الانتشار في كاتالونيا، ذلك أنّ تياراً آخر كان قد بدأ يبزغ داخل الأوساط العمالية في كاتالونيا بشكلٍ خاصٍّ، وفي إسبانيا عموماً.

رفض هذا التيار أن تكون الحركة العمالية جزءاً من اللعبة السياسية، واعتبر أنّ استقلالها عن الأحزاب ضماناً أساسياً لنجاحها. وارتكز إلى رؤيةٍ ثوريةٍ، رأت أنّ تغيير موازين المجتمع برمّته، وليس تحقيق مكاسب قصيرة الأمد، هو الهدف الاستراتيجي للحركة العمّالية، وأنّ المشاركة السياسية لا توفّر ذلك. كما ارتكز أنصار هذا التيار إلى التقليد الشعبيّ الإسباني الرافض للسلطة، والذي يُعلي من شأن الاستقلالية عنها. في الوقت ذاته، وخارج إسبانيا، كان التيار اللاسلطوي يتمّ إقصاؤه من الأمّمية الأولى في لندن، على يد أنصار “كارل ماركس” وما سُمّي بالاشتراكية العلمية منذ عام 1864، لكنّ أنصاره بقوا يشكّلون الغالبية في صفوف المنظّمة الأممية، حتى الأممية الثانية عام 1889.

كان الوجه الأبرز للاسلطويّين، المفكّر الروسي الأصل “ميخائيل باكونين”، يتابع تبلور الحركة العمّالية في إسبانيا منذ عدّة سنواتٍ، ورأى أن هناك فرصةً لثورةٍ عمّاليةٍ قادمةٍ. وفي سياق الوضع الصعب الذي كان يواجهه اللاسلطويّون في الأممية، اقترح “باكونين” على أحد تلامذته، الإيطالي “جيوزيبي فانيلي”، أن يذهب إلى برشلونة لينشئ علاقةً مع الحركة العمالية هناك، [11] وهكذا كان. يُجمِع معظم المؤرّخين اليوم على أنّ “فانيلي” هو من أدخل اللاسلطوية إلى إسبانيا، رغم أنّ الطابع اللاسلطوي للحركة العمّالية في كاتالونيا تحديداً، الرافض للدخول في اللعبة الحزبية مميِّزاً بذلك نفسه عن التيار الاشتراكي، هو الذي جذب أنظار “باكونون” و”فانيلي” أصلاً. ونتج عن زيارة “فانيلي” واجتماعاته بقادة النقابات المستقلة تأسيسُ الاتحاد الإقليمي الإسباني للأممية الأولى، في مؤتمرٍ للنقابات المستقلّة في برشلونة عام 1870. [12] وفي عام 1872، طًرد اللاسلطويون من الأممية، قبل أن تنتهي الأممية الأولى، وتحلّ محلها الأممية الثانية عام 1889 متخذةً من مدينة نيويورك مقرّاً لها، وهذه المرة، بإقصاءٍ رسميّ للاسلطويّين. لكن في كاتالونيا، بقيَ الاتحاد الإقليمي قائماً، وباشر العمل في البناء الاجتماعي للحركة الثورية بشكلٍ منظّمٍ، وعلى أساس برنامجٍ يحمل ملامح لاسلطويةٍ واضحة.

تعليمٌ شعبي وحضورٌ قويّ للريف

تزامن ذلك كلّه مع بروز مبادراتٍ ذاتيةٍ على يد مناضلين كان لهم أثرٌ مباشرٌ في عملية التنظيم والتثقيف الثوري. أحد هؤلاء، ولعلّه أكثرهم شهرةً، هو “فيرمين سالفوتشيا”، ابن العائلة الثرية الذي درس في إنكلترا، وعاد إلى مدينته قادش ليُنتخب رئيساً لبلديتها. وبعد اعتقاله على يد الحكومة العسكرية لمناصرته الأممية الأولى، ونفيه إلى المغرب ثمّ عودته إلى إسبانيا بعفوٍ عامٍّ إثر موت الملك “ألفونسو” الثاني عشر، باشر بعملٍ تربويٍّ ثوريٍ في أرياف الأندلس، حيث جاب معظم قرى الجنوب الإسباني، يحلّ ضيفاً في بيوت الفلاحين، ويكتفي بالقليل من الطعام، ويتفرّغ لتنظيم العمّال ويؤسّس حلقات الدراسة الجماعية والتضامن الاجتماعي حول الأفكار اللاسلطوية الثورية. أطلق اللاسلطويون الإسبان على “سالفوتشيا” بعد وفاته لقب “القديس العلماني”، وشبّه المؤرّخون عمله بالرسالة الكهنوتية، وتفانيه وزهده في تكريس باقي حياته لتنظيم الطبقة الشعبية وتعزيز قوّتها بتفاني الرهبان. بل إنّ المؤرّخ والفيلسوف الأمريكي “موراي بوكتشين” وصف عمل “سالفوتشيا” بأنّه: “الحياة التي نقلت اللاسلطوية في إسبانيا من نقطة بدايتها إلى لحظة دخولها مرحلةً جديدةً بالكامل، مرحلة الحركة الجماهيرية النقابية اللاسلطوية”. [13]

غير أن “فيرمين سالفوتشيا”، ورغم الملحمة الرومانسية التي تركها أسلوبه المسيحاني في تكريس نفسه معلماً ومثوّراً للفقراء، لم يكن يحرث في أرضٍ جرداء بالكامل. بل كان هناك عملٌ منظّمٌ تزامن مع عمله، مهّدا لبعضهما البعض في كثيرٍ من الأحيان. كان هذا العمل المنظّم يقوم به اتحاد عمّال الأممية الأولى اللاسلطوي، والذي ركّز بشكلٍ أساسيّ على تثقيف وتعليم الطبقة الشعبية، في جوٍ من الثقافة الثورية البديلة. تمثّل هذا الجهد المنظّم بشكلٍ أساسيٍّ في تأسيس مراكز اجتماعيةٍ في القرى وفي الأحياء العمّالية في المدن، خاصةً برشلونة، عُرفت باسم “المراكز العمّالية”. وفّرت المراكز أنشطةً اجتماعيةً للعمّال والفلاحين وفرصةً للتعلّم والقراءة، ولكن أيضاً فرصةً لممارسة الإدارة الذاتية. فقد كان تحدّي سلطة الدولة والكنيسة، خاصةً في الأرياف، قد أصبح أسلوب حياةٍ متأصّلاً في الطبقة الشعبية الإسبانية منذ عدّة أجيالٍ، ممّا جعل هذه المراكز أنويةً لاستقطاب تلك النزعة حولها وتنظيمها. يذكر “بوكتشين” أنّ عائلاتٍ بأكملها كانت قد اعتادت العيش في إطار الجمعيات المبنية حول المراكز العمالية، والتي كانت تشغل كلّ مناحي حياتهم خارج العمل. كانت هذه العائلات تُدير المراكز بقراراتٍ جماعيةٍ، وتداولٍ مستمرٍّ للمهمات الإدارية المحدّدة من خلال انتخاب لجانٍ تنفّذ القرارات الجماعية، وكانت إمكانية استبدال أعضاء اللجان بغيرهم تحصيلاً حاصلاً. [14] وفّرت طريقة التنظيم هذه، الواعية والعفوية في الوقت نفسه، فرصةً لإدارة شبكةٍ واسعةٍ من المراكز العمالية دون الحاجة إلى موظّفين مأجورين، إذ كانت العائلات نفسها تُدير المراكز بشكلٍ تطوعي، وتموّل أنشطتها من اشتراكاتها، وكان أناسٌ مثل “فيرمين سالفوتشيا” يقدّمون المساعدة والتوجيه والتنسيق فيما بينها وعند اللزوم.

كانت غالبية العمال المنتسبين إلى هذه الحركة غير قادرين على الحصول على التعليم الأساسي، خاصةً في الأرياف، فكان توفير التعليم البديل اهتماماً أولوياً للحركة النقابية. من هنا كانت تجربة المربّي اللاسلطوي “فرانسيسكو فيرير” إضافةً نوعيةً لعملية البناء الاجتماعي وأعطتها دفعةً كبيرةً للأمام. أسّس “فيرير” مدرسةً في برشلونة عام 1901 لأبناء الطبقة العاملة، أطلق عليها اسم “المدرسة الحديثة”، والتي بلور فيها منهاج تعليمٍ بديلٍ عن المنهاج الرسمي، تضمّنته فيما بعد كتيّبات “التعليم الليبرتاري” التي طبعتها الحركة اللاسلطوية للمدارس التي أسّستها على شاكلة ومثال مدرسة “فيرير”. [15] اعتمد الأخير على ثلاثة مبادئ أساسيةٍ: الأول، العلاقات المتساوية بين الطالب والمدرّس، يُشرِك من خلالها المدرّسُ الطلبة في اتخاذ القرارات ويوكل المسؤوليات، لتكون إدارة الدرس بكلّ جوانبها، بما فيها العقاب، جماعيةً وذاتية. الثاني، التعليم الشمولي، ويهدف المنهاج فيه إلى تعليم الطالب كلّ ما يستطيع ضمن منظومة مهاراتٍ ومعارف يدويةٍ ومعرفيةٍ متكاملة. والثالث، التعليم من خلال التجربة المعاشة التي تقود إلى الاكتشاف، وليس من خلال التلقين. [16]

وصف “فيرير” منهجه التربويّ كالتالي: “كلا، لا نخاف أن نقولها: نريد أن نبني رجالاً ونساء قادرين على التطوّر المستمر، قادرين على الهدم وإعادة البناء للوسائل من حولهم ولأنفسهم. رجالٌ ونساء يتّخذون من استقلالهم الفكريّ قوّتهم الأكبر، لا يخضعون لشيءٍ أو لأحدٍ، ومستعدّون دائماً لاستقبال الأفضل، توّاقون لعيش أكثر من حياةٍ في حياةٍ واحدةٍ. إنّ المجتمع يخاف من هكذا أشخاص، وبالتالي لا يمكن أن نتوقع أن يقبل المجتمع إذن بتعليمٍ يُنتج مثل هكذا أشخاص”. [17]
أُدخل منهج “فيرير” في المراكز العمّالية والمدارس الليبرتارية التي أنشئت لاحقاً، ابتداءً من 1910، بإضافة مبدأ خاصٍ بالمربّين في كتيّبات التربية الليبرتارية: “يجب أن نتذكر أنّ هدفنا ليس تنشئة لاسلطويّين صغار جيّدين. على العكس، عندما يبدأ الطلبة بمعارضتنا، عندها نعرف أننا نجحنا في مهمتنا”. [18]

الصخب وراء الصمت

غير أن عملية البناء الصامت لا تكون صامتةً دائماً. بل يتخلّلها تفجّرٌ للغضب الشعبيّ بين الحين والآخر، يشكّل محطاتٍ ثوريةً بارزة، تنتهي عادةً بالقمع، وتشكّل مقدماتٍ للحدث الثوريّ الأكبر. في إسبانيا، وفي كاتالونيا تحديداً، كانت أكبر تلك المقدمات هي انتفاضة 1909 التي عُرفت باسم “الأسبوع المأسويّ”، والتي وقعت بين 25 تمّوز و 2 آب من ذلك العام في مدينة برشلونة. كان الجيش الإسباني المصاب بالخيبات إثر خسارته لأجزاء كبيرةٍ من المستعمرات الإسبانية، قد أُرسل لاستعادة بعض المجد في قمع ثورة الريف المغربيّ، وكان يحتاج إلى تجنيد أبناء الطبقة الشعبية لإرسالهم للموت، فتقرّر التجنيد الإجباري. وفيما لم تتحرّك أيٌّ من الأحزاب التي كانت تدّعي تمثيل مصالح الطبقة العاملة ضدّ التجنيد الإجباري، أعلنت الحركة العمّالية الإضراب الشامل رفضاً للتجنيد. اتّخذ الإضراب شكلاً عنيفاً في برشلونة، حيث تحوّل إلى انتفاضةٍ شعبيةٍ عارمةٍ حوّلت المدينة إلى ساحة معركةٍ بين المنتفضين وقوّات الحرس المدنيّ والجيش لمدّة أسبوع.

أحرق المنتفضون خلال ما سُمّي لاحقاً بالأسبوع المأساويّ 51 مبنىً حكومياً وكنسياً خلال 4 أيامٍ فقط، وقدّرت الشرطة مشاركة أكثر من 40 مجموعةً منظّمةً في تلك الأعمال، وما لا يقلّ عن 30 ألف شخصٍ. أُغلقت الأحياء، وأعلنت لجانٌ شعبيةٌ وانتظمت دوريات الحراسة من المتطوعين، فيما امتدّت الانتفاضة إلى أرياف كاتالونيا لتشمل أكثر من 50 قريةً. في غالبية هذه القرى، تمّ السطو على المباني الحكومية والبلدية، وإحراق صكوك الملكية، وإعلان السلطة الشعبية وتنظيم لجان إدارةٍ ذاتيةٍ جماعيةٍ ودوّريات حراسةٍ، بينما هاجم المنتفضون سكك الحديد وأسلاك التلغراف لقطع طريق الجيش إلى برشلونة. هذا القدر من التنظيم لا يُثير أيّ استغراب، إذا عرفنا أنّ عشيّة الانتفاضة كان عدد النقابات المستقلّة في كاتالونيا قد وصل إلى 67 نقابةً، 53 منها في برشلونة، تضمّ ما بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألف عضوٍ. كانت هذه النقابات قد اجتمعت في تنسيقيّةٍ واحدةٍ تحت اسم “التضامن العمّالي” التي تمّ تشكيلها عام 1907، أيّ عامين قبل الانتفاضة. [19]

انتهى الأسبوع المأسويّ نهايةً تليق باسمه. فقد كانت حصيلة القمع الدموي للانتفاضة 75 قتيلاً في أسبوعٍ واحد، إضافةً إلى مئات الجرحى. [20] وبعد انتهاء الأحداث، جاءت تصفية الحساب من قبل الحكومة البرجوازية، التي اختارت المربي “فرانسيسكو فيرير”، مؤسّس المدرسة الحديثة، هدفاً لها. فاعتقلته وحاكمته بتهمة التحريض على العنف خلال أحداث أسبوع الانتفاضة، ثمّ نفّذت بحقّه الحكم بالإعدام. جاء إعدام “فيرير” صاعقةً على الحركة العمّالية، لا في إسبانيا فحسب، بل في بلدان عديدةٍ حول العالم. خاصةً أنه أُعدم رغم عشرات التدخّلات والوساطات من قبل شخصياتٍ وحكومات أجنبيةٍ للعفو عنه أو تخفيف حكمه، والاحتجاجات العنيفة للحركات العمّالية من سيدني إلى باريس، تضامنًا مع فيرير. [21]

لم تكُن تلك الانتفاضة هي المحطّة العنيفة الأولى في عملية البناء الصامت الطويل باتجاه ثورة 1936، لكنّها كانت الأبرز، والأكثر تأثيراً. لا بسبب القمع الذي نتج عنها، بل تحديداً لأنّ المناضلين الإسبان لم يتوقّفوا عند الانتفاضة نفسها، بل كانوا قد تعلّموا أنّ السرّ يكمُن في مباشرة عملية البناء، في اللحظة التالية لانتهاء القمع. هكذا، ومن رماد الأسبوع المأسويّ، وُلد عام 1910 في برشلونة “الاتحاد الوطني للعمال” [22] (CNT)، الذي أعاد جمع كلّ ما سبق من الجهود، ونظّمها في جسمٍ نقابيٍّ واحد، بصمتٍ وبعيداً عن السياسية الرسمية، بما شمل التعليم البديل، والحياة الاجتماعية البديلة، والسياسة البديلة، وآليات التكافل الاجتماعي البديلة لآلاف العمال، حتى غدا الاتحاد عشيّة انقلاب “فرانكو” في تمّوز 1936 المنظّمة الثورية الأوسع انتشاراً، والقوّة الاجتماعية الأكبر، بما يزيد عن المليون ونصف المليون منتسبٍ، نصفهم في كاتالونيا، ولديهم موظفٌ مأجورٌ واحدٌ فقط. جسمٌ مكوّنٌ من شبكةٍ واسعةٍ أفقية التنظيم لبنىً اجتماعيةٍ تحرّريةٍ قادرةٍ على حمل ثورةٍ بحجم تلك التي أرّخ لها “أورويل”، والتي حفرت عميقاً في وعي وذاكرة وتاريخ الشعب الإسباني أنّ تغيير مجرى التاريخ ممكنٌ، وأنّه ممكنٌ فقط ببناءٍ طويلٍ ومضني، من خارج المنظومة، ومن الأسفل.

إنّ الظروف المباشرة، لا الأيديولوجيا، هي التي تجبر الشعوب على بناء تجربتها التحرّرية من خارج المنظومة. وإن كانت اللاسلطوية كأيديولوجيا قد وجدت مكاناً لها في إسبانيا، فإنّ ذلك يعود إلى كون النزعة الرافضة والمتحدّية للسلطة قد ترسّخت في تقاليد الشعب الإسباني عبر عدّة أجيال، ولأنّ السياسة، بكلّ أحزابها، لم تنجح في جعل مكانٍ فيها لغالبية الشعب الإسباني وهمومه والتعبير عنها. لعلّ هذا ما قصده المغني الفرنسي “ليو فيرّي” حينما غنّى أنّ معظم اللاسلطويّين من الإسبان في إسبانيا لا يفهمون اللاسلطويّين، [23] أيّ أنّ انعدام الأفق السياسي لغالبية الشعب يُمكن أن يقود الكثير منهم إلى رفض، أو في الحدّ الادنى فقدان الاهتمام، في المنظومة السياسية، والبحث عن بديلٍ ذاتيّ خارجها.

العمل التطوّعي والاجتماعي كقاعدةٍ للانتفاضة

لعلّ انسداد الأفق هو ما شعر به ذلك الجيل من الفلسطينيّين الذي عاصر هزيمة حزيران وإفلاس كلّ الشعارات السابقة لها. بعض هؤلاء راحوا يبحثون عن بديلٍ في الفكر الدينيّ الذي أنتج حركات المقاومة الإسلامية بعد قرابة عقدين، والبعض الآخر في الشتات اتّجهوا إلى إطلاق العمل الفدائي الذي أطلق الثورة الفلسطينية المعاصرة التي أعادت تشكيل منظّمة التحرير. أما البعض الآخر في الداخل، من الشباب الذي كبر تحت نير الاحتلال وقمعه لكلّ أشكال العمل السياسي، بدأوا يزرعون بذار العمل التطوعي. كانت أولى تلك المبادرات مستقلةً إلى درجة أن المبادرين لها لم يعرفوا حتى من أين يبدأون، فاتجهوا لبلديتيْ البيرة ورام الله، برئيسيْها صالح عبد الجواد وكريم خلف، كما يروي منير فاشة، واللذان سهّلا المساحات والوسائل للمتطوّعين في أعمالٍ من مثل تعبيد الطرق وبناء الأسوار للمدارس. [24]

وحين تنبّه الاحتلال لتلك التجربة وبدأ التضييق عليها، اتّجه أفرادها إلى إدارة جامعة بيرزيت، التي أدرجت العمل التطوعيّ في متطلّبات التخرج منها، وكانت تلك نواة المأسسة، كما تسرد سونيا نمر. [25] ثمّ تكاثرت تلك المجموعات التطوّعية حتى أضحت بالعشرات في القرى والمدن والمخيمات، إلى أن جاء عام 1980 ففكروا في عقد مؤتمرٍ حضره ممثلون عن 37 لجنة تطوعٍ محلية، وانتخاب لجنة تنسيقٍ من منتدبين منتخبين عن اللجان، انتُخب محرم البرغوثي كأول رئيسٍ لها. [26] في هذه المرحلة، بدأ التفكير في أبعاد الحركة التطوّعية عموماً وفي أهدافها. فتقرّر أن تكون أنشطتها ثقافيةً واجتماعيةً ذات بعدٍ ومحتوىً وطنيٍّ سياسي، وأن يعمل الطلبة من خلالها على إدخال مختلف الفئات الاجتماعية فيها. وبدأت تشمل تلك اللجان، كما يروي محرم البرغوثي، [27] الأعمال الاحتجاجية المباشرة كالمظاهرات والمواجهات وحماية الأراضي من المستوطنين، الأمر الذي أدّى إلى اعتقال أفراد لجان التطوّع، مما أعدّ تلك الحركة للضلوع في مهمةٍ بحجم التصدّي لروابط القرى. هكذا أسّست مرحلة البناء الصامت في السبعينيّات لمرحلة العمل السياسيّ المباشر في الثمانينيات. ويذكر منير فاشة أنّ لجان التطوّع كانت تذهب مباشرةً إلى المجالس القروية وتعرض أن تقوم تطوعاً بأعمال البنية التحتية التي كانت تُعلن عنها روابط القرى، بديلاً عنها، وتوفّر الموارد والوسائل من التبرّعات والمساهمات من المجتمع المحلّيّ نفسه، ثمّ تقدم عملها للأهالي في احتفالٍ وطنيٍّ سياسيٍّ زاخرٍ بإدانة روابط القرى والتأكيد على الخطّ الوطني الرافض لها. [28]

تزامنت هذه التجربة مع البناء التنظيميّ الذي قامت به الفصائل الفلسطينية في الفترة نفسها، والذي هُدم، عملياً، بضربةٍ واحدة في حملة الاعتقالات التي شنّها الاحتلال عام 1984. غير أنّ عملية البناء الاجتماعي استمرّت، بعيدًا عن بنى الفصائل، حتى وجد محرّرو صفقة تبادل الأسرى التي عُرفت بعملية “الجليل” 1985، عند خروجهم، بنىً اجتماعيةً جاهزةً، وفّرت مساحةً لتأطيرٍ جماهيريٍّ واسع، استطاعوا من خلالها مباشرة بنائهم التنظيمي، حتى جاء ذلك اليوم من كانون الأول عام 1987 على المجتمع الفلسطيني وهو منظّمٌ ومؤطّرٌ ومعبأ وقادرٌ على إدارة حياته بنفسه في سياق انتفاضةٍ شعبيةٍ شاملة.

خاتمة

في ظلّ فشل ثورات الربيع العربي في تحقيق أهدافها، وفي تجنّب اختطافها، يكتسب سؤال البناء الصامت في حاضرنا العربيّ أهميةً مضاعفةً، خاصةً في فلسطين، حيث سياق الواقع الاستعماري الصهيونيّ يفرض أسئلةً خاصةً وأكثر مصيرية. ولعلّ تجربة البناء السابق للانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى ليست بحجم وبطول تلك التي سبقت ثورة كاتالونيا عام 1936، لكنّها جزءٌ من عمليةٍ تاريخيةٍ أطول، يمكن تتبّع نمطٍ متكرّرٍ فيها، يشكّل إيقاعاً لتاريخ النضال الفلسطيني. فالتطوّع لم يكُن في يومٍ مُستحدث، بل إنّ جذوره ضاربةٌ في عمق الثقافة الفلسطينية، أسوةً بالتكافل الاجتماعي، والذي حفظه التراث الشعبي باسم “العونة”. تلك العونة التي كانت عنصراً مركزياً في صمود مئات الآلاف من الفلسطينيين في مخيّمات اللجوء، في وجه ظروف البؤس التي أعقبت النكبة. كما إنّ الخروج عن المنظومة السياسية هو الآخر نمطٌ متكرّرٌ في التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني. فانسداد أفق السياسة العائلية في أيّام الانتداب كان أحد أسباب انطلاق ثورة 1936 في فلسطين، استناداً إلى بنىً اجتماعيةٍ شعبيةٍ، خاصةً في الأرياف، وبروز قيادةٍ مختلفةٍ خلال الثورة. وكان انسداد أفق الأنظمة العربية بعد هزيمة  1967 سبباً في بروز التنظيمات الفدائية وسيطرتها على منظمة التحرير، كما كان انسداد الأفق في الأرض المحتلّة بعد خسارة الثورة لآخر قواعدها في الخارج إثر الخروج من بيروت سبباً في انطلاق الانتفاضة عام 1987. ولعلّ ما نعيشه من انسدادٍ في الأفق السياسي اليوم قد لا يكون سوى تكرارٍ للنمط نفسه. غير أن ذلك كلّه هو رأس الجبل الجليديّ الظاهر على السطح. أمّا البناء الصامت، تحت السطح، فيبقى سؤالاً نبحث عن إجابته، وقد تكون الإجابة أمامنا، دون أن ننتبه.

*****

 

كما بإمكانكم الاستماع إلى  المحاضرة التي قدّمها  قسّام معدي حول هذا الموضوع، ضمن لقاءات الجامعة الشعبية في دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرّر المعرفي، من هنا.

الهوامش:

[1] Flores, Javier. “Como comenzo la guerra civil espanola”، رابط من هنا
[2] Ramonet, Trancrède, “Ni Dieu Ni Maitre: Une Histoire de l’Anarchisme  ”, Livre-2. Arte. 2020. 01:07.24، للمشاهدة من هنا
[3] Pagès i Blanch, Pelai. “War and Revolution in Catalonia, 1936-1939”. Ediciones de Espuela de Plata. 2007. P45
[4] Orwell, Geoorge. “Homage to Catalonia”.Penguin Books. 1962. P 104
[5] Barcelo, Luis Vicente. “Liberalizacion,ajuste y reestructuracion de la agricultura española”. Ministerio de Agricultura. 1991. P 319 – 320
[6] Alvarez, Maria Friera. “La desamortización de la propiedad de la tierra en el tránsito del antiguo régimen al liberalismo”. Gijon. 2007. P 254 – 255
[7] Kaplan, Temma. “Anarchists of Andalusia 1868 – 1903”. Princeton University Press. 1977. P 135 – 167
[8] Smith, Angel. “Cataluña y la gran guerra: De la reforma democratica al conflicto social”. Hispania Nova, Num 15, 2017. P 474
[9] Kaplan (1977). 
[10] Sody de Rivas, Angel. “Antonio Rosado y el anarcosindicalismo andaluz”. Ediciones Carena. 2009. P 23
[11] Vadillo, Julian. “Historia de la CNT: Utopía, pragmatismo y revolución”. Los libros de la Catarata. 2019
[12]  مرجع سابق.
[13] Bookchin, Murray. “The Spanish Anarchists: The heroic years 1868 – 1936. Free life Press. 1976. P 114
[14] Bookchin, Murray. “The Anarchist Collectives: Workers  Self Management In the Spanish Revolution 1936 – 1939”. Black Rose Books. 1973. Introductory Essay XXV
[15] Gravé, Jean. “Enseignement bourgeois et enseignement libertaire”. 1854، رابط من هنا
[16] Ramonet; Trancrède, “Ni Dieu Ni Maitre: Une Histoire de l’Anarchisme – Livre-1”. Arte. 2020. 01:08:55 – 01:09:39، للمشاهدة من هنا
[17] Ferrer, Francisco. “Boletin de la Escuela Moderna”, 1908
[18] Ramonet; 01:10:30 – 01:10:44. 
[19] Marin, dolors. “La revolución de 1909 en Barcelona. Semana trágica para unos, gloriosa para otros”. Portal Oaca. 27- 10-2010.
[20] مرجع سابق.
[21] Ramonet;  01:11:00 – 01:12:16، للمشاهدة من هنا.
[22] Vadillo (2019).
[23] Ferré; Léo. “Les Anarchistes”. 1969، للمشاهدة من هنا.
[24] جحشان، جبريل. “العمل التطوعي في فلسطين: ذاكرة تابى النسيان”. مؤسسة روزا لوكسمبورغ. 2014
[25] مرجع سابق. 
[26] مرجع سابق.
[27] مرجع سابق.
[28] مرجع سابق.

المراجع:

بالإنجليزية:

Bookchin, Murray. “The Third Revolution: Popular Movements in The Revolutionary Era”. Vol.4. Continum International Publishing Group. 2005
Bookchin, Murray. “The anarchist collectives: Workers  Self Management In the Spanish Revolution 1936 – 1939”. Blak Rose Books. 1973
Orwell, Geoorge. “Homage to Catalonia”.Penguin Books. 1962
Kaplan, Temma. “Anarchists of Andalusia 1868 – 1903”. Princeton University Press. 1977
Bookchin, Murray. “The Spanish Anarchists: The heroic years 1868 – 1936. Free life Press. 1976

بالإسبانية:
Vadillo, Julian. “Historia De La CNT: Utopía, pragmatismo y revolución”. Los libros De la Catarata. 2019
Marin, Dolors. “La revolución de 1909 en Barcelona. Semana trágica para unos, gloriosa para otros”. Portal Oaca. 27- 10-2010.
Pagès i Blanch, Pelai. “War and Revolution in Catalonia, 1936-1939”. Ediciones de Espuela de Plata. 2007
Barcelo, Luis Vicente. “Liberalizacion,ajuste y reestructuracion de la agricultura española”. Ministerio de Agricultura. 1991
Alvarez, Maria Friera. “La desamortización de la propiedad de la tierra en el tránsito del antiguo régimen al liberalismo”. Gijon. 2007. P 254 – 255
Flores, Javier. “Como comenzo la guerra civil espanola”، رابط من هنا.
Smith, Angel. “Cataluña y la gran guerra: De la reforma democratica al conflicto social”. Hispania Nova, Num 15, 2017. P 474
بالفرنسية:
Ramonet; Trancrède, “Ni Dieu Ni Maitre: Une Histoire de l’Anarchisme”. Arte. 2020
بالعربية:
جحشان، جبريل. “العمل التطوعي في فلسطين: ذاكرة تابى النسيان”. مؤسسة روزا لوكسمبورغ. 2014